القدس هي القبلة

وذكّر إن نفعت الذكرى

أرشيف - أغسطس 1993

 

سلمان مصالحة || 

القدس هي القبلة

ترددت في الصحف قضية الفتوى التي أصدرها الشيخ الألباني والتي تقضي بوجوب ترك المسلمين لفلسطين أسوة بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، من دار الكفر والحرب إلى دار الإسلام. لقد أثارت هذه الفتوى حفيظة الكثير من رجال الدين وأساتذة الجامعات الذين اتهموا الشيخ الألباني بالعمالة، أو حتّى إنهم أغدقوا عليه الألقاب مثل ”شيخ الشياطين“ و“شيطان المشايخ“.

صحيح أنّ هذه الفتوى هي غاية في الخطورة، بحيث أنها تؤدي الوظيفة التي تطمح إليها الصهيونية دون أن تحرك هذه ساكنًا، فيأتي عملها بأيدي الآخرين الذين يُستهدف تفريغهم من البلاد، أي نحن. ولكن، وفي نفس الوقت فإن إطلاق تعابير التخوين والشيطانية أنّما تدل على قصور هؤلاء عن فهم القضية وما فيها من ملابسات طالما نظر فيها العلماء والفقهاء عبر التاريخ الإسلامي، وهي أمور مثار للجدل.

ما السبب في فتاوى كهذه؟
بعد أن فشلت الأنظمة العربية في توفير الرفاهية والحرية للجماهير العربية، وبعد أن تحولت هذه إلى أنظمة قبلية، بل في الحقيقة دائمًا كانت كذلك، تركت هذه خيارًا واحدًا أمام الجماهير المغلوبة على أمرها. ذلك هو خيار العودة الإسلامية، أي البحث عن المستقبل في الماضي. وما دامت هذه الأنظمة قد غذّت الجماهير بأساطير الأوّلين، فلا غرو إن بحث هؤلاء عن الخلاص من هذه الأنظمة بالعودة إلى تلك الأساطير. وما دام الوضع السياسي في العالم العربي على هذه الحال، وما دام لا يوجد فصل بين الدين والدولة فسيبقى هؤلاء الزعماء والساسة يتسمون بمشاعر النقص أمام رجال الدين. ولن يكون في وسع هؤلاء، رغم القمع والتنكيل اللذين تتسم بهما السلطات العربية قضّها بقضيضها، محيطها بخليجها، أن تغيّر من هذه العودة.

إنّ خير دواء هو رفاهية وحرية هذه الجماهير.
لم تفلح الحركات القومية العربية، ولا اليسار العربي أو الليبراليون، إن كان هناك شيء من هذا القبيل، في توفير هذين العمادين للمجتمع العصري. بدل ذلك، كان ديدنها إفشاء الفقر، والقمع وكبت الحريات الفردية لكل من لم لم يرق لها. بل أكثر من ذلك، فقد عمّقت هذه النهج القبلي في العالم العربي. ولمّا كان الإسلام عند نشوئه ثورة على القبلية الجاهلية العربية وجدت التيارات الإسلامية أنّ وضع العالم العربي في حال من القبلية العصرية، فرفعت شعار الجاهلية مرّة أخرى، واستحوذت على عقل الكثيرين بسبب اليأس الذي أفشته هذه الأنظمة في نفوس الجماهير.

إنّ البحث عن بدائل للوضع العربي الراهن يفضي في النهاية إلى طريق الأساطير السياسية العربية، ولا أقصد بمصطلح أساطير أنّها ليست حقيقة، فهذه الأساطير التي تستحوذ على العقل العربي، شاء البعض أم أبى، هي من صنع الخلافة الإسلامية على مرّ العصور. ولكنّه في نفس الوقت، إسلام آخر غير هذا الذي تتلبّس به التيارات الإسلامية الحديثة.

العودة إلى تلك الأزمنة، هي عودة أيضًا إلى الجدل والاجتهاد في القضايا التي شغلت بال المجتمع الإسلامي آنذاك. ومن بين تلك القضايا مسألة دار الإسلام ودار الحرب ومكانة المسلم في كل منهما. إنّ فتاوى الألباني تندرج في النهاية ضمن هذه الردّة، شاء أساتذة الجامعات أم أبوا. ولكن، ولمّا كنّا نحن المقصودين في هذه الفتوى، فنودّ أن نطمئن.

نحن هنا باقون
لا نقبل لهذه الرقعة من الأرض بديلا، مهما تبدّلت الأحوال. خطابنا هو خطاب آخر، هو خطاب المستقبل في المستقبل، وليس خطاب الماضي. فكلّ ما فات مضى وانقضى ولا مردّ له ونحن ننظر إلى الغد بعيون الغد محمّلين بتراثنا العربي والإسلامي على حد سواء.

آن الأوان لتأكيد القدس، قبلة !
بقيت القدس مكانًا متروكًا طوال التاريخ الإسلامي، ولم تتحوّل إلى مركز سياسي أو حضاري على غرار بغداد، أو دمشق أو القاهرة. وعلى الرغم من أنّ مبايعة الخليفة معاوية كانت في القدس، إلاّ أنه اتخذ من الشام عاصمة له. وعلى الرغم من بناء المسجد الأقصى لاحقًا، لم يغيّر ذلك من بقاء القدس بعيدة عن مراكز الثقل السياسية، الاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي.

لقد ظلّ هذا الوضع طوال القرون المنصرمة وحتى العصر الحديث، فلم تحظ القدس باهتمام حتى على العهد الأردني. لقد تغيّرت القدس الآن أيما تغيير، كما لا نجد أي اهتمام لدى الأمة العربية بالمصير الذي آلت إليه. مرّة واحدة فقط حظيت القدس بمركز يليق بها. كان ذلك حينما وقعت مكة تحت سيطرة عبد الله بن الزبير الذي تمرّد على الحكم الأموي في الشام. في تلك الأثناء، ولمّا كان من غير الممكن الوصول إلى مكة، بدأت تظهر ميول بتحويل القبلة من مكة إلى القدس لأسباب سياسية، حتى تمّت له السيطرة مجددا على مكّة.

أمّا وقد تبدّل الزمان، فقد آن الأوان إلى تحويل القبلة من مكة إلى القدس، بغية التأكيد على الأهمية المعزوة للمدينة في نظر العرب والمسلمين. ليكن الحجّ إلى القدس. أقول ذلك، مع أنّني لست متديّنًا، بل أستطيع القول إنّي على عكس ذلك، فلست أؤمن بأنّ في وسع الدين إعطاء إجابات حقيقية لحقيقة هذا العصر. لقد لعب دورًا في الماضي، ولا أظنّ أنه يعطي الحلول للمستقبل، رغم العودة للدين في الشرق والغرب، ولدى المؤمنين بدياينات كثيرة.

