‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا المرأة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا المرأة. إظهار كافة الرسائل

إخراج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور

هل المرأة العربية عورة؟



سلمان مصالحة ||

إخراج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور


لفهم عمق وضع التخلُّف العربي لا حاجة إلى الذهاب بعيدًا إلى أنحاء العالم العربي؛ يكفي أن ننظر هنا في الداخل إلى حارتنا نحن، إذ إنّها ميكروكوسموس، أي هي عالم مصغّر عن ذلك العالم العربي المترامي الأطراف. إنّ أحد العوامل الأساسية للتخلّف المزمن في العالم العربي هو ذلك التهميش المزمن للمرأة  وعزلهاعن فضاء اتّخاذ القرارات، التي تُحدّد مصير المجتمع بكلّ مجالات الحياة. إنّه تهميش صارخ وواضح للعيان.

القيادات العربية كانت دائمًا محصورة بالرجال. إذ لم نشاهد على مرّ العصور أبدًا ملكة عربية، رئيسة دولة عربية، أو رئيسة عربية لحكومة ما، ولا حتّى رئيسة بلدية. إنّ المجتمع المعافى يقف ويخطو قُدمًا برجليه الاثنتين، الرِّجل الأنثوية والرِّجل الذكورية. إنّ الرِّجل الأنثوية للمجتمعات العربية هي رجل مشلولة منذ قديم الزمان، ولذلك فما من عجب في أنّ المجتمعات العربية هو مجتمعات عرجاء، ودائمًا ستكون في عوز إلى عكاكيز خارجية.

هاكم مثالًا على الفشل الاجتماعي العربي. في الأسبوع الماضي نظّم رؤساء عشائر وحمائل في جبل الخليل مهرجانًا طارئًا، وذلك احتجاجًا على مصادقة السلطة الفسطينية على الميثاق العالمي “سيداو” (CEDAW) الذي يدعو إلى القضاء على كلّ أشكال التمييز ضدّ المرأة. لقد دعا المؤتمرون، وكلّهم من الرجال طبعًا، السلطة الفلسطينية إلى التراجع عن مصادقتها على الميثاق. ولقد دعوا في البيان الذي نشروه عقب المهرجان إلى حظر نشاطات كلّ المنظمات النسائية - “المشبوهة” على حدّ تعبيرهم - وإلى منع دخول هذه المنظمات والجمعيات إلى المدارس وإلى حظر إيجار المكاتب لهذه المنظمات. بالإضافة إلى ذلك فقد حذّر هؤلاء في البيان قضاة المحاكم من استصدار أحكام على ضوء هذا الميثاق. لقد استثار الميثاق غضب هؤلاء لتحديد سنّ الزواج بالثامنة عشرة، وذلك بدعوى أنّ هذا يتناقض مع الأعراف والقوانين الإسلامية.

إنّ هذه الأعراف والقوانين الإسلامية قد ضربت في الآونة الأخيرة الأولاد في غزّة. مواطنو غزّة الذين يرزحون من جهة تحت طائلة الحصار الإسرائيلي-المصري، ومن سلطة الإسلامويين من الجهة الأخرى، قد شهدوا حظرًا على تنظيم عرض احتفالي موسيقي لطلبة معهد إدوارد سعيد الموسيقي. لقد جاء الحظر إثر فتوى نشرها أحد مشايخ الإسلامويين ضدّ العرض وذلك لكون العرض الموسيقي مختلطًا يظهر فيه الأولاد والبنات معًا على المنصّة.

لقد وصلت هذه الروح السيّئة في المجتمع الفلسطيني إلى الجامعات، وليس في غزة الواقعة تحت سلطة الإسلامويين فقط، وإنّما في نابلس وفي جامعة النجاح الواقعة تحت السلطة الفلسطينية. فداخل الحرم الجامعي تمّ وقف عرض مسرحي يتطرّق إلى وضع النساء في العالم العربي - على يد بروفسور وعميد كلية الفنون. لقد اعتلى العميد المنصة قائلا إنّ العرض لا يتمشّى مع ثقافة وقيم المجتمع. إنّ الذي أثار غضبه هو أنّ الممثلة عشتار معلم، خلعت خلال العرض بعد الثياب.

هكذا يحدث في غزة، في الخليل وفي نابلس، وهكذا يحدث أيضًا في البلدات العربية داخل إسرائيل. الإسلامويون من مواطني إسرائيل يستشيطون غضبًا بين فينة وأخرى ويحتجّون، بل ويوقفون عروضًا فنية مختلطة ويندّدون بمنظمات نسائية تناضل لأجل حقوق المرأة، ويصفون النساء ومنظّماتهنّ بأقذع الأوصاف ويتّهمون القائمات والقائمين على تلك الفعاليات بالتعاون مع منظمات أجنبية بغية تكريس أجندات غريبة في المجتمعات العربية.

إذا كانت المجتمعات العربية هنا وفي كلّ العالم العربي ترغب حقًّا بالخروج من التخلّف الذي وجدت نفسها فيه طوال قرون طويلة، فيتوجّب على المثقّفين العرب أن يرفعوا بشجاعة شعار ومشعل المساواة الجندرية. إن لم يفعلوا ذلك فإنّهم يخونون الرسالة التي يفترض أنّهم يحملونها. على جميع هؤلاء أن يعلنوها صراحة وعلى مسمع من الإسلامويين والذكوريين العرب على أصنافهم، بأنّ مبدأ المساواة الجندرية ليس أجندة غريبة أو أجنبيّة. بل على العكس من ذلك، إنّ المساواة الجندرية هي المبدأ الوحيد الذي بوسعه أن يخرج المجتمعات العربية من الظلمات إلى النور.

*

نشر أيضًا: شفاف الشرق الأوسط


For English, press here
For Hebrew, press here

”جسدي ملكي، ليس شرف أحد“


لهذا السبب، فعندما يتمّ وضع هذه المقولة أمام أعين الذّكر العربي فإنّه يُصدم من هولها. وصدمته تكون أشدّ عندما يأتي هذا الكلام من جانب المرأة العربية، كما إنّ الصدمة تتحوّل إلى نكبة ذهنيّة ذكورية عربية عندما يُرفع هذا الشعار على جسد المرأة العاري.

أمينة على الجسد


سلمان مصالحة || 

أمينة على الجسد

        (أمينة، ناشطة نسويّة تونسية: ”جسدي ملكي، ليس شرف أحد“)

لا تَسْأَلِي أَحَدًا
إنَّ الهَوَى شَرَفُ.
وَاسْتَمْتِعِي بِجَمالٍ
حَتَّى يَعْتَرِفُوا

بِأنَّ جِسْمَكِ مُلْكٌ
لِلَّتِي كَشَفَتْ عَنْ صَدْرِها
بِزَمانٍ جُلُّهُ قَرَفُ.

لا تَأْبَهِي بِرِجالٍ
بَاعَ كابِرُهُمْ أوْطانَهُ شَرَهًا
والعُهْرَ يَقْتَرِفُ.

إنَّ البِناءَ
الّذِي تَبْنِينَ مِنْ جَسَدٍ
أَرْكانُهُ صَمَدَتْ
فِي الرِّيحِ، والغُرَفُ.

