صراط الفلسطيني المستقيم



سلمان مصالحة

صراط الفلسطيني المستقيم


هذا ما حدث لي
قبل عقد ونيّف من الزّمان. لقد حدث ذلك بالتّحديد في صيف العام 1996، حيث كنت مدعوًّا للمشاركة في مهرجان الشّعر العالمي الّذي يجري في مدينة روطردام الهولنديّة كلّ عام، وتلتئم فيه جمهرة من الشّعراء القادمين من أماكن مختلفة من العالم. وفي ذات العام أيضًا شارك في المهرجان صديقي الشّاعر الإسرائيلي يتسحاق لاؤور، وتصادف أيضًا أن شارك في تلك السّنة شاعر مصريّ (لن أذكر اسمه هنا، فليس هذا هو المهمّ) في ذات المهرجان في تلك السّنة. بعد يوم، على ما أتذكّر الآن، من المشاركة في أنشطة المهرجان أسرّ لي يتسحاق لاؤور بأنّ الشّاعر المصريّ يتهرّب منه ومن لقائه ومن الحديث معه، حتّى إنّه يترك المجموعة عندما يقترب لاؤور منها. بعد سماع ما جرى، قرّرت ألاّ أترك الأمور على هذه الحال، فبادرت إلى عقد جلسة ثلاثيّة تضمّني والشّاعر المصري ذاته إضافة إلى يتسحاق لاؤور.

سألت الشّاعر المصريّ: "لماذا تتهرّب من يتسحاق ولا تتحدّث معه؟" فأجاب: "هنالك قرار رسمي من اتّحاد الكتّاب بعدم الحديث مع الإسرائيليّين". سألته ثانية: "هل تعرف من هو يتسحاق لاؤور؟ هل قرأت شيئًا ممّا يكتب؟ ما هي مواقفه، آراؤه، أو شيئًا من هذا القبيل؟" أجاب حضرته: "لا، لا أعرفه، ومش مهمّ، لأنّ القرار هو قرار رسمي وهو ملزم". قلتُ له: "هل تعرف أنّ يتسحاق لاؤور هذا الّذي تتهرّب من لقائه هو أكثر فلسطينيّة من كثير من الفلسطينيّين الّذين تعرفهم، وقد يكون أكثر عروبةً وأكثر مناوءة للإمپرياليّة من كثير من كُتّاب "اتّحادات كتّابكم"؟ فردّ جنابُه: "القرار هوا قرار رسمي وهو ملزم للجميع". بعد أن يئست من هذا "المنطق" توجّهت إليه قائلاً: "إذا كنت ملتزمًا بالرّسميّات، إذنْ فالتزم بها للنّهاية ولا تتحدّث إليّ أنا أيضًا، فإنّي أخشى عليك أن تكون قد خالفت قرارات اتّحادكم الرّسميّة، فها أنذا أيضًا أحمل الجواز الإسرائيلي. ما العمل، فقد ولدت في إسرائيل وأحمل جواز السّفر الإسرائيلي، وربّما من النّاحية الرّسميّة لا يجوز لك الحديث معي أيضًا". في هذه اللّحظة رأيت الارتباك قد علا وجهه، وعندما تمالك نفسه قال: "أنت عربيّ وهذا أمر مختلف". قلتُ له: "يا أخ، قرّرْ ماذا تريد. إذا رغبت في الالتزام بالرّسميّات والشّكليّات وبنودها، فها هو جواز سفري الإسرائيلي، وإذا تصرّفت بخلاف ذلك معي فقط لمجرّد كوني عربيًّا، بخلاف يتسحاق لمجرّد كونه يهوديًّا دون أن تعرف من هو، ماذا يكتب وما يمثّله أصلاً، فإنّ تصرُّفك نابع من أسباب عنصريّة فقط. ولا يوجد أيّ تفسير آخر". وهكذا انتهى هذا الاجتماع الثّلاثي، وفهمت لاحقًا من يتسحاق لاؤور أنّ الشّاعر المصريّ قد غيّر سلوكه بعد تلك الجلسة ولم يعد يتهرّب منه.
تذكّرتُ هذه الحادثة الآن،
بعد أن قرأت عن هذا اللّغط العربيّ الجديد، حول كتاب صادر بالإنكليزيّة بعنوان "مدينة: قصص مدن من الشرق الأوسط" هو عبارة عن أنثولوجية قصصيّة مترجمة للإنكليزيّة موضوعها المدن، وقد أعدّته شاعرة وناشطة إيروسيّة لبنانيّة تعمل في مجال الصّحافة الأدبيّة. إنّ ما أثار هذا اللّغط الجديد -القديم، هو مشاركة الكاتب والشّاعر الإسرائيلي يتسحاق لاؤور بقصّة قصيرة ممثّلة لمدينة تل-أبيب في هذه الأنثولوجية المدائنيّة.

مرّة أخرى يقوم البعض الّذي يتزيّى على الملأ بوصفه حاملاً لمبادئ وأصول وثوابت وأشباه هذا الكلام، ومن خلال هذا البعبع الّذي يُطلقون عليه مصطلح "التّطبيع" للظّهور بمظهر المنافحين عن "الأمّة العربيّة" أمام هذا الخطر الإسرائيلي المتمثّل ليس فقط بترجمة أعمال أدبيّة عبريّة للّغة العربيّة، إنّما الوضع الآن هو مشاركة مع كاتب إسرائيلي في أنثولوجيا إنكليزيّة.
"تسلُّل إسرائيلي إلى اللاّوعي العربي"،
هذا هو العنوان الّذي تصدّر مقالة نجوان درويش، مراسل صحيفة "الأخبار" اللّبنانيّة، المقرّبة من حزب الله، يوم السّبت الفائت. قرأت المقالة غير أنّي لم أفهم كيف يكون هذا التّسلُّل، هذا اللاّ وعي. أحاول أن أفهم، هل اللاّوعي العربي هو لاوعي إنكليزي "واحنا مش فاهمين"، كما يُقال بعاميّتنا. وإلاّ كيف يكون التّسلُّل إلى هذا "اللاّوعي العربي" عبر ترجمة للإنكليزيّة؟ هذا ناهيك عن أنّ افتراض وجود "لاوعي عربيّ" يحمل في طيّاته افتراضًا آخر هو وجودُ وعيٍ عربيّ قبلُ، وهذا الافتراض أصلاً هو فرية كبيرة بلا أدنى شكّ.

على ما يبدو، لن تشفع للكاتب لاؤور مواقفه المعارضة للصّهيونيّة الفاضحة لممارساتها علانية وفي كلّ منبر متاح له، هنا في إسرائيل مثلما هي الحال خارج إسرائيل. لن يشفع له أيّ شيء لدى هؤلاء لسبب لا علاقة له بالتّطبيع وما شابه ذلك من هذه الشّعارات. وهكذا يمضي المراسل في خطابه: "لكنّ العجيب أنّ تقدّمية بعض الكتّاب الإسرائيليين أصبحت تُتخذ ذريعة لتمرير إسرائيل وإدخالها في الوعي العربي، كجزء طبيعي من المنطقة". أه، الآن فهمنا كلّ ما في الأمر. لقد تسلّلت إسرائيل في البداية إلى "اللاّوعي العربي" وها هي الآن تدخل في "الوعي العربي". يا لها من خيوط مؤامرة صهيونيّة إمپرياليّة شائكة تنقضّ على كلا الوعيين "الوعي واللاّوعي العربيّين"!

وإذا كان لا بدّ من كلّ ذلك، يحاول المراسل التّخفيف من حدّة الصّدمة الإسرائيليّة على "الوعي العربي"، فهو يضيف: "من الممكن مثلاً، أن يُشرك لاؤور في كتاب يتحدث عن الاحتلال الإسرائيلي أو إرهاب الدولة العبرية، أو فاشية المجتمع الإسرائيلي المتصاعدة؛ لا في كتاب عادي يتحدث عن «مدينة تل أبيب". ثمّ ينهي خطبته بالتّعبير عن قلقه الكبير إزاء هذه المؤامرات المُحاكَة: "ومن المقلق أيضاً أن يمرّ كتاب كهذا على وعي هذه النخبة من الكتّاب العرب الذين قبلوا بسرد قصص مدنهم مع قصة تل أبيب في إطار واحد يشي بقبولها مدينةً طبيعيةً في «الشرق الأوسط». (عن الأخبار: 25 أكتوبر، 2008)
نعم، الحقيقة أنّ تل أبيب
ليست "مدينة طبيعيّة في الشّرق الأوسط". إنّها تختلف تمامًا عن مدن الشّرق الأوسط الّتي تخشى ممّا تمثّله هذه المدينة من حريّة على جميع الأصعدة. لو كانت متطبّعة بطباع الشّرق الأوسط لكانت حظرت بيع كتب يتسحاق لاؤور وغيره، كما تفعل المدن العربيّة بكتب الكتّاب والشّعراء العرب. لو كانت مدينة طبيعيّة ومتطبّعة بطباع الشّرق العربي، على سبيل المثال، لما كانت خرجت فيها أكبر مظاهرة في الشّرق الأوسط إثر مجزرة صبرا وشاتيلا. وهاكم بعض المقاطع من قصيدة "أشلاء أرض" ليتسحاق لاؤور من حرب لبنان في ذات العام 1982: "والآن في هذا اللّيل في تل أبيب القاصفة أقوم / إلى المطبخ أفتحُ فيه الضّوء فأسمعُ الطّفل / يبكي في البيت المقابل وصوت أمّه الحنونة تُهدّئ روعَهُ / فأتنازلُ عن أصوات المُداعَبَة تحت في الشّارع وعن السّعال /... / أُغربلُ هذه الأصوات، حتّى صوتُ أنفاسِكِ / أبقى فقط مع صراخ / الأطفال في بيروت الغربيّة".

حقًّا، لو أنّ تل أبيب كانت متطبّعة بطباع الشّرق الأوسط لكانت صمتت على كلّ ذلك، مثلما صمتت وتصمت كلّ تلك المدن في الشّرق الأوسط في الماضي والحاضر على المجازر الّتي تُنفّذ في العراق، وفي دارفور أو تلك الّتي تنفّذ في لبنان ذاته، بلد الصّحيفة ذاتها، وشرقًا منها ومنه.

