‏إظهار الرسائل ذات التسميات نصوص نثرية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات نصوص نثرية. إظهار كافة الرسائل

غيوم بلقانيّة

من الأرشيف - نص لم يُنشر من قبل:

سلمان مصالحة ||

غيوم بلقانيّة


"متى ستُقنعين ماريانا باعتناق الإسلام؟"
هكذا، وبلا مقدّمات معهودة تُخفّف من وقع الكلام، أطلق الوالدُ على مسامع ابنته ذلك السّؤال الّذي لا يحتمل تأويلات على أكثر من وجه. لا شكّ أنّ وجه ماريانا البشوش هو ما دفع الوالد إلى طرح هذا السؤال، الطّلب، على ابنته حاثًّا ايّاها على أن تتحدّث في الموضوع مع صديقتها الجديدة.

سفر الجائحة



سلمان مصالحة

سِفْرُ الجَائِحَة


باب الأخضر

إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ ٱلْأَخْضَرَ (1)  قَوْلًا هٰذَا لَا أَكْثَرَ (2)  فَٱقْبَلْ مِنَّا وَتَفَكَّرْ (3)  وَٱرْفَعْ عَيْنَيْكَ وَٱنْظُرْ (4) نُصِبَ ٱلْحَبْلُ فَلَنْ تَعْثُرَ (5)  فَٱمْضِ قُدُمًا وَتَصَبَّرْ (6)  وَٱحْمِلْ رَايَتَكَ وَٱعْبُرْ (7) مِنْ دَيْجُورٍ إِلَى بَلَدٍ أَنْوَرَ (8)  وَعْدًا هٰذَا مِنْ أَكْبَرَ (9)  إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلْأَعْوَرُ (10)
***

العودة إلى حمص

"فلما فرغ أبو عبيدة من أمر دمشق استخلف عليها يزيد بن أبي سفيان ثم قدم حمص على طريق بعلبكّ فنزل بباب الرّستن فصالحه أهل حمص على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وسور مدينتهم وكنائسهم وأرحائهم واستثنى عليهم ربع كنيسة يوحنا للمسجد ...

مقالة في رثاء الرجولة العربيّة


سلمان مصالحة ||

مقالة في رثاء الرجولة العربيّة


الأحداث التي تضرب ما يسمّى في هذا العصر “العالم العربي” ليست جديدة على هذه البقعة من الأرض. في ما مضى من قرون خوالٍ كان العرب يستخدمون مصطلح “فتنة” لوصف حال كهذه الحال. هكذا، وعلى سبيل المثال، عندما احتدم الصراع على السلطة إبّان خلافة الأمين والمأمون، فقد عرف ذلك الصراع والتقتيل بـ”فتنة الأمين والمأمون”. ولو شئنا أن نصف الحال العربيّة اليوم مستعيرين هذا الاسم، فيمكننا أن نقول، إنّ الفتن القبليّة العربيّة والطائفيّة على جميع تفرّعاتها هي البنية الحضاريّة العربيّة لكلّ هذه الجموع البشرية منذ ما سحق من أزمان. فكذا كان بدءًا من قيس ويمن، بين الأوس والخزرج، بين بكر وتغلب أو بين عبس وذبيان، مرورًا إلى قتل وسحل الخلفاء من راشدين، أمويين وعبّاسيين وانتهاءً إلى آخر ما آل إليه المصير في هذا الأوان.

وما على القارئ إلاّ أن يتفكّر قليلاً في ما جرى في العراق من تقتيل طائفيّ وقبلي على مرّ الزّمان، وما يجري الآن فيه ويجري في سائر بلاد العربان. فقد يكون للقارئ العربيّ الكريم في كلّ ذلك أسوة سيّئة يجدر به مداراتها. كما قد يتساءل القارئ، كيف ذا حوّل الـ”بعثان”، وهما حزبان رنّانان طنّانان بأيديولوجية واحدة، بلادهما إلى مزارع قبليّة وطائفيّة تحكم قتلاً وسحلاً وتستعبد العباد، بينما تملأ الفضاء الإعلامي بشعارات القومية والوطنية والحرية والاشتراكية وما إلى ذلك من تعابير ثورية؟

وقد لا يجد القارئ بدًّا، على سبيل المثال، من النّظر إلى بلد صغير كلبنان. وهو بلد طالما أُشبعنا شعارات عن كونه بلدًا فريدًا وحيدًا متقدّمًا على سائر البلدان من بغداد لتطوان. فهل هذا بلد حقًّا، أم أنّه مزارع طائفيّة وقبليّة؟ فلكلّ طائفة من تشكيلته البشرية الغريبة العجيبة كبشها وزعيمها في السرّاء والضرّاء، وجميع هؤلاء يتوارثون هذه الزّعامات القبلية والطائفية منذ أن ظهروا على مسرح التاريخ. أوليس في ذلك ما يجعل المرء يتفكّر قليلاً فيما ينطق به العرب على الملأ، مقارنة بما هو حاصل على الأرض في واقع الحال.

ولهذا السّبب، ولشدّة ما ينتاب المرء من وصب على ما آلت إليه أحوال العرب، يحاول في بعض الأحيان أن يهرب إلى عالم الأدب الّذي يُخفّف عنه من وطء هذه الكلاكل ومن كثرة هذه القلاقل. ولمّا كانت الحال على هذا المنوال فقد وجدتني أعود إلى أخبار من عاش ورأى رأي العين ما حصل من فتن في قديم الزّمان.

ومن بين هؤلاء الذين كانوا شهودًا على بعض تلك الفتن قديمًا، نذكر راشد بن إسحاق الكاتب. فلمّا رأى أبو حكيمة، وهذه كنيته التي اشتهر بها، كلّ ما جرى من فتنة بين الأمين والمأمون فقد تفجّع على تلك الحال شعرًا، وقال: “وما ضَرّ قومًا يَسفكون دماءَهم - صَفا المُلكُ للمأمون أو لمُحمّدِ/ لهم كلّ يومٍ وقعةٌ صَيْلَميةٌ - تَروحُ عليهم بالمنايا وتغتدي”.

غير أنّ صيت أبي حكيمة هذا قد ذاع في ذلك الأوان لأسباب وأغراض شعرية أخرى بعيدة كلّ البعد عن هذه الأسباب. ولعلّ من المفيد أن ُنخفّف قليلاً من أثقال كلّ هذه الأحمال التي تجثم على صدر العربيّ في هذا الزمان، فنورد له بعضًا من شعر الشّاعر لما فيه من كلام مسبوك ومن حسّ مرهف ومن صدق في المشاعر.

فقد ذكر لنا السّلف الصالح، كابن المعتزّ في الطبقات، أنّ أبا حكيمة هو من جملة نفر، أو هو أحد جماعة: “كانوا يصفون أنفسهم بضدّ ما هم عليه، حتى اشتهروا بذلك. منهم: أبو نواس، كان يكثر ذكر اللواط ويتحلى به، وهو أزنى من قرد. وأبو حكيمة: كان يصف نفسه بالعنة والعجز عن النكاح وكان يقال: إنه يقصّرُ عنه التيس.”

وقد أورد ابن المعتز خبرًا طريفًا أنّ أحمد بن أبي طاهر أنشد أبا حكيمة بيتين في هذا الباب فقال أبو حكيمة: “والله إنه لا شريك لي في هذا الفن، وإني قد تفردت به من دون الخلق، وأنا أعطي الله عهدًا يأخذني به إن أنا قلت شيئًا بعدها في هذا المعنى”. وها هو الثعالبي يذكر لنا في ثمار القلوب سبب طرق أبي حكيمة هذا الباب في شعره، فقد ذكر لنا أنّ أبا حكيمة: “كان يكتب لإسحاق بن إبراهيم المصعبي، فاتّهمه بغلام له، فأخذ في هذا الفن من الشعر تنزيها لنفسه عن التهمة.”

مهما يكن من أمر وأيًّا كانت الأسباب، فقد ترك لنا أبو حكيمة شعرًا جميلاً في باب المراثي، وهي المراثي التي أفردها لأيره. ولقد حقّ لسكّان بلاد العرب أن يقرؤوه على الملأ وأن يدرسوه في هذا الأوان بالذّات، لما فيه من ترويح عن نفوسهم. فها هو أبو حكيمة يبثّ شكواه شعرًا في على الملأ: “أَيحسُدُني إبْليسُ داءينِ أصْبحَا - برَأسي وجِسْمِي دُمّلاً وَزُكاما؟/ فَلَيتَهُما كانَا به، وأَزيدُهُ - زَمانَةَ أَيْرٍ لا يُطيقُ قِيامَا/ إذا انتَبَهَتْ للنّيْكِ أَزْبابُ مَعْشَرٍ - تَوَسَّدَ إحْدَى خِصْيتيهِ ونَامَا”. وها هو يشير إلى ذلك الميت بين رجليه لا يجد له كفنًا: "يُكفّنُ الناسُ موتاهم إذا هلكوا - وبين رِجلَيَّ مَيْتٌ ما له كَفنُ.”

وبخلاف ما اعتاد عليه العرب في جاهليّتهم من الوقوف والتباكي على الأطلال، فقد نحا أبو حكيمة منحى آخر على غرار أبي نواس. وإذا كان الحسن بن هانئ قد عبّر عن استهزائه بتقاليد العرب قائلاً: “قل لمن يبكي على رسم درسْ - واقفًا، ما ضرّ لو كان جلسْ؟”، وبدل ذلك عاج يسأل عن الحانات: “عاج الشقيّ على رسم يسائله - وعجت أسأل عن خمّارة البلد”، فإنّ أبا حكيمة يقف باكيًا مسائلاً رسوم أيره الدارس: "لا يُوحشنّك فَقْدُ الحَيّ إن رَحلُوا، - دعْهم! لكلّ فقيدٍ منهمُو بَدَلُ/ ولا تقفْ بين أطلالٍ تُسائلُها - فلنْ يردّ جوابَ السائل الطّللُ/ ولتَبكِ عَينُك أيرًا لا حراكَ به - لا اللّمْسُ يُنْشطهُ يَومًا ولا القُبَلُ". كما نراه في مكان آخر يبدع تشبيهًا لأيره في معاناته هذه: "ينام على كفّ الفتاة وتارةً - له حركاتٌ مما تُحسُّ بها الكفُّ/ كما يرفع الفرخُ ابنُ يومَيْن رأسَه - إلى أبويه، ثمّ يُدركهُ الضّعفُ".

والشيء بالشيء يُذكر: لقد أشيع في وسائل الإعلام، ولا أدري مدى صحّة هذا الخبر، أنّ زعيم قبيلة “قذّاف الدّم” (لاحظوا المعنى السّلمي في هذا الاسم)، قد وزّع على الجنود من أتباعه أقراص الڤياغرا الشهيرة بمفعلوها الجنسي. لقد كنت أشرت في مكان آخر إلى أنّ للأسماء تأثيرًا كبيرًا على مصير وسيرة حياة الأفراد والجماعات. وعلى ما يبدو فإنّ من يتسمّى بـ”قذّاف الدّم”، قد كُتب مصيره في هذا الاسم.