مَهْما تَنَطَّحَ
مِنْ ناسٍ فَلا تَثِقِي
إلاَّ بِمَا أَنْتِ،
فَرْدٌ
زَانَهُ هَدَفُ.
*

نشرت أيضًا في: "شفاف الشرق الأوسط"

اقرأ أيضًا: "جسدي ملكي، ليس شرف أحد"

فتح الباب لإصلاح الخراب


سلمان مصالحة || 

فتح الباب لإصلاح الخراب


لم أكن في يوم من الأيّام
من المعجبين بالأنظمة الملكيّة، وعلى وجه الخصوص تلك الأنظمة الملكيّة التي نشأت في العالم العربي مع انهيار الإمبراطورية العثمانية، وجلاء الاستعمار الغربي لاحقًا. هنالك من يقول إنّ كلّ هذه الدويلات والإمارات والسلطنات هي كيانات مصطنعة من مخلّفات سايكس-بيكو التي هدفت إلى تقطيع أوصال العالم العربي ابتغاء الحفاظ على المصالح الاستعمارية بعد جلائه.

في ما خص المواقف الفرنسية الأخيرة


أرشيف: الحياة - ديسمبر 2003

تحيّة عربيّة إلى الرئيس الفرنسي:

ما من شكّ في أنّ على كلّ عربيّ متنوّر أن يبارك خطوة الرّئيس الفرنسي هذه الّتي تحاول الإبقاء على الطّابع العلماني لفرنسا.

سلمان مصالحة ||
في ما خص المواقف الفرنسية الأخيرة

وأخيرًا جاءت كلمة الرئيس الفرنسي جاك شيراك، في أعقاب قضيّة ارتداء الحجاب في المدارس الفرنسيّة، حيث صرّح فيها عن رأيه بشأن المبدأ غير القابل للتّفاوض بشأن علمانيّة الجمهوريّة الفرنسيّة ومبدأ فصل الدّين عن الدّولة، وعدم السّماح بإدخال الرّموز الدّينيّة إلى المدارس والمؤسّسات العامّة في الدّولة الفرنسيّة. كان من المتوقّع أن ترتفع الأصوات العربيّة الأصوليّة ومن يدور في فلكها من العرب وغيرهم منتقدة موقف الرّئيس الفرنسي. لكن، تجدر الإشارة إلى أنّه حينما أصدر وزير التّربية الفرنسي في العام 1937 التّعليمات بإزالة كلّ الرّموز الدّينيّة من المدارس لم يثر أحد على هذه التّعليمات، وفي حينه لم تكن هناك أقليّة إسلاميّة كبيرة في فرنسا كما هي الحال الآن.

ما من شكّ في أنّ على كلّ عربيّ متنوّر أن يبارك خطوة الرّئيس الفرنسي هذه الّتي تحاول الإبقاء على الطّابع العلماني لفرنسا. فالحجاب الّذي يفرض تحت ضغوط اجتماعيّة على الفتيات في البلدان الإسلاميّة والعربيّة، والآن في أوروپا، لا يعني إلاّ أنّ ثمّة نظرة مريضة لدى رجال الدّين هؤلاء ومن يدعم توجّهاتهم. هؤلاء يرون في كلّ شيء من جسد الأنثى، حتّى وإن كانت طفلة بعمر ستّ سنوات أو تسع سنوات مثلاً، موضوعًا جنسيًّا فحسب، أو عورة يجب سترها. غير أنّ العورة الحقيقيّة قائمة في ذهن هؤلاء الرّجال ومن يوّيّدهم، وهم بالذّات من يتوجّب عليهم أن يضعوا الحجاب على عقولهم المريضة. إنّ مبدأ فصل الدّين عن الدّولة هو المبدأ الّذي يرتقي بالمجتمعات كلّ المجتمعات، وهو المبدأ الّذي يجب حمايته بكلّ الوسائل أمام محاولات المساس به وإفراغه من مضمونه، مثلما يحاول كلّ هؤلاء الّذين ينصّبون أنفسهم مسؤولين عن أخلاق المجتمع وسلوكيّاته، بينما الأخلاق هي أبعد ما تكون عنهم.

هنالك عرب ليبراليّون وعلمانيّون، بل وحتّى عرب متديّنون، ناهيك عن النّساء العربيّات اللّواتي طالما ناضلن من أجل رفع الضّيم الذّكوري والمجتمعي عنهنّ يجب على هؤلاء جميعًا أن لا يخشوا من إسماع أصواتهم على رؤوس الأشهاد. فلو نزع العرب في بلادهم إلى فصل الدّين عن الدّولة، مثلما فعلت الجمهوريّة الفرنسيّة، لما كانت مجموعات كبيرة منهم بحاجة إلى الهجرة من بلادها إلى الدّول المتقدّمة علميًّا وحضاريًّا. نعم، لو أفلح العرب في اتّخاذ هذا المبدأ هاديًا لهم، لتغيّرت مجتمعاتهم من أساسها ولظلّوا وعاشوا في بلادهم دون أن يهاجروا بحثًا عن رزق أو حريّة فرديّة. ولو أفلح العرب في ذلك لتحرّرت المرأة العربيّة من أكبال الذّكوريّة العربيّة الغبيّة، دينيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، ولقامت بدورها في بناء المجتمع العربي على أسس أكثر تطوّرًا وانفتاحًا. لو فعل العرب ذلك لكانت صورة المجتمعات العربيّة بعيدة جدًّا عن هذا الدّرك والخواء السّياسي والإجتماعي والثّقافي الّذي نشهده خلال عقود، إن لم نقل خلال قرون.

نعم، هؤلاء الّذين يطالبون بفرض الحجاب على المرأة، وأولئك الّذين من ورائهم هم هم الّذين يتشدّقون بأنّ الإسلام هو الحلّ، وهم هم الّذين يمارسون القمع الذّكوري العربيّ سياسيًّا وفكريًّا واجتماعيًّا حيثما حلّوا، ليس على المرأة فحسب بل على المجتمع برمّته. يجب التفكُّر قليلاً في ما يُقال بهذا الصّدد. هل هي صدفة أنّ كلّ الّذين يوجّهون الانتقاد إلى الرّئيس الفرنسي بسبب خطوته هذه هم من نوع هؤلاء الّذين يتباكون على الدّكتاتوريّات العربيّة المنهارة؟ ثمّ، أليس في هذه الحقيقة ما يكفي من شهادة فاضحة على جوهر هؤلاء ومنطلقاتهم الإجتماعيّة، السّياسيّة والثّقافيّة؟

يجب أن نقول كلمتنا صراحة ودون مواربة. ليست الدّعوة إلى السماح بارتداء الحجاب الّتي يطالب بها البعض سوى دعوة مبيّتة لاستمرار استصغار النّساء في المجتمعات العربيّة على جميع الأصعدة. ومن هنا، فإنّ على كلّ المتنوّرين العرب أن يبعثوا برسالة تحيّة إلى الرّئيس الفرنسي شيراك على موقفه هذا. إذ أنّ الطّريق المثلى إلى تطوُّر المجتمعات العربيّة في البلاد العربيّة، ناهيك عن العرب المقيمين في أوروبا وأماكن أخرى خارج العالم العربي، تبدأ بالضّبط من هذه النّقطة، أي من زاوية النّظر إلى المرأة. وفيما يخصّ تطوُّر المجتمعات العربيّة فإنّ المرأة المتحرّرة من العبوديّة الذّكوريّة هي الحلّ، وليس أيّ شيء آخر.
*
نشرت: “الحياة”، 28 ديسمبر 2003
***
For English, press here

في مديح المرأة


سلمان مصالحة

في مديح المرأة

يُجمع عماء النّفس على أنّ من يترعرع في بيت عانى فيه من ضرب وعنف فإنّه يميل في الغالب إلى أن يصبح عنيفًا في معاملته مع أبنائه هو بعد أن يبني هو عائلته. أي أنّ طفولة الفرد والظّروف المحيطة به هي ما يشكّل في نهاية المطاف سمة له في حياته البالغة مع أفراد عائلته هو.