ولمّا كنا نعيش في عصر سياسي، فحري بالفقهاء أن يقوموا بدور بنّاء، إن كان بإمكانهم أصلا أن يفعلوا ذلك، وما عليهم الآن إلا أن يُصدروا فتوى بتغيير القبلة من مكة إلى القدس، وذلك لأجل مسمّى، حتى تتغيّر الأحوال وبعد ذلك يمكن العودة إلى الاتجاه بالصلاة نحو الديار الحجازية.

إن لم يفعل العرب ذلك فإنّ مصير القدس العربية سيؤول إلى المصير الذي آلت إليه يافا وعكا، وفي السنوات المقبلة ستنجلي هذه الحقيقة للجميع.

ألا هل بلّغت.

القدس
*
نشرت المقالة في أسبوعية ”كل العرب“، 20 أغسطس 1993

لا أعرف الخيل



سلمان مصالحة ||

لا أعرف الخيل


لا أَعْرِفُ الخَيْلَ، لَمْ أَرْكَبْ
عَلَى جَمَلِ. وَلا نَطَرْتُ نِسَاءَ
الحَيِّ فِي الأَسَلِ.

بين حانا ومانا، أو بين تركيا وإيران، ضاعت لحانا


لقد ذهبت كلّ الشعارات العربية التي شنّفت آذان المستمعين أدراج الرياح، وتفرّق العرب أيدي سبأ. لم ينتج عن كلّ مؤتمرات القمّة سوى المؤامرات التي أضحت سمة ملازمة للسياسات العربية...


في أعقاب عنترة بن شدّاد



سلمان مصالحة ||

في أعقاب عنترة بن شدّاد



تَذَكَّرْتُ رَبْعِي، إذْ هَجَرْتُ مَلاعِبِي
إلَى بَلْقَعٍ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الأَجَانِبِ.

أَرَى الطَّيْرَ فِيهَا، إذْ يَعُودُ لِوَكْرِهِ.
وَلا وَكْرَ يَأْوِي غُرْبَتِي وَنَوَائِبِي.

عنترة بن شداد || إذا كان دمعي شاهدي

مختارات


عنترة بن شداد ||

إذا كان دمعي شاهدي


إذا كانَ دمْعِي شاهِدِي كَيفَ أجْحَدُ
ونارُ اشْتياقي في الحَشا تَتوقَّدُ؟

وهيهاتَ يخفَى ما أُكنُّ من الهَوَى
وثوبُ سَقامي كُلَّ يومٍ يُجدَّدُ

أُقاتلُ أشواقي بصبري تَجلُّدًا
وَقلْبِيَ في قَيْدِ الغرامِ مُقَيّدُ

إلى الله أشكُو جَوْرَ قَوْمي وظُلْمَهُمْ
إذا لم أجِدْ خِلًّا على البُعد يَعْضُدُ

خليليَّ أمْسى حُبُّ عَبلةَ قاتلي
وبأْسِي شَديدٌ والحُسامُ مُهَنَّدُ

حرامٌ عليّ النومُ يا ابنةَ مالكٍ
ومَنْ فَرْشُهُ جَمْرُ الغَضا كيْفَ يَرْقُدُ

سَأندُبُ حتّى يعلمَ الطّيرُ أنني
حزينٌ، ويرثي لي الحَمامُ المغرِّدُ

وأَلثِمُ أرْضًا أنْتِ فيها مُقيمَةٌ
لَعَلَّ لَهيبي مِنْ ثَرَى الأَرضِ يَبْرُدُ

رَحَلْتِ وقلْبي يا ابْنَةَ العَمِّ تائِهٌ
على أثَرِ الأظغانِ للرَّكبِ يَنْشُدُ

لَئنْ تَشْمَتِ الأعْداءُ يا بِنْتَ مالكٍ
فإنّ وِدادي مثلما كانَ يَعْهَدُ

*

دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في حرب الاستقلال


وثيقة (يوليو 1948):



دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في حرب الاستقلال




 
صحيفة ”كول هعام“ (صوت الشعب):

قرارات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الإسرائيلي في اجتماعها المنعقد في يومي 10-11 يوليو 1948:

أ – حول مهمة الرفيق ميكونيس في أوروبا

1 – تصادق اللجنة المركزية على تقرير الرفيق ميكونيس حول زيارته لأوروبا في مهمته الحزبية لتجنيد مساعدة شاملة لجبهة الحرب لدولة إسرائيل، وتعبر عن رضاها الكامل عن الإنجازات المهمة التي تم تحقيقها في هذا المضمار. وتبارك اللجنة المركزية عمل ميكونيس الجذري والسريع من أجل زيادة التسليح لجيش الدفاع الإسرائيلي ومن أجل تجنيد خبراء عسكريين ومن أجل إقامة كتائب قطرية لشبيبة يهودية مقاتلة على قاعدة عريضة من كل الأحزاب والتيارات الديمقراطية وتدريبها بسرعة تمهيدا لإشتراكها في جبهة حرب الاستقلال التي تخوضها دولة إسرائيل.

2 – تعبر اللجنة المركزية عن موافقتها على دور الرفيق ميكونيس وفعالياته التي قام بها في سعيه لتجنيد الرأي العام التقدمي في العالم لمساعدة حرب الشعب اليهودي العادلة للاستقلال القومي، مقابل عدوانية المعسكر الإمبريالي وخدمه في 'الجامعة العربية' الذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن سفك الدماء في أرض- إسرائيل.
وتثمن اللجنة المركزية الاستجابة الرفاقية الكاملة للحركة الشيوعية والأحزاب الشقيقة ومساعدتها الكبيرة في تحقيق الخطوات التي تدعم حرب تحريرنا، وتضمها في جبهة كل الشعوب المكافحة من أجل السلام والديمقراطية وأخوة الشعوب والاستقلال القومي.

3 – وتشير اللجنة المركزية ببالغ الرضى والتقدير إلى المساعدة المعنوية والسياسية والمادية المقدمة لدولة إسرائيل من قوى المعسكر الديمقراطي والمعادي للامبريالية بزعامة الاتحاد السوفييتي ودول الديمقراطية الشعبية، وتكلف جميع أعضاء الحزب وأنصاره بتصعيد نضال جمهور العمال والشبيبة وجماهير الشعب من أجل اتباع سياسة تعاطف وتعاون مع هذا المعسكر العظيم، معسكر الديمقراطية والسلام.

4 – وتقر اللجنة المركزية الخطوات التي اتخذها الرفيق ميكونيس في سبيل تصعيد نضال القوى الديمقراطية في العالم من أجل الإعتراف بدولة إسرائيل، ومن أجل إلغاء الحظر المفروض على إرسال السلاح إلى إسرائيل من دون شروط التي تهدد سيادة إسرائيل، وفرضه على الدول العربية.