كما أتذكّر الآن أنّي قرأت خبرًا قبل مدّة مفاده أن أكثر من ستّين بالمائة من الرجال في الأردن يعانون من العجز الجنسي. والحقيقة أنّي أميل إلى تصديق هذا الخبر، مع أنّنا لا نكاد نرى شعرًا أردنيًّا في هذا الباب، رغم ما يُقال من أنّ الشّعر تعبير عن مكنونات النفس البشرية. وهكذا، فلدى قراءة الخبر عن حال رجال الأردن تذكّرت حديثًا جرى لي مع سائق تاكسي أردني قبل أعوام.

كالعادة، مع هذا الصنف من السائقين، فقد تجاذب معي أطراف الحديث بينما كان يقلّني في شوارع عمّان. وبينا نحن كذلك سألته عن شيء لفت انتباهي في البلد، وهو عدم رؤية رجال أردنيّين تنفرج أساريرهم. فلم أشاهد رجلاً يبتسم أو يضحك في هذا البلد، فسألت السائق: لماذا هذه الحال؟ فكان ردّه بما معناه: “إنّ الابتسام أو الضحك ليست من سمات الرّجال لدينا، ولذلك فهم متجهّمون دائمًا”. ولكنّي الآن وجدت تفسيرًا آخر لهذا التّجهّم. إذ ها هو البحث الأردني الآنف الذكر يفسّر لنا الآن أسباب هذا العبوس. فعلى ما يبدو، إنّ كلّ سمات الرجال هذه التي تحدّث عنها السائق، ليست سوى ذلك القناع الذي يُخفي من وراءه ذلك العجز الجنسي.

وعلى هذا المنوال، يمكننا القول بما يلي: كلّما رأيت عربيًّا يتظاهر بالرّجولة بإبراز شاربيه، فما عليك إلاّ أن تنسب أسباب هذا التّظاهر إلى عجز خفيّ في مكان آخر. إذ أنّ هذا التظاهر بالرّجولة هو القناع الذي يخفي وراءه أمورًا يصعب الإفصاح عنها في مجتمع قبليّ وذكوري في آن معًا. وفي هذا السّياق، يتذكّر الجميع بلا شكّ كيف قام رئيس طغمة البعث الحاكمة في الشّام ووصف الآخرين بـ”أنصاف الرجال”.

وهكذا، فمثلما هي الحال مع الأفراد، كذا هي الحال مع الأنظمة العربيّة. فكلّما ارتفعت شعارات الممانعة والمقاومة على الملأ، كلّما كان ذلك دليلاً على عجزها الحقيقي في دعاوى هذه الرجولة. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت أيضًا في: "شفاف الشرق الأوسط"
_________________________

خيوط دخان


ذاكرة - كذا كان:


سلمان مصالحة ||

خيوط دخان


البحث عن المكان هو بحث عن ساكن المكان، صائتًا كان أم صامتًا، رائدًا كان أم جامدًا. الصّامت صائتٌ من حيث هو يُخبر عن حاله بصمته، والرّائد يبحثُ عن أصوات جمدت أصداؤها في حجر، في أثرٍ باقٍ رغم تبدُّل السّنين والأعوام. هكذا كان وهكذا سيكون إلى يوم يبعثون ما دامت عجلات هذه الآلة الغريبة تدور وتدور. ما هي هذه الآلة التي شاعت تسميتها بالذّاكرة؟ هل هي من صنف الآلات التي يجب تشحيمها بين فينة وأُخرى؟ ماذا يعلق بها، وماذا يتناثر من بين دواليبها فتذروه الرّياح ليحطّ في أركان خافية عن الذّهن والعيان؟ ها هي هذه الأسئلة تراودك وأنت قابع في مكتبك بعيدًا بعيدًا عن سنوات تصنيع ذاكرتك الأُولى. وحين تنظر إلى خيوط الدّخان المتسامية في فضاء الغرفة، تحاول جاهدًا أن تُمسك بطرف خيط منها الآن في هذه اللّحظة، مثلما كنتَ تمسك بطرف خيط طيّارة ورقيّة في ساعة عصر مرحة من ساعات ذاكرة بعيدة هناك في الشّمال القريب البعيد في آن. هل تُقاس المسافات بالأمتار، بالأميال وبالفراسخ، أم أنّها تُقاس بوحدات أُخرى لم تنكشف بعد أسرارها؟

حين تدلف هذه التّساؤلات إلى الذّهن من مخابئها وتحملك على المضيّ معها قدمًا، ترى مِنْ عجبٍ أنّك لا تمضي قدمًا، بل تأخذك الهواجس في رحلة إلى وراء. وهذا الوراء البعيد يصير قريبًا حتّى يُشَبَّهَ لك أنّك تملك أنْ تمدَّ يدك فتمسك به. يا لها من آلة غريبة! إنّها تختزل الزّمان والمكان برمشة عين.

المسافات ليست جغرافيا ولا حركة أفلاك ومجرّات. المسافات شيء آخر لا علاقة له بالجبال والوديان والبحار. المسافات هي تلك العتمة الّتي تحجب عن العينين تضاريس الشّيء. لا حاجة أن يكون هذا الشّيء بعيدًا مئات الكيلومترات والسّاعات لكي تشعر كما لو أنّه يقع وراء سبعة بحور. قد يكون هذا جارًا لا تعرف عنه سوى طلعته العابرة حينما تلتقيه في الدّرج. تحيّة منك أو منه تُلقَى لمجرّد الحفاظ على آداب الجيرة، ثمّ يمضي كلّ في حال سبيله إلى حيث تقوده رجلاه. المسافات هي تلك العتمة الّتي لا يملك الفردُ أن يرى عبرها غير الأوهام. والأوهام غيب والغيب بعيد.

ها هي خيوط الدّخان المتسامية من سيچارتك تلتفّ حول رأسك المُثقَل بذكريات أُولى من مكان أوّل، لا أوّل له ولا آخر. إنّها هي هي البحيرة الّتي ارتاحت على مرمى النّظر في التّلال الّتي رأيت فيها النّور. والنّور هذا كنت تراه يخرجُ من ذلك السّتار المُسدَل خلفها نَصيفًا شفّافًا، حتّى يتشكّلَ كرةً كبيرةً من ذهب تتهادى فوق البحيرة. كان الشّيوخُ الكبار يُشيرون بأصابعهم نحو الكرة السّائرة على مهل في عرض السّماء ويقولون للصّغار إنّ اسمَها القمرُ. ثُمّ يدورون رافعين رؤوسهم نحو الغرب حتّى تقع أبصارهم على نجم مشعّ في الأُفق الغربيّ حيث اختفت وراءه الشّمس معلنةً نهاية يوم آخر. في تلك اللّحظات كنت تدير برأسك المُثقَل بأوهام هذا الكون المترامي الأطراف، وها أنت الآن في مكتبك، وها هي ذات الأوهام لم تتغيّر. لقد تغيّرتَ أنت فقنعت بأنّها خالدة معك، وصرت ترى فيها جَمالاً ومتعةً ونشوة. نعم، الوهم حلم فكيف تكون الحياة بلا أوهام!

في سنوات الطّفولة تكون الأوهامُ والأحلامُ كبيرة، ومع دوران الأفلاك ومرور الأعوام تأخذ تلك الأوهام بالانكماش. وهذا هو الخطر الدّاهم الّذي يُحْدق بكلّ من اتّخذ الحروف والكلمات سميرًا له في وحدته. الكلمات منبع دافق للأوهام، عينٌ ساهرة لا ينضب أبدًا دمعها. إذا جفّت الكلمات تُركت على قارعة الطّريق فلا تصل مع الرّيح إلى الأرواح. وها أنت والكلمات نديمان مدمنان على المسير في رحلة انتحاب على ما كان، وعلى ما لن يكون إلاّ في لحظة من هذه اللّحظات المحمولة على مركبة غريبة إلى تخوم الغيب الحاضر فيك أبدًا.

تعتلي دفّة المركب، الزّورق الشّراعي الّذي حفظته في رُكن من أركان ذاكرتك، وتنتظر هبوب الرّياح الّتي تقودك إلى حيث تشتهي أنتَ، لا ما يشتهي لك غيرُكَ. وبين تلاشي دوائر الدّخان في فضاء الغرفة وتشكّل دوائر أُخرى تتعقّبها في حركات متغنّجة، تهبّ عليك بعض نسائم عليلة من أُفق خفيّ فتنبسط أشرعتك ويتحرّك الزّورق في بحر هادئ الموج نحو جزيرة بعيدة لا تزال روائحها تعبق في ذاكرتك.

في سنوات السّتين من القرن المنصرم قادتك رجلاك، أو بالأَحرى قادتك مركبة على عجلات، إلى قرية الرّامة الجليليّة. لم يكن في قريتك، المغار، مدرسة ثانويّة، فكان عليك وعلى أمثالك، ممّن كُتبَ له أن يفكّ الحرف، البحث عن مفاتيح فكّ الحروف في مدرسة ثانويّة في بلد قريب أو بعيد. كان هناك من ذهب بعيدًا، وكان هناك من ذهب قريبًا.

أنت ذهبت قريبًا، أوّلاً إلى عيلبون، تلك القرية الوادعة المقابلة للمغار جنوبًا، وبعد عام آخر إلى الرّامة الّتي اختفت وراء الجبل في الشّمال الغربيّ. في سنوات طفولتك الأُولى كنت تصعد الجبل مع رفاق لك تغيرون على تينة هنا، أو لوزة هناك، أو تقتطفون قطفًا عنبًا قبل موسم نضوجه، فتتلذّذون على مذاقه. أحيانًا كنتم تعتانون ببعض الملح لتخفيف حموضة ذلك الحصرم. كانت البحيرة في الجنوب الشّرقيّ تمتدّ أمام أعينكم فتسرحون وتمرحون وتحلمون بالوصول إليها في يوم من الأيّام.

هل للشّقاوات نكهة خاصّة في ما يتشكّل من ذاكرة على مرّ الزّمن؟ لا شكّ في أنّ كثيرًا من ذاكرة الطّفولة يتشكّل من تلك المشاهد الّتي تختفي وتظهر كما لو كانت شريطًا مسجّلاً على جهاز خفيّ يعمل من تلقاء نفسه في لحظات غريبة. تنتقش الشّقاوات في الذّاكرة كما لو كانت نقشت في حجر يبقى أثرًا تستطيع العودة إليه فتنتشله من هذه البئر فتُلقيه في بركة هادئة لتبدأ دوائر الماء تتسارع أمام ناظريك. تشعر الآن بنوع من الإرتياح لأنّ هذه النّقوش لم تختفِ من ذاكرتك، رغم دورات كثيرة من غروب الشّمس وشروقها.