إنّ ما ينطبق على الفرد، يمكن أن ينطبق على المجتمعات بأسرها. أيّ أنّ المجموعات البشريّة الّتي تشكّل أقوامًا، أو عائلة مجتمعيّة ذات لغة وماض وحاضر ما، هي في نهاية المطاف بمثابة الفرد في مقابل سائر المجتمعات البشريّة. من هنا فإنّ نزعة العنف القائمة في المجتمعات العربيّة مردّها في نهاية المطاف إلى طفولة حضاريّة عربيّة اكتنفها العنف على مرّ تاريخها. 
 
ولهذا السّبب، فعندما تُقيم هذه المجموعة البشريّة كيانًا مجتمعيًّا، ولنطلق عليه مصطلح دولة مثلاً، فإنّ العنف هو الّذي يتحكّم في علاقات الأفراد في هذا الكيان المسخ، وعلى وجه الخصوص في علاقة الحاكم، أي الأب، بالرّعيّة، أي المواطنين. ولهذا السّبب، فإنّ الحاكم العربي يتحدّث إلى المواطنين مستخدمًا صيغة "يا أبنائي"، وهكذا أيضًا ينظر المواطنون شيبًا وشبّانًا إلى الحاكم بوصفه أبًا. فكثيرًا ما نسمع كيف يتوجّه المواطنون العرب إلى الحاكم قائلين: "نحن أبناؤك"، إلى آخر هذه الصّيغ الّتي إن دلّت على شيء فإنّما هي تدلّ على هذه العلاقة المتّسمة بالفوقيّة، من طرف الحاكم، والدّونيّة من طرف المواطن.

ولمّا لم يكن التّدرّج في هذه الكيانات تدرّجًا طبيعيًّا، أي عبر أيّ صيغة من صيغ التطوّر البشري العاقل، وإنّما عبر العنف، على تنويعاته المختلفة، الّذي يوصل إلى سدّة الحكم. أي عبر قانون الغاب فإنّ الحاكم العربيّ يبقى في مركزه مستندًا إلى القوّة، كما هي الحال لدى حيوانات الطّبيعة في الغابة. وبعد أن يشيخ الفحل في الغابة يأتي ليحتلّ مكانه فحل آخر ليفرض هيمنته على الفصيل الحيواني من حوله، أي المواطنين في حال الدّولة العربيّة. غير أنّ ما ينفع في عالم الحيوان الغرائزي في الغابة لا يمكن أن ينفع في حال بني البشر في مسيرة بناء المجتمعات. ولهذا السّبب ما من سبيل أما المجتمعات العربيّة للأخذ بركب التطوّر إلاّ عبر تفكيك هذه البنية الذهنيّة المسيطرة على حكّامها وأفرادها.

ما من شكّ في أنّ هذه الفحولة المزيّفة هي ذاتها الّتي شلّت على مرّ العصور عمل عضو هام في الجسم العربي، ألا وهو المرأة، وهو كما هو معلوم عضو يشكّل نصف جسد المجتمع العربي بأسره. وإذا كان نصف الجسد العربي، أي المرأة، مشلولاً، فلا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تقوم لهذا الجسم العربي أيّ قائمة، بل سيبقى جسمًا مشلول النّصف، وسيظلّ مُقعَدًا وسيظلّ عالةً على سائر الأمم من حوله. وعندما نضيف هذه الحقيقة إلى كون الأنظمة العربيّة أنظمة قمعيّة أصلاً للمجتمعات العربيّة بصورة عامّة، فلن يتبقّى لهذه البقعة من العالم أيّ بصيص أمل للخروج من المأزق البنيوي الّذي تعيش فيه، وهذا في الحقيقة ما هو حاصل فعلاً على أرض الواقع.

ولو نظرنا مثلاً إلى دول إسلاميّة وصلت فيها المرأة إلى أعلى المناصب في الدّولة، مثل بنازير بوتو في الباكستان، أو تانسو تشيلر في تركيا، أو حتّى كما هي الحال في بنغلاديش، فإنّ ما يلفت النّظر هو كون هذه البلاد ليست عربيّة. وبكلمات أخرى، لقد وصلت المرأة هناك إلى أعلى المناصب بسبب هذه الخلفيّة الحضاريّة غير العربيّة أصلاً. لذلك نستطيع أن نخلص إلى النّتيجة الّتي تقول إنّ الذهنيّة العربيّة في الحقيقة هي العائق الأكبر أمام المرأة، وفي نهاية المطاف هذه الذّهنيّة الذّكوريّة الزّائفة هي العائق الأكبر أما تطوّر المجتمعات العربيّة.

لهذا السّبب، فقد آن الأوان أن نرفع صوتنا بالدّعوة إلى أن تحتلّ المرأة العربيّة مكانتها في مقدّمة المجتمع، وبكلمات أخرى، لقد آن الأوان أن تكون المرأة العربيّة رئيسة لدولة عربيّة، وأن تكون المرأة ملكة لمملكة عربيّة. لكن، من أجل أن نصل إلى هذه الغاية علينا أن نغيّر الذّهنيّة الفحوليّة المزيّفة الّتي تسيطر على الرّجل العربي وتشلّ كيانه من المحيط إلى الخليج. لأنّه في نهاية المطاف فإنّ المرأة هي الحلّ.
يناير 2006
***

