مأساة العرب جبن مثقّفيهم

أرشيف - كذا كان. فهل كذا يكون؟

سلمان مصالحة ||

مأساة العرب جبن مثقّفيهم


كثيرًا ما نجنح، في غمرة الحديث عن أحوال العرب في هذا الأوان، إلى الكلام التّعميمي الّذي نُطلقه. الكلام التّعميمي قد يفيد في بعض الأحايين، إذ أنّه يقوم بفعل "التّنفيس"، أي التّرويح عن النّفس الّتي امتلأت غيظًا ممّا نشاهده بكرةً وأصيلاً في هذا الجزء من العالم الّذي ننتمي إليه. والحقيقة أنّنا جميعًا مصابون بهذا الدّاء، هذا الوباء، ولا أستثني نفسي من هذا القول. مع أنّي أحاول، قدر المستطاع، الابتعاد عنه ومداواة ما علق بي من تبعاته الخبيثة.

الكلام التّعميمي، وعلى وجه الخصوص في "مقالات الرأي" العربيّة الّتي تعجّ بها الصّحافة العربيّة الورقيّة والمُؤَنْلَنَة (نحتًا من: أونلاين)، ينبع من حالات الكبت الّتي ذوّتها هؤلاء الكتّاب في أماكن تواجدهم العربيّة. وهذا الكبت متشعّب يشمل المجالات السّياسيّة - مواجهة السّلاطين والحكّام، الدّينيّة - مواجهة السّلطات الدّينيّة وفقهاء الظّلام، والاجتماعيّة - مواجهة المنظومات المتوارثة دون إعمال العقل فيها. وما دام العقل والبصيرة الفطريّة قد تعطّلا لدى هؤلاء الكتّاب، إنْ كان الأمر قد جاء نتيجة التّذويت الإرادي للكبت أو نتيجة التعسُّف الحقيقيّ من جانب ذلك الثّالوث الكابت سياسيًّا، دينيًّا واجتماعيًّا، فليس ثمّ أملٌ في الإمساك بطرف خيط يُفضي إلى بصيص في نهاية هذا النّفق المعتم الّذي وجد العرب أنفسهم فيه، منذ عقود، إن لم نقل منذ قرون طويلة.


***

تفكيك محمود درويش:

ولكي لا أتّهم بأني ألقي الكلام على عواهنه مُعمّمًا، فلننظر معًا إلى الحال الفلسطينيّة الرّاهنة، إذ أنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال. فقد يكون الكلام التّعميمي الصّادر من البعض في هذه الحال، بالإضافة إلى جبن كاتبه في مواجهة الحقيقة، نابعًا من مصدر آخر، هو مصدر نرجسيّ، يهدف إلى البحث عن عطف كلّ من هبّ ودبّ. فيأتي هذا الكلام التّهويمي مغلّفًا بتشبيهات واستعارات ممجوجة ومتكرّرة طالما شكّلت كواتم عقول على رؤوس الأعاريب. إنّ النّزوع إلى مثل هذه الصّيغ من الكلام التّهويمي الفضفاض يهدف إلى حقن القارئ العربي المدمن على هذه السّموم البلاغيّة بجرعة أخرى من هذا المخدّر العربيّ. فما بالكم إن جاءت هذه الحقنة البلاغيّة من شاعر لا بأس به، يعتبره كثيرون شاعر فلسطين الأوّل؟

فها هو محمود درويش، وتعقيبًا على ما جرى من جرائم بشعة في غزّة، ينشر "مقالة" في صحف فلسطينية وعربيّة، كمن يريدُ أن يقول شيئًا ما. غير أنّ قراءة كلامه لا يفيد منها القارئ شيئًا بقدر ما تضع كاتم عقل على رأسه من خلال حقنه بجرعة جديدة من هذا المخدّر البلاغي. لقد وضعت المصطلح مقالة بين هلالين لأنّي لا أدري أهي مقالة هذه الّتي نحن بصددها، أم قصيدة، أم تهويمات نثريّة لشاعر يبدو كمن ليس لديه ما يقوله؟ أمّا هو فقد وسم الكلام بعنوان "أنت منذ الآن غيرك"، ضمن زاوية بعنوان "يوميّات"، ولا يوميّات ولا ما يحزنون.

***
لنقم إذن بتفكيك هذا النّصّ الهلامي:
فالعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يضع ما جرى في غزّة حدًّا فاصلاً بين ما سبق وبين ما هو لاحق، جاعلاً طرفي الزّمان من المعادلة في موقعين نقيضين، هكذا وبجرّة قلم. أمّا هذه الـ"أنت" في العنوان فهي ليست سوى "أنا" الكاتب ذاته الّتي استعار لها هذه الـ"أنت" في الكثير من شعره المنشور، وبعضه حسنٌ. ولأنّ الكاتب قد أدمن النّظر إلى "أنا"ه، فقد خلطها كثيرًا بالـ"نحن"، بما يليق بمن ينتمي إلى شعراء القبيلة. وحيثما تكثر الـ"نحن" تقلّ الصّراحة، ويقلّ القول. وهكذا سرعان ما يعود الكاتب إلى هذه الـ"نحن" بعد العنوان، فيقول: "هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا، لنُدْرك أننا لسنا ملائكة، كما كنا نظن؟"