5 – وتقرر اللجنة إرسال عضو سكرتارية الحزب أ جوجانسكي فورا إلى أوروبا للاستمرار في النشاطات لتجنيد المساعدة المتعددة الجوانب لحرب دولة إسرائيل.

ب - حول تعزيز الحكومة المؤقتة

تقر اللجنة المركزية أن مجمل السياسة الخارجية والداخلية للحكومة المؤقتة لا تتناسب مع حرب الاستقلال لجماهير الشعب ولا تعبر بالدرجة المطلوبة عن روح ومصالح الجبهة والعمق، لأن السياسة الخارجية للحكومة المؤقتة تعتمد على التأقلم والمهادنة مع الإمبريالية الأنجلو- أميركية، الأمر الذي يعرض بالضرورة سيادة دولة إسرائيل للخطر، ولأن السياسة الخارجية للحكومة تتحفظ من معسكر السلام والديمقراطية والمدافعين عن الاستقلال القومي بزعامة الاتحاد السوفييتي، الذي يقف إلى جانبنا بكل الصدق والتصميم ويقدم الكثير لتعزيز صمودنا في ساحة الحرب. ومن ناحية أخرى، تستند السياسة الداخلية للحكومة إلى مصالح البرجوازية من الناحيتين السياسية والاقتصادية أكثر من استنادها إلى مصالح جماهير الشعب الواسعة. فقد فُرضت جميع تضحيات الحرب، بالأرواح والمال، على كاهل الجماهير العاملة. فغلاء المعيشة يزداد ويرتفع، والسمسرة تزدهر وأجرة العمل تنخفض. والتموين غير منظم والسلع الضرورية لا توزع توزيعا عادلا. ليس هناك اهتمام بعائلات الجنود والمتضررين من القصف. ولا يزال التعرض لحقوق التنظيم مستمرا وكذلك تستمر البرجوازية في ابتزازها السياسي بهدف توسيع مواقعها في الحكم، مدعومة بقوتها العسكرية- المنظمة العسكرية القومية (إتسل)، فضلا عن تخريبها بالقرض القومي. لقد بقي معظم الجهاز الكولونيالي للشرطة والبوليس السري والأقسام الحكومية الأخرى، وتواصلت السياسة غير الديمقراطية تجاه الشعب العربي.

وتقرر اللجنة المركزية أنه من أجل الدفاع عن مصالح جماهير الشعب العاملة، ومن أجل ضمان السيادة القومية والانتصار على الأعداء، ومن أجل بناء الجبهة القومية الديمقراطية وضمان نجاح التجنيد الشامل والكامل لجبهة الحرب – البلاد وخارجها – فإن هناك ضرورة عاجلة لتعزيز الحكومة المؤقتة بواسطة إضافة قوى تقدمية وانخراط الحزب الشيوعي فيها. وتناشد اللجنة المركزية كل القوى التقدمية في البلاد أن تدعم هذا المطلب وأن تناضل لتحقيقه.

الحزب الشيوعي الإسرائيلي
اللجنة المركزية

المصدر:
كول هعام، صحيفة الحزب الشيوعي الإسرائيلي الصادرة باللغة العبرية، 16 تموز (يوليو) 1948.

*
نقلاً عن: عرب ٤٨


محن الهوى

سلمان مصالحة || محن الهوى

الحُبُّ، هذا الَّذِي فِي القَلْبِ
يُخْتَزَنُ، مَا كَانَ لَوْلا الَّتِي
فِي لَحْظِهَا شَجَنُ.

لو كان بي أمل

سلمان مصالحة || لو كان بي أمل

لَوْ كَانَ بِي أَمَلٌ،
لاخْتَرْتُ أَنْ أَمْشِي
إِلَى الحُقُولِ الَّتِي نَامَتْ
عَلَى رِمْشِي.

سرب غيم


سلمان مصالحة || سرب غيم


تَقَلَّبَ نَاظِرِي فِي
سِرْبِ غَيَمٍ، تَنَاثَرَ مِنْ
سُلالاتِ الغُرُوبِ.

فَوَافَقَ نَبْضُهُ نَغَمًا
بِقَلْبِي، تَبَعْثَرَ فِي
التُّرَابِ عَلَى الدُّرُوبِ.

حوارات من أجل الغد


أرشيف (يوليو 2008): 

مقابلة تحوّلت إلى عراك

حوارات من أجل الغد


قبل سنوات اتّصل بي الدكتور أفنان القاسم مستفسرًا عن بعض القضايا. ثمّ لاحقًا طلب إجراء حوار يكون كتابيًّا ليتمّ تعميمه نشرًا في موقعه. ولمّا كنت أنشر آرائي على الملأ معبّرًا عن قناعاتي دون البحث عن شعبويّة عابرة، فقد وافقت على إجراء الحوار ونشره. ثمّ فوجئت بنشر المقابلة مع تقديم الدكتور أفنان القاسم يسبغ فيه عليّ نعوتًا مثل ”ضحية الفكر السائد“، وما إلى ذلك. فكتبت ردًّا على كلامه وتقديمه ونشرته في حينه أيضًا.

ها أنذا أعيد نشر الحوار والتقديم حرفيًّا، منقولاً عن جريدة “مصر الحرّة”، كما أعيد نشر مقالتي في الردّ على د. أفنان القاسم. وحينما أفعل ذلك فإنّما أفعله توثيقًا للكلام، ولكي يكون عقل القارئ النبيه هو الفصل في هذه القضايا التي لا زالت راهنيّة بعد مرور كلّ هذه السنوات.

عن الفتن النائمة وعن موقظيها

لقد آن الأوان أن نكفّ عن إبداء الاندهاش والاستغراب ممّا يجري في ربوعنا. لقد آن الأوان أن نغيّر ما بأنفسنا من مسبّبات الفتن. حقيقتنا المرّة هي أنّنا لن نصل إلى سواء السبيل ما لم نسأل أنفسنا السؤال الأكبر: من نحن؟

سلمان مصالحة ||


عن الفتن النائمة وعن موقظيها


بداية، لا مناص من طرح السؤال: لماذا نحن العرب نحبّ السبات؟ والجواب: لأنّنا إذا استيقظنا ونظرنا حولنا وجدنا أنّنا أكوامًا مكدّسة من الشراذم لا يجمع بيننا شيء، اللّهمّ سوى كلام الشعراء المعسول عن كوننا ننتمي إلى أمّة وحضارة واحدة. غير أنّ الحقيقة المرّة هي خلاف ذلك قطعًا. فكلّما هبّت ريح في الأصقاع العربية وحرّكت الرمال الهامدة كشفت تحت هذه الرّمال جمرًا متّقدًا. وهكذا، يكفي أن يلقي البعض منّا عودًا من أعواد ثقافتنا اليابسة والغارقة في السبات لكي تشتعل نيران الفرقة والشرذمة من جديد لتطال ألسنة هذه النيران الأخضر واليابس الذي ينوجد في جوارها.