هل البطون والأفخاذ عورة؟



سلمان مصالحة ||

هل البطون والأفخاذ عورة؟


اختلف الفقهاء في
ما إذا كانت المرأة كلّها عورة يجب ستر كامل جسدها، أم يجب ستر أجزاء منه دون أخرى، كالوجه مثلاً. ففقهاء الحنفيّة يرون وجوب ستر الوجه من المرأة أيضًا، وذلك لأنّ كشف وجهها مظنّة الفتنة، على ما روي عن السّرخسي: "حرمة النَّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّةُ محاسنها في وجهها أكثرُ منه إلى سائر الأعضاء"، (نقلاً عن كتاب المبسوط). أمّا الجصاص فيقول: "المرأة الشابَّة مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الرّيب فيها"، (نقلاً عن أحكام القرآن). ويرى آخرون من الحنفيّة أنّ وجه المرأة عورة على الإطلاق. وكذلك يرى فقهاء المالكيّة: "المرأةُ كُلُّها عورة، بدنها وصوتها، فلا يجوزُ كشفُ ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عَمَّا يعنّ ويعرضُ عندها"، (نقلاً عن أحكام القرآن، والجامع لأحكام القرآن). غير أنّ الشافعية يذهبون أبعد من ذلك، إذ أنّهم يرون وجوب ستر المرأة ليس أمام الرّجال فقط بل أمام النّساء من أهل الكفر، على ما روي عن الإمام النووي: "لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاَّ أن تكونَ الكافرةُ مملوكةً لها، هذا هو الصحيح في مذهب الشافعي رضي الله عنه"، (نقلاً عن: الفتاوى). كما يذهب الحنابلة إلى أنّه حتّى الظّفر من المرأة عورة: "قال الإمام أحمد: ظفر المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها فلا تُبِنْ منها شيئاً ولا خفّها، فإنَّ الخفَّ يصفُ القدم، وأَحَبُّ إليّ أن تجعلَ لكُمّها زرّاً عند يدها حتَّى لا يبين منها شيء"، (نقلاً عن: الفروع).
إذن، وممّا سلف،
يتجلّى واضحًا من هذه الرؤى أنّ الاستبداد الذّكوري العربي الإسلامي تجاه المرأة في هذه المجتمعات هو استبدادٌ مطلق. وربّما انبنى هذا الاستبداد على أسس من الموروثات الّتي جاءت من أزمان سحيقة. فمن هذه الرؤى نسمع أصداء تأتينا من الطّبيعة البريّة الّتي سبقت ارتقاء الإنسان من المجتمع البرّي إلى المجتمع الأهلي.
إنّ هذا الاستبداد الذّكوري هو جزء من منظمومة مجتمعيّة متجذّرة عميقًا في الذهنيّة العربيّة البريّة، وهي ذهنيّة لم يتحرّر العرب منها، بل يبدو أنّهم مصرّون على التّشبّث بها، وذلك من خلال مناهج التّربية القائمة في مدارسهم وكتاتيبهم حتّى يومنا هذا.
هل هنالك خيط يربط بين
تعوير المرأة، وتعوير المجتمع بصورة عامّة؟ لقد ورد في الحديث: "الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" (نقلاً عن: المبسوط للسرخسي). ولذلك، وعندما نستخدم مصطلح "الشّعب"، فيما يخصّ هذه التّركيبة المجتمعيّة البشريّة الّتي تُسمّى عربًا، نجد لزامًا علينا أن نفهم هذا المصطلح كما يفهمه أهل هذه اللّغة، وليس كما يفهمه البعض عبر ترجمات لمفاهيم مستوردة من لغات أخرى في هذا العالَم الرّحب.
ولهذا الغرض، هيّا بنا نقرأ ما يفهمه العرب من مصطلحات كهذه: "والعربُ كُلّها على ستّ طبقات: شعوب وقبائل وعمائر وبطون وأفخاذ وفصائل....فالشّعوب جمع شعب وهو أكبر من القبيلة، وقيل الشعب هو الحيّ العظيم مثل: ربيعة، ومضر، والأوس، والخزرج. سُمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم كتشعّب أغصان الشّجر. وقيل الشّعب القبيلة نفسها...والقبيلة من النّاس بنو أب واحد وهي دون الشّعب كبكر من ربيعة، وتميم من مضر. وقيل القبيلة الجماعة الّتي تكون من واحد... واشتّقت القبيلة من قبائل الشّجر وهي أغصانها، وقيل أخذت من قبائل الرأس وهي أطباقه الأربع... والشّعب يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة تجمع البطون. والبطون واحدها بطن وهو دون القبيلة وقيل دون الفخذ وفوق العمارة. فالبطن يجمع بين الأفخاذ، وفخذ الرّجل حيّه من أقرب عشيرته إليه. ثمّ الفخذ يجمع الفصائل، وفصيلة الرّجل عشيرته ورهطه الأدنون، وقيل الفصيلة أقرب آباء الرّجل إليه. فكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصي بطن، وهاشم فخذ، وبنو العبّاس فصيلة." (عن المقريزي، النّزاع والتّخاصم).
إذن، والحال هذه،
يتّضح ودون لفّ أو دوران أنّ مصطلح "الشّعب"، فيما يخصّ حضارة العرب لا يعني شيئًا سوى القبيلة. وما لم يواجه العرب هذه الحقيقة، والعمل على تغيير وتبديل هذا الدّيسك الّذي يعمل به حاسوبهم الذّهني، من أجل بناء أسس أخرى لمجتمعاتهم، فلن تقوم قائمة لهم في هذا العالم. فالشّعب، كما يُفهم من نصّ المقريزي، هو القبيلة في المنظور العربي، ليس إلاّ. والقبيلة من هذا المنظور هي الوحدة السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تجذّرت في الذهنيّة العربيّة من سابق الأزمان البرّيّة. ولذلك فلا يعجبنّ أحد ممّا نشاهد ما يجري في هذا العالم العربي المترامي الأطراف من انفراط هذه الكيانات السّياسيّة في حال تمّ قطع خيوط الدكتاتوريّات الّتي تجمع حبّات هذه السّبحة العربيّة عنوة، وبإمرة أحد البطون أو أحد الأفخاذ. أليس ما يجري في العراق خير مثال على ذلك؟
إنّ الدّكتاتوريّات الذكوريّة العربيّة،
أملكيّة كانت تلك الأنظمة أم جمهورية، والّتي تتحكم في الذهنية العربية، من مشرقه إلى مغربه، هي أشبه ما تكون بذلك الحجاب الّذي يستر جسد المرأة. فمثلما أنّ أولئك الّذين يرون في المرأة كلّها عورة، ولذا وجب عليها ارتداء الحجاب فرضًا لفتنةٍ أو لغيرها، فإنّ الدكتاتوريات العربيّة، والمطبّلين المزمّرين لها يرون في حقيقة الأمر أنّ العربان، في جوهرهم، هم أيضًا عورة يجب ستر بطونهم وأفخاذهم من أن تظهر على الملأ من خلال فتنة الدّيمقراطيّة. إذ أنّ لسان حالهم يقول: الديمقراطية نائمة لعن الله من أيقظها.
لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. إذ أنّه وما أن ترفع سياط الدكتاتوريات عن العربان، حتّى تتبدّى عوراتهم على الملأ، من خلال تَعارُك وتَطاحُن البطون والأفخاذ.
أليس كذلك؟
***

نشرت: إيلاف الجمعة 7 يوليو، 2006
***



ظواهر الشّرف وبواطن القرف



سلمان مصالحة


ظواهر الشّرف وبواطن القرف


لمّا كان الإنسان العربيّ
لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة. والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة وطائفيّة.

في الكثير الكثير من الأحيان 
 نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من الأقنعة الشفّافة والكاذبة. والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث، ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع أفرادها منذ سنّ مبكّرة. وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف نابعين من ذاته.

وحينما يكون الرّجل العربيّ 
بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول الحفاظ عليهما في الـ"آخر" الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل، والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه، ليس من جنسه.

والدّجل السّافر في هذا الموضوع، 
هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ"أنا" القبليّة. أي أنّ الرّجل العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة. وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ"ليس منه" هو هذه الحلقة القبليّة الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.ليس صدفةأن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.

هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي، في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟

المجتمعات العربيّة بحاجة 
 إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة، بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.

قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله. فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة، هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة بنوع من التفهّم.

وهذا الرّجل العربيّ المكبوت 
نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه. فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.

والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.

إنّ تحرير الرّجل العربيّ 
من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر، وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.

***


نشرت في: "كلّ العرب"، يوليو 1994
*
مقالات أخرى حول الموضوع:
"لماذا يقتل الرجل العربي المرأة"، إيلاف
"الرجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ"، إيلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟


سلمان مصالحة

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟



ما من شكّ في أنّ مكانة المرأة
في المجتمع هي حجر الأساس الّذي تُبنى عليه العمارة الحضاريّة البشريّة. لذا فإنّ مكانة المرأة العربيّة هي قضيّة في غاية الأهميّة، لما كان لهذه النّظرة المُحَقِّرة للنّساء من إسقاطات على مجمل التّطوّر البشري للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة طوال القرون الماضية ولما سيكون لهذة النّظرة، لو بقيت على ما هي عليه، من تأثير في العقود، إن لم نقل القرون، الجائية.

بالإضافة إلى أسباب قد تكون سياسيّة واقتصاديّة وأخرى كثيرة لهذا الوضع المزري، فإنّ أحد أهمّ المسبّبات للتّخلُّف العربي هو هذه النّظرة لمكانة المرأة الدّونيّة في المجتمع، أي في الحياة المتحضّرة لبني البشر. إذ كلّما ارتفعت مكانة المرأة المجتمعيّة كلّما اندفعت المجتمعات قدمًا في ركب التّطوّر على جميع الأصعدة. وبالعكس كلّما انخفضت مكانة المرأة في المجتمعات البشريّة كلّما تقوقعت هذه المجتمعات في شرنقة التّخلُّف الّتي تعزلها عن عالم الحياة المتنوّرة حتّى تتعفّن هذه المجتمعات وتتفسّخ فتذروها الرّياح وتلقي بها على قارعة الطّريق تدوسها الأقدام المسرعة في حركة ارتقائيّة حثيثة.

غير أنّنا، وإذا ما نشدنا الوصول
 إلى تغيير لهذا الوضع المزري، لا يمكننا بأيّ حال أن نتجاهل الأسس الّتي انبنت عليها هذه النّظرة العربيّة المُحَقِّرَة للمرأة ومنذ فجر الحضارة العربيّة وحتّى عصرنا الحاضر. ولهذا السّبب، نحن في أمسّ الحاجة إلى صياغة فكريّة جديدة تُؤسِّسُ لبناء مجتمعيّ جديد قد لا نستمتع به نحن في المستقبل القريب، غير أنّه قد يشكّل بيتًا آمنًا للأجيال العربيّة المستقبليّة.

الصّياغة الفكريّة الجديدة الّتي نودّ الوصول إليها، يجب أن تنبني على ثورة في المفاهيم المؤسِّسَة لهذه المجتمعات العربيّة. وهذه الثّورة يمكن أن نُجملها في مقولة واحدة ومقتضبة: يجب نفض الأسس المجتمعيّة العربيّة رأسًا على عقب، وبدل البناء على أسس ذكوريّة للمجتمع، يجب أن تنبني المجتمعات العربيّة على أسس أنثويّة. صحيح أنّ هذا التّحوّل ليس بالأمر السّهل، إلاّ أنّه هو الحلّ الأوحد لبناء مجتمع عربيّ سليم ومعافى. ولهذا الغرض هنالك حاجة إلى علاج هذه العُقَد الذّكوريّة العربيّة بأدوات معرفيّة وسيكولوجيّة بعيدة الغور، كما أنّها بحاجة إلى أناة وعقول منفتحة من قبل الذّكور خاصّة.

فلو عدنا إلى الوراء، إلى حقبة 
جاهليّة العرب وإلى ما رسخ في الذّهن منها، فإنّ الوأد الجاهلي، كما يعرضه لنا القرطبي في تفسيره نجد أنّ العرب كانت تدفن البنات بعد ولادتهنّ أحياء لسببين: الأوّل، "مخافة الحاجة والإملاق وإمّا خوفًا من السّبي والاسترقاق". ولعلّ مقولة "خوف الحاجة والإملاق" قد وضعت هنا فقط لمجرّد تسجيع الكلام لشغف العرب بهذه العادة اللّغويّة، إذ أنّ المرأة الجاهليّة كانت عضوًا نشطًا في منظومة الإنتاج الجاهليّة مثلها في ذلك مثل الرّجل، إن لم تكن مهمّتها تفوق مهمّته أصلاً. أمّا الشّطر الثّاني من السّبب وهو "خوف السّبي والاسترقاق"، فقد يكون هو الأقرب إلى الحقيقة بسبب تلك الذّهنيّة الذّكوريّة الّتي تخشى من فقدان السّيطرة على ماكينة التّفريخ هذه كما يراها الذّكر العربيّ، ولارتباط مُحرّك هذه الماكينة بالشّرف الذّكوري فحسب.

غير أنّي أميل شخصيًّا إلى الأخذ بالسّبب الآخر الّذي يورده القرطبي تفسيرًا لهذه الظّاهرة، حيث يذكر القرطبي: "كانوا يقولون إنّ الملائكة بنات اللّه، فألحقوا البنات به«. فإذا كان السّبب في ذلك هو إيمانهم بأنّ الملائكة بنات اللّه، ولذلك يلحقون البنات باللّه، فهذا يعني بالضّبط ما هو نقيض للنّظرة الدّونيّة للمرأة، إذ يُفهم من هذه الجملة أنّ النّظرة الجاهليّة إلى البنات هي نظرة تقديس لهنّ كما لو كانت البنات ملائكة، ولذلك فهم يلحقون البنات باللّه. وبكلمات أخرى فهم يقدّمون البنات قرابين للّه، أي من خلال طقس دينيّ للتّقرُّب لآلهة الجاهليّة. وهذا التّفسير أقربُ إلى الصّواب في نظري، إذ أنّه يندرج ضمن هذه الطّقسيّة الدّينيّة، أي تقريب الأبناء للآلهة، لدى كثير من الحضارات القديمة على اختلاف مشاربها ومواقعها، وفي أصقاع شتّى من أنحاء العالَم في العصور القديمة.

إنّ عدم الالتفات إلى هذا التّفسير الّذي أقدّمه هنا من قِبَل أهل العلم من العرب قديمًا وحديثًا مردُّهُ إلى تلك النّظرة الّتي تأسّست عليها الأيديولوجيّة الإسلاميّة والمتمثّلة بتجهيل الحقبة الّتي سبقت الدّعوة، أي بإضفاء صبغة الجاهليّة عليها. وكلّ ذلك بغية رفع قيمة هذه الدّعوة الجديدة مقابل ما سبقها من حضارة عربيّة قديمة.