لست هنا بصدد الدّفاع عن تل أبيب، لأنّي في الحقيقة بدأت أخشى في السّنوات الأخيرة من انضمام هذه المدينة وغيرها هنا إلى هذه الذهنيّة العنصريّة لهذا الشّرق الآسن بعنصريّاته على اختلاف مشاربها. بذلك قد يكون هذا هو التّطبيع الحقيقي لهذه المدينة مع هذا الشّرق. وقد ورد في مقولاتنا الشّعبيّة "من عاشر القوم أربعين يومًا صار منهم"، فما بالكم وقد امتدّت الأيّام الأربعون فأضحت أربعين وستين عامًا وما ينوف؟
القضيّة الّتي نحن بصددها
في هذا السّياق هي أبعد من ذلك بكثير. فها هو الكاتب المصري جمال الغيطاني يسارع إلى التأكيد للصحيفة ذاتها، أنّه: "لم يكن على دراية بمشاركة كاتب إسرائيلي في الكتاب الجماعي الذي صدر أخيرًا". ثمّ يشير الغيطاني إلى أنّه "تلقّى ـــ بعد صدور الكتاب ـــ رسالةً إلكترونيةً من الكاتب الفلسطيني علاء حليحل يوضح فيها أنّ الكاتب الإسرائيلي متعاطف مع القضية الفلسطينية"، غير أنّ الغيطاني يمضي في تصريحه: "التعاطف والتحامل ليس لهما موقع هنا، لأنّ المسألة بالنسبة إليّ مسألة مبدأ. لو تم إخباري، كان من الممكن أن أعتذر عن عدم المشاركة، أو على الأقل أن أفكر في الأمر".(عن الأخبار: 27 أكتوبر، 2008) المهمّ أنّ القضيّة بالنّسبة إلى الغيطاني هي "مسألة مبدأ"، كما يصرّح. غير أنّ تصريح الغيطاني بأنّه لم يكن على علم بالموضوع، سرعان ما ينكشف لنا أنّه أقرب إلى الكذب منه إلى قول الحقيقة. إذ تنشر الصّحيفة ذاتها بيان دار النّشر "كوما پرس" الّتي أصدرت هذا الكتاب الإنكليزي الّذي يشكّل، يا للهول، تسلّلاً إسرائيليًّا إلى "الوعي" وإلى "اللاّوعي" العربيّين.

يتّضح من بيان دار النّشر أن طلب إدخال كاتب إسرائيلي كان من مؤسّس دار النّشر أصلاً. يذكر البيان: "يودّ الناشر أن يوضح أن طلب ورود قصة لكاتب إسرائيلي يعود إليه، لا إلى معدّة الكتاب جمانة حداد. وقد عارضت جمانة حداد بشدّة طلب الناشر هذا منذ البداية، وآثرت التخلي عن المشروع، مؤكدة أنها كموقف مبدئي ترفض حتى المشاركة في أمسيات شعرية عالمية إذا كان هناك بين الشعراء المشاركين إسرائيليون. فكم بالحري في كتابٍ من إعدادها وتقديمها. إلى أن اقترح الناشر عليها أخيراً اسم الكاتب اسحاق لاؤور، لأنه حظي بتوصية مجموعة كبيرة من المنظمات المؤيدة للقضية الفلسطينية، ولأن طلب إدراج قصته نال أيضًا تأييدًا من الكاتب الفلسطيني المشارك في الأنطولوجيا علاء حليحل، وذلك بمعرفة جميع الكتّاب الآخرين المشاركين... وقد أبلغ الناشر جميع الكتّاب المشاركين في الأنطولوجيا بمشاركة هذا الكاتب الإسرائيلي معهم في المجموعة قبل طباعة الكتاب"، كما صرّح را بايج ، مؤسّس كوما پريس في بيانه (عن الأخبار: 27 أكتوبر، 2008).
ضريبة محاربة التّطبيع
ثم يسارع علاء حليحل إلى دفع الضّرائب الكلاميّة للعنصريّين العرب، ففي مقالة بعنوان "ليس بالضرورة! دفاعاً عن اسحاق لاؤور"، يعبّر عن استغرابه من مقالة زميله نجوان درويش، ثمّ يضيف الضّريبة الكلاميّة الّتي صارت ملازمة لكلّ حديث في هذه المواضيع، وأعني بها محاربة التّطبيع، وذلك ليشنّف بهذه الضّريبة آذان العربان: "التطبيع يسعى إلى تحويل إسرائيل... إلى جزءٍ شرعيٍّ من المشهد العربي، ولذلك نرفضه ونحاربه جميعنا". ويصرّح أنّ وضع الإسرائيليّين جميعًا في سلّة واحدة "ليس في مصلحة القضيّة الفلسطينيّة"، وليس في مصلحة من "يؤمن بمبدأ إدارة الصّراعات...". هكذا تتحوّل أنثولوجيا أدبيّة موضوعها المدن، وساذجة في الظّاهر، إلى مبدأ إدارة صراعات، ولأنّ المسألة هي مسألة تتعلّق بالمصالح وإدارة الصّراعات كما يراها وليست قضيّة مبدئيّة فإنّ "يهوديّة" لاؤور وأمثاله ليست عائقًا في نظره "بأن يكونوا مخلصين لقضيتي مثل فرنسيين أو أميركيين أو جنوب أفريقيين. مشكلتنا الأساسية مع الصهيونية لا مع اليهودية...".

لا أدري إن كان لاؤور مخلصًا لقضيّة حليحل أم لا، غير أنّي على يقين أنّ لاؤور مخلص لقضيّته هو، كإسرائيلي وكيهودي وكإنسان أوّلا وقبل أيّ شيء. وذلك بخلاف زعامات الحزب الّذي ينتمي إليه حليحل ذاته، تلك الزّعامات الّتي رضخت لضغوط من الحركة الإسلامية فأبعدته عن تحرير صحيفة حزبه قبل فترة وجيزة، بسبب مقالة نقديّة بسيطة عن سلوكيّات رمضانيّة.
لا حاجة إلى التّذكير
بأنّ هنالك أصواتًا أخرى ومواقف أخرى لدى كتّاب وشعراء عرب خارج جوقة النّشاز هذه. فأدونيس شارك وقرأ مع شعراء إسرائيليّين، والرّاحل محمود درويش شارك وقرأ مع شعراء إسرائيليّين، مثلما شارك كثيرون آخرون من عراقيّين ولبنانيّين ومغاربة وتونسّيين وغيرهم، وقرأوا مع شعراء إسرائيليّين وفي أكثر من مكان. لكن، وفي الوقت ذاته، هنالك الكثيرون الّذين يتذرّعون بالاحتلال الإسرائيلي لعدم المشاركة، غير أنّ حقيقة هؤلاء ليست الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، إذ لو أنّ احتلال أراض عربيّة هو ما يسيّرهم، لكانوا رفضوا مثلاً السّفر إلى بريطانيا وأميركا والمشاركة في مهرجانات ومنتديات هناك مع بريطانيّين وأميركيّين. أليست أميركا وبريطانيا وغيرهما من الدّول محتلّة للعراق؟ أم أنّ العراق شيء آخر وليس أرضًا عربيّة محتلّة؟
قد تكون مشكلة حليحل، مشكلتنا نحن هنا، مع الصّهيونيّة وليست مع اليهوديّة، غير أنّ مشكلة هؤلاء الآخرين هي معكوسة بالذّات. إذ أنّ مواقف هؤلاء لا علاقة لها بالاحتلال، لا من قريب ولا من بعيد. إنّها نابعة من نظرة عنصريّة بغيضة ومقيتة تجاه اليهود لمجرّد انتمائهم البيولوجي، وليس أي شيء آخر. لهذا السّبب، لن تشفع للكاتب والشّاعر يتسحاق لاؤور أفكاره ومبادئه ومواقفه لدى هؤلاء. فما دام يتسحاق لاؤور يهوديًّا فإنّه سيبقى وللأبد من "المغضوب عليهم"، في عرف هؤلاء العنصريّين "الضّالّين".
لذا، على الفلسطيني الّذي يعاني من العنصريّة الصّهيونيّة هنا، ويعاني من عنصريّة ذوي القربى تجاهه في كلّ مكان في هذا الشّرق، رغم شعارات الأخوّة العربيّة الزّائفة الّتي تملأ الفضاء، أن يضع حدًّا فاصلاً بينه وبين هذه التّوجّهات العنصريّة، لأنّه في نهاية المطاف سيعيش مع وإلى جانب جاره اليهودي، فكم بالحريّ إذا كان هذا الجار من أمثال يتسحاق لاؤور وما يمثّله!

هذا هو صراط الفلسطيني السّياسي والاجتماعي المستقيم.
أليس كذلك؟
*
نشرت في إيلاف، أكتوبر 2008

هل هي حقًّا ديمقراطيّة إسرائيليّة؟

سلمان مصالحة

هل هي حقًّا ديمقراطيّة إسرائيليّة؟

بعد أسبوعين ونيّف

ستشهد السّاحة الإسرائيليّة انتخابات السّلطات البلديّة. لن أتطرّق في هذه المقالة إلى أبعاد هذه الانتخابات في الوسط اليهودي رغم أنّ نتائجها قد تشير إلى التّحوّلات الطّارئة على السّاحة الإسرائيليّة في السّنوات الأخيرة، وقد أعود إلى هذا الموضوع في المستقبل.
إنّ ما أنوي التّطرُّق إليه الآن يخصّ السّاحة العربيّة داخل إسرائيل. هذا الأمر جدير بالاهتمام، ليس لارتباط هذا الموضوع بالأوضاع الإسرائيليّة العامّة بل لكونه مؤشّرًا على حال هذه الأقليّة العربيّة على اختلاف التّسميات الّتي أُسبغت عليها طوال العقود الماضيّة، بدءًا من "عرب الدّاخل"، "فلسطينيّي الدّاخل"، "عرب الـ ٤٨"، "عرب إسرائيل"، وما إلى ذلك من تسميات شاعت في وسائل الإعلام العربيّة والأخرى.