فما هو هذا العلوّ الشّاهق الّذي سقطنا منه، ومنذ متى كنّا نظنّ أنّا ملائكة؟ ورؤية الدّم على أيدينا! أي دم وبأيدي من؟ إنّ كلامًا من هذا النّوع الفضفاض التّهويمي لا يقول شيئًا، بل بوسع كلّ من هبّ ودبّ من هذا الفصيل أو ذاك، في المكتب والسّوق، يساريًّا كان أم يمينيًّا، علمانيًّا أم إسلاميًّا، مثقّفًا أو من عامّة الشّعب، عاملاً أم مزارعًا أن يحمله ويطلقه. هذا الكلام الّذي يحتمل التّأويل لكلّ شيء قد يخطر على بال كلّ فرد من هؤلاء، ولذلك فهو كلام فارغٌ، لا معنى له أصلاً. وإذا كان هذا الصّنف من الكلام ينفع للشّعر، مع أنّي أشكّ في ذلك أيضًا، فإنّه لا يُجْدي نفعًا عندما يدور الحديث عن قضيّة حريّ بالكاتب أن يتّخذ فيها موقفًا أخلاقيًّا.

ثمّ يستمرّ الكاتب فيقول: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!" فماذا نقول في هذا الكلام الّذي صدر من فم الكاتب؟ أوّلاً، يجدر بالكاتب عدم الزّجّ بنا جميعًا في خانة "نحن"ـه هذه. فلم نقل في يوم من الأيّام إنّنا استثناء، كما لم نكذب على أنفسنا. وثانيًا، إذا كان هو الّذي كذب أو يكذب على نفسه، فليتحدّث باسمه هو وعن نفسه فقط، أو عمّن هو على شاكلته. فهنالك فلسطينيّون كثيرون آخرون لا يكذبون على أنفسهم، وحريّ به ألاّ يجمعهم في خانة الكذب الّتي اقتناها لنفسه.

ثمّ يمضي الكاتب في طرح التّهويمات الطّفوليّة على القارئ: "أيها المستقبل! لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف...أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!"

هذه التّهويمات "الشّعريّة" يمكن أن تصدر من نفوس المراهقين والمراهقات في كلّ مكان على وجه البسيطة، وليست حكرًا على بني يعرب. غير أنّها عندما تأتي من شخص في عقده السّادس، أو ممّن يُعتبر لدى كثيرين شاعر فلسطين الأوّل، فإنّها تُبقي المرء مشدوهًا أمام هذا الخواء العربيّ.

ونمضي في قراءة هذه التّهويمات، لنصل إلى: "تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟"

فمن هو هذا الّذي تقنّع وتشجّع وقتل أمّه، ومن هي أمّه؟ مرّة أخرى، نحن أمام كلام فضفاض لا يخرج منه القارئ بشيء سوى هذه الإشارات والإحالات إلى استعارات بوسع كلّ عابر سبيل أن يرفعها شعارًا. بل أكاد أجزم أنّ عابري السّبيل أكثر جرأة من كاتب هذا الكلام، لأنّهم يصرّحون بما يفكّرون به في الشّارع، في السّوق وفي كلّ مكان في هذا الوطن. أمّا هو فقد آلى على نفسه البقاء في خانة الكلام التّهويمي، في وضع فلسطيني بحاجة إلى قول الكلام صراحة وعلى الملأ. كذلك، انظروا إلى تلك الجملة المحشورة في هذه الكلام عن الجنديّة والنّهدين. فما علاقة الجنديّة والنّهدين في معرض الكلام عمّا جرى في غزّة؟ يبدو أن الكاتب قد استحوذت عليه "ريتا وبندقيّتها"، حتّى يبدو أنّه لا يستطيع منها فكاكًا فيحشرها في كلّ شاردة وواردة، وكيفما اتّفق. المهمّ أن يحشر الجنديّة في نصّه، وأن يتطرّق إلى نهديها. فيا لها من جنديّة! لقد احتلّت كيانه كلّه بواسطة نهدين اثنين، لا ثالث لهما في هذه الأرض البوار.

ويمضي الكاتب فيقول: "لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد! ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!"

إذن، على حدّ قوله: "لولا الحياء والظّلام، لزرتُ غزّة...". فعن أيّ حياء يتحدّث الكاتب؟ وما الحاجة إلى الحياء من أجل زيارة غزّة؟ على الكاتب أن يشرح لنا علنًا ودون لفّ أو دوران، ما هو هذا الحياء الّذي يمنعه من زيارة غزّة؟ ربّما استطاع القارئ أن يتكهّن ما هو الظّلام الّذي يقف مانعًا أمام زيارة غزّة، غير أنّه لا يستطيع وضع النّقاط على الحروف المبهمات فيما يتعلّق بهذا "الحياء" الّذي لولاه لزار الكاتب غزّة. فهلاّ أفادنا عن مصدر هذا الحياء، كي لا تختلط الأمور على القرّاء؟ ثمّ انظروا بعد ذلك إلى الكلام عن أبي سفيان وخاتم الأنبياء، والّذي يفرده الكاتب، لا لهدف إلاّ لتملّق الإسلاميّين، ليس إلاّ.