تقول لنفسك، فكم بالحري إذا كانت هذه الذّكريات قد نُقشت في ذهنك من مرحلة ثانويّة حيث بدأ نبات خفيّ يعلو بشرتك الّتي اعتدت على كونها غضّة. حاولتَ، قطعةً من الزّمن، أن تغضّ الطّرف عمّا يتنامى سرًّا دون أن يستأذنك، ولكن سرعان ما تكتشف سرًّا آخر من أسرار الحياة كنت ظننت أنّه لك وحدك.

ها هي خيوط الدّخان الصّاعدة إلى حيث تتلاشى بعد أن تتقاذفها نسمة خفيفة تهبّ من شرفة مفتوحة على حديقة وادعة في شارع وادع في القدس الغربيّة من شتاء العام 2003. الهدوء هذا يذكّرك بهدوء القرية الّتي نشأت وترعرعت فيها. لقد هجر هذا الهدوء القرية وجاء معك إلى المدينة. لقد ارتبطتَ بالهدوء مثلما ارتبط بك، فذهب معك أنّى رحلتَ وأنّى حللتَ.

السّاحة الّتي انبسطت أمام بناية المدرسة الثّانويّة في الرّامة كانت مسرحًا لبعض المرح. كان الطّلاّب القادمون من قرى مختلفة يختلطون فيما بينهم، أو يسارعون فيتجمهرون حول بائع المناقيش الّذي كان يعرف ساعة الإستراحة فيأتي بسيّارته محمّلاً بهذه العجينة بعد أن تكون لفحتها النّار مع الزّيت والزّعتر. كذا كان يفعل الطّلاّب، بينما الطّالبات القلائل اللّواتي وصلن إلى المدرسة الثّانويّة في تلك الأعوام فلم يكنّ ينزلن إلى السّاحة، بل كنّ يبقين فوق في الشّرفة الّتي كانت ممرًّا يوصل بين غرف التّدريس. كنّ يتمشّين ذهابًا وإيابًا وبين الفينة والفينة يُلقين نظرة خاطفة على الهرج والمرج في السّاحة.

النّظرات والبسمات الخاطفة الّتي كانت تُلقى من فوق كان يتلقّفها البعض، أو جميع من ينتبه إليها وكانوا كثرًا، كما لو كانت حُبًّا خاطفًا، أو هكذا خُيّل لهؤلاء المتوهّمين الهائمين. أمّا أنت فلم تكن بأحسن حالاً من هؤلاء الحالمين. وها أنت لا زلت حالمًا هائمًا على وجهك في رحاب ذاكرة تتراكم أمام عينيك كالسّراب. كلّما حاولت الاقتراب من شاطئها قادتك رجلاك إلى بقعة أُخرى، فلا يستكنّ هبوب الرّيح ولا تستريح.

خيوط الدّخان تتعالى في فضاء الغرفة الآن وترسم لوحة من زمان ومكان بعيدين. في الطّرف الشّرقي من السّاحة كان درج يصعد ثمّ يتّجه يمينًا نحو جناح جديد أُضيف إلى البناية. كان هذا الجناح مؤلّفًا من غرفتين-صفّين في بناء موقّت لتسارع أعداد المنتسبين للدّراسة الثّانويّة. كنتَ تجلس هناك في طرف الغرفة وتنتظر درس الأدب العربيّ الّذي كان يمليه عليكم الأُستاذ شكيب جهشان. كانت الحشرجات في صوته، وكان السّعال بفعل الدّخان. لم تكن السّيچارة تفارق أصابعه حتّى في أثناء إملاء الدّرس. أمّا الطّلاّب الّذين يدّخنون فكانوا يدلفون في الإستراحات إلى المراحيض لاقتناص سيچارة هنا وسيچارة هناك.

في دروس العربيّة وصل إلى أسماعك أنّ الورد واللّيث والأسد واحدٌ رغم أنّ أصولها مختلفة، كأن تقول محمودًا ومحمّدًا وحميدًا، أو حسنًا وحسينًا من أصل واحد. ورويدًا رويدًا بدأت تعشق هذه اللّغة وأدبها. وكم سُررتَ حين عرفت أنّ المتنبّي ذكر البحيرة إيّاها الّتي حلمت طفلاً بالوصول إليها:

وَرٌد إذا وَرَدَ البُحيرةَ شاربًا
وَرَدَ الفُراتَ زئيرُهُ والنّيلا

فحفظت البيت عن ظهر قلب، وكنت كلّما رأيت البحيرة ذكّرتك هذه بالشّعر العربيّ فأنشدتَ بيت المتنبّي لنفسك. ولمّا كانت البحيرة تختفي عن الأنظار، كنت تنشد بيت الشّعر فتتشكّل البحيرة أمام ناظريك من جديد. وكم كنتَ تُسحرُ عندما كان الأُستاذ شكيب يحاول تمثيل جرس الألفاظ الدّالة على المعنى في صوته الأجشّ حين يُنشدُ في فضاء الصّفّ بيتًا آخر للبحتري. كان يخطو بضع خطوات نحو شبّاك الغرفة، ينفخ دخان سيچارته في الهواء الطّلق ثمّ يعود بطيئًا إلى مركز الصّفّ فيُنشدُ مؤكّدًا مشدّدًا على كلّ حرف:

يُقَضْقضُ عُصلاً في أَسرّتها الرّدى
كَقَضْقضةِ المقرورِ أَرْعدَهُ البَرْدُ

فكانت القافات والرّاءات تملأ الصّفّ فتنجلي الصّورة أمام الطّلاّب دون حاجة إلى إطالة في الشّرح أو إطناب.

حُبّ اللّغة العربيّة والشّعر العربيّ دفعك إلى محاولات الإدلاء بدلوك، ومحاولة نظم أبيات هجائيّة فيها نوع من الدّعابة. كنت تقرأها على زملائك فيتلقّفونها ويحفظونها ويردّدونها في السّاحة ساعة الاستراحة. الطّالب الّذي كان يحظى ببعض الأبيات الهجائيّة من جعبتك يصير ذائع الصّيت بين طلاّب المدرسة، فتنتقل الأبيات بين الصّفوف كالنّار في الهشيم، فتتعالى الضّحكات ويكثر المرح والمزاح. فحين كَنّيتَ أحد الفسّائين بأبي الرّياحين سمع الزّملاء الشّعر وتناقلوه حتّى ذاع اسمه في المدرسة فصار يتجنّب الظّهور في السّاحة. كان هنالك من ينكبُّ بعد أن أصابته سهام الهجاء مهمومًا حزينًا، ثم يحاول الإفلات من هذه الشِّباك محاولاً نظم ردّ، غير أنّ القريحة واللّغة لم تكونا تسعفانه، فيتعاظم الضّحك منه وعليه.

نصيب المعلّمين من هذه الأبيات المنظومة لم يتأخّر عن الشّيوع في السّاحة على ألسنة الطّلاّب. لقد انضمّ الأُستاذ نبيه القاسم بقامته النّحيفة إلى سلك التّدريس معلّما للّغة العربيّة، فتعرّفت عليه مدرّسًا وتعرّف عليك دارسًا، وسرعان ما تعرّف عليه سائر الطّلاّب بعد أن حبوتَه ببيتين من نظمك:

أهلاً نَبيهُ، بأرْضِ رامَةَ نَوَّرَتْ
مِنكَ اللّيَالِي السُّودُ نُورَ المَشرِقِ
يَا مَنْ يَجُودُ عَلَى الأنامِ بِلَحْمِهِ
وَيَظَلُّ مَهْزُولاً بِأرْجُلِ لَقْلَقِ

ولمّا لم تكن من الممتازين في الرّياضيّات والهندسة، بل كنتَ متوسّطًا، فقد استعنت بالنّظم لتخفيف وقع هذه الدّروس عليك. أُستاذ الرْياضيّات، الأستاذ نافذ حنّا، كان دمثًا خلوقًا مبعثرًا على غرار كلّ المدرّسين لهذه المادّة، فالقوانين والمعادلات وخباياها تذهب بهم كلّ مذهب. فلم تتمالك في أن تقول:

عَجبًا لِنافِذَ، مَا تَراهُ وَاجِمًا
دَوْمًا يُغَنِّي للغَوَانِي النَّاعِمَهْ
وَإذَا تَوَانَى فِي غِناءٍ مَرَّةً
فَلأنَّهُ ذَكَرَ الزَّوايَا القَائِمَهْ

وكان أن وصلت الأبيات مسامع المعلّمين، بمن فيهم الأُستاذ نبيه والأستاذ نافذ. وكنت تخشى من عقاب شديد سيُنزل بك لهذه الشّقاوات المنظومة والشّائعة على الألسن في المدرسة. غير أنّ العقاب لم يأت، بل فهمت أنّ المعلّمين يتقبّلونها بروح من الدّعابة، فراقت نفسك لذلك وحفظت لهم هذه الرّوح على مرّ الزّمن.

والآن حين تتفحّص هذه الذّاكرة مع خيوط الدّخان تفطن إلى أنّك لم تنظم في تلك الأيّام الغابرة شعرًا في الأُستاذ شكيب جهشان. هل أنت نادمٌ على هذه الغفلة بعد أن فارق هذه الدّار إلى دار قرار؟ رُبّما. لكنّك، ولكي لا تنسى ولكي لا ينسى زملاء قد يقرأون هذا الكلام في مكان ما عن تلك الأعوام، تُحاول الآن أن تتمّ العهد وتفي بالوعد:

قِفْ للمُعلّمِ وَارْسمِ الإكْلِيلا
فِي هَالَةٍ مِلْءَ الدُخَانِ جَمِيلا
لَوْ كُنْتَ تَنْقُشُ ذِكْرَهُ فِي رُقْعَةٍ
لَنَقَشْتَهُ، مِنْ أَفْعَلٍ، تَفْضِيلا

وحين تفرغ من هذه الكلمات، تنظر إلى الطّاولة، فترى أنّ السّيچارة قد خبت في المنفضة، وتلاشت خيوط الدّخان من فضاء الغرفة. لقد حملتها نسمة خفيفة إلى الفضاء الأرحب خارج البيت، خارج الشّعر.
*
نشر النصّ في: مجلة “مشارف”، عدد 20 ، حيفا 2003، ص 222-227

أما ما ينفع الناس


سـلمان مصـالحة

أمّا ما ينفع النّاس...


في ذكرى الأديب إميل حبيبي

مُراهقًا كنتُ قبل عقود من الزّمان مرّت علينا في هذه الديار الحزينة. وكذا كانَ أوّلُ عهدي به في ديار الشّباب السّعيدة البعيدة. كان يأتي متسلّلاً خلسة إلى حقيبتي المدرسيّة، ملتفعًا بصفحات جريدة، أو متخفّيًا بين دفّتي كتاب، أو مجلّة محظورة، أو هكذا خُيّل لي ولزملائي آنئذ، في نهاية ستّينيّات القرن المنصرم.