لذلك، ومنذ القدم ورد وشاع في اللغة العربية قول منسوب للرسول العربي: ”الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها“. فماذا يعني هذا القول؟ لو تفكّرنا فيه مليًّا لوجدنا أنّنا، ومنذ أن شاع هذا القول على ألسنة الناس، نعرف أنّ هذه الفتنة كامنة بين ظهرانينا وهي فقط في حالة من السبات، ليس إلاّ. وبدل أن ننظر في الحيثيّات والمسبّبات لهذه الفتنة، وبدل أن نبحث عن إيجاد السبل للخروج من هذا المأزق البنيوي الذي نحن فيه، فإنّنا نفضّل الهرب من مواجهة هذه الحقيقة، ولا نملك غير الدعوة إلى العودة الـ”مباركة“ إلى هذا السبات المزمن. إنّه السّبات ذاته الذي يفسح المجال لحاملي رايات البلاغة العربية التليدة والبليدة، من صنف أولئك الذين يصمّون الآذان بكلام منشور، منثور ومقفّى، والّذي كثيرًا ما يعجّ بشعارات تدغدغ العواطف وتكرّس العيش في حالة الوهم العربي.

وهكذا، وعندما تنتشر هذه الشرارات في ربوعنا وتزداد معها حدّة النيران التي تبدأ بالتهام البشر والشجر والحجر في بلادنا، فإنّ بلاغة البلادة تزداد معها انتشارًا. وهكذا يسارع تجّار البلاغة إلى الإفصاح عن مفاجآت هذا الاكتشاف الذي ينخر عظام قُطّان هذه الديار. وفي غمرة الاكتشاف الجديد يضيفون شعارًا قديمًا-جديدًا إلى جعبة توصيفاتهم، فيصرخون على الملأ: ”الدين لله والوطن للجميع“.

يظنّ الّذين يرفعون هذا النوع من الشعارات، واهمين بالطبع، أنّهم بمجرّد رفعهم هذه الشعارات العاطفيّة فإنّ الفرج سرعان ما سيأتي على جناح هذه البلاغة العربية بعد كلّ هذه الشدائد المزمنة والمغرقة في القدم.

وسؤال آخر: هل عرف القرآن حقيقة العرب؟ هذا السؤال يتبادر إلى الذهن لدى النّظر في الآية الحادية عشرة من سورة الرعد، حيث ورد فيها: ”إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم“. فإذا جنحنا إلى وضع تفسير جديد لهذا القول، وذلك عملاً بمفهوم الصّلاح لكلّ زمان ومكان، فإنّ التفسير الجديد سيُحيلنا إلى استحالة التغيير في المجتمعات العربيّة دون أن يجنح الأفراد إلى النظر في دواخلهم بغية إصلاحها من الأدران الكامنة فيها. إنّ هذه الأدران الاجتماعية هي ذاتها تلك الفتنة النائمة التي ورد ذكر اللعنة على من يوقظها. فهل كلّ فرد منّا هو مشروع كامل متكامل من هذه الفتن النائمة في دواخلنا؟

وعلى هذه الخلفية، فإنّي وبخلاف الذين يدعون إلى الإبقاء على الفتنة نائمة، فإنّي أدعو بالذات إلى إيقاظها. نعم، أدعو إلى إيقاظها، ليس بمعنى تعزيز سلوكيات العداوة بين البشر، بل بمعنى الكلام صراحة عن هذه المحنة، الكامنة في دواخلنا. لأنّنا، إذا لم نجد في أنفسنا ما يكفي من الجرأة للحديث عن مشاريع الفتن هذه التي تنخر في دواخلنا، فلن نجد حلولاً لهذه المعضلات.

علينا أن نعترف أوّلاً، بيننا وبين أنفسنا، أنّ ثمّة أكثر من فتنة في دواخل مجتمعاتنا. حريّ بنا، أفرادًا، قبائل، طوائف ومجتمعات، أن نضع كلّ هذه الفتن تحت المساءلة اليومية. إنّ الميل العربي إلى الهرب من مواجهة الحقائق لن يوصلنا إلى سواء السبيل. لننظر إلى أنفسنا، ولننظر إلى أين أوصلتنا محاولاتنا الدائمة في الركون إلى السبات الدافئ في حضن شعاراتنا المدغدغة لعواطف هذه الأمّة المراهقة.


*

نشر: ”الحياة“، 20 نوڤمبر 2014

***




في أوسلو راحت القدس


أرشيف (1994): وذكّر إن نفعت الذكرى

*
خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين.


سلمان مصالحة ||

في أوسلو راحت القدس



لا شكّ أنّ الملك حسين حينما يمرّ بطائرته فوقنا هنا ميمّمًا نحو أوروپا ينظر من شبّاكه إلى ما يجري تحته. ولا شكّ أنّه حينما حلّق فوق القدس ليلقي نظرة على الملايين الّتي صرفها لترميم قبّة الصّخرة قد شاهد، بين ما شاهده، كلّ المعالم الجديدة لهذه المدينة المحتلّة. لا شكّ أنّه شاهد جميع المستوطنات الّتي أقيمت حول القدس لتحدق بها من جميع الجهات بغية فرض الأمر الواقع على هذه المدينة الّتي تصرّ إسرائيل على أنّها خارج المفاوضات. لقد شاهد كيف تحوّلت هذه المدينة المحتلّة تحت سياسة التّعمير والاستيطان إلى مدينة إسرائيليّة كبيرة، بحيث تحوّل الفلسطينيّون فيها إلى أقليّة. ولم تعد القدس العربيّة المحتلّة سوى حارة صغيرة ضمن حدود المدينة الكبرى.

خلال عقود طويلة من الزّمن لم تشكّل القدس سوى ضريبة كلاميّة على ألسنة الزّعماء العرب، وعلى ألسنة الزّعماء المسلمين. وإن لم يكن الأمر كذلك فكيف تفسّرون عدم اهتمام العرب والمسلمين بالقدس، فلم يقوموا بالبناء المكثّف في المدينة، ولم يقوموا بتطويرها لتصبح محجّة مزدهرة من النّاحية الحضاريّة والسكّانيّة. وهكذا ظلّت بعيدة عن أنظار النّاس، اللّهمّ إلاّ فيما ندر، وحتّى هذا النّادر كان نادرًا أيضًا.