والأمر في غاية الأهميّة

لأنّه يشي بما هو أبعد من مجرّد مشاركة مواطنين في انتخابات قد تبدو ديمقراطيّة في ظاهرها، وهي كذلك حقًّا من ناحية المبدأ. غير أنّ النّاظر في ما هو أبعد من هذه الشّكليّات الّتي تُزيّن العمليّة سيفقه لا شكّ أنّها في واقع الحال أبعد ما تكون عن هذه "الديمقراطيّة" الوافدة إلى بلاد العرب. فبعد أن حلّت هذه الديمقراطيّة ضيفةً على مضارب العربان أخذت تتزيَّى بزيّهم، وهكذا بدأنا نشهد في المدن والقرى العربيّة مسخًا ديمقراطيًّا يتمثّل في إجراء انتخابات تمهيديّة تتمّ لدى الحمائل والقبائل يُنتخبُ فيها من سيمثّل قائمة القبيلة في الانتخابات البلديّة. وهكذا مسخت هذه الذّهنيّة العربيّة القبليّة المتجذرّة كلّ ما هو سامٍ، حتّى أجهضت هذه الذّهنيّة العربيّة، الموبوءة بداء مزمن، على الجوهر الدّيمقراطي جملةً وتفصيلاً.

وإذا كان البعض

يعتقد أنّ الأمر يقتصر على شريحة النّاس من صنف أولئك التّقليديّين القرويّين الّذين لم يدرسوا في الجامعات ولم يأخذوا بأسباب العلم ويحصلوا على شهادات أكاديميّة، أو من صنف الّذين لم ينضووا تحت رايات وتيّارات وأحزاب طالما ادّعت العلمانيّة، زورًا وبهتانًا، فهو مخطئ تمامًا. إذ أنّ الواقع يكشف أنّ الكثيرين ممّن انتسبوا إلى الجامعات وانضووا هنا وهناك تحت رايات "علمانيّة" ورفعوا شعارات "تقدّميّة" و"وطنيّة" وما إلى ذلك من بلاغة كلاميّة ليس إلاّ، يعودون إلى قراهم ومدنهم وسرعان ما يندسّون في "حضن القبيلة الدّافئ" وتذهب شعاراتهم السّابقة أدراج الرّياح. وهكذا تتكشّف لنا هذه الانتخابات البلديّة عن قوائم مسيحيّة، وقوائم درزيّة، وقوائم إسلاميّة وفوق كلّ ذلك قوائم حمائليّة قبليّة ضمن هذه التّفريعات الذّهنيّة. وهذه الذّهنيّة تتخطّى الحمائل لتصل إلى الأحزاب الّتي تدّعي الجمع بين أفراد "الشّعب الواحد"، كما يشيعون.

فعلى سبيل المثال،

لقد نما إلى أسماعي من بعض "الرّفاق" أنّ الجبهة "الديمقراطيّة" (يا لها من تسمية!) أجرت انتخابات تمهيديّة لاختيار مرشّحيها لانتخابات بلديّة في إحدى المدن، وبعد أن انتهى "الرّفاق" من الاقتراع ظهرت النّتائج فتبيّن أنّ الأشخاص الّذين انتخبوا للأماكن الثّلاثة الأولى، أي الّذين حصلوا على أكبر عدد من الأصوات، لا يوجد بينهم أيّ شخص مسلم. وهكذا ثارت ثائرة كثيرين لعدم انتخاب شخص مسلم لأحد هذه الأماكن الأولى، ولكي لا تتدحرج كرة الثّلج هذه فتكبر الفضيحة وتنتشر على الملأ، تمّت لفلفة الأمور وأعيدت الانتخابات للمكان الأول حيث تمّ "انتخاب"، أي تعيين، مسلم لهذا الموقع. هذه هي مسخرة "الديمقراطيّة" العربيّة، حتّى لدى كلّ تلك الأحزاب تدّعي الـ "ديمقراطيّة" وتدّعي الـ"وطنيّة" الّتي لا تفرق بين المواطنين أو بين أبناء "الشّعب الواحد". كذا هي حال الجبهة "الديمقراطيّة"، وكذا هي الحال مع التّجمع "الوطني" "الدّيمقراطي"، كما يدّعي كلّ هؤلاء في كلّ موقع، أو قرية، أو مدينة. فإذا كانت هذه هي حال مُدّعي التّقدُّم والوطنيّة والدّيمقراطيّة، فما بالكم بسائر شرائح المجتمع لدى "عربان الـ 48".

وفي هذه الأثناء،

أشبعنا جميع هؤلاء شعارات رنّانة طنّانة عن الوطنيّة والقوميّة والعروبة والدّيمقراطيّة رافعين رايات محاربة "الأسرلة"، كما شاع التّعبير في السّنوات الأخيرة، بينما في الوقت ذاته يتنازعون فيما بينهم على كسب الأصوات من أجل الوصول إلى الكنيست، حيث يقسمون فيها من على المنصّة يمين الولاء لدولة إسرائيل. أليست هذه الحال جزءًا من هذه المسخرة والضّحك على الذقون العربيّة؟
فماذا أقول إذن؟ أستطيع أن أطمئن جميع هؤلاء. من خلال النّظر في ما هو حاصل على أرض الواقع يمكنني القول يقينًا: لا يوجد أسرلة، كما يشيعون، إذ أنّ هذه الانتخابات البلديّة والعامّة تفضح هذه الحال العربيّة على الملأ. إنّها لا تمتّ إلى الأسرلة ولا إلى إسرائيل ولا تمتّ إلى الوطنيّة ولا إلى الدّيمقراطيّة بأيّ صلة. إنّها انتخابات "عربان پار-إكسلانس". لا عروبة حقيقيّة ولا أسرلة حقيقيّة ولا أيّ بطّيخ من هذه الشّعارات. إنّها ذهنيّة عربان متجذّرة. إنّها فيديراليّات شراذم وليس أيّ شيء آخر ممّا يدّعون.

لهذا السّبب،

أرى إنّ هذه الانتخابات البلديّة في القرى والمدن العربيّة هي مضيعة للوقت وإهدارًا للموارد، ويجب البحث عن سبل أخرى لإصلاح شؤون النّاس البلديّة. مثلاً، أن يتمّ تعيين المسؤولين من قبل هيئة وزاريّة مختصّة، بعد إجراء مناقصات جدّيّة بين مرشّحين جدّيّين يمتلكون التّأهيل المناسب لهذه الوظائف، بدل إضاعة الوقت والمال في انتخاب زعماء قبائل وطوائف أمّيّين، تحت مسمّى الدّيمقراطيّة، يعيثون في القرى والمدن العربيّة فسادًا.
وإذا كانت هذه هي حال "عربان الـ 48"، فما بالكم بسائر العربان في مشارق الأرض ومغاربها؟
كذا كان وكذا يكون إلى يوم يُبعثون.

والعقل وليّ التّوفيق!
***


محنة لغوية عربية



سلمان مصالحة ||


محنة لغويّة عربيّة



كثيرًا ما يتغنّى العرب بأمجاد اللّغة العربيّة. ولا بأس في ذلك لو كان العرب حقًّا يحترمون لغتهم ويعملون على تطويرها وتطويعها لتشمل مستجدّات البحوث في جميع المجالات العلميّة والحضاريّة المتسارعة. غير أنّ نظرة سريعة على حال هذه اللّغة تُفضي بالمرء إلى الاكتئاب لما آلت إليه حال هذه اللّغة وحال أصحابها. مرارًا وتكرارًا يحاول العرب أن "يُطعموا أنفسهم جوزًا فارغًا" من خلال الاستهتار باللغة العبرية على سبيل المثال، مقارنة باللغة العربيّة. لا شكّ أنّ هذا الاستهتار نابع من الجهل التّام بهذه اللغة العبريّة وما تقدّمه لأهلها في جميع المجالات الحضاريّة علميّة وفكريّة وأدبيّة، إبداعًا أصيلاً بها أو ترجمة إليها من أبداعات الشّعوب الأخرى.

يكفي أن نذكر هنا في هذه العجالة أنّ ما يُكتب ويُترجم ويُنشر ويُباع في سوق هذه اللّغة العبريّة هو أكثر بكثير من كلّ ما يُنشر ويباع في العالم العربي بأسره من المحيط إلى الخليج. ليس هذا فحسب، بل إنّ جميع العلوم الطّبيعيّة والإنسانيّة تجد طريقها إلى هذه اللّغة كتابة وترجمة وفوق كلّ ذلك قراءة، بينما يركن العرب إلى دغدغة عواطفهم ببلاغة تليدة وبليدة في آن معًا مدّعين بكون العربيّة لغة غنيّة لا تضاهيها لغة أخرى. قد تكون العربيّة غنيّة حقًّا في كلّ ما يتعلّق بحياة البداوة والطّبيعة، غير أنّ هذا الغنى هو غنى قاموسي لا يعرفه أهل هذه اللّغة ولا يستعملونه أصلاً. فما فائدة هذا الغنى، إذن، إن كان مُكدّسًا في أكياس مهترئة ملقاة في المزابل لا يلتفت إليها أحد؟ ناهيك عن أنّ هذا الغنى الصّحراوي، على ما فيه من جماليّات بلا شكّ، لا ينفع النّاس واحتياجاتهم العلميّة والثّقافيّة في هذا الأوان.

وإذا حاول العرب تعريب مصطلحات أجنبيّة، فإنّهم يعرّبونها خطأ، وإذا نقلوها لفظًا إلى لغتهم فإنّهم ينقلونها خطأ أيضًا، فتشيع تلك المفردات المخطوئة في اللّغة العربيّة فيختلط حابل العرب بنابلهم. وهم، "ما شا اللّه"، مكثرون في مؤسّسات تسمّى مجامع اللغة العربيّة الّتي لا ندري ما تعمل وكيف تعمل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُعرّب العرب المصطلح "پاسيڤي" (passive) كـ"سلبيّ"، فيكتبون مثلاً: تدخين سلبي، بدل تدخين پاسيڤي، وكأنّ هناك تدخينًا "إيجابيًّا" خلافًا للتّدخين السّلبيّ. ويكتبون "انتهت اللعبة بين فريقي كرة القدم القدم بالتّعادل السّلبي"، إذا انتهت المبارة بالنتيجة صفر:صفر لكلا الفريقين. فلماذا سلبيّ؟ وما علاقة السّلب والإيجاب بهذا السّياق؟ وإذا قاوم متظاهرون محاولات الشّرطة لتفريقهم مقاومة "باسيڤيّة"، يأتي جهلة العرب فيسمّون هذه المقاومة "مقاومة سلبيّة"، علمًا أنّ كلّ ما في هذه المقاومة ليس سلبيًّا بل إيجابيّ بالتأكيد.