ولأنّني كنتُ مراهقًا في سالف ذلك الأوان، فقد حسدتُه. وأغلبُ ظنّي أنّي، على ما يبدو، لا أزال على هذه الفطنة الصحراويّة الّتي هبطت عليّ، مثلما كانت هبطت عليه وعلى آلِهِ من محلٍّ أرفعَ. كنتُ إذّاك ولا زلتُ أقول في نفسي: يا له من عفريت يتمثّل لنا في صور وأسماء مختلفة! لعلّه لاجئ من أحفاد هام بن الهيم قد حَلّ بين ظهرانينا يُلقي على شفاه الصّبايا، ثمّ النّساء من بعدُ، تميمةً سحريّة يتلفّظن بها دون علمٍ منهنّ بما تفعله هذه بهنّ وبي. فهذه تهمس في أذني: إنّه إميل حبيبي، وتلك تقول على الملأ: إميل حبيبي. وأمّا أنا، مهمومًا ضائعًا بين حانا ومانا وبين هذه وتلك، كنتُ أحاول أن أتلمّس لحيتي الغضّة باحثًا عن طريق إلى إصلاح ذات البين بينهنّ أجمع، فأقولُ، وأنا مِنْهُنّ على مسمع: إميل حبيبي أنا أيضًا، فيضحكن، مِنّي وعَلَيّ، على ما آلت إليه حالي إلى حالِ مَنْ جاءَ ليُكَحّلَها فَعَماها.

مرّت سنواتُ شباب النّفس وولّيتُ وجهي صوب القدس، فشَبَبْتُ هناك أنا على الطّوْق، بينما شابَ هو في الطّوق، حتّى وجد من المُحال حَمْلَ بطّيختين بيد واحدة، فآلى على نفسه أن ينبري إلى الكتابة الّتي تَدُومُ وتُديمُ.

غير أنّ الفكرة قد جاءته مُتأخّرةً بعد سكرةٍ استطالت في الطّوْق، فلم تُمهله الفكرةُ طويلاً، فكانَت خسارتنا نحنُ أَنْ غلبَ شَيْبُهُ شَبابَهُ. ولأنّه كان مهمومًا بقضايا الإنسان إلى حدّ الإدمان، لم يُفلح في الفطام من هذه القضايا، فظلّ حاملاً بطّيختين بيد واحدة، حتّى بعد هجره المناصب السّياسيّة، وذلك من خلال لقاءات وبيانات مشتركة إسرائيليّة فلسطينيّة.

في الحقيقة، قليلون هم أولئك الّذين عشقوا اللّغة العربيّة مثلما عشقها هو وعرف كيف يداعبها مداعبة الولهان بمكنوناتها، المنقّب الأثري في طبقاتها. هنالك خيط يربط بين هذا العشق للّغة، وبين عشق إميل حبيبي للإنسان. فعاشق اللّغة هو بالقوّة عاشق لما يختبئ وراءها، والعاشق الحقيقي للّغة لا يمكن إلاّ أن يكون عاشقًا للإنسان النّاطق. ربّما كان هذا العشق العميق للّغة هو هو الأساس الّذي بُني عليه التّوجُّه الإنساني في كلّ مواقفه، مُتّخذًا من السّخرية سلاحًا مُشْهَرًا في وجه الموت، كلّ موت، مُجرَّدًا من الأطواق العرقيّة والدّينيّة والجنسيّة.

ومرّت الأيّام، ومرّت الأعوام. ثمّ جاءت أخبار أوسلو، وكان إميل حبيبي متحمّسًا، كما كان كثيرون غيره متحمّسين، لها آنئذ. وهكذا، وبعد أنّ سلّى كثيرون النّفس بأوسلو ومشتقّاتها، سرعان ما اختطف منّا الإعلام العربيّ، وحتّى الفلسطيني، مصطلح "فلسطينيّي الدّاخل" وألقاه عباءة على رعايا المناطق الموسومة بالحروف الإفرنجيّة: "إي"، "بي" و"سي".

إذن، والحال هذه التي ألفينا أنفسنا فيها، ماذا تبقّى لنا نحنُ هنا من زمرة الـ"باقين في حيفا"؟ أعرف ماذا كان لسان حاله سيقول: إذا كانت الحال على هذا المنوال، فهذا يعني أنّنا أصبحنا "داخل الدّاخل". وكنتُ أنا سأُضيفُ مستعيرًا من المأثور: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكثُ في حيفا.

فماذا أحدّثك الآن بعد مرور هذه الأعوام؟
لا أتذكّر الآن من ذا الّذي أطلق تلك المقولة الشهيرة لدى أبناء العمومة، أهو هرتسل أم بن غوريون، أم إنّه واحد آخر من صنف "البناغرة"، كما كنت أسلفتَ في ماضيك الأدبي الحاضر فينا دومًا. عندما سئل ذاك: متى تقوم دولة اليهود؟ أجاب: عندما يتمّ القبض على أوّل لصّ يهوديّ، أو عندما تخرج إلى الشارع أوّل عاهرة يهوديّة فمعنى ذلك أنّ الدّولة اليهوديّة قد قامت وهي تسير على قدم وساق. أو لنقل نحن ربّما على أقدام وسيقان.

وها نحنُ الآن، طاب ثراك، نسيرُ حثيثًا وقد قطعنا أكثر من عقود ستّة، واللّصوصُ من المولّدين هنا كُثرٌ. أمّا العاهراتُ، أراحكَ اللّه من شرّهنّ، فمستورداتٌ ممّا تبقّى من بلاد "المنظومة الاشتراكيّة"، كما اصطلحَ عليها رفاق دربك القدامى الّذين تقادمَ عهدُهم وتفرّقوا أيدي سبأ بعدما انفرطتْ منظومتهم أدراج الرياح فهاموا على وجوههم بعد أن كانَ الّذي كانَ.

وبخلاف أبناء العمومة، فها هم أبناء الأمومة الآن، ولشدّة وكثرة ما أخطؤوا ويخطئون في ترجماتهم عنهم، فقد برّح بهم الجهل ونسوا من أين تؤكل الكتف، فكانَ أنْ قلبوا الآيةَ رأسًا على عقب، فبدؤوا بالعُهْر والفساد ونسوا الدّولة.

أمّا بخصوصنا نحن الّذين بقينا، بُعيد النّكبة، هنا في الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل بفضل بني قومنا الذين ما فتئوا يقيمون مطاياهم ويقعدونها طوال هذه العقود المنصرمة، فلعلّ لسانَ حالك يقول: كيف حالُكم وما جرى بأحوالِكم يا معشرَ المتشائلين؟

ولأنّك كنت شديد الوَلَه تنقيبًا في كتب التّراث، فما بالُك إنْ أنا حدّثتُك هذه اللّيلة ببعضٍ ممّا انتشلتُ منه؟ ولأنّ عهدي بك شديدَ الفطنة سريعَ البديهة، فلن يلتبسَ عليك ما أنا ساردٌ الآن من مسألةٍ مستعصية قد حارَ في أمرها السّلفُ. لقد عُرضت هذه المسألة على شريح القاضي الذي اشتغل بالقضاء لدى الخلفاء الأوّلين، بدءًا من عُمر وانتهاء بمعاوية. وبعد القال والقيل والعنعنة المتسلسلة يروي لنا السّلف في باب حكم الخنثى المُشكل الّذي لم يتبيّن أمره بالعلامات المذكورة:

"عن ميسرة بن شُريح قال، تقدّمتْ إلى شُريح امرأةٌ فقالت: إنّي جئتُك مخاصمةً، فقال: وأينَ خصمُك؟ فقالت: أنتَ خصمي. فأخْلَى لها المجلسَ، فقال لها: تكلّمي.
فقالت: إنّي امرأةٌ لِي إحْليلٌ ولي فَرْجٌ.
فقال: قد كان لأمير المؤمنين عليه السّلام في هذا قضيّة. وَرّثَ من حيثُ جاء البَوْلُ.
قالت: إنّه يجيء منهما جميعًا.
فقال لها: من أين يسبقُ البَوْل؟
قالت: ليس منهما شيءٌ يسبق، يجيئان في وقت واحد وينقطعان في وقت واحد.
فقال لها: إنّكِ لتُخبرين بعجب.
فقالت: أُخبرُك بما هو أعجبُ من هذا: تَزَوَّجَني ابنُ عمٍّ لي، وأخدمني خادمًا، فوطئتُها فأولدتُها، وإنّما جئتُكَ لما وُلِدَ لي لتُفرّقَ بيني وبين زوجي.
فقامَ من مجلس القضاء، فدخلَ على عليّ عليه السّلام، فأخبره بما قالت المرأة، فأمرَ بها فأُدْخلتْ، وسألها عمّا قال القاضي، فقالت: هو الّذي أخْبركَ.
قال، فأحضرَ زوجَها ابنَ عمِّها، فقال له عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: هذه امرأتُك وابنةُ عمّكَ؟
قال: نعم.
قال: قدْ علمتَ ما كان؟
قال: نعم، قد أخدمتُها خادمًا فَوَطِئَتْها، فَأوْلَدَتْها.
قال: ثمّ وَطِئْتها، بعد ذلك؟
قال: نعم.
قال له عليّ عليه السّلام: لأنْتَ أجرأُ من خاصي الأسد.
ثمّ أشار عليّ إلى قنبر مولاه قائلاً: يا قنبر، أدْخِلْها بيتًا مع امرأة تعدّ أضلاعها.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، لا آمَنُ عليها رجلاً، ولا أئتمن عليها امرأة.
فقال عليّ: عليَّ بدينار الخصيّ. وكان من صالحي أهل الكوفة، وكان يثقُ به، فقال له: يا دينار أدخلها بيتًا، وعَرّها من ثيابها، ومُرْها أن تشدَّ مئزرًا وعُدّ أضلاعها. ففعل دينار ذلك، فكانَ أضلاعُها سبعةَ عشر: تسعة في اليمين وثمانية في اليسار.
فألبسها عليّ عليه السّلام ثياب الرّجال والقلنسوة والنّعلين، وألقى عليه الرّداء، وألحقه بالرّجال.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، ابنة عمّي وقد وَلَدتْ منّي، تُلْحقها بالرّجال؟
فقال: إنّي حكمتُ عليها بحكم اللّه. إنّ اللّه تبارك وتعالى خلقَ حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصر، وأضلاعُ الرّجال تنقص وأضلاع النّساء تمامٌ."

***

فها نحنُ، كما ترى، طاب مثواك، قد أضحينا هُنا كحالِ ابنة العمّ تلك، لا يؤتمن علينا، لا من رجل ولا من امرأة. فلا أبناء العمومة يأمنوننا إن نحنُ التقينا بالأشقّاء، ولا أبناء الأمومة يأمنُون إن نحنُ انفردنا بهؤلاء النّاس. إذ أنّ الوسواس الخنّاس، أو قل الخنّاث، لا يني يوسوس، ليس في نفوسنا نحنُ، بل في نفوس هؤلاء أجمعين.