ألا تلاحظون أنّ المصطلح الّذي يُطلق على القادة في العالم العربيّ، أعني، لقب »الزّعماء العرب« قد اشتقّ من الزّعامة الّتي اشتقّت من الزّعم. فهؤلاء الزّعماء في الحقيقة يزعمون أنّهم يمثّلون الجماهير العربيّة، ويزعمون أنّهم يسهرون على مصالحها. وهم يزعمون أيضًا، مثلما زعموا دائمًا، أنّهم يهتمّون بمدينة القدس. والحقيقة كما يعلم ذوو البصائر هي غير ما يزعمون.

لقد مضى عام على اتّفاق أوسلو بين منظّمة التّحرير وبين إسرائيل، وكانت مسألة القدس من أهمّ النّقاط الّتي استثناها هذا الاتّفاق، بين ما استثناه من نقاط جوهريّة أخرى. لم تكن ثمّ طريق أمام الزّعامة الفلسطينيّة سوى طريق الاختيار بين الانهيار التّام، أو إنقاذ نفسها إلى أجل مسمّى والوقوع في الفخّ الّذي نُصب لها في غزّة وأريحا.

وهكذا، اكتملت خيوط اللّعبة الإسرائيليّة مع الأردنّ، وربّما مع دول عربيّة أخرى. ألا تذكرون كيف كان رابين وپيرس يحثّان عرفات على القدوم إلى غزّة بعد أن تباطأ الأخير في تونس. فقد كان الفخّ منصوبًا وحاضرًا للإطباق عليه. وهكذا أسرع الملك حسين بعد ذلك لالتقاط عظمة الإشراف على الأماكن المقدّسة في القدس العربيّة المحتلّة، لأنّ هذه العظمة هي الّتي تهمّه، وذلك لأسبابه الخاصّة التّاريخيّة مع العائلة المالكة في شبه الجزيرة العربيّة.

وبالنّسبة لإسرائيل، على الرّغم من بعض الأصوات الّتي ندّدت بمنح الأردن حقّ الإشراف على الحرم القدسيّ، فلم يتغيّر شيء على أرض الواقع وبقيت هي المسيطرة على القدس بكاملها.

والآن، ستحاول الحكومة الإسرائيليّة بكلّ ما أوتيت من حنكتها السياسيّة أن تُنهي جميع بنود الاتّفاق مع الأردن، وربّما مع دول أخرى مرجئة قضيّة القدس مرّة أخرى إلى أجل آخر. وبعد أن يتمّ كلّ ذلك، هل سيبقى أمام الزّعامة الفلسطينيّة أيّ وسيلة للضغط على إسرائيل بالتّراجع عن مواقفها المتزمّتة بشأن القدس؟ في الواقع، أشكّ في ذلك كثيرًا.

هنالك جانب آخر لعدم الاهتمام بالقدس، ليس فقط على الصعيد السياسيّ بل على الصّعيد الثّقافي والحضاري الجماهيري. في الآونة الأخيرة بدأت تنتقل النّشاطات الثّقافيّة إلى رام اللّه، وقلّما تجري أيّ فعاليّات ثقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة. قد يكون ذلك قد نشأ بسبب الطّوق الّذي فرضته إسرائيل على القدس المحتلّة أمام سكّان الضّفة والقطاع، لكن أليس من حقّنا أن نتساءل عن هذا القبول بالأمر الواقع الإسرائيلي. ثمّ أليس من واجب الفنّانين والمثقّفين ورجال الفكر الفلسطينيّين أن يجعلوا من القدس عاصمة ثقافيّة للشّعب الفلسطيني.

إنّ انعدام النّشاطات الثّقافيّة في القدس العربيّة المحتلّة الّتي من شأنها أن تستقطب جماهير كثيرة ووضع القدس في سلّم الأولويات الحضاريّة لهو مسمار آخر يدقّ في تابوت القدس العربيّة المحتلّة. وإن لم يتمّ تدارك ذلك الآن ستتحوّل القدس العربيّة المحتلّة إلى حارة مهملة في مدينة إسرائيليّة، على غرار يافا، وعكّا، أو ربّما أكثر من ذلك. هل تتذكّرون غرناطة؟

فليكتب الشّعراء القصائد العصماء.
*
نشرت: كل العرب، 16 سبتمبر 1994





أپرتهايد



كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

قبل أن يستفيق الـ”مفكّرون” والـ”منظّرون” ومن لفّ لفّهم واقتفى خُفّهم أو ضربَ دَفّهم، كنت قد أشرت إلى حالنا هنا، وحاولت التنبيه إلى ما يُحاك لنا في هذه البلاد.

أرشيف: مقالة نشرت في 10 ديسمبر 1993

*

عن الأدب وعن قلّته

أرشيف- قبل ربع قرن تقريبًا:


أعيد نشر هذه المقالة التي كانت قد نشرت قبل عقدين ونصف تقريبًا، وقد أثارت في ذلك الوقت جدلاً حادًّا. لعلّ ما ورد فيها لا يزال يسري على هذه الساحة الأدبية في الوقت الحالي أيضًا.

سلمان مصالحة || عن الأدب وعن قلّته


هل هنالك مخرج من المآزق العربيّة؟


فإذا كانت العروبة جامعة لأطياف ومذاهب ومعتقدات دينية مختلفة، فما معنى أن يكون المرء عربيًّا، إذن؟ إنّ من يؤمن بوحدة هذه الأمّة وبحضارتها لا يمكن أن يكون إلاّ علمانيًّا، أو لا دينيًّا. إذ أنّه بدون ذلك ستفقد عروبته كلّ معانيها...

سلمان مصالحة ||

هل هنالك مخرج من المآزق العربيّة؟


الكتابة في الشأن السياسي العربي هي عمليّة محبطة للغاية. إذ إنّ حال من يمارس الكتابة في هذه الأمور شبيهة بحال من يدور في حلقة مفرغة. فلقد قيل كلّ شيء عن الدولة وعن المواطنة وعن الثورة وعن الاشتراكية. لقد قيل وكتب كلّ شيء عن الاستعمار، وعن الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر. لقد قيل وكتب كلّ شيء عن العروبة وعن الإسلام. لقد قيل وكتب كلّ شيء وتمّ اجترار كلّ هذا الكلام على طول العالم العربي وعرضه. ولكن، ويا للعجب، لم يأت كلّ هذا الكلام بأيّ نتيجة. فيا للعجب، ما هو السبب؟

في الواقع، هنالك قوى كبرى وحقائق ضاربة جذورها في هذه البقعة من الأرض تُسيّر المجتمعات العربيّة بعيدًا عن أوهام وشعارات الكتّاب. ومن الملاحظ أنّ الكتّاب العرب قلّما يتطرّقون إلى هذه الحقائق، وبدل ذلك يختارون السباحة في وهم شعارات برّاقة تدغدغ العواطف في المجتمعات الذكوريّة العربية. إنّ ارتفاع نبرة ووتيرة الكلام عن الأمجاد الماضويّة وطوال عقود طويلة كان أكبر شاهد على عقم وعياء الحال العربيّة الرّاهنة. لقد شكّل الهرب إلى الماضي في كتابات العروبيّين أو الإسلامويّين هربًا من مواجهة التحدّيات التي تواجه الجماهير في هذا العصر.