ومن بين أعراض هذه المحنةأنّ العرب يخلطون الأمور دون وازع أو رادع فيستخدمون مصطلحات يجدونها في الصّحافة دون أن يفهموا المعنى الدّقيق لها، فيطفقون في دسّها في كلّ شاردة وواردة. وعلى سبيل المثال أيضًا، ها قد اكتشف جهلة العرب مفردة جديدة في السّوق، ويكاد المرء يجدها في كلّ صحيفة عربيّة من المحيط إلى الخليج، وأعني هنا مفردة "مقاربة". لا أدري من أين جاءت وكيف شاعت هذه المفردة في الكتابة العربيّة؟ لقد تعوّدنا عقودًا كثيرة على مصطلحات عربيّة تفي بهذا المعنى المقصود، وهو "تَوَجُّه" أو "نَهْج" أو "منهج" وما شابه ذلك. غير أنّ الفهلويّين من صحافيّي العرب والمترجمين في هذه الصحافة قد قرّروا أخيرًا ترجمة هذا المصطلح (approach) حرفيًّا، ومذّاك شاعت مفردة "مقاربة"، وصار كلّ شيء في حياة العرب وكتاباتاتهم "مقاربة"، وهم لا يفهمون أصلاً ما يعنيه هذا المصطلح. وصرنا نقرأ جملاً مثل: "وهنا يقارب ابن رشد المشكل مقاربة تسائلية لا مقاربة حاسمة..." (عن: محمد أركون، عن موقع ابن رشد). أو نقرأ عنوانًا مثل: "مقاربة الفساد صحفيًا مدخل لمحاصرته قانونيًا" (عن النور، نشرة الحزب الشيوعي السوري). مقاربة الفساد صحفيًّا! ما هذا الهراء؟ أمّا في مجلّة "العربي الحرّ" (لاحظوا التسمية البليدة للمجلّة)، فنقرأ: "الملاحظ أن هذه المداخل تتكامل فيما بينها بالشكل الذي يجعل مقاربة إشكالية التجديد في الفكر التربوي عملية مركبة ..."، فماذا يعني هذا الكلام، مقاربة إشكاليّة التّجديد؟ وفي المعهد العربي للثقافة العمالية نقرأ: "يُشكل مفهوم السوق في الاقتصاد السياسي عاملا لا بد من استحضاره إن أردنا إنجاز مقاربة للواقع الاقتصادي."، فأيّ شيء هذا "إنجاز مقاربة"؟

أمّا صحيفة "الزّمان" فتنقل على لسان أحد الجهلة من الكتّاب، آلينا ألاّ نذكر اسمه: "ويلوم (فلان الفلاني) الخطاب النقدي العربي لكونه ظل متردداً في مقاربة حقيقية للفضاء الروائي". أليس مضحكًا هذا الكلام؟ كُنّا مع مقاربة فأضحينا مع فضاء أيضًا: "مقاربة حقيقيّة للفضاء الروائي"، فازداد الطّين بلّة على بلّة. وانظروا إلى هذا العنوان: "مقاربة مريض بألم مفصلي...". هل يفهم القارئ هذا الكلام؟ وإن لم يفهم فلعلّه يفهم هذا الكلام: "مقاربة التدريس بالكفايات أو الكفاءات واستخدامها في تعليم اللغة العربية....". وإذا يئس فلعلّ في هذا الكلام ما يشرح صدره: "منهجية مقاربة القولة:... وفي هذا الإطار، وجب التنبيه إلى بعض الصعوبات، التي يمكن أن نجدها في مقاربة القولة...". فلا يسع القارئ سوى الرّكون إلى الحوقلة.

وأخيرًا، ومن أجل تلخيص هذه الحال اللّغويّة العربيّة، إليكم هذا المثال: "مقاربة حول محنة الأمة وضرورة مواجهة الذات العربية" (عن صحيفة الرأي السورية). حقًّا إنّها محنة، لقد تحوّلت مفردة "مقاربة" إلى محنة عربيّة، أو وباء عربيّ مردّه إلى الجهل. وهكذا، فقد أضحت اللّغة العربيّة فقيرة جدًّا في هذا العصر على أيدي أصحابها.
ومن بين المسبّبات لفقر العربيّةفي هذا الأوان يمكننا أن نشير إلى تلك النّظرة الأصوليّة في هذا الأوان حول كلّ ما يتعلّق بهذه اللّغة. إذ يعتقد كثيرون خطأ أنّ المعاجم العربيّة القديمة نقيّة من تأثيرات اللّغات المجاورة، غير أنّ النّاظر في هذ التّراث اللّغوي العربي يرى الكثير الكثير من المفردات والمصطلحات الأعجميّة الّتي دخلت على هذه اللّغة بطبيعة الحال. ويكفي، على سبيل المثال، أن نُذكّر القارئ العربيّ إنّه في حياته اليوميّة قد لا يجد مفردة عربيّة واحدة في مأكله ومشربه، في حلّه وترحاله، فلا الـ"بندورة"، ولا الـ"بطاطا" والا الـ"باذنجان" ولا الـ"خيار" الّذي يتناوله العربيّ يوميًّا يعود إلى اللّغة العربيّة. ولا الـ"فستق" ولا الـ"بندق" الّذي يقشره ويتسلّى به، يوميًّا أيضًا، يعود إلى العربيّة، ولا الـ"نموذج" الّذي يعبئه بين فينة وأخرى في معاملاته الإداريّة يعود إلى العربيّة، ولا حتّى الـ"قلم" الّذي يعبّئ به ذلك الـ"نموذج". وكلّ هذا ناهيك عن مفردات الحياة المعاصرة، فالعربيّ إذ ركب سيّارة فهو لا يعرف أجزاء تلك السيّارة باللّغة العربيّة، وإذا استمع إلى "راديو"، أو شاهد "برنامجًا" "تلفزيونًا"، فهي كلّها مفردات أجنبيّة. وإذا استخدم الحاسوب فهو لا يعرف لغة الحاسوب وبرمجاته باللّغة العربيّة، كما أنّه لا يعرف لغة البحوث والعلوم باللّغة العربيّة. وإذا رغب في شرب "فنجان" قهوه، أو "كوب" شاي، فهو لا يستخدم لغة عربيّة لأنّ الفنجان والكوب والإبريق كلّها ليست عربيّة، وغير ذلك الكثير الكثير.

وأخيرًا، سأصارحكم القول.أستطيع أن أؤكّد لكم أنّ التّرجمات والكتابات باللّغة العبريّة، أكانت هذه كتابات وترجمات علميّة أو ترجمات أدبيّة شعرًا وقصّة ومقالة، هي أكثر دقّة وأمانة وجمالاً من حال كلّ هذه الأمور في اللّغة العربيّة. وهنالك قواميس ومعاجم عبريّة معاصرة تتجدّد كلّ بضع سنوات، بينما لا يجد الطّالب العربي لا في الثّانويّة ولا في الجامعة ما يروي ظمأه في كلّ ما يتعلّق باللّغة العربيّة المعاصرة. لهذا، أشكّ كثيرًا إذا كان الطّالب العربيّ يفهم ما يقرأ أصلاً في هذه الصّحافة أو يفقه شيئًا من هذه التّعريبات. وإذا كان كلامي الصّريح هذا يثير حفائظكم وحفائظ مجامعكم اللّغويّة، فهذا شأنكم وشأنهم في تلك المجامع. أمّا أنا، فما عليّ إلاّ البلاغ.
والعقل وليّ التّوفيق


*
7 أغسطس 2008

المقالة في شفاف الشرق الأوسط

*

مقالة في مديح الصمت

سلمان مصالحة

مقالة في مديح الصّمت


لعلّ أكثر ما يثير

الاستغراب هو كلّ هذا الهرج والمرج اللّذين يملآن الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء. لا أرغب في إثارة الشّعور بالحنين إلى الماضي المتخيّل، لأنّ هذا الحنين إلى "أيّام زمان" كما شاع القول على لساننا العامّيّ هو أكبر تعبير عن حالة الاكتئاب الّتي تسم الرّاهن الّذي وجدنا أنفسنا فيه. وفوق كلّ ذلك، فإنّ ذلك الماضي الّذي نحنّ إليه في هذا الأوان لم يكن أيضًا مثلما نصوّره في أذهاننا الحاضرة، بل هو شيء أبدعناه من بنات خيالنا المراهقات في محاولة منّا للفرار من هذا الحاضر وانتظار ما هو آت.

ورغم كلّ ذلك،

ففي الماضي غير البعيد، عندما لم تكن الفضائيّات ووسائل الاتّصال العصريّة قد ملأت هذا الفضاء العربي قرقعة صوتيّة جوفاء، فقد كان في الماضي شيء من الصّمت الّذي نفتقده الآن. لا أدري لماذا يخشى العرب على العموم من الصّمت. وها هي الذّاكرة تعود بي الآن إلى تلك الجلسات القرويّة الّتي كانت تلتئم في مناسبة كهذه أو تلك. كان الهرج والمرج يملآن المنتدى وأطراف الحديث تمتدّ لتطال كلّ ما هبّ ودبّ من شؤون العالم في الاجتماع والسياسة والحال الّتي آلت إليها أمور البشر في هذا العصر الّذي يغذ الخطى متسارعًا لا يلوي على شيء ممّا يتأبّطون. كلّ يدلي بدلوه ويقيم والعالم ويقعده على هواه. وكما درج القول في لساننا الشّعبي "على الحكي ما فيه جمرك"، ولذلك يُصبح الكلام لمجرّد الكلام نوعًا من التّسلية لتمضية الوقت.