إذن، والحالُ هذه، فلم يبقَ لنا سوى أن ننفجر ضحكًا حتّى تنهمر من عيوننا الدّموع، أو حتّى نستلقي على أقفيتنا، أو قُلْ قوافينا، مفترشين الفلاة ملتحفين السّماء، وما من مُنادٍ وما من حياة أو حياء.
***

ملاحظة: هذا النصّ قُدّم في أمسية لذكرى الأديب الراحل إميل حبيبي.

***
***

طريق الغور

قصّة قصيرة

سلمان مصالحة || طريق الغور


السّتارة الّتي أُسدلت على النّافذة الواسعة لم تقم بما أُنيط بها من مهمّات. كانت اليد الّتي سحبتها ببطء ليلة أمس قد وضعت على عاتقها مسؤوليّات غير عاديّة. اليد التي ارتفعت بحركة بطيئة وأمسكت بطرف منها ودّت أن تفعل هذه السّتارة أمرًا ما؛ أن لا تسمح مثلاً لضوء الشّارع ليلاً، أو ضياء الصّباح أن يدخلا أو أن يتدخّلا بما لا يعنيهما، أو على الأقلّ أن لا يسترقا لحظات تلصُّص لذيذة على ما تُخفي الغرفة من أسرار. ولكن، يبدو أنّ إرادة السّتارة قد اشتهت غير ما اشتهته اليد في ساعة متأخّرة من اللّيل. امتدّت اليد راسمة خطوطًا متعرّجة في الجسد العاري، كاشفة نتوئًا في الصّدر مدوّرة مثل كثبان رمل في صحراء داكنة ناعمة.
هل للسّتائر إرادة من ذاتها؟ سأل هلال نفسَه وهو ينظر إلى تَعرُّجات السّتارة محاولاً استخدام فراسته الطّبيعيّة، الّتي لا تُخطئ عادة في حُكْمه على بني البشر. حاول أن يختبر فراسته هذه المرّة على السّتائر. للسّتائر طباع كطباع بني البشر، همسَ لنفسه في فضاء الغرفة بصوت خفيض وقع صداه في أذنيه، فانتبه إلى أنّه قد غرق لحظة وغاب في شطحة صباحيّة طارئة.

مرّ بنظره ثانية على التواءات السّتارة التي تمايلت لعبور نسائم صباحيّة خفيفة من شقّ صغير أبقته اليد ليلة أمس. ها هو الآن في هذه العتمة يحاول أن يتذكّر لون السّتارة، نسيجها وخطوط نقوشها، يحاول جاهدًا أن يرى في هذه الأمور ما قد يكشفُ عن طبع خاصّ يميّزها عن سائر السّتائر. عندما وصل، في ساعة عصر أمس، لم ينتبه إلى كلّ هذه التّفاصيل، فرأسه كان منهمكًا بتفاصيل التواءات وتعرُّجات أخرى. نهض من السّرير، وألقى نظرة على السّاعة المتروكة على الطّاولة. السّاعة الآن هي الثّامنة صباحًا وهذه ساعة مبكّرة، على الأقلّ في هذا المكان الّذي وجد نفسه فيه.

حاولَ هلال أن يفهم لماذا يُشْغلُ بالَهُ بكلّ هذه الأمور الآن، وهل نسيَ أنّه موجودٌ في لحظة غير عاديّة ومكان غير عاديّ. هل نسي أنّه موجود في فندق، وهل نسي أنّ ستائر الفنادق لا تختلف كثيرًا عن بعضها البعض؟ كانت موظّفة الإستقبال في الفندق، وتمشّيًا مع آداب المهنة، قد رحّبت به بوجه بشوش عندما وصل عصر أمس. بعد أن فحصت جواز السّفر وتأكّدت من ترتيبات الحجز المسبقة سلّمته المفتاح فتوجّه خطوات معدودة نحو المصعد الّذي أقلّه إلى الغرفة.

فقط ما يجري وراء هذه السّتائر، أضاف بينه وبين نفسه، هو الّذي يختلف من مكان لآخر، ثمّ استدرك، أو قد لا يختلف. ستائر الفنادق، أضاف محاولاً الإفلات من براثن هذه الهواجس، أينما عُلّقت، إن كانت في پاريس أو في القدس أو في عمّان هي هي فلماذا، إذن، يشغل باله بها الآن.

ما أن قفزت كلمة عَمّان من بين شفتيه كما لو كانت حروفًا أولى يلفظها طفل يكتشفُ القدرة على الكلام، حتّى انتبه فجأةً إلى أنّه موجود في هذه المدينة الآن في هذه السّاعة من صباح أحد الأيّام من شهر آب اللّهّاب. كفَّ عن الغوص والبحث عن إجابات على كلّ هذه التّساؤلات، نظر مرّة أخرى إلى التواءات السّتارة، ورويدًا رويدًا رحلت عيناه في فضاءات الغرفة على غمامة نديّة من غباش صباحيّ خفيف، كما لو أنّه أفاق من حلم غريب لا يتذكّر الآن مجمل تفاصيله.

***
- ما الّذي تبحث عنه هنا في هذه البلاد؟ سألَه، بعد فترة من الصّمت طالت قليلاً، سائقُ التّاكسي الّذي أقلّه من الجسر، بينما كان يخرج من جيب في باب السّيّارة القريب منه علبة سچائر عارضًا عليه أن يجرّب واحدة من هذه الـ»مصنوعة محليًّا«، مُشدّدًا على هاتين الكلمتين. لم يفهم هلال من تشديده هذا إنْ كان جاء بغرض التّعبير عن روح وغَيْرة وطنيّتين أم أنّه فقط لمجرّد المزاح الشّعبي الّذي صار سمة لازمة لسائقي سيّارات الأجرة. لم يكن لدى هلال أيّ نيّة بالدخول في حديث متشعّب مع السّائق وفي هذه اللّحظة بالذّات، لأنّه كان غارقًا في هواجس وانفعالات لم يرغب في أن يلقي إليه أحدٌ، كانَ مَنْ كان، قشّة أو حبلاً من حبال الرّيح للنّجاة منها. فكم بالحريّ إذا كان هذا الأحد هو واحد من جمهرة سائقي التاكسيّات الّذين اتّخذوا من الحديث مع المسافرين مهنة أخرى لهم تنضاف إلى مهنتهم المرهقة.

عندما وقعت عينا هلال على علبة السچائر بيد السّائق، سارع فسحب من حقيبته علبة سچائره هو. كان يظنّه غير مُدخّن، ولم يشأ أن يزعجه بدخان سچائره، مع أنّه في الطّريق وَدَّ أن يتناول سيچارةً من علبته، أن يمتصّها ببطء كعادته، ثمّ ينفث معها أنفاسه المتسارعة انفعالاً ممّا تشاهد عيناه الآن، وممّا ستشاهداه عمّا قليل.

في الطّريق الّتي تقطع غور الأردن جنوبًا قبل الإلتفاف يسارًا والصّعود في ثنيّات الجبل، فكّر هلال في أمر السّيچارة قليلاً غير أنّه عدل عن الفكرة محدّثًا نفسه: حاولْ، يا رجل، أن تكبت شوقك لهذه النّار الدّاخنة، فالمسافة ليست بعيدة ويكفيك نارُ هذا الغور المُغبرّ في هذا اليوم من شهر آب. ثمّ احفظ، أضاف لنفسه، شوقَك هذا لهذه النّار، فهناك وراء هذه التّلال الجرداء، من ينتظر هو الآخر، على أَحرّ من الجمر، الإقتباسَ من هذه النّار الّتي تضطرم في أعماق نفسك.

عندما سمع هلال عرض السّائق عليه سيچارة، اعتذر عن عدم قبوله العرضَ بتناول سيچارة »وطنيّة«، معلّلاً ذلك بأنّه لا يغيّر سچائره إذ أنّ التّغيير يسبّب له قحّة »وطنيّة« معهودة. أشعل كلّ واحد منهما سيچارته وخيّم الصّمتُ من جديد على السّيّارة. فتح هلال نافذة السّيّارة قليلاً لاستنشاق هواء نقيّ قدر الإمكان في هذا المكان والزّمان من جهة، ولنفث دخان سيجارته خارجًا حتّى لا يتحوّلا هو والسّائق إلى جُثّتين مُدَخَّنتين في هذه العلبة المعدنيّة. دسّ هلال رأسه في النّافذة وواصل تفحّص هذه الطّريق ومعالمها. فقط صوتُ محرّك السّيّارة اللاّهث في هذه الطّريق الصّاعدة في السّفوح الصخريّة الجرداء ذَكّرَه الآن برحلاته المتعدّدة في الجهة الأخرى من نهر الأردن. ها هي كلّ هذه العلامات على الطّريق الّتي كان يمرّ بها في طريقه شمالا، ولكنّه الآن يراها بحجم أكبر، وعن كثب.هذه هي المرّة الأولى الّتي يسلك فيها هذه الطّريق.

طوال سنين كان يُسافر في الجهة الأخرى من الغور. كان، قبل أن يقتني سيّارة، يجلس في مقعد في الباص الخارج من القدس إلى طبريّة بجانب النّافذة، وبعد أن يقرأ الصّحيفة الّتي يقتنيها في المحطّة المركزيّة يدسّها في حقيبته ثم يُلصق عينيه بزجاج النّافذة لا يحيد نظره يمنة أو يسرى. كان ينظر إلى تلك الجبال الصّفراء عبر النّهر. كم قاحلة تلك الجبال، كان يقول في نفسه، إنّها شبيهة بالتّلال في هذا الطّرف من الغور، ولا بدّ أنّها في زمان ماضٍ بعيد أو قريب كانت متّحدة حتّى جاء زلزال وفصلهما عن بعضهما. كان الباص يشقّ طريقه في هذا الشّقّ في التواءات الطّريق الّتي تسير بحذاء النّهر من جهة الغرب قاصدًا بيسان شمالاً، ثمّ حتّى طبريّة محطّته الأخيرة. كان الباص يلتهم الطّريق ويلتوي مع التواءات الشّارع بينما كان هو يشقّ طريقه ويتلوّى في التواءات حلم لا يرى له لا أوّل ولا آخر.