ففي غمرة الانتشاء بالشعارات البرّاقة، لم ينتبه هؤلاء إلى أنّهم يناقضون أنفسهم في طروحاتهم. لم ينتبه هؤلاء إلى أنّهم يقفون في خندق يتناقض مع شعاراتهم الشعبويّة الّتي طالما اجترّوها. وما من شكّ في أنّ أكبر هذه الشعارات الشعبويّة، التي شكّلت كواتم عقول على رؤوس رافعيها ومنذ عشرات السنين، كان شعار فلسطين.

”مجنون يحكي وعاقل يسمع“، كما يقال في لهجتنا. فالوحدوي العروبي الذي يتحدّث، على سبيل المثال، عن تحرير فلسطين. على ماذا يستند في دعواه هذه؟ عن حقّ الشعوب في تقرير المصير؟ حسنًا. إذا كان الأمر كذلك، فماذا تعني الوحدويّة والعروبة، إذن؟ ولماذا تقرير مصير لشريحة هي جزء من كيان أكبر، أي العروبة؟ ولماذا، والحال هذه، لم يتوقّف ذلك العروبي والوحدوي عن الإصرار على خاصيّته المصرية، السورية، العراقية، التونسية وغيرها من الهويّات الإقليمية. وإذا كان مؤمنًا بحقّ بما يتلفّظ به، فلماذا لا يطالب بحلّ وتفكيك كلّ تلك الدول وصهرها في كيان عروبي واحد؟ وإذا لم يفعل ذلك ويرفع شعار تفكيك دولته الوطنيّة بغية الوصول إلى الوحدة، فإنّ كلّ شعاراته عن فلسطين مستقلّة تفقد معناها، إن لم نقل إنّها كانت كاذبة أصلاً جملة وتفصيلاً.

وإذا انتقلنا إلى شعارات الإسلامويّين، فماذا نجد؟ إنّ حال هؤلاء هي على ذات المنوال. فالإسلاموي الذي يقول: ”طزّ في مصر“، على سنّة مرشد الإخوان، فإنّ هذا الـ ”طزّ“ لا شكّ ينسحب على سائر البلدان، بدءًا بفلسطين وانتهاءً بالعراق، سورية أو لبنان والسّودان. وإذا كان يؤمن بذلك حقًّا، فليصرّح بذلك علانية، وعليه أن يتحمّل كامل المسؤوليّة عن عواقب شعاراته.

الحقيقة المرّة هي أنّنا، نحن العرب، كثيرًا ما نتهرّب من مواجهة الأسئلة الحقيقية التي يتوجّل علينا الإجابة عليها. إنّ السؤال الأكبر الذي يجدر بنا الإجابة عليه هو: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟

لا مناص من طرح السؤال، ولا مناص من القيام بمحاولة جدّية للإجابة عليه. فكُلّ من يدّعي الانتماء لهذه الشريحة البشرية المسمّاة عربًا، لزامٌ عليه أن يشرح لنا بصراحة معنى هذا الانتماء كما يراه. إذ أنّنا، وإزاء ما نشاهد في الأعوام الأخيرة في البقاع التي يقطنها العرب، نُصدم من رؤية الشعارات الجوفاء التي شببنا وترعرعنا عليها وشبعنا من ترديدها قد فقدت كلّ معانيها. كلّ هذه الشعارات لم تعد تنطلي على أحد من أبناء هذه البقعة من الأرض.

لا بدّ من وضع علامات الاستفهام حول معنى المصطلحات الدارجة على ألسننا في هذا السياق. فمنذ أن نشأنا وجدنا أنفسننا أمام هذه الثنائية الوجودية المشطورة بين ”عرب“ من جهة، و”مسلمين“ من جهة أخرى. غير أنّ ”العربيّ“ سابقٌ وجودًا وحضارةً لوجود ”المسلم“ وحضارته.

صحيح أنّ الإسلام طغى على بقاع واسعة من الأرض غير أنّه لم يستطع صهر الأقوام والأمم في بوتقة واحدة جامعة للهويّات الإثنية الحضارية. فقد ظلّ الفارسيّ فارسيًّا، والتركيّ تركيًّا، والكرديّ كرديًّا والهنديّ هنديًّا بلغاتهم وحضاراتهم، رغم إسلام كلّ هؤلاء وأمثالهم. وكذا هي الحال مع الـ”عرب“ بوصفهم قومًا في بقعة جغرافية واحدة. فلم تكن العروبة في يوم من الأيّام جامعة لكلّ تشعّبات هذه الشرائح البشرية العربية التي يُفترض أنّها تنتمي لهوية واحدة. إذ أنّ العصبيّة القبليّة هي التي تُحدّد مسير ومصير الأفراد ضمن المجموعة وتحدّد مسيرها ومصيرها تجاه المجموعات القبلية الأخرى.

فإذا كانت العروبة جامعة لأطياف ومذاهب ومعتقدات دينية مختلفة، فما معنى أن يكون المرء عربيًّا، إذن؟ إنّ من يؤمن بوحدة هذه الأمّة وبحضارتها لا يمكن أن يكون إلاّ علمانيًّا، أو لا دينيًّا. إذ أنّه بدون ذلك ستفقد عروبته كلّ معانيها. فإذا كانت عقيدته الدينيّة، المذهبيّه والطائفيّة تقف في الصّدارة، فلا معنى للعروبة التي يتشدّق بها. إذ إنّ الذي ينتمي لمذهب وطائفة مختلفة سيجد نفسه خارج هذه الهويّة المتصدّرة. هكذا يحدث الشّرخ ويبدأ الانشقاق في هذه المجتمعات. إنّ أنظمة الاستبداد في العالم العربي لم تُعط إجابات على هذه الأسئلة الوجوديّة. إنّها فقط كنست هذه المآزق ووضعهتا تحت بساط الاستبداد. لذلك، فعندما يتضعضع الاستبداد قليلاً تطفو كلّ هذه القضايا على السطوح العربيّة. وفي الحقيقة هذا ما نلمسه جميعًا من تفسّخ مجتمعي على طول وعرض العالم العربي بأسره في السنوات الأخيرة.

لهذا السبب، وبغية الخروج من المآزق العربيّة، لا مناص من مواجهة هذه الأسئلة المستعصية بعقول منفتحة وبالنّظر إلى حقائق هذه المجتمعات وعدم الهرب إلى شعارات بائتة واتّهام العالم أجمع بالمآسي العربيّة، دون النّظر ولو مرّة واحدة إلى أنفسنا في المرآة.