ولكن، حتّى الكلام

ينتهي أحيانًا، أو يبلغ مبلغًا من التّكرار والاجترار في نفوس هؤلاء حتّى يصمتون صمتًا رهيبًا وكأنّ على رؤوسهم الطّير. ينظرون في السّقف أو يداعبون خرزات مسابحهم، يتململون شمالاً أو يمينًا لا يدرون ما هم فاعلون في هذه اللّحظات العصيبة من الصّمت. لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الضّيف الجديد. هذا الضّيف الّذي يُدعى الصّمت والّذي حلّ عليهم فجأة غريب بينهم. وهم ، بخلاف ما يُشيعون زورًا وبهتانًا، لا يحبّون الغرباء ولا يحبّون الأنبياء. والصّمت ليس نبيًّا فحسب، بل هو ملك الأنبياء. وبينا هم على هذه الحال من الحلّ في مراتع الصّمت يهبّ أحد المنتدين مستلاًّ من جعبة جعجعته سهمًا، ثمّ سرعان ما يصوّب نشّابه ويطلق سهمه، جملته الشّعبيّة، "مسّاكم اللّه بالخير"، تجاه الصّمت المخيّم في الفضاء، وسرعان ما يلوذ هذا الصّمت بالفرار من المنتدى. وهكذا، يعود الهرج والمرج وأتباعهما إلى سابق العهد من الكلام الّذي "لا جمرك عليه".

ولماذا أتذكّر كلّ هذا الكلام

الآن؟ أتذكّر هذا لأنّ الفضاء العربي أضحى في هذا العصر أكثر شبهًا بتلك المنتديات والمجالس القروية الّتي امتلأت جعجعة وقرقعة دون أن نرى طحينًا. لقد تحوّل الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء إلى ساحة لتمضية الوقت، أي لقتل الوقت في التّسالي والجعجعة عن كلّ شيء، ولكن بشرط أن يكون الكلام موجّهًا إلى خارج الموقع الّذي يجعجع فيه. فإذا نظرنا من حولنا، نرى أنّ السّوري في سوريا يجعجع عن كلّ شيء سوى سوريا ونظامها المستبدّ. كذا هي الحال في ممالك وإمارات العربان في مشرق الأرض ومغربها والّتي تعيث في الفضاء فسادًا وجهلاً عربيًّا أضحيا ماركة عربيّة مسجّلة. والحال كذلك في مصر المحروسة، أمّ الدّنيا، على لسان أهلها الأغبياء، وكأنّهم سألوا الدّنيا إن كانت ترغب أصلاً في هذه الأمومة. أمّا عن بني فلسطين وفساد زعمائهم كابرًا عن كابر فحدّثوا ولا حرج، فقد كنّا بفلسطٍ واحدة فصرنا بفلسطَيْن.

والأنكى من كلّ ذلك،

أنّ الكتّاب العرب لم يتعلّموا بعد ما يمكن أن يغدقه عليهم الصّمت من نعمة. تراهم في كلّ وادٍ يهيمون، ينظّرون ويشرحون ويطرحون كلامًا كبيرًا، بشرط أن يكون موجّهًا إلى غيرهم في مكان بعيد. إنّهم لا يعرفون الصّمت، ولذلك فإنّ الصّمت لن يعرفهم. إنّ من لا يعرف طريقه إلى الصّمت، لن يعرف طريقه إلى الكلام الهادئ المتّزن.
وأخيرًا، فليعش ميكي ماوس، وليعش توم وجيري وصحابتهما الميامين!

أما آن لنا، نحن العرب، أن نصمت قليلاً؟

*
والعقل ولي التّوفيق



لا توجد معركة أخرى


سلمان مصالحة || لا توجد معركة أخرى

كثيرًا ما يحاول

البعض الإدلاء بدلوه في قراءة الرّاهن العربي متلمّسًا طريقه في هذا الأوقيانوس المتخبّط. أبدأ فأقول: الحقّ يُقال، إنّي لا أستثني نفسي من هؤلاء المنشغلين ليل نهار في هذه القضايا الّتي تؤرّق الكثيرين من ذوي الاهتمامات. لا شكّ أنّ الانشغال بهذه الأمور مردّه إلى هذا التّأريق المزمن الّذي تُسبّبه هذه التّشكيلة المتنوّعة من البشر الّذين ننتمي إليهم والأحوال الّتي ألفَوْا أنفسهم فيها على مرّ الزّمن. ومهما حاول البعض أن يتلفّع بألحفة المؤامرات الّتي تُحاك من بعيد ضدّه ويُلقي بعبء المسؤوليّة على كاهل الآخرين، بدءًا بالاستعمار، مرورًا بالصّهيونيّة وانتهاءً بكلّ ما يخطر على باله من صنوف المؤامرات، إلاّ أنّ الحقيقة المرّة تبقى شاخصة أمام ناظريه في المرآة الّتي ينظر فيها كلّ صباح قبل الشّروع بمكابدة يوم جديد من حياته على هذه الأرض.

أسهلُ ما في الأمر

أن يُنحي المرء باللّائمة على الآخرين، وعلى وجه الخصوص إذا كان هؤلاء الآخرون من صنف الّذين يُنظر إليهم بوصفهم قوى عظمى ومقتدرة، أو ما إلي ذلك من تشبيهات تقترب من الصّفات والأسماء الحسنى. إنّ نفض الأيدي من المسؤوليّة الذّاتيّة هي حال نفسيّة مرضيّة مزمنة لدينا. إنّها، برأيي، أقرب إلى حال الإيمان منها إلى رؤية الواقع كما هو على حقيقته دون رتوش. فمثلما أنّ المؤمن يجنح إلى التّشبّث بقوى غيبيّة عندما يُصاب بالعيّ في تفسير الكون من حوله، فيركن إلى سكينة وطمأنينة تُغنيه عن تشغيل تلك الملكة البشريّة الّتي انوجدت في الرأس باسم العقل. كذا هي حال كلّ هؤلاء الّذين يجنحون إلى إلقاء المسؤوليّة عن سوء أحوالهم على عاتق الآخرين، دون ذواتهم هم. لأنّهم إذ يفعلون ذلك، ودون عناء يُذكر، فهم يتنصّلون من مسؤولياتهم هم عن سوء الحال الّتي وجدوا أنفسهم فيها. هذا هو، وباختصار، التّوصيف المقتضب لحال العرب في هذا الأوان.

وفي الحقيقة، قد يكون

هذا التّوصيف صحيحًا على مرّ الأزمان ومنذ القدم. لكن، ما لنا ولذلك الماضي الآن؟ فنحن نبتغي الخروج من الرّاهن الآسن في هذا الأوان. ومن أجل الخروج من هذا الغابر الّذي يُعشّش في كلّ حركة من حركاتنا الآنيّة لا توجد طريق أخرى سوى طريق فصل الدّين عن الدّولة. لقد فعلت ذلك شعوب أخرى فقطعت أشواطًا من التّقدُّم، وأشواطًا من التّحرُّر من كلّ يشكّل حجر عثرة في طريقها. وفي حالنا نحن العرب، ليس حجر يعترض سبيلنا، بل رجوم من العوائق هي من صنع أيدينا. لا حاجة إلى البحث عن اختراع جديد، فقد اخترعته من قبل تلك الشّعوب الّتي تغذّ الخطى في ركب التّطوُّر والتّقدُّم والانفتاح، وما علينا، نحن العرب، سوى الاستفادة من تجارب تلك الشّعوب. لا يكفي أن نستفيد من علوم تلك الشّعوب ومخترعات علوم تلك الأمم على أهميّة كلّ ذلك. آن الأوان أن نستفيد من هيكليّات المؤسّسات والنّظم الاجتماعيّة الّتي دفعتها قدمًا. ومن أجل ذلك، يجب تغيير الأولويّات لدينا، بمعنى أن نأخذ بأسباب التّقدُّم أوّلاً قبل تبنّي كلّ ما تنتجه علوم تلك الشّعوب. يجب أن نضع نصب أعيننا أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، أنّ العلوم لا تتقدّم إلاّ بحبّ الاستطلاع، لا تتقدّم إلاّ بالشكّ. نعم، هذا الشكّ هو المَلَكة -النّعمة- الّتي نفتقدها نحن العرب في حياتنا.

ومن أجل الوصول إلى ذلك،

يجب طرد الدّين من الشّارع وسجنه في المسجد والكنيسة والكنيس وغيرها من أماكن العبادة الّتي تشكّل كواتم عقول منصوبة على رؤوس بني البشر. وعندما أقول طرد الدّين من الشّارع فإنّما أعني إنّه يُسمَح لمن لا يريد أن يشغّل عقله أن يفعل ذلك كيفما ارتأى لنفسه، لكن في الوقت ذاته بشرط أن يُحظَر عليه فرض تصوّراته على كلّ من يرغب في تشغيل عقله خارج سجون العقل المسمّاة أماكن عبادة على اختلاف مشاربها وتيّاراتها.
أيّ أنّنا، ومن أجل الأخذ بأسباب التّطوُّر يجب أن نقلب الآية رأسًا على عقب. علينا أوّلا أن نبدأ من الشكّ الّذي كان دائمًا أيسر وأسلك الطّرق إلى العلم وإلى كشف المحجوب في هذا الكون المضروب من حولنا. وما لم نفعل ذلك، فسنظلّ نهيم على أوجهنا حالّين مُرتحلين بين مضارب العربان في حال من التّصحُّر الذّهني. أليس كذلك؟

فماذا أقول، إذن، لهذه الأمّة الآن؟
نستميح روح نزار قبّاني عذرًا لتحوير كلامه:

إنّي خَيّرْتُك فاختاري
ما بينَ المَوْتِ على جَهْلٍ،
أو فَوْقَ مَراكِبِ بَحَّارِ.
اخْتارِي العَقْلَ أو اللاّعَقْلَ
فَجُبْنٌ ألاّ تَخْتاري.
لا تُوجَدُ مَعْرَكةٌ أُخْرَى
مَا بينَ القِطّةِ وَالفَارِ.
***
والعقلُ وليّ التّوفيق
*