في الماضي كان يسافر كثيرًا شمالاً، ولأنّ السّفرة كانت طويلة بمقاييس تلك الأيّام، كان يجعل له علامات على الطّريق. لم يضع هو تلك العلامات، بل آخرون كانوا وضعوها قبله. أحيانًا كانت تلك علامات على وجه الأرض صنعتها الطّبيعة ولم يتدخّل فيها نفر من البشر. في تلك الأيّام لم يكن ينظر إلى السّاعة فكان يعرف بالضّبط الزّمنَ الّذي تستغرقه السّفرة لكثرة ما سافر شمالاً. بدلَ أن ينظر إلى السّاعة فضّلَ أن يُلصق وجهه في زجاج نافذة الباص ويعدّ القمم في الجهة الأخرى من النّهر حينًا، وحينًا يتفرّسُ وجهَ الأرض محاولاً تَبيُّنَ قسمات جديدة أو نُدوبًا طبيعيّة تكون له علاماتٍ بارزة على الطّريق. كان يفعل ذلك كي لا يُبَرّح به الملل. لقد اختار اتّخاذ هذه الطّريقة نهجًا له بَدَلَ النّظر المملّ إلى السّاعة بين فينة وأخرى لرؤية كم تبقّى من الوقت للوصول إلى محطّة الباصات المركزيّة في طبريّة.

وها هو الآن في الجهة الأخرى من النّهر ينظرُ من شاهقٍ على طريق الغور الّتي سلكها مرّات كثيرة ذهابًا وإيابًا، وها هو الآن يتفحّصها من بعيد. كم تبدو له تلك التّلال الغربيّة الآن قريبة وبعيدة في آن معًا.

حين تقطع النّهر شرقًا وتختفي وراء القمم تشعر وكأنّك تغلغلت في أعماق الصّحراء بعيدًا عن البحر، بعيدًا عن تلك النّسائم العليلة الّتي تأتي حاملة في مساماتها تلك الرّطوبة النّظيفة والخفيفة من البحر الغربيّ، تلك النّسائم الّتي أنعشت الأغاني والحقول وكثيرًا من النّفوس. غير أنّ الصّحراء هي منبع لخيالات الرّوح، قال هلال في قرارة نفسه، بينما كان يحاول أن يمسح قطرات العرق الّتي بدأت تنبع في مساحات متّسعة من جبينه. لكنّها، أضاف لنفسه، ربّما يجب أن تبقى بعيدة، أن تبقى حلمًا يزوره في لياليه إذ عزّت الأحلامُ. الصّحراء، قال لنفسه بنبرة واثقة كما لو كانت مأخوذة من إعلان مبادئ، يجب أن تقوم هناك بين واحتين يعبرها المرءُ بين الماء والماء حتّى لا تستحوذ على العقل وتجفّف الرّوح.

*****

حينَ سأله السّائق في الطّريق عن سبب قدومه إلى هذه البلاد لم يكن السّائق يعلمُ أنّ الجواب على سؤاله لا يُمكنُ أن يُعطَى هكذا في هذه المركبة العامّة لسائق أقلّه بالصّدفة من المعبر الحدودي. كان السّائق يمكن أن يكون شخصًا آخر، فكلّ ما في الأمر أنّ رِجْلَي هلال أقلّتاه بضع أمتار إلى محطّة التّاكسيات وانتظر دوره هناك، حتّى جاء هذا السّائق. فالسّائق كان يمكن أن يكون ذلك السّائق الضّخم الجثّة الّذي سبقته إليه المرأة النّحيلة، المرتّبة الهندام برفقة ولدين كانا يبدوان أنّهما ولداها. وكان يمكن أن يكون سائقًا آخر، غير هذا وذاك، لو قبلَ عرض أحد المتسكّعين في المعبر، من أولئك الّذين جعلوا مهنة اصطياد السّائحين مهنة لهم، مرّة لنقل حقائبهم ومرّة لإحضار تاكسي لهم لقاءَ مبلغ زهيد يدفعه لهم السّائح، قد يساعدهم بالطّبع على القيام بأودهم، أو أود أولادهم وعائلاتهم.

لم يرغب هلال في الحديث مع السّائق عن أمور لم يفصح بها حتّى لأناس مقرّبين له، فزيارة هلال لهذه البلاد الآن هي زيارة سرّيّة لا يعلمُ بها أحد، فكيف بهذا السّائق الّذي جمعته به الصّدفة فقط. بعد برهة قصيرة، لم يشأ أن يخيّب أمل السّائق فأطلق في فضاء السّيّارة جملة واحدة لا تعني شيئًا، قال: إنّها مجرّد زيارة قصيرة للقاء أصدقاء، وعادا فغرقا كلّ في حال سبيله، السائق في تنفيذ المهمّة التي أنيطت به في محطّة الجسر، وهلال في مسارب وأحلام أخرى.

ها هو الجسر الّذي يمتدُّ بين ماضيه وحاضره. ها هو الجسر الّذي يعبره الآن لوحده إلى منطقة وسطى لا شيء فيها غير هذا الجسد العاري إلاّ من قطف العنب الملقى على الطّاولة، مثلما هو مُلقى الآن في هذا الفراش وجسده الآخر يتراءى له في المرآة. لا شيء في هذه المنطقة الوسطى غير هذه الرّوح الّتي تحمله بأجنحتها الواسعة الرّحبة إلى جزيرة غريبة وساحرة. قد يسأله سائل، وما هو السّحر في هذه الجزيرة؟ فكيف سيشرح لمن يسأله عن سرّ سحرها. كيف سيقول لهم إنّ سحر هذه الجزيرة هو بقوّة الجاذبيّة فيها، فهذه جزيرة ليست كسائر المواقع على وجه الأرض. إنّها جزيرة فريدة، مَنْ تطأ رجلاه فيها لا يستطيع بعد ذاك الحراك، فخطواته لاصقة بأرضها، برملها، بكثبانها، بتلالها، بعشبها الّذي تعتني به يدان غير مرئيّتين، بفروع شجرها الوارفة الظّلال، بمياهها العذبة، بنبض كثبانها الممتدّة على شاطئ الرُّوح، يستنشق الهواء، يملأ رئتيه بكلّ هذا النّقاء حتّى يَعُودَ شظايا سناء حائم في فضاء هذه الغرفة الظّلماء. في الواقع لا حاجة به للانتقال إلى أيّ مكان بعد أن وطأت رجلاه الجزيرة الآن، لأنّه عرف أخيرًا أنّه وصل إلى مكان وجد فيه كلّ شيء، إلى مكان هو المبدأ والمآل.

بدأت رحلته إلى هذه الجزيرة منذ عام تقريبًا. كان الوقتُ صيفًا، جلس هلال في شقّته الجديدة يعدّ الدّقائق مرّة أخرى. لكن ما الفائدة من عدّ الدّقائق، وعمّا قليل، بعد ساعة من الزّمن على الأكثر سيجد نفسه في مواجهة غريبة مع نفسه، مع ماضيه وربّما مع ما يخبّئ له المستقبل. كانت السّاعة السّابعة مساء أو قريبًا منها. على غير عادته، جلس في صالون بيته الجديد وصبّ لنفسه كأسًا من النّبيذ وبين رشفة من الكأس ونظرة إلى الحديقة الفاصلة بين البيت والشّارع، كان بين فينة وأخرى يختلسُ نظرات فيها شيء من الانفعال والقلق وينظر إلى عقارب السّاعة. المكان هنا لا تتغيّر تضاريسه مثلما كانت الحال في أوقات سفره بالباص شمالاً. في تلك السّفرات من الماضي كانت تتبدّل العلامات الّتي اتّخذها على الطّريق. في تلك الرّحلات كان يقيس الوقت بتبدّل العلامات، هنا قمّة غريبة، وهناك مبنى ما، هنا مغارة في التّلّ وهناك شجرة تنتصب منفردة في عرض الصّحراء وما إلى ذلك ممّا يتّخذه العقل سلوى له من ملل السّفر. أمّا هنا، في هذا البيت، فهو جديد على على هذه الحارة ولم ينتبه بعد إلى خصوصيّات البيت الصّغيرة الّتي تمكّنه من التّعرُّف على الوقت دون النّظر إلى السّاعة في يده. تمرّ الدّقائق وكأنّه أخذ على عاتقه مسؤوليّة عَدِّها. كأنّ هاجسًا ما طلب منه أن يعدّ هذه الدّقائق الّتي لا نهاية لها، هكذا بلا سبب وبلا هدف. أو كأنّ حُكمًا غريبًا بعدّ الدّقائق فرضته عليه محكمة المكوث في هذه المدينة الغريبة الأطوار.

مدينة غريبة حقًّا هي القدس، وأشدّ ما تكون غرابتها عندما يكون المرء غريبًا فيها هو أيضًا. هكذا تتراكم الغرابات هنا في هذه المدينة فوق بعضها البعض وتمتزج لتخلق حالاً من العيش على حبل رفيع شُدَّ فوق هوّة مليئة بكلّ ما هو مرعب. من جهة، يُصاب المرء بالإدمان على السّير على هذا الحبل الممدود بين قطبين، لما لهذا السّير فوق الهوّة من متعة الإنفعالات وذعر السّقوط في هوّة لا قاع لها، ومن جهة أخرى يهدّ جسده هذا الإنهاك من السّير المتواصل ذهابًا وإيابًا على الحبل بلا غاية. وما العمل وقد بدأ يرى كيف يَهِي هذا الحبلُ تحت قدميه، وكيف أخذت رجلاه ترتعدان قليلاً ولم تعودا كسابق عهدهما في ثباتهما رغم كلّ العواصف الّتي هبّت عليه في هذا المكان الغريب؟ هل يستجمع قواه ليعبر إلى أحد طرفي الحبل ليجد موطِئًا، ولو ضيّقًا، يُريح عليه مؤخّرته، ليهدأ قليلاً من هذا الإنهاك؟ أو يبقى هكذا على هذه الحال يقترب حينًا من هذا الطّرف وحينًا من ذاك فيجفل لما ترى عيناه، فيعود إلى هذه المنزلة الوسطى فوق الهوّة المُرعبة والممتعة في آن معًا؟

كلّ هذه التّساؤلات تتعالى في فضاء الغرفة مع خيوط الدّخان الصّاعدة من سيچارته المشتعلة دائمًا منذ ما ينيف على ثلاثة عقود. تتمايل الخيوط في حركات ثعبانيّة بهلوانيّة وقبل أن تصل إلى السّقف تأتي نسمة خفيفة من الشّرفة المفتوحة فتفرّقها أيدي سبأ. يشاهدُ هو هذه الخيوط المندثرة الّتي لا تُبقي أثرًا في البيت، ثمّ بحركة بطىئة يمدّ يده ويتناول كأس النّبيذ الموضوعة غير بعيد عن متناول يده. لقد اعتادَ أن يضع الكأس غير بعيد عن متناول اليد درءًا لوجوب الحراك من مقعده للوصول إليها. وصل إلى هذه الإشراقة صدفة بعد سنوات من تشتّت الأفكار الّذي لم يدر كيف كان يحصل له. ها هو قد تعلّم بعد كلّ هذه السّنوات أنّ الحراكَ في المكان يُشتّت الأفكار، وهو لا يريد لهذه الأفكار أن تتشتّت الآن. هذه اللّحظات عزيزة عليه لأنّها لحظات استغراق في بحر بعيد الغور من التأمُّل في كلّ شيء. فحتّى أصغر الأشياء شأنًا تأخذ أبعادًا غريبة وتتشكّلُ بألوان زاهية ليس في وسع المتحرّك في مكانه أن يراها. فكلّ من يرغب في الوصول إلى هذه اللّحظات، ما عليه إلاّ أن ينتحي في رُكن من أركان البيت وحيدًا، يتّخذ له مجلسًا مريحًا، كأسَ نبيذ بشرط أن تكون في متناول اليد، سيچارةً إن كان من المدخّنين وموعدًا جديدًا مع المجهول.