غير أنّ الإسلام
الّذي قولب صورة الجاهليّة على مقاسه هو، في محاولة منه لوضع حدّ فاصل بين "همجيّة" موهومة للحقبة الجاهليّة من جهة وبين "نور" إسلامي من جهة أخرى، لم يأت سوى بشكل آخر من أشكال الاستعباد للمرأة. بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنقول بأنّ الإسلام قد حطّ من قيمة المرأة قياسًا بما كانت عليه من قبل. فبينما كانت الأنثى أقرب إلى كونها من جنس الملائكة الّتي تُلحق باللّه، كما ذكرنا سابقًا، تحوّلت مع الإسلام إلى مخلوق يُنظر إليه، من جهة، بصفته عورة، كما يقول الحنابلة. إذ أنّّه حتّى الظّفر منها عورة "فإذا خرجت من بيتها فلا تُبنْ منه شيئًا، ولا خفّها فإنّ الخفّ يصفُ القدمَ، وأحبّ إليّ أن تجعل لكُمّّها زرًّا عند يدها حتّى لا يبين منه شيئًا"، كما يقول الإمام أحمد، وكذا ابن قيّم وابن تيميّة، إذ أنّ المرأة كلّها عورة كما يقول الإمام القرطبي.أو وجوب الحجاب، لا لكون الوجه عورة، بل لأنّ الكشف هو مظنّة الفتنة، كما تقول الحنفيّة: "حرمة النّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء"، كما يروي السّرخسي في المبسوط، وكذا تقول المالكيّة أيضًا. بل وأكثر من ذلك، إذ أنّ النّووي الشّافعي يقول: لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاّ أن تكون الكافرة مملوكة لها". وقد ذكر أنّ آية الحجاب قد نزلت بسبب غيرة الرّسول على عائشة، فقد روي عن مجاهد: "أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يطعمُ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشة، فمره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت آية الحجاب"، كما يذكر الطّبري في تفسيره. وهذا الكلام يعني شيئًا واحدًا وهو أنّه لو أنّ يدَ ذلك الرّجل لم تمسّ يد عائشة لما كانت نزلت آية الحجاب أبدًا.

فمهما حاول البعض من الإسلامويّين تلطيف الأمور بإخفاء النّصوص عن أعين النّاس، فليس أمام قارئ هذه النّصوص من سبيل سوى مواجهة الحقيقة، إذ أنّ المشكلة ليست في التّفسيرات، وإنّما هي في النّصوص المؤسِّسَة لهذه الأيديولوجيّة الذّكوريّة. إنّ هذا التّعوير أو التّفتين أو شيطنة المرأة بصورة عامّة هو الّذي يُفضي إلى مبدأ الانتقاص من قدرها ومكانتها شرعًا. وهو المبدأ الّذي لا زال مُتحكّمًا في الذّهنيّة العربيّة إلى عصرنا الحاضر. إذن، ومن هذه النّاحية، يشكّل الإسلام في تصوّري تدهورًا ملحوظًا في مكانة المرأة الاجتماعيّة، حتّى قياسًا بما كانت عليه مكانتها في ما سبق من زمن، أي في فترة "الجاهليّة"، كما يحلو للإسلامويّين وَسْمَ تلك الحقبة من الزّمن العربيّ.

مهما يكن من أمر،
 حتّى لو أمعنّا النّظر في طرفي صورة الأنثى، الطّرف الجاهلي منها بالإضافة إلى الطّرف الإسلامي، كما يُقدّمه لنا دارسو الحضارة العرب، إسلامويّين كانوا أو ذوي تصوّرات أخرى، لوصلنا إلى استنتاج لا مفرّ منه. إنّه استنتاج يرى بأنّ النّظرة الذّكوريّة المتجذّرة في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة تجاه المرأة، هي ما يدفع بالذّكر العربيّ إلى القيام بعمليّة "قتل" أو "إعدام" للأنثى على العموم وعلى عدّة أصعدة. فكما يتّضح فإنّ الوجهين اللّذين قد يبدوان نقيضين للوهلة الأولى، وهما الوأد القبلي الجاهلي على خلفيّة الخوف "من السّبي والاسترقاق" من جهة، والنّظرة إلى المرأة بصفتها عورة أو درءًا للفتنة، كما يجمع على ذلك فقهاء الإسلام، ما هما إلاّ وجهين لعملة واحدة ينبعان من تلك العقدة الذّكوريّة العربيّة الّتي تربط الشّرف بالمرأة، وعلى وجه الخصوص بالجانب الجنسي فيها.

فخوف السّبي والاسترقاق الجاهلي ليس سوى خوف من استحواذ ذكوريّة غريبة على محرّك التّفريخ الّذي يسيطر عليه الرّجل العربي المنتمي إلى وحدة قبليّة تعمل بموجب منظومة من القيم الذّكوريّة. والأمر هو ذاته فيما يتعلّق بالنّظرة التّعويريّة للمرأة في الإسلام. صحيح أنّ الوأد الجسدي قد حُظر إسلاميًّا، غير أنّ هذا الوأد، كغيره من قيم الجاهليّة، قد استمرّ في الإسلام بصيغة أخرى، من خلال تحجيب المرأة في الفضاء العام، والاستحواذ بها داخل حدود البيت لكون المرأة كلّها عورة، أو كما روي عن ابن مسعود عن النّبي: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان«. ولذلك أيضًا فقد روى مسلم في كتاب النكاح من صحيحه أنّ النّبي "رأى امرأةً فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثمّ خرج إلى أصحابه فقال: إنّ المرأة تُقبل في صورة شيطان وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصرَ أحدُكم امرأةً فليأْتِ أهلَهُ، فإنّ ذلك يردُّ ما في نفسه". وبكلمات أخرى يردّ ما نفسه من شهوة مواقعتها. لهذا السّبب أيضًا يقول النّبي كما روى البخاري في صحيحه: "اطّلعتُ في النّار فرأيتُ أكثر أهلهت النّساء".

من هنا، فإنّ الوأد الجسدي - جاهليًّا - في التّراب، والوأد الجسدي - إسلاميًّا - في الحجاب يستمدّان شرعيّتهما من كون الشّرف الذّكوري العربي مرتبطًا بالمرأة ليس إلاّ. وهذا الشّرف لو أمعنّا فيه النّظر لرأينا أنّه نابع من خارج ذات الذّكر العربي. أي أنّ الذّكر العربي يعتزّ بالشّرف الّذي ليس من كُنهه هو كذات بشريّة مستقلّة. ولهذا السّبب أيضًا، نرى أنّ الرّجل العربي قد يرتكب جريمة متمثّلة بقتل ابنته أو شقيقته أو أنثى قريبة منه تحت ما يسمّى بجرائم الشّرف. وهو إنّما يفعل ذلك ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنّما كثيرًا ما نقرأ عن ارتكاب هذه الجرائم في البلاد الأوروبيّة وغيرها. أي أنّ هذه النّظرة تنتقل مع العربي في حلّه في بلاد العربان، وفي ترحاله إلى بلاد البيضان والسّودان.