عرب-إسرائيل، كسائر العربان


سلمان مصالحة ||

عرب-إسرائيل، كسائر العربان


لقد ورد في المأثور
أنّ الأقربين أولى بالمعروف. ولمّا كان المعروف الّذي أعنيه هنا هو النّقد بما يحمله من اهتمام بأحوال النّاس، فقد رأيت أن أتطرّق في هذه المقالة إلى شؤون هؤلاء القوم من الفلسطينيّين الّذين بقوا في الوطن بعد النّكبة وصاروا إثر ذلك الحدث مواطنين إسرائيليّين. لقد مرّت ستّة عقود من الأعوام على هذه المواطنة، على هذه التّجربة العربيّة الفريدة. وأقول تجربة فريدة وخاصّة، إذ رغم كلّ الإشكاليّات المرتبطة بها إلاّ أنّ أبناء هذه الأقليّة بخلاف سائر المجتمعات العربيّة من المحيط إلى الخليج تعيش، وعلى الأقلّ من النّاحية النّظريّة والقانونيّة، تجربة ديمقراطيّة طوال هذه العقود. ليس هذا فحسب، بل وعلى مرّ الزّمن فقد أنشأ هؤلاء القوم أحزابًا، بعضها يدّعي القومجيّة، وبعضها يدّعي الشّيوعيّة، وبعضها الآن يدّعي الإسلامويّة، فأدخلت جميع هذه الأحزاب نوّابًا في الكنيست الإسرائيلي، حيث أقسموا جميعًا، على اختلاف تيّاراتهم، يمين الولاء لدولة إسرائيل من على منصّة الكنيست وعلى الملأ.

والولاء لإسرائيل لم يكن
مجرّد يمين يُتلى من على منصّة الكنيست، بل رافقته دعوات لاتّخاذ خطوات عمليّة ذات مدلولات كبرى. وهذا الولاء لإسرائيل لم يأت فقط من جانب مخاتير الحمائل والطّوائف الّذين ارتبطوا بالأحزاب الصّهيونيّة ابتغاء الوصول إلى كراسي النّيابة في الكنيست، بل تعدّاه إلى أحزاب وتيّارات من صنف أولئك الّذين تُسبغ عليهم في هذه الأيّام تعابير "الوطنيّة" وغيرها من الشّعارات. فها هو الزّعيم الشّيوعي "الوطني"، توفيق طوبي، والّذي كان نائبًا لعشرات السّنين في الكنيست عن الحزب الشّيوعي، وبالتّحديد في يناير من العام 1950، أي بعد عامين فقط على النّكبة، يطالب بتجنيد الشّباب العرب في الجيش الإسرائيلي، فيوجّه كلامه إلى رئيس الحكومة ووزير الدّفاع الإسرائيلي من على منصّة الكنيست قائلاً: "لماذا تستثني الحكومة المواطنين العرب في سنّ الخدمة العسكريّة، مع أنّ الكثيرين عبّروا عن استعدادهم للقيام بواجباتهم كمواطنين يطالبون بالتّمتّع بكامل الحقوق؟ لا شكّ أنّ هذه هي إحدى الظّواهر البارزة للتّمييز العنصري في سياسة الحكومة، الّتي تتعارض مع كلّ جهد لاستمالة صداقة الجماهير العربيّة".

والولاء لإسرائيل لم يتغيّر
رغم تغيّر الظّروف وتبدّل الشّعارات بعد كلّ هذه العقود، فالشّعارات الطنّانة الرّنّانة شيء والحقيقة شيء آخر مختلف تمامًا. وإذا كان يظنّ البعض أنّ هنالك من يريد الإنضمام إلى دولة فلسطينيّة مستقبلاً فظنّه لا يستند إلى أيّ شيء ملموس قولاً وفعلاً على أرض الواقع. فحتّى أقطاب الحركة الإسلاميّة، غلاتها ومعتدليها، شمالها بجنوبها، يعبّرون ليل نهار عن رفضهم الانضمام إلى دولة وطنيّة فلسطينيّة. إنّ هؤلاء الإسلامويّين كغيرهم من مراهقي العروبة الذّاهبين للحجّ بينما النّاس قافلة في رحلة العودة، يجدون أنفسهم في مأزق كبير حقًّا. فعندما يدور الحديث في السّنوات قيام دولة فلسطينيّة وطنيّة وحلّ للقضيّة يتضمّن تبادل للأرض، وترفع بعض الأحزاب الإسرائيليّة اليمينيّة المتطرّفة إمكانيّة التّنازل عن وادي عارة لضمّه إلى دولة فلسطينيّة، يسارع هؤلاء الإسلامويّون ومن لفّ لفّهم من مراهقي العروبة إلى رفض اقتراحات من هذا النّوع. فلماذا يرفض هؤلاء اقتراحات كهذه، إذا كانوا حقًّا فلسطينيّين وعروبيّين؟ ألا يريدون أن يكونوا هم وأرضهم جزءًا من دولة وطنيّة عربيّة فلسطينيّة؟ إنّه مأزق كبير لا يجرؤون حتّى على الخوض في دلالاته العميقة وأبعاده السّحيقة أبدًا، وبدل ذلك يتزنّرون بشعارات طنّانة رنّانة كعادتهم. فإذا كان هؤلاء الإسلامويّون ومراهقو العروبة يريدون أن يكونوا جزءًا من الدّولة الإسرائيليّة، ولا يريدون أن يكونوا جزءًا من الدّولة والعلم والنّشيد الوطني الفلسطيني، على ما يعنيه هذا الأمر وما له من أبعاد، فليقولوا ذلك علانية ودون لفّ أو دوران، ودون التّزنُّر بشعارات الوطنيّة الفلسطينيّة الكاذبة!

هل طبع عرب إسرائيل يغلب تطبّعهم؟
لقد كنت كتبت في الماضي في أكثر من مكان وأشرت إلى أنّ نشوء الحركة الإسلاميّة بين ظهراني "عرب إسرائيل"، "عرب الـ 48"، "فلسطينيّي الدّاخل" وما إلى ذلك من تسميات شائعة لدى العربان، هو من بين أهمّ الأسباب الّتي أدّت إلى "تطييف"، أي إلى تفريز طائفي، في صفوف هؤلاء العرب، ومن هنا خطورة هذه الحركة على المجتمع العربي في إسرائيل بأسره. فلكون هذا المجتمع متعدّد الطّوائف فإنّ نشوء أيّ تيّار أو حزب على أسس دينيّة بحتة، أيًّا ما كانت تلك الدّيانة، فهذا يعني أنّه يعزل نفسه عن سائر الطّوائف، وهذا يعني أيضًا أنّه حزب عنصريّ بالقوّة وبالفعل. وفي الواقع كان لنشوء هذا التّيار تأثير كبير على تذرّر هذا المجتمع إلى طوائف، ومن ثمّ إلى قبائل وحمائل، كما يظهر ذلك جليًّا في الانتخابات المحليّة والقطريّة. وهذه هي الحال الّتي نشهدها في صفوف هذه الأقليّة رغم مرور ستّة عقود من تجربة ديمقراطيّة عربيّة فريدة، غير أنّ الطّبع على ما يبدو يغلب التّطبُّع.
إنّ سوسة الطّائفيّة والقبليّة تنخر عظام جميع الحركات "السّياسيّة" القائمة بين عرب إسرائيل، بدءًا من الحزب الشّيوعي وجبهته غير الديمقراطيّة، مرورًا بحزب مراهقي العروبة الّذين تيتّموا بعد فرار زعيمهم إلى أكبر قاعدة أميركيّة في الشّرق الأوسط، وانتهاءًا بهذه الحركة الإسلاميّة الّتي تقوقعت في الدّين قاصمة بذلك ظهر هذه الأقليّة المنكوبة بشعارات سياسيّيها البلهاء. وهكذا، وبعد عقود ستّة، لم يتغيّر شيء في ذهنيّة هؤلاء القوم.
ألم أقل لكم بأنّ الأقربين أولى بالمعروف؟

والعقل وليّ التّوفيق
*

المقالة في إيلاف

المقالة في شفاف الشرق الأوسط




نكات بعثية غير مضحكة

سلمان مصالحة

نكات بعثيّة غير مضحكة

بينما كنت أتابع الأخبار
الواردة من الشّام بخصوص مهازل المحاكمات الجارية هناك لموقّعي إعلان دمشق للتّغيير الوطني، تذكّرت كلامًا صدر عن أبي علاء قبل قرون طويلة. لا، ليس المقصود أبا علاء، ذلك "الزّعيم" الفلسطيني الّذي طلب وحصل على هويّة إسرائيليّة لابنته، بل أعني، وشتّان بين الاثنين، فيلسوفَ المعرّة الّذي قال:
"ضَحِكْنا وَكانَ الضّحْكُ منّا سَفاهَةً - وَحُقَّ لسُكّان البَسيطةِ أَنْ يَبْكُوا".
فلو كان الأمر مُضحكًا لكُنّا ضحكنا حتّى استلقينا على أقفيتنا، ولكنّ الأمور تشي بغير ذلك. فالأخبار القادمة من دمشق الشّام لا تثير الضّحك بقدر ما هي تبعث على الانتحاب من هذه الحال الّتي آلت إليها الذهنيّة العربيّة، في الوقت الّذي يغذّ فيه العالم الخطى في هذا القرن المتسارع تطوّرًا على جميع الأصعدة. لعلّ أشدّ ما يثير الحزن والاشمئزاز في الآن ذاته هوذلك الصّمت المعيب والمريب من قبل أطراف وجهات تصفها الصّحافة العربيّة بالـ"نخبة"، والّتي كان من المفروض أن تهبّ دونما تلكّؤ لقول كلام صريح بشأن هذه المهازل البعثيّة وغيرها من المهازل العربيّة. والمهازل البعثيّة لا تُحصى، غير أنّي أكتفي هنا في هذه المقالة بتعداد ثلاث من هذه النّكات الّتي تثير الضّحك والحزن في آن معًا:

أوّلاً: نفسيّة الأمّة
لا شكّ أنّ الّذي رفع شعار "أمّة عربيّة واحدة، ذات رسالة خالدة" يعرف عمّا يتحدّث عندما يطرح مسألة "نفسيّة الأمّة". لأنّ الأمّة إذا كانت "واحدة" فهي بلا شكّ كيان حيّ ذو عواطف ومشاعر وتصوّرات وفوق كلّ ذلك، فهي ذات "نفسيّة". غير أنّ كلّ هؤلاء المنظّرين البعثيّين لم يشرحوا لنا في يوم من الأيّام ما هي مركّبات هذه النّفسيّة، وهل تمّ إحالة صاحب هذه النّفسيّة إلى تحليل نفساني في مصحّات البعث، أكان هذا التّحليل بحسب المنهج الفرويدياني أم بحسب المنهج اليونغياني لا فرق، كي نخرج على الأقلّ بشيء من كلّ هذا التّحليل العربي الأصيل. وإذا كان للأمّة "نفسيّة"، فهل هذه النّفسيّة هي "نفسيّة البعث"، أم نفسيّة الرّئيس القبليّ الّذي ورث الزّعامة البعثيّة في عرض مسرحيّ دستوري تراجيكوميدي، تمّ تسجيله كـ"ماركة مسجّلة" تنضاف إلى إبداعات الذهنيّة العربيّة المعاصرة؟ وهل تمّ اختصار واختزال "نفسيّة الأمّة" بنفسيّة هذا الزّعيم الّذي يعيث فسادًا وسحلاً وقتلاً في سورية ولبنان، والعراق أيضًا، بواسطة مخابراته المتوارثة كابرًا عن كابرٍ؟

ثانيًا: الشّعور القومي
ولأنّ الأمّة جسم حيّ، فما من شكّ في أنّ لها أحاسيس ومشاعر، ومثلما هي الأمّة كذلك هي الحال مع القوم، ولذلك أفردت قريحة البعث تعبير "الشّعور القومي"، كما لو أنّ القوم قد اختُزلوا في شخص لا يقترب منه إلاّ من كان على شاكلة زعيمهم القبليّ. في الغالب، كلّ من يطرح مصطلحات من هذا النّوع، في العالم بأسره وعلى وجه الخصوص في بلاد العربان، يجب التّشكيك في نواياه الحقيقيّة. لأنّ الشّعارات القوميّة والوطنيّة غالبًا ما تكون الملجأ الآمن لكلّ المستبدّين الّذين يزيّنون صنوف استبدادهم بتعابير من هذا الصّنف الآسن.

ما كنت لأتطرّق لهذه الأمور بمقالة سيّارة من هذا النّوع، لأنّ القضيّة بحاجة إلى بحوث نفسيّة وإلى أطبّاء نفسانيّين لمعالجة هذه الحالات المستعصية. غير أنّ الأخبار الواردة من دمشق الشّام بخصوص التّهم الموجّهة إلى ناشطين سوريّين من مختلف الطّوائف والنّزعات دفعتني إلى ذلك. فمن بين التّهم الّذي يوجّهها هذا "القضاء" السّوري المأزوم بنظامه، ما يتعلّق بهذه الأمور الخطيرة. أنظروا مثلاً إلى هذه التّهمة: "توهين نفسيّة الأمّة". وإن لم تضحككم هذه التّهمة، فلعلّ التّهمة التّالية تفعل ذلك: "إضعاف الشّعور القومي". فأيّ أمّة هي هذه وعن أيّ نفسيّة أمّة يتحدّثون؟ وأيّ قوم هم هؤلاء وأيّ شعور قومي هو ذاك الشّعور؟

وأخيرًا، أكثر النّكات إضحاكًا:
والنّكتة صيغت على النّحو التّالي: "تعكير الصّفاء بين عناصر الأمّة" الّتي وُجّهت إلى أمين الحزب اليساري الكردي. ألا تُقهقهون ضحكًا معي لسماع هذه النكتة؟

حريّ بنا أن نقول الكلام جهرًا. المشكلة لا تكمن في الصّياغة لذاتها، فالصّياغة هي من عمل البشر. الطّامة الكبرى هي في هؤلاء البشر الّذين يصوغون هذه النّصوص، والطّامة الكبرى هي في من يصادق على هكذا نصوص بوصفها بنودًا لاتّهامات تُوجّه إلى بشر آخرين. الطّامة الكبرى هي في ما يُسمّى زورًا وبهتانًا "مجلس شعب" يُقرّ نصوصًا من هذا النّوع. الطّامة الكبرى هي في زمرة هؤلاء القضاة الّذين ينظرون أصلاً في قضايا من هذا النّوع، بدل إصدار قرار فوريّ بتسريح "المُتّهمين" ببنود هي من مهازل قضاء العربان في هذا الزّمان. والطّامة الكبرى أيضًا هي في ما يُسمّى اتّحادات محامين عرب، اتّحادات كتّاب عرب إلى آخر قوائم الاتّحادات الهزليّة الّتي تبقى صامتة على هذه المهازل. أمّا "جامعة الدّول العربيّة"، الّتي يجدر أن يُطلق عليها "مجمع الكتاتيب العربيّة"، فهذه الأمور لا تعنيها لأنّها مشغولة بسيكار عمرو موسى.

هذه البنود الاتّهاميّة الّتي يقرّها نظام البعث ليست نكاتًا، وليست مثيرة للضّحك بالمرّة. هذه قضايا تعكس حال هذه الأنظمة، وتفضح إلى أيّ درك سفليّ أوصل هذا النّوع من الأنظمة الشّعوب العربيّة. من هنا، يجب أن نقول الكلام صراحة ودون لفّ أو دوران: كلّ من يصمت إزاء هذه المهازل الّتي ابتدعتها أنظمة عربان هذا الزّمان هو شريك في الجريمة البشعة الّتي شوّهت صورة كلّ ما هو عربيّ على وجه هذه الأرض.


والعقل وليّ التّوفيق
*


ماذا يعني المصطلح "شعب" في الذهنيّة العربيّة؟


سلمان مصالحة ||

ماذا يعني المصطلح "شعب" في الذهنيّة العربيّة؟

ليس من السّهل الحديث
عمّا تواجهه "الشّعوب" العربيّة في هذا العصر. المسألة عويصة لأنّ كلّ ما يدور من حديث في هذه القضايا السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المتعلّقة بالعالم العربي والمجتمعات العربيّة في هذه الأيّام إنّما هو مستعار من مصطلحات ومفاهيم أجنبيّة ذات دلالات مختلفة، بل وقد تكون إشكاليّة فيما يخصّ دلالاتها وسياقاتها في المفهوم العربيّ. الحقول الدّلاليّة للمفردات والمصطلحات تنبني من خلال تراكمات حضاريّة تحصل على مرّ القرون والدّهور. فعندما نستعمل في العربيّة مصطلح "أُمّة"، كأن نقول مثلاً "الأمم المتّحدة" ترجمة للمصطلح الإنكليزي المعروف، فإنّما المقصود هنا ليس أممًا، بل هو دُولٌ في مفهوم العلوم السّياسيّة كما يُعرّفها القانون الدّولي. فالدّولة هي كيان سياسي، بينما الأمّة هي شيء آخر مختلف تمامًا قد يتخطّى هذه الحدود الدّوليّة المتعارف عليها. وبكلمات أخرى، فهذا يعني أنّ الدّول العربيّة الأعضاء في منظّمة "الأمم المتّحدة"، هي في الحقيقة ليست أممًا بالمرّة، إذ لا يوجد أمّة كويتيّة أو أمّة ليبيّة أو أمّة لبنانيّة على سبيل المثال رغم كونها أعضاء في "منظّمة الأمم المتّحدة"، وإنّما هي كيانات سياسيّة ناشئة بعد اندثار العثمانيّين وانحسار الاستعمار لاحقًا، كغيرها من الدّول. كذا هي حال يوغوسلافيا سابقًا قبل أن ينفرط عقدها، وكذا كانت حال الاتّحاد السوفييتي قبل أن يتفرّق هذا الكيان أيدي سبأ، أو أيدي فولغا تحديدًا.

فإن لم تكن هذه الكيانات العربيّة أممًا،
فهل هي شعوب؟ وعندما نستخدم مصطلح شعب في سياق كهذا، فماذا نعني به أصلاً؟
من أجل الإجابة على سؤال من هذا النّوع حريّ بنا أن نعود إلى ما تعنيه هذه المفردات في لغتنا العربيّة. فاللّغة ليست مجرّد وسيلة اتّصال بين النّاس، إنّما هي جامعة للمفاهيم المتجذّرة في ذهنيّة أهلها. فلو عدنا للنّظر في دلالات هذا المصطلح في اللّغة العربيّة فماذا نحن واجدون؟ فها هو ابن فارس في معجم مقاييس اللّغة يُخبرنا: "الشين والعين والباء أصلان مختلفان، أحدهما يدلُّ على الافتراق والآخر على الاجتماع. ثمَّ اختلف أهلُ اللغة في ذلك، فقال قومٌ: هو من باب الأضداد وقد نصَّ الخليلُ على ذلك. وقال آخرون: ليس ذلك من الأضداد، إنّما هي لغات". أي، لهجات قبليّة.