***
في هذه السّاعة الآن وهو لا يزال يستيقط من نومه لا يشعرُ بحاجة إلى النّظر، لا إلى عقارب السّاعة ولا إلى علامات بارزة على الطّريق، لأنّ طريقًا مُبْهِرةٌ تنبسطُ أمامَه واضحةً مُبْهَمَةً في آن. حاول جاهدًا، بما أوتي من يقظة، أن يمسك بخيوط الحلم الّتي بدأت تتشابك وتتشابك دون أن يرى لها نهاية، وبأصابعه الّتي لا يزال خَدَرٌ صباحيّ خفيف يسري فيها يحاول فكّ هذه الاشتباكات وحلّ تعقيدات هذه الخيوط، غير أنّ محاولاته الجاهدة تذهبُ أدراج رياح هذا الصّباح الوَسنان. يُجيلُ بنظره في الغرفة متفحّصًا؛ ها هي زُجاجة الويسكي لا زالت على الطّاولة في المكان الّذي تُركت فيه ليلة أمس، وها هما الكأسان الفارغتان ما زالتا بجانبها، وها هو قطفُ العنب الأحمر، الّذي نقصت منه حبّات غير كثيرة، ما زال يستلقي ثملاً من بخار الكأسين أو من بخار الشّفاه الّتي لامسته قبل ساعات معدودات، أو أنّه ثملٌ مُلقى مثله من بخار ذاته المتطايرة في كلّ اتّجاه. يتوقّف قليلاً عند هذا المشهد، ثمّ ما يلبث أن يرى نفسه مستلقيًا على التّخت عاريًا إلا من هذه الأفكار. يمرّر يده على صدره فتداعب أناملُه شعراتٍ بيضًا نبتت هناك في الوهاد والتّلال وحول الحلمتين نُزولا إلى واحة كساها العشب وتمايلت فيها نخلة نمت هناك سرًّا مثلما نَمَتْ ليلتُه سرًّا هي الأخرى على بخارِ العنب.

تتخطّى أناملُه الشّعرات البيض إلى التواءات وتعرّجات دافئة أخرى يراها في المرآة بإزاء التّخت فيحاولُ أن يفهم كيف ذا يكون له جسدٌ آخر في هذه اللّيلة. يسألُ نفسه، هل أنا هنا حقًّا؟ هل هذه الزّجاجة، الكأسان الفارغتان وقطف العنب هي أجسام حقيقيّة، أم أنّ كلّ ما تراه عيناه الآن في هذا الصّباح لا يزال فصلاً من فصول هذا الحلم الّذي لم ينتبه منه بعد. التواءات وتعرّجات السّتائر أعادت إلى مخيّلته التواءات طريق الغور الصّاعدة في المرتفعات الجرداء إلاّ من شجرة هنا أو هناك، وحيث تجمهرت شجرات قليلات رأى طريقًا ترابيّة داخلة إليها، حيث أُثبتت على جانبها لافتة تحمل اسمًا كبيرًا، له ما له في منطقة جافّة وحارّة مثل هذه. ينظر إلى اللاّفتة ويقرأ عليها كلمة »مُنتزه«، يلتفت إلى هذه الصّلعة الخضراء في الجبل، بينما السّيّارة تأخذ طريقها بلهاث صاعدة ملتوية بالتواءات الطّريق باتّجاه السّلط.غير أنّ الجسد المستلقي على السّرير تحرّك والتفت إليه، وبصوت خارج من حلم عميق سألته ليلى عن السّاعة، وحين علمت بأنّها التّاسعة صباحًا وبّختْهُ على يقظته المبكّرة، وذكّرته بأنّه ليس في القدس وما من عمل هنا ، ثمّ أشارت له أن يأتي إلى جانبها وعادت إلى سابق حلمها.

وقف هناك بجانب النافذة المطلّة على الشّارع في الطّابق الثّالث من الفندق. كان تحت في السّاحة في هذه السّاعة المتأخرة من الصّباح بعض النّزلاء الّذي يتداولون برنامج زياراتهم في هذه المدينة. قال في نفسه إنّه لم يأت إلى هنا لزيارة معالم أو أماكن بعينها، إنّما جاء لسبب لم يشأ أن يكشف عنه حتّى للسائق الّذي أقلّة بسيّارته من الجسر. أراد أن يحيط مجيئه إلى هنا بسريّة تامّة، لأنّ أحدًا لن يفهم هذه الرّحلة. أعاد السّتارة إلى مكانها، ثمّ أجال بنظره في فضاء الغرفة حتّى وقع على الجسد العاري متفحّصًا ببطء ألوانه وتعرّجاته. كان الجسدُ مستلقيًا هناك على السّرير، عينان مغمضتان كانتا تشيان بنوم هانئ عميق، حلمتان داكنتان مستريحتان في الكثبان مثل غزالتين نابضتين في ليلة مقمرة غير بعيد عن نبع الحياة الّذي تنامت على مياهه أعشاب طريّة. عند الصّدر وقع بصره على طفلة مستلقية غارقة في حلم لم يكتمل بعد لغضاضة جسدها. يد واحدة كانت تسند البطن، واليد الثّانية كانت ممدودة على السّرير في المكان الّذي استلقى فيه من قبل. كان شعر الطّفلة يكاد يُداعب حلمة هناك على الرّمل.

وقف بجانب النّافذة ناظرًا إلى هذا المشهد ثم حاول الإقتراب من السّرير غير أنّه وفي كلّ خطوة من خطواته مقتربًا كانت صورة الطّفلة يعلوها ضباب. حاول أن يفرك عينيه لإزالة غبش الصّباح لكنّه لم يُفلح في إزالة الضّباب عن الصّورة. ذُعر لهذا المشهد فعاد أدراجه إلى النّافذة محاولاً الإبقاء على تلك الطّفلة نابضة بين الحلمتين.

أزاح السّتارة قليلاً ثم ألقى نظرة إلى الساحة. لم يقع نظره على أحد هناك، لا في الساحة المفضية إلى الفندق، ولا في الحديقة الجانبيّة، حيث كان نزلاء الفندق قد خرجوا كلّ إلى طريقه، ما عدا طفلة واحدة كانت تتقافز بشقاوة في السّاحة. كان تعرّف عليها مساء أمس في الفندق. ظنّته من بعيد أباها فركضت إليه تحضنه، فلم يرغب في أن يخيّب أملها فحضنها هو الآخر حتّى نسي من هو ومن أين جاء وإلى أين هو راحلٌ من هنا. وحين يتمعّن فيها الآن في السّاحة يرى أنّها تشبه الطّفلة المستلقية بجانب الحلمتين المثبتتين في الجسد المستلقي بطمأنينة عميقة على السّرير بإزاء المرآة. مدَّ رأسه خارج النّافذة في الطّابق الثّالث، وحاول أن ينادي الطّفلة باسمها، غير أنّها لم تسمع نداءه، وسارعت إلى الدّخول واختفت في بهو الفندق. سمعت ليلى نداءه، فتململت في السّرير بعد أن استيقظت من نومها، وأشارت إليه بيديها المشرعتين أن يُسدل السّتارة ويخطو نحوها. سحب السّتارة على النّافذة فخيّم الظّلامُ مرّة أخرى في فضاء الغرفة. وما هي إلاّ هنيهة حتّى كانت ألسنة النّيران تتعالى من جسديهما في المرآة وتلقى بظلالهما المُتقلّبة على السّرير، بينما صفّارات الإطفائيّة تُولولُ بلا انقطاع خارج الفندق.

***

نشرت في مجلة مشارف.

مدينة الزّهرة الماشية

سلمان مصالحة

مدينة الزّهرة الماشية

هنا، بين الواقع والخيال، بين الأرض والسّماء، تتهادى القدس في التّلال غير بعيد عن مفرق الرّوح. تخطو على حبل ممدود بين وادي جهنّم وبين زهرة تهيم على وجهها فوق ثرى المدينة. في خيالاتي الطّفوليّة ارتبطت القدس بخرافات سمعتُها عن أشراط السّاعة. في ذلك السّيناريو المرعب لا مجال لارتجال يقوم به الممثّلون. لقد أعدّ لهم المُخرج الأكبر المتربّع في عليائه تفاصيل الأدوار: سيهدم اليهود الحرم القدسيّ، فتبدأ عقب ذلك سلسلة من ردود الفعل، فيقوم المسلمون بهدم الكنائس المسيحيّة ردًّا على دعم الغرب المسيحي لإسرائيل. وعقب ذلك يسارع الغرب إلى هدم المقدّسات الإسلاميّة في أرض الحجاز. هكذا تبدأ الحرب الكبرى الّتي تنذر بقيام السّاعة.

كيف يقولون "بَدْو" بالعبريّة؟

من الأرشيف - عام 2002 :

سلمان مصالحة


كيف يقولون "بَدْو" بالعبريّة؟


في المعبر الحدودي بين الأردن وإسرائيل،
وضمن إجراءات عاديّة، يُنزلك سائق التّاكسي عند نقطة الجمارك لتنتقل عبرها مع حقائبك إلى الطّرف الآخر، ثمّ لشبّاك دفع رسوم المغادرة. من هناك تدلفُ إلى المخرج، حيث موقف الباص الّذي سيعبر بك الجسر والنّهر، عائدًا إلى أرض الوطن المصاب بانفصام مُزمن في الشّخصيّة.