إنّ الرّجل العربي 
يقوم بارتكاب هذا النّوع من الجرائم، وأدًا جاهليًّا أو تحجيبًا وتعويرًا إسلاميًّا أو قتلاً على خلفيّات الشّرف في هذا العصر، لأنّه ترعرع على هذه الذّهنيّة الاستحواذيّة الذّكوريّة القبليّة في مراحل تطوّره الأولى. وأغلب الظنّ أنّ هذه الذّهنيّة ليست سوى ذهنيّة غريزيّة هي من مخلّفات الحيوانيّة البشريّة في مراحل التّطوُّر البشريّة الأولى منذ عهد سحيق في الغابة. في الحقيقة الرّجل العربي يريد الأنثى القريبة لنفسه غير أنّ التّابوات الصّارمة تحول دون ذلك، فيحوّل الأنثى القريبة إلى صلة الرّحم. ولهذا السّبب أيضًا يعمد العرب على العموم إلى التّزاوج داخل القبيلة من أبناء العمومة والخؤولة. وهم يفعلون ذلك من أجل الاستحواذ بماكينة التّفريخ ضمن حدود القبيلة ذاتها بغية تكثير الجينات الذّكوريّة الذّاتيّة في الطّبيعة البرّيّة الوحشيّة، أو لتكثير العدد القبلي لحاملي العصيّ، كما يُقال لدى العوام. إذ أنّ كلّ ما هو خارج نطاق القبيلة ذاتها يُعتبر غريبًا يُهدّد الهيمنة على مناطق ومجالات النّفوذ في الطّبيعة البريّة.

ليس من عجب إذن، أن نرى هذا الدّرك الّذي وصلت إليه أحوال العرب مقارنة بالشّعوب المتطوّرة في هذا العالم. فالحضارة الذّكوريّة العربيّة لا زالت في مراحل أوليّة من التّطوُّر البشري، وهي بحاجة إلى نقلة نوعيّة. ومن هنا أيضًا فإنّنا نُطلق دعوتنا الصّريحة هذه إلى قلب الأمور رأسًا على عقب، والعمل على بناء المجتمع العربي على أسس أنثويّة بدل الأسس الذّكوريّة الّتي لا تستطيع بأيّ حال أن ترتقي بالمجتمعات العربيّة، وفي حضارتنا العربيّة قديمًا وحديثًا ما يكفي من براهين على ما نرمي إليه.

فهل من سميع أو مجيب؟

يوليو 2005


الرّجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ

أرشيف (2004) -

 

سلمان مصالحة ||


الرّجل العربيّ هو المشكلة، 

المرأة هي الحلّ



تقارير التّنمية البشرية الصادرة عن الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة تفيد بأنّ العالم العربي، مقارنة بشعوب العالم الأخرى، يتواجد في القاع من الناحية الثقافية، الإجتماعية، السياسية إلخ. لا حاجة إلى تكرار ما ورد في هذه التّقارير، إذ يمكن الحصول عليها في الإنترنت. غير أنّ ما يجب الحديث عنه هو كيفية وضع الإصبع على جذور ومسبّبات هذا الوضع، ومحاولة الإشارة إلى طرق ووسائل للخلاص من هذا المأزق المأساوي، أي وبكلمات أخرى، إذا عرف السّبب بطل العجب وسهل العلاج.

إذا ألقينا نظرة سريعة إلى العالم من حولنا، نرى أنّ الشّعوب المتطوّرة هي تلك الشّعوب الّتي تحظى فيها المرأة بمكانة عالية في المجتمع. وهذه المكانة لم تأت عبثًا، وإنّما تطوّرت ونمت في القرون الأخيرة على أرضيّة اقتصاديّة، حضاريّة ودينيّة ساعدت على تقدّم المرأة وتسنّمها دورها العضوي الفاعل في تلك المجتمعات. أمّا في المجتمعات العربيّة فيبدو أنّ المرأة لم تتخطَّ بعدُ النّظام الرّعوي القبلي الّذي هو العنصر المؤسّس لهذه المجتمعات العربيّة، حتّى بعد مرور قرون كثيرة على خروج الموجات البشريّة من جزيرة العربان.

لا مناص لنا سوى رؤية عرب اليوم كعربان الأمس حتّى وإن ركبوا الطّائرات وقادوا السيّارات وتشاتتوا في الإنترنت. حتّى أولئك الّذين ولدوا وترعرعوا في دول الغرب لم تتغيّر مفاهيمهم، فكثيرًا ما نسمع عن جرائم ما يُسمّى "الشرف" بين أفراد هذه الجاليات، في اسكندينافيا، بريطانيا فرنسا وغيرها. وهذه الجرائم العابرة للبحار والقارّات تحدث لأنّ المجتمعات العربيّة هي مجتمعات ترعرعت في ذهنيّة أبويّة ذكريّة في طورها البدائي الحيواني. فإذا كان هذا ما يحدث في أوروبا فما بالكم بما يحدث في أرجاء العالم العربي؟

لهذه الحالة أبعاد سيكولوجيّة بعيدة المدى على تطوّر المجتمع بعامّة. إنّها حالة مرضيّة لدى الذّكورة العربيّة الّتي يمكن إيجازها في أنّ الشّرف الذّكوري العربي لا ينبع من ذات الذّكر، إنّما هو شيء نابع من مكان خارج ذاته. أي أنّ شرف الرجل العربيّ ليس كامنًا في ذاته ودواخله هو، بل هو شرف يأتيه من مكان آخر، من شخص آخر، وعلى وجه الخصوص من المرأة، الحلقة الأضعف في هذه المجتمعات. وما إصرار الرّجل العربي على السّيطرة على قَدَر المرأة، وبخاصّة جسدها، سوى محاولة منه للتّشبّث بكرامة وشرف مفقودين لديه منزوعين من ذاته اجتماعيًّا وسياسيًّا. من بين أهمّ الأسباب إلى حقيقة كون السّلطات الإجتماعيّة والسّياسيّة في المجتمعات العربيّة على مرّ العصور بدءًا بالقبيلة الجاهليّة وانتهاءً بالدّول القائمة الآن سلطات قهر واستبداد لا تسمح بأيّ تعبير ذاتيّ عن كيان إنساني ذي خصوصيّات فرديّة، فحال الفرد في الدّولة العربيّة هي كحاله في ذهنيّة القبليّة الرّعويّة العربيّة المتجذّرة. لذلك، فإنّ كلّ ما يمتّ إلى كرامة الفرد، الإنسان العربي، يصبح شيئًا معدومًا لديه. لهذا السّبب بالذّات نجد الرّجل العربيّ يذهب بعيدًا خارج ذاته باحثًا عن ذاته المكبوتة لدى الحلقة الأضعف من حوله، أي في المرأة، الزّوجة، الشّقيقة، البنت إلخ.

ومثلما لم يأت الإسلام بجديد من النّاحية الدّينيّة، كمل ورد في غير موضع من الصّحيحين وغيرهما: "عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه ص: لَتَتّبعنّ سنن الّذين من قبلكم شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لاتّبعتموهم. فقلنا يا رسول اللّه، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟". كذلك لم يأتِ الإسلام بجديد من النّاحية الإجتماعيّة ولم يغيّر الإسلام شيئًا لدى العربان. فالحديث: "خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام" هو تكريسٌ لهذا النّمط القبلي، حتّى وإن زيد فيه "إذا فقهوا". إلى ذلك انضاف أيضًا مبدأ تفضيل الذّكر على الأنثى: "للرّجل مثل حقّ الأنثيين"، تكريسًا للمبدأ الذّكوري المجتمعيّ. بكلمات أخرى، كلّ ما في الأمر أنّ الإسلام حوّلَ المجتمعات القبليّة المتناحرة إلى قبيلة جديدة من نوع آخر، قبيلة- أُمّة ذكوريّة المنحى، ووجّهها للسّلب والنّهب خارج جزيرة العربان. غير أنّ هذه القبيلة- الأمّة سرعان ما تفكّكت فبرزت النّعرات القبليّة المتجذّرة فيها، والّتي تمحورت حول أحقّيّة الخلافة، أي السّيادة السّياسيّة. وهكذا، عادت حليمة لعادتها القديمة، لأنّ طبع العربان يغلب تَطبُّعَهم.