*

نشر: ”الحياة“، 5 نوفمبر 2014

***




مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم

أرشيف: مقالة نشرت في صحيفة الحياة، سنة 2001

كثيرا ما يقال ان أذرع الصهيونية الطويلة قد طالت كل مراكز القوى الاعلامية الغربية حتى بات من العسير اختراقها أو تحويل وجهتها العدائية.
 
سلمان مصالحة ||
مسؤولية العرب عن النظرة النمطية إليهم

بعض ناس

سلمان مصالحة || 

بعض ناس



سَئِمْتُ لِرُؤْيَتِي بَعْضَ الأُنَاسِ
يُحِبُّونَ المَناصِبَ وَالكَرَاسِي.

فَإنْ هُدِمَتْ مَجَالِسُ قَدْ عَلاهَا
تَحَوَّلَ لِلقَرِيضِ، كَمَنْ يُقاسِي.

يَظُنُّ التَّيْسُ أَنَّ الشِّعْرَ حَقْلٌ
يَدِرُّ جَوَاهِرًا أَوْ بَعْضَ مَاسِ.

فَلا يَدْرِي بِأَنَّ القَوْلَ سِرٌّ
ثَوَى فِي قَلْبِ مَنْ دُنْيَاهُ آسِ.

وَلَيْسَ الشِّعْرُ جَاهًا يَحْتَوِيهِ.
وَلكِنْ، صَرْخَةٌ مِنْ قَحْفِ رَاسِ.

بِهَا أَلَمٌ، تَخَمَّرَ فِي اللَّيَالِي.
يُرَجِّعُ مَا انْطَوَى حِقَبًا بِيَاسِ.

فَمَنْ نَشَدَ الكَلامَ، فَإنَّ فِيهِ
شِعَابًا لا تُرَامُ بِلا مِرَاسِ.

لَقَدْ كَثُرَ النَّخِيلُ، وَقَلَّ تَمْرٌ.
وَخَيُرُ التَّمْرِ يُثْمِرُ فِي الغِرَاسِ.

فَمَنْ يَبْغِي القَصِيدَ، حَذَارِ مِنْهُ
فَإنَّ القَوْلَ يُقْرَبُ فِي احْتِراسِ.

وَبَعْضُ قَصِيدَةٍ خَيْرٌ لِقَوْمٍ
مِنَ الأَقْوَالِ تُدْلَقُ كَالمَآسِي.

*

والعقل وليّ التوفيق!

رجاء بن سلامة || الغنوشي وابن رشد




 هل مؤسّسة ابن رشد قطريّة وإخوانيّة الهوى؟

رجاء بن سلامة تتساءل: أتسندون جائزة ابن رشد لمن يفضّل النّقل على العقل؟

رجاء بن سلامة || الغنوشي وابن رشد

لغة أُم، أَمْ لغة ابن عمّ؟


يتّضح أنّ اللغة العربية الفصحى مختلفة جدًّا لدى الأطفال العرب عن لغة الأم المحكية، لدرجة أنّ الجهاز الدماغي الذي يتعامل مع استيعاب اللغة ينظر إلى اللغة العربيّة الفصحى كلغة ثانية، وليس كلغة أولى، كلغة أمّ...

سلمان مصالحة ||

لغة أُم، أَمْ لغة ابن عمّ؟


في العقود الأخيرة اتّسعت رقعة الأبحاث البسيكو-لغويّة التي تتطرّق إلى اللغة العربية ومقارنتها مع لغات شعوب أخرى. ويبدو أنّ المقولة الشعبية العربيّة التي تقول: ”فلان بيعرف يفكّ الحرف“، لها ما تستند إليه في الدماغ. فقبل سنوات أُجري بحث مقارن بين القراءة باللغة العربية وبين القراءة باللغة الفرنسية، حيث تمّ فحص حركات عيون القرّاء المشاركين في البحث خلال قراءة نصّ معيّن. لقد كان النصّ هو ذاته من ناحية المضمون، لكنّه مكتوب باللغتين، العربية والفرنسية. أمّا من ناحية عدد الكلمات فقد كان النصّ المكتوب باللغة العربية أقصر من النصّ المكتوب بالفرنسية بسبب الطبيعة المورفولوجيّة للغة العربيّة. اكتشف الباحثون أنّه، وعلى الرغم من قصر النصّ العربيّ، فإنّ الزّمن الذي استغرقته قراءة النصّ بالعربيّة كان مشابهًا لزمن قراءة النصّ بالفرنسية. لقد تبيّن للباحثين أن السبب من وراء ذلك هو أنّ زمن مكوث بصر القارئ العربي على الكلمات في اللغة العربية كان أطول من مكوثه على الكلمات في اللغة الفرنسية.

يُشار إلى أنّ عمليّة القراءة تمرّ بعدّة مراحل لاستنباط المعلومات وفهم النصّ. المرحلة الأولى هي عملية استيعاب الرموز، وهي رسوم وأشكال الحروف، ثمّ مرحلة استخراج أصوات تلك الرموز في القراءة الصائتة، أي منطوقها. أمّا الكلمات فتتشكّل من تلك الأشكال والأصوات المجتمعة التي تنتظم معًا في جملة تفيد مقولة بالاستناد إلى قواعد ونحو اللغة. عندما تسير هذه العملية في الدماغ بسلاسة، أكانت هذه قراءة صائتة أو صامتة، تتحقّق القراءة الناجعة دون بذل مجهود كبير.

على ما يبدو، فإنّ السبب لمكوث البصر زمنًا أطول على الكلمات في العربية منه عليها في الفرنسية يعود إلى طبيعة اللغة العربية، أي إلى طبيعة الحروف التي تُكتب بها العربية. فالحروف العربية يتّصل بعضها ببعض من جهة، ويختلف رسمها استنادًا إلى موقعها، في بداية، أو وسط أو آخر الكلمة. وفوق كلّ ذلك، فإنّ حروفًا عربيّة كثيرة لا تختلف من ناحية الرسم بشيء تقريبًا. إذ، هنالك فقط نقاط تميّز بعضها عن بعض، مثال الباء والتاء والثاء، أو الجيم والحاء والخاء وغيرها. لذلك، فلدى عملية القراءة تتركّز العين في محاولات لـ”فكّ الحروف“، فتبحث عمّا يميزها عن بعضها فلا تعثر إلاّ على نقطة صغيرة هنا وهناك فوق أو تحت الحرف مثلاً. لا شكّ أنّ هذه الخاصيّة للغة تدفع بالقارئ إلى بذل مجهود بصريّ أكبر ممّا هو قائم في لغات أخرى غير متّصلة الحروف والتي تنماز أشكال حروفها عن بعضها بوضوح أكبر بكثير.