وصف يوم ماطر

سلمان مصالحة || وصف يوم ماطر


الأبخرة الّتي أخذت تُغطّي زجاج
النّافذة المُطلّة على التلّة المقابلة، سترت تلك المشاهد الرّبيعيّة الّتي تعود إلينا في هذه الأيّام كسابق عهدها وديدبانها كلّ عام. القطّة السّياميّة تواصل المواء مع أنّ شباط قد انسلخ منذ ليالٍ معدودات، وتركني مع الدّودات الأرضيّة اللّواتي يواصلن محاولاتهنّ اليائسة لتسلّق أصيص أثبتّهُ في الشّرفة رحمةً بالچيرانيوم الّذي لم يحظ بوجبات كافية من الماء في الصّيف الفائت، وذلك درءًا للإسراف في تبذير هذا المورد الوطني والقومي. لقد فعلتُ ذلك لأنّي أيقنتُ في أحد تلك الأيّام من أيّام آب المُنصرم أنّنا بلا شكّ نجلس على تخوم الصّحراء، رغم أنّ البعض منّا قد يركنُ إلى طمأنينة بعد أن تعوّد عليها لكثرة الاستعمال في وسائل الإعلام. ألم تُشبعنا تلك الوسائل منذ أيّام السّلف الأوائل أنّنا، وحمدًا للّه على نعمته، محظوظون لوقوعنا في هذه البقعة الّتي شاع اسمها على الملأ "الخطّ الأخضر"؟



وهكذا، ولأنّنا ذهبنا
مع الذّاهبين الأوّلين من السّنين البوالي، دون أن تكون لدينا بصائر، وألقينا عصا التّرحال في هذه المدينة الّتي لا تلبث أن تتعرف فيها، على جلدك، على مزايا هذا الخطّ الفاصل بين الأخضر والأصفر. فالواقف على جبل سكوپس مُستقبلاً القبلة، وهي الحرم القدسيّ الشّريف، إذا التفت شمالاً يسرح نظره في تلك الهضاب الّتي تجرّدت من لباسها سوى من أديم الأرض الّذي امتلس مع آخر قطعة من نور الغروب كما لو كان غانية لعوبًا تستغيث الشّاعر الدّعوب. أمّا إن أملتَ برأسكَ نحو الغرب فإنّه لا شكّ سيقع نظرك على تلك المباني الشّاهقة الّتي أخذت تتسرّب في العقود الأخيرة إلى فضاء المدينة سادّةً على الرّائي خطّ الأفق. وكان هذا الأفق في الماضي غير البعيد قد علا رؤوس الجبال والتّلال في مغرب القدس. وهكذا تستعيد ذكريات من هنا وذكريات من هناك حينما كنتَ تعرّج على هذه التّلّة أو تصعد ذلك الجبل غير آبهٍ بالصّخور ولا بالعلّيق الّذي تعلّق بك مناشدًا إيّاك ألاّ تتركه لوحده. غير أنّ التّعرّجات هذه لم تعد سوى ذاكرة الآن. فها أنت تقفُ هناك معيدًا ذكرياتك الدّافئة وراء هذا الزّجاج الّذي وضعت هذه الطّبيعة الشّتويّة على صفحته غشاوةً فلا ترى ما يدور في الخارج عبرها، ولا يرى الخارجُ ما يدور في الدّاخل داخلك.

والآن، وبعد أن انقطع
التّيّار الكهربائي بقدرة قادر، أو قل لصعقة وقعت غير بعيد انفرطت على إثرها "سناسلُ" حجريّة طالما عملوا على نظمها في هذه المنحدرات اتّقاء لسقوط الدّواب في الحرث، وحفظًا للتّراب الّذي يُطلقون عليه تراب الأجداد. نعم، أليس أديم الأرض من هذه الأجساد الّتي ولّت ولم تترك لنا شيئًا سوى تلك الشّواهد الّتي تشهد حتّى الآن، تحت هذه الزّيتونة أو جنب ذلك الصّبّار عمّا جرى وصار؟ وحين ستهدأ هذه العواصف والزّعازع، ستُشعلُ سيچارتك الّتي لا تعرف رقمها، وستتقدّم نحو النّافذة الّتي ما زالت مُبهمة لا تبوح لك بالسرّ الّذي تُخبّئه لك في الخارج. وما أن تصل إليها وتمدّ يدك لتسمح ذلك البخار والغشاوة حتّى تعود حرارة النّور في الخيوط والمصابيح وكأنّ شيئًا لم يكن.

غير أنّ برودة الزّجاج
تتسلّل إلى أصابعك الّتي مسحت ببطء غشاوة النّافذة. تقترب من تلك الصّلعة الّتي انفرجت في غشاوة البخار فلا تُصدّق. كيف ذا بين ليلة وضحاها اختفت التّلال والهضاب، وكلّ ذلك بين ليلة وضحاها؟ كيف ذا يحصل والجميع نائمون راقدون مفرّخون تحت زوجاتهم. فهناك برز حيّ جديد، وإلى الشّرق كتلة كبيرة من الإسمنت، وشمالاً لم يبق شجرٌ ترتاح تحته في سفراتك الجبليّة وغيرها وغيرها. لم يعد هناك تراب، بل تحوّل كلّه إلى باطون مسلّح بأسلحة غير تقليديّة. تعود أدراجك إلى مكتبك هاذيًا في قرارة نفسك:
ألم أقل لكم من زمان، إنّه في "أوسلو" راحت القدس؟

***
هذا النص نشر في منتصف التسعينات من القرن الماضي.
***

لغة الملائكة


سلمان مصالحة || 

لغة الملائكة



على غرار سائر الأطفال على وجه البسيطة، أغلب الظنّ أنّي سُئلت مرّة ذلك السؤال الأبديّ: ماذا تطمح أن تصبح عندما تترعرع؟

قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشّيء خاصّة في الأوضاع والظّروف الّتي وُلدتُ فيها. ولكن، بخلاف الأطفال الّذين حلموا بأن يصبحوا أطبّاء، محامين، مهندسين، إلى آخر قائمة المهن الحرّة، كان جوابي دائمًا: أرغب في أن أكون شاعرًا، لأنّ الشّعر ارتبط بذهني بالمعنى الجوهري للحريّة.

كلّ أولئك الّذين قد يفكّرون في مصطلحات من مثل "التّحقيق الذّاتي" لطفل صغير، سيكتشفون فورًا أنّهم كانوا على خطأ. فقد اتّضحت لي لاحقًا حقيقة جوهريّة أخرى وهي، أن تكون شاعرًا لا يعني بأيّ حال من الأحوال تحقيقًا للذّات. في نهاية المطاف، يبدو الأمر لي الآن مغايرًا تمامًا وهو، "أن تكون شاعرًا"، يشكّل في الحقيقة نوعًا من العقاب أكثر منه تجربة ممتعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ عالَم الشّعر هو على كلّ حال نوع من عالَم السّجون الّتي يجدر المكوث فيها.

الشّعر هو سجن في فوضى الحروف، العلامات، الكلمات، السّطور وكلّ الإمكانات الّتي توفّرها لنا اللّغة كَرَمًا منها ومعروفًا منها تُسديه علينا. بمعنى آخر، وظيفة الشّاعر هي وظيفة شبيهة بوظيفة المبدع الأوّل الّذي أبدع النّظام في الكون من خلل الفوضى العارمة. الشّعر لا يمتلك حسًّا بالزّمان ولا بالمكان، كما لا يمتلك حسًّا بالقوم والقوميّة. إنّه في جوهره يمتلك كلّ الأزمنة، يسكن كلّ الأماكن، يعيش كلّ الحيوات ويتحدّث إلى كلّ الشّعوب في الوقت ذاته. إنّ لغة الشّعر هي لغة التّجربة البشريّة دون فرق في اللّون، الجنس واللّسان. إنّها لغة فوقيّة تذهب بعيدًا وراء حدود اللّغات الّتي تبلبلت وتفرّقت من بابل إلى أربع جهات الريح.

لغة الشّعر هي المعنى الأوّل للإبداع الإلهي وهي البارقة الأولى للخلود. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشّعر هو الأداة الأولى الّتي ينافسُ فيها الشّاعر عمل المبدع الأوّل. الشّعر ينافس الخالق لأنّه يحاول أن يُشكّل من جديد كلّ ما لم يتشكّل على ما يُرام في الخليقة الأولى. قد يقول المتفائلون إنّ المبدع الأوّل لم ينهِ عمله لأسباب خافية لها علاقة بكرمه الإلهي علينا، أو بتركه لنا فسحة كي نتذوّق نحن المخلوقات الأرضيّة طعم الحياة. من جهة أخرى، فإنّ المتشائمين، ويشمل هؤلاء الشّعراء وكلّ من يتعامل مع صنوف الفنّ، قد يقولون: إنّه لم يقم بمهمّته كما كان من المفروض أن يفعل.

في البدء كانت كلماتٌ في الفوضى، وخيّم الظّلام على غرفة ذلك السّجن الأوّل. وفي لحظة قدسيّة ظهر الشّاعر من خلل هذا الظّلام وجمع كلّ العلامات والحروف ووضعها على الورق. أخذ بعضًا منها ووضعها في نظام ما: نون واو راء، وفجأة كانَ نورٌ. بواسطة هذا النّور استطاع أن يرى كلّ الكلمات بكلّ اللّغات في كلّ هذه الفوضى. وكان هذا يومًا أوّلَ، كانت هذه القصيدةَ الأولى.

بواسطة هذا النّور يستطيع الشّاعر أن يرى كلّ المعاني القائمة في اللّغات بالقوّة. الشّاعرُ يستطيع أن يشكّل كلمة الحبّ ويترك الآخرين يحبّون على هواهم. يستطيع أن يشكّل رائحة الوجود فيمنح الأمل لكلّ البؤساء الّذين يتكاثرون على وجه البسيطة. يستطيع التّعبير عن الموت، ولكنّه من وراء التّشبيهات والإستعارات إنّما هو يرمي إلى الكشف عن المعنى المختبئ للحياة. بسطوره، وبأبياته القليلة يستطيع الشّعر أن يمنحنا القدرة على الإتّصال مع شعوب وأناس آخرين وأن يكشف لنا ثقافات أخرى. الشّعر يمكّننا من صنع أجنحة بالحروف للتّحويم في عوالم أخرى والهبوط في أماكن أخرى، لأنّ اللّغة هي الوطنُ الموعود الأوحد للشّاعر.

والآن، ومع مرور السّنين والأعوام، ولأنّي لم أعد ساذجًا إلى هذا الحدّ فقد اكتشفت شيئًا آخر: الشّعر هو شبكة فوقيّة داخليّة شائكة، متاهة عليا لا تسمح لك بالوصول إلى نهاية. وداخل هذه المتاهة الخالدة سيمكث الشّاعر حتّى يوم الدين، حتّى اليوم الّذي سيُقدّم فيه بديلَه الإستفزازي أمام القارئ الأوحد الأوّل الّذي نافسه منذ البداية وعلى مرّ الزّمن. إذا كان الكون قد أُبدع وتبيّنت معالمه من نور الشّعر في اليوم الأوّل، فما من شكّ أنّ هذا النّور سيبقى حتّى اليوم الآخر. أمّا أنا الآن، فليس لديّ غير رغبة واحدة. ليتني أحيا في تلك اللّحظة لأشاهد هذا الصّراع، لأشاهد هذا النّور.

وأخيرًا، وعلى الرّغم من الرّواية الإسلاميّة القائلة بأنّ سكّان الجنّة يتكلّمون العربيّة، ورغم الحقيقة بأنّ اللّغة العربيّة هي لغة الملائكة، أستطيع أن أشهد، من تجربتي الذّاتيّة، أنّ العربيّة هي لغة أهل جهنّم أيضًا.

***


للنص بالإنكليزية، اضغط هنا.


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!