ما العمل إذن في هذه الحال؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر السّهل. إنّها تستدعي قدرًا كبيرًا من الشّجاعة الأخلاقيّة لدى أفراد يحملون راية التّغيير. يجب عدم الإستمرار في دسّ الرّؤوس في الرّمال، كما يجب التّصريح بالأمور علانية ووضعها للنّقاش والجدل. فإن نحن لم نسأل أنفسنا الأسئلة الصّعبة، كيف سنصل إلى حلول للقضايا المستعصية؟ من هنا يمكننا أن نقول إنّ العقليّة الذكوريّة القبليّة المتجذّرة والملفوفة لاحقًا بأيديولوجيّة دينيّة إسلاميّة هي هي لبّ المشكلة. فعندما تجذّرت النّظرة بأنّ "الرّجال قوّامون على النّساء"، أي كما يفسّر ابن كثير ذلك بأنّ الرّجل قيّم على المرأة" وهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدّبها إذا اعوجّت"، ماذا تبقّى لنصف المجتمع العربيّ المقموع أن يفعله لصالح هذا المجتمع. لذلك نقول إنّ الحلّ بابه مفتوح على مصراعيه وهو باب المرأة، والمرأة بالذّات في هذه المجتمعات.

من أجل الوصول إلى هذه الغاية، يجب إقناع الرّجل العربيّ بأنّ شرفه وكرامته يجب أن ينبعا من ذاته هو ومن جوهره هو كإنسان فرد قائم بذاته، وليس من أيّ جوهر لذوات أُخَر. فلكلّ فرد، رجلاً كان أم امرأة، شرف نابع من ذاته هو. لهذا، يجب تحرير الرّجل العربيّ من عقدته المزمنة من خلال تحرير شرفه وكرامته من تلابيب ما يسمّى شرف المرأة.

ثمّ على الحركات النّسويّة العربيّة أن تأخذ زمام المبادرة وتطالب بوضع قوانين لتحديد النّسل، بمعنى إسقاط النّظرة إلى المرأة بوصفها ماكينة للتّفريخ فقط. إذ أنّ هذا التّفريخ العشوائي لا ينتجُ شيئًا، بل يشكّل عالة تنخر في المجتمع أوّلاً وقبل كلّ شيء، ثمّ بعد أن يعلو الزّغب والرّيش أجنحة هذه الفراخ تطير باحثة عن سبل وطرق للهجرة بحثًا عن الرّزق وراء البحار. لنتفكّر قليلاً بما فعلت الثّورة الصّينيّة. ألا نرى كيف أنّ الصّين في السّنوات الأخيرة، وبعد عقود قليلة قياسًا بأعمار الشّعوب، قد بدأت تأخذ مكانتها اقتصاديًّا واجتماعيًّا في ركاب الدّول المتطوّرة؟

ولو حاولنا أن نفهم كيف وصلت المرأة في العالم المسيحي إلى هذه المكانة المتقدّمة، فما من شكّ في أنّ ثمّة جذور حضاريّة دينيّة لهذا الوضع. فالحضارة المسيحيّة الّتي ترفع شخصيّة السّيّدة مريم العذراء إلى درجة سامية قد تفوق أحيانًا شخصيّة يسوع المسيح، لا يمكن إلاّ يكون لمكانتها هذه تأثير مباشر على تطوّر بنات جنسها في هذه المجتمعات.

أنظروا مثلاً، كيف غيّب التّراث القبلي العربيّ الإسلامي المرأةَ من تاريخه، فعلى سبيل المثال، كيف لنا أن نفسّر اختفاء خديجة بنت خويلد من الأحاديث النّبويّة، وهي الّتي عاشت مع الرّسول ربع قرن من الزّمان لم ينكح أخريات معها في هذه الفترة المؤسّسة والحرجة من التّاريخ الإسلامي. كيف ذا لم يُرْوَ حديث واحد عنها تقول فيه عن الرّسول إنّه قال كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا إلخ؟ ألم تتحدّث خديجة مع أحد من البشر، أو ألم يسمع منها أحدٌ طوال ربع قرن من الزّمان كلمة واحدة عن الرّسول، وهي المُبَشَّرَة "ببيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"؟ إنّ إلقاء نظرة سريعة على وضع المرأة المسيحيّة في المجتمعات العربيّة، مقارنة بوضع المرأة المسلمة تُعزّز ما نرمي إليه في هذه المقالة.

إذن، جذور التأخُّر العربيّ الإسلامي كامنة في هذه النّظرة إلى المرأة، ومن هنا فإذا أردنا أن نبحث عن حلول فإنّ المرأة العربيّة هي الحلّ. والخطوة الأولى يجب أن تتمثّل في محو جذريّ للأميّة المتفشّية لديها. ذلك لأنّها، وفي المستقبل المنظور، ستبقى هي الشّخصيّة الّتي تقوم بالدّور المركزيّ في تربية الأولاد، مادام الرّجل يخرج باحثًا عن أسباب المعيشة للعائلة في بعض الأحيان لأيّام وأسابيع. فحيث تكون الأمّ متعلّمة وواثقة، وعضوًا فاعلاً ومنتجًا في المجتمع، تستطيع أن تربّي جيلاً متعلّمًا وواثقًا ومنتجًا هو الآخر أيضًا. وفقط حينما تكون المرأة كذلك تستطيع أن تعطي من ذاتها لأطفالها. وإن لم تكن كذلك، فما الّذي تستطيع أن تمنحه لأبنائها، غير الحنان؟ لا شيء. يجب أن نعترف بأنّ حنان الأمومة وحده لا يكفي لدفع المجتمعات قدمًا. من هذا المنطلق، يجب إعادة الثّقة بالنّفس للرّجل العربيّ، من خلال تحريره من سجنه المزمن في الشّرف القائم خارج ذاته في بقعة محدّدة بين أرجل المرأة، زوجةً كانت أم ابنة أم شقيقة، إلخ.

من أجل الخروج من مأزق المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، هنالك حاجة إلى إعادة هيكلة لهذه المجتمعات، بشرط أن تنبني هذه الهيكلة على: أوّلاً، إعادة الثّقة للرّجل العربيّ بنفسه، وجعل شرفه نابعًا من ذاته هو، لا من ذوات أخر. ثانيًا، سنّ قوانين المساواة التّامّة والمُطلقة بين الرّجل والمرأة في جميع مناحي الحياة الاجتماعيّة، السّياسيّة والاقتصاديّة. ثالثًا، وضع الفرد، وعلى وجه الخصوص المرأة، في مركز الحياة العربيّة، ذلك لأنّها في نهاية المطاف هي الحلّ الوحيد وليس أيّ شيء آخر.

***
المقالة في إيلاف، سبتمبر 2004
***
المقالة بالإنكليزية
***
المقالة بالفرنسية
***
المقالة بالعبرية
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!