إنّ بحثًا سابقًا كان قد أجري على أطفال في الصفّ الأوّل الابتدائي من متكلّمي العربية من جهة، ومن متكلّمي اللغتين الروسية والعبريّة من جهة أخرى، قد كشف أنّ القدرات اللغوية للأطفال العرب في اللغة العربية الفصحى مشابهة لقدرات الأطفال اليهود ثنائيي اللغة، متكلّمي الروسيّة كلغة أم والعبريّة كلغة ثانية. ويتّضح من ذلك أنّ اللغة العربية الفصحى مختلفة جدًّا لدى الأطفال العرب عن لغة الأم المحكية، لدرجة أنّ الجهاز الدماغي الذي يتعامل مع استيعاب اللغة ينظر إلى اللغة العربيّة الفصحى كلغة ثانية، وليس كلغة أولى، كلغة أمّ.

مؤخّرًا أجري بحث جديد في إسرائيل من قبل جامعة حيفا والمركز القطري للامتحانات، شارك فيه هذه المرّة طلاب جامعيون، عربًا ويهودًا. ويتبيّن من هذا البحث أنّ ثمّة فروقًا واضحة، فيما يتعلّق بنجاعة قراءة النصوص بلغة الأم، بين متكلّمي العبرية ومتكلّمي العربية في الأجيال المتقدّمة. فلدى قراءة نصّ مكوّن من 200 كلمة - واحد بالعبرية وآخر بالعربية - استغرقت القراءة العربية من متكلّمي العربية وقتًا أطول من قراءة النصّ بالعبرية لدى متكلّمي العبرية. هذا المكتشف يتماشى مع مكتشفات البحث المشار إليه مسبقًا عن فروق زمن قراءة العربية والفرنسية.

يتّضح من الأبحاث الأخيرة في هذه المسألة أنّ ثمّة فروقًا جوهرية بين متكلّمي اللغتين في مسألة نجاعة القراءة، فقرّاء العبرية يقرؤون بصورة أسرع وأكثر دقّة من متكلّمي العربية. يجدر التأكيد هنا على أنّ هذه الفروق بين المشاركين في البحث لا علاقة لها بالقدرات الإدراكيّة للطلاب، وإنّما مردّها لأسباب أخرى.

بالطبع، يمكن عزو هذه الفروق أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر إلى حالة الفصام اللغوي لدى الطالب العربي على العموم، وهي حالة فصام لغوي قائمة على طول وعرض العالم العربي بأسره. أيّ إنّ الطالب العربيّ ومنذ سني الدراسة الابتدائية ينتقل من لغة أمّه المحكيّة في البيت إلى لغة الكتاب المدرسي التي تختلف كليًّا عمّا سمعه في بيئته، من ناحية المفردات ومن ناحية النحو وقواعد اللغة. هذه الحال، مع ما تحمله من أشكاليات، تستمرّ معه على طول مسيرته الحياتية.

ما من شكّ في أنّ لهذه الحالة من الفصام اللغوي البنيوي لدى متكلّمي العربية إسقاطات كثيرة وبالغة الأهميّة في مراحل متقدّمة من حياة التلميذ، فهي ذات تأثير بالغ على مسارات امتلاكه للمدارك والمعارف، معالجتها وتحليلها بلغته العربية التي يُفترض أنّها لغة أمّه، لكن يتّضح أنّها ليست كذلك. وإذا أخذنا بالحسبان أنّ كلّ العلوم الطبيعية والإنسانية، على قلّتها في اللغة العربية، تكتب باللغة الفصحى، وفي الوقت ذاته نعلم مدى مأساوية الوضع القرائي في صفوف الجمهور العربي، فإنّ الفقر اللغوي يصبح عائقًا بنيويًّا إضافيًّا لا يستطيع معه الفرد العربي أن يبدع شيئًا في فروع العلوم يكون ذا قيمة علميّة بلغة أمّه. إنّه، والحال هذه، لا يمتلك الأدوات اللغوية ولا الكنوز اللغويّة الملائمة التي قد تتيح له إمكانية الإبداع الفكري والعلمي في المجالات المعرفيّة.

في السنوات الأخيرة شهد العالم طفرة معلوماتية رقمية شكّلت ثورة شاملة في عمليّة القراءة. رويدًا رويدًا طفت على السطح طريقة القراءة الرقمية بعيدًا عن رائحة الحبر والورق. غير أنّ هذه النعمة المعلوماتية أضحت نقمة على القارئ العربي. إذ يُلاحظ وجود فوضى عارمة فيما يخصّ اللغة العربية في الإنترنت وفي وسائل الاتّصال العصرية. هنالك عدم اهتمام فاضح في جمالية وفي مدى وضوح الحرف العربي في هذه التقنيّات الحديثة. وبالمقارنة مع اللغات الأخرى، فإنّ الوضع اللغوي العربي في الإنترنت على سبيل المثال، هو وضع مأساوي، وقد آن الأوان لتصحيحه. إذ أنّ حروف الـ“ويندوز“ الأساسية بالعربية مقارنة بالإنكليزية، على سبيل المثال، هي من أقبح ما يكون، وحينما تُشكل الحروف فإنّ الضمّة، والشدّة والتنوين وسائر الحركات تتداخل مع الحروف فتزيد الطين بلّة. كما إنّ المشكلة تتضاعف لعدم إمكانية استبدال هذه الحروف، لأنّها جزء من بنية النظام.

وهكذا، فعندما يدور الحديث عن القراءة باللغة العربية الرقميّة مقارنة باللغات الأخرى، فإنّ الوضع العربي يزداد عواصة لما ذكرنا آنفًا. كما يُلاحظ أنّ هنالك من يعتقد أنّه يريد أن يتميّز عن غيره باختيار خطّ خاصّ به مختلف عن سائر المواقع والصحف. لكنّه في خضمّ بحثه عن التميّز ينسى أنّ القارئ بحاجة إلى حرف عربيّ واضح ونقيّ مريح للبصر لدى القراءة، خاصّة إذا أُضيفت الحركات لمنع الالتباس في القراءة العربية. وهكذا نجد الكثير من المواقع العربية تضع خطوطًا قبيحة، غير مقروءة ومنهكة للبصر.

لهذا السبب، ولأسباب كثيرة أخرى لها علاقة بالأبحاث المذكورة آنفًا، هنالك حاجة ملحّة إلى إجراء بحوث مستفيضة في هذه المجالات بغية وضع خطط للخروج من هذا المأزق اللغوي الذي وجدت الأجيال العربية نفسها فيه. لقد آن الأوان لوضع حدّ لهذه الفوضى اللغوية، لكي يسهل على القارئ العربي أن يقوم بعملية ”فكّ الحرف“ بسهولة.
*
نشر: الحياة، 22 أكتوبر 2014




قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!