إنّ هذا التّملُّق يظهر جليًّا في جملة لاحقة، حيث يقول: "هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته-أخيه: الله أكبر، أنه كافر...". فهذه الجملة مرّة أخرى هي جملة تعميميّة، كما يستطيع كلّ فرد من عامّة الشّعب، ومهما كانت مشاربه، أن يحملها شعارًا. إنّه يتركها بكلام تعميمي هكذا لأنّه يخشى قول الكلام صراحةً. فمن الّذي قتل أخيه وهتف: اللّه أكبر، غير هؤلاء الإسلاميّين، أيّها الكاتب؟ ثمّ إنّ الكاتب ولكي يبعد التّهمة عن ذاته يتبنّى مصطلحات هؤلاء، مُستخدمًا مصطلح "كافر". إنّه يعلم بلا شكّ، أنّ كلّ إسلاميّ أو متأسلم يستطيع أن يرفع علنًا هذا الكلام شعاره أيضًا.

ثمّ نخلص إلى مسك الختام من هذا التّهويم في الكلام: "لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!".

إذن، هؤلاء الأصوليّون الّذين يهتفون الله أكبر على جثث ضحاياهم لا يغيظون الكاتب، "فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة"، على حدّ قوله. فهنيئًا له بهذه الرؤيا الخاصّة. غير أنّ الّذين يغيظونه، كما يصرّح، فهم "أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!". فمن هم هؤلاء العلمانيّون والملحدون الّذين يغيظون الكاتب؟ إنّه يلقي الكلام جزافًا، تعميميًّا دون أن يُقدّم لنا مثالاً واحدًا من هؤلاء. هل هو الجبن مرّة أخرى في قول شيء صراحةً؟ هل الكاتب يرغب في كلامه المراوغ هذا في البقاء ممسكًا بـ"شعرة" معاوية، مع كلّ من هبّ ودبّ؟ ثمّ حين يعزو لهؤلاء دينًا وحيدًا هو "صورهم في التّلفزيون"، أليس ينفع هذا الكلام في توصيف حالة الكاتب ذاته الّذي لم نقرأ له في يوم من الأيّام مقالة موقّعة باسمه يتّخذُ فيها موقفًا أخلاقيًّا من أيّ قضيّة، صغرت أم كبرت، يواجهها الفلسطيني أو العربي على العموم؟ إنّه أيضًا، وعلى ما يبدو من هذه المقالة التّهويميّة، لا يهمّه أمر سوى التّودُّد لكلّ من يمرّ أمامه، أو التّودُّد لكلّ من يشاهده. قد تكون نيّته حسنة ولا نشكّ فيها. غير أنّ النّيّة وحدها لا تكفي، إذ لم يأت الكلام على قدر النّوايا والقضايا، وإنّما جاء باهتًا، لاهثًا وراء صياغات هي أشبه بمراهقات شعريّة، من صنف المخدّرات الّتي ترعرعت عليها الشّعوب العربيّة، الّتي لم تفارق المراهقة حتّى ببلوغها سنّ الشّيخوخة.

***

والحقيقة أنّ المشكلة ليست في درويش وحده. إذ أنّه ولطبيعته الشّعريّة يبحث، أنَّى حلّ وأنَّى رحل، عن حنان ربّما افتقده في زمان ومكان آخرين، ولسنا هنا بصدد الكلام عن هذه النّاحية. إنّما نعني أيضًا تلك الجوقة في الصّحافة العربيّة، أو في مجلاّت أدبيّة يُشرف عليها مشرفون أو مشرفات، في مشارف هذه الألفيّة، من صنف أولئك الّذين يُسرّون شيئًا ويُعلنون خلافَهُ سيرًا على نهجٍ عربيّ مقيت ممتلئ بالرّياء، أو من صنف أولئك المُستَكتَبين الّذين خدّرهم مصنع الاستعارات الجينيريّة الّتي اكتظّت بها أسواق القَيْح الشّعري العربيّة.

أليس كذلك؟

***


ملاحظة أخيرة:

وها أنذا أكتشف الآن، بعد أن أنهيت هذه المقالة وراجعتها قبل الدّفع بها للنّشر، أنّ العنوان الّذي اخترته لها فيه أيضًا نوع من التّعميم، وكان حريًّا بي أن أضع بدله: "مأساة العرب جبن بعض مثقّفيهم".

فماذا أقول، إذن، في حالي وحالكم؟

شفاني العقلُ وشفاكم!

***

نشر في: ”إيلاف“ 3 يوليو 2007
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!