ليس هذا فحسب، بل إنّ مدلولات هذا المصطلح ليست واضحة المعالم، فها هو ابن منظور يورد في اللّسان في مادّة "شعب": "وهو أيضًا القبيلة العظيمة، والجمع شعوب... وقيل الشّعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب." أي بكلمات أخرى لا ينطبق على العرب في هذا السّياق استخدام مصطلح شعب وشعوب لأنّ المصطلح خاصّ بالأعاجم، أي بغير العرب. وحتّى لو أخذنا بالمدلول الجامع للمصطلح شعب في المفاهيم العربيّة، فإنّنا نرى أنّه لا يتعدّى ذلك المفهوم القبلي المتجذّر، كما يقول صاحب الكشّاف: "الشّعب الطبقة الأولى من الطبقات الستّ التي عليها العرب. وهي الشّعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشّعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائِر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائِل. فخزيمة شعبٌ، وكنانة قبيلة، وقُرَيش عمارة، وقُصَيّ بطن، وهاشم فخذ، والعبَّاس فصيلة. وسُمِّيت الطبقة الأولى شعبًا لأنّ القبائل تتشعب منها. وقد زادوا طبقةً سابعة وهي العشيرة يريدون بها بني الأب الأقربين، فتكون في هذا النسب المذكور بني عبد مناف." (نقلاً عن: لسان العرب، أنظر أيضًا: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور؛ أنظر أيضًا: تفسير النّسفي). أي أنّ مصطلح "شعب" يعني خزيمة في نهاية المطاف، ولا يعني مجموع قبائل العرب بعامّة. أو كما يذكر صاحب التّاج: "الشَّعْبُ: القبيلة العظيمة، وقيل: الحَيُّ العظيمُ يَتَشَعَّبُ من القبيلة، وقيل: هو القبيلة نَفْسُها والجمع شُعُوبٌ." (نقلاً عن: تاج العروس).

"وَجَعَلْناكُم شُعوبًا وقبائلَ لتَعَارَفُوا"
وها هو القرآن أيضًا في سورة الحجرات يميّز بين الشّعوب والقبائل. غير أنّ الشّعب هنا أيضًا لا يتعدّى كونه دالاًّ على مضر أو ربيعة، كما يقول مقاتل وهو من أقدم المفسّرين:"وجعلناكم شعوبا - يعنى رؤوس القبائل، ربيعة ومضر وبنو تميم والأزد. وقبائل - يعنى الأفخاذ بنو سعد، وبنو عامر، وبنو قيس، ونحوه." (نقلاً عن: تفسير مقاتل). أو أنّ مصطلح شعوب لا يخص العرب بل الموالي: "ويقال شعوبًا موالي، وقبائل عربًا." (نقلاً عن: تنوير المقباس، المنسوب لابن عبّاس؛ أنظر كذلك: ابن الجوزي زاد المسير). وكما يذكر ابن جزي: "الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أعظم من القبيلة وتحته القبيلة ثم البطن ... فمضر وربيعه وأمثالهما شعوب. وقريش قبيلة وبني عبد مناف بطن وبنو هاشم فخذ ... وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل." (نقلا عن: ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، أنظر أيضًا: الشّوكاني، فتح القدير؛ إبن الجوزي، زاد المسير؛ إبن كثير، تفسير). مرّة أخرى نرى هنا أنّ القبيلة هي المصطلح المركزي في كلّ ما يتعلّق بالذهنيّة العربيّة. أو كما يذكر القرطبي في تفسيره: "والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم."

مهما اختلف المفسّرون في
مدولولات مصطلح شعب، إن كان يعني قبيلة، أم فخذًا أم بطنًا أم شيئًا من هذا القبيل فهو لا يتعدّى النّسب في الذّهنيّة العربيّة، وبكلمات ابن عبّاس: "وجعلناكم شعوبا وقبائل - قال: الشعوب: الأنساب." (نقلاً عن: تفسير الطّبري)، أو: "الشعب - الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد." (نقلاً عن: تفسير البيضاوي). أي أنّ الإنتماء إلى الشّعب في حضارة العرب هو إنتماء بيولوجي وليس إنتماء إلى حضارة جامعة تتخطّى النّسب القبلي الأعلى، وبكلمات القشيري: "وعلى هذا، فالشعوب من لا يُعرف لهم أصلُ نسبٍ كالهند والجبل والترك. والقبائل - من العرب." أو: "ويحتمل أن الشّعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الانساب." (نقلاً عن: تفسير القرطبي).
ومن هنا أيضًا جاء مصطلح "الشّعوبيّة"، والّذي يُنسب إلى الأقوام الأخرى من غير العرب. غير أنّه يُفهم خطأ في عرب هذا الأوان بوصفه حمل عقيدة عداء للعرب، وهو ليس كذلك. هذا ما نفهمه على الأقلّ من كلام القرطبي، إذ يذكر: "والشعوبية: فرقة لا تُفضّل العرب على العجم." (نقلاً عن: تفسير القرطبي)، أي أنّ كلّ ما في أمر الشّعوبيّة هو عدم تفضيل العرب على غيرهم من سائر الخلق. فليس في عدم تفضيل العرب على العجم ما يفيد عداء للعرب، بل هو رفض لتلك النّظرة العنصريّة العربيّة تجاه الآخر، ليس إلاّ.

هل يستطيع العرب الخروج
من الطّور القبليّ والوصول إلى طور الشّعب كما نفهمه في هذا الأوان؟
ليس من السّهل الإجابة على هذا السؤال، على خلفيّة ما أوردنا هنا من مفاهيم عربيّة لهذا المصطلح. وإذا ما نظرنا إلى ما يجري حولنا من أحداث، وإلى حال هذه البقعة من الأرض المترامية الأطراف الّتي تتشكّل منها المجتمعات العربيّة، فلا يبدو أنّ هذه المفاهيم القديمة المتجذّرة في ذهنيّتها قد تغيّرت خلال هذه القرون الطّويلة. فلا الدّولةُ دولةً، ولا الأمّة أمّةً ولا الشّعب شعبًا.
من أجل الوصول إلى بناء شعب، هنالك حاجة إلى مدنيّة وإلى حواضر كاسرة للقبيلة، وبكلمات أبي رزين: "الشّعوب أهل الجبال الذين لا يعتزّون لأحد والقبائل قبائل العرب." (نقلاً عن: ابن الجوزي، زاد المسير). أي أنّ عدم الاعتزاز لأحد، بمعنى عدم التّبنّي والنّهج بمنهج النّعرة القبليّة المتمثّلة بالاعتزاز بجدّ قبليّ هي الطّريق الّتي تفضي إلى تحوّل المجتمع من قبيلة إلى شعب. وحتّى هذه اللّحظة لم يخرج العرب بعد من هذا الطّور القبلي المغرق في القدم. وليست هذه الحواضر العربيّة حواضر بما تعنيه هذه الكلمة، إنّما هي حظائر جامعة لقبائل عربيّة متناعرة بنعرات خبيثة، محكومة بسيف الدّكتاتوريّات القبليّة بعثيّة كانت أم غيرها، بدءًا ببغداد والشّام وجزيرة العربان، وانتهاء بالمغرب والسّودان. كذا كان منذ قديم الزّمان وما بدّلوا تبديلا.

والعقل وليّ التّوفيق

*

إيلاف، 18 يونيو 2008

 

لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالقهوة

سـلمان مصـالحة


لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالقهوة

عندما اندلعت الثّورة
الإيرانيّة الشّعبيّة وأطاحت بالشّاه، استغلّ سفّاح العراق، البعثي القبلي التّكريتي، هذا الوضع الإيراني الحرج فزجّ بالعراق في حرب ضروس مع إيران حرقت الأخضر واليابس في هذين البلدين. لقد ذهب ضحيّة هذه الحرب الّتي استمرّت سنوات مئات الألوف من البشر، إن لم يكن العدد أكبر من ذلك، في هاتين البقعتين. ولمّا طالت الحرب ولم يأت النّصر بدأت تظهر على السّاحة التّعابير الّتي تنمّ عن الشّعوبيّة الشّعبويّة العربيّة النّاهلة من موروثات أسطوريّة قديمة، بدءًا بقادسيّة صدّام وذي قار وانتهاءً باستخدام تعابير الفرس والعجم تكريسًا للقومويّة العنصريّة العربيّة تجاه مسلمين آخرين لمجرّد كونهم لا ينتمون إلى القوميّة العربيّة.

الأساطير لا تموت. الأساطير خُلقت لكي تعيش على مرّ الزّمن. قد تخبو أحيانًا وقد يلفّها النّسيان لبعض الوقت غير أنّها تظلّ كالجمر الكامن تحت الرّماد، فما أن تهبّ ريح على موقدها حتّى يتناثر الرّماد فتستعر من جديد. وها هي الرّياح العاتية تهبّ في هذه المنطقة، وها نحن نشاهد هذا السّعير العنصري من جديد تجاه الفرس والعجم، كما يظهر من كتابات بعض العرب الّذين يشاهدون صباح مساء كيف تبني إيران نفسها في هذه البقعة من الأرض، فيسارعون إلى انتشال التّعابير العنصريّة الّتي تنهل من موروث قديم مشيرين إلى الصّراع بين العرب والعجم.

لا يشكّ أحد في
وقوفي علنًا ضدّ ما يمثّله ملالي إيران، وقد عبّرت عن ذلك في أكثر من مناسبة. غير أنّ هنالك فرقًا شاسعًا بين الوقوف ضدّ الملالي وبين النّظرة العنصريّة العربيّة تجاه الشّعب الإيراني المغلوب على أمره. فرغم كلّ قد يُقال عن طبيعة هذا النّظام، إلاّ أنّ المرء ملزم بقول الأمور صراحة أيضًا. فرغم كلّ ذلك، يبقى النّظام الإيراني والشّعب الإيراني أكثر تعدّديّة وديمقراطيّة من جميع الأنظمة والشّعوب العربيّة كافّة. ففي الانتخابات الرّئاسيّة الإيرانيّة هنالك أكثر من مرشّح واحد، وهذه حالة معدومة في كلّ الأقطار العربيّة. كما أنّ أحمدي نجاد، أو خاتمي لا ينتميان إلى قبائل تدعمهما بالحديد والنّار، كما هي حال قبائل العربان. من هنا، لزامٌ على الفرد العربي أن ينظر إلى نفسه في المرآة قبل صبّ تعابيره العنصريّة تجاه الآخر الإيراني في هذه الحالة.

لقد ذكرت في أكثر من مناسبة أنّ البلد الوحيد في هذه المنطقة الّذي قد تحدث فيه ثورة ديمقراطيّة حقيقيّة هو إيران بلا أدنى شكّ. إنّ نظام الملالي زائل لا محالة لأنّ هذه هي طبيعة الحياة وسنّة الحياة في العصر الحديث. والشّعب الإيراني المتحضّر والمنفتح على الحضارات بحاجة إلى دعم جميع المتنوّرين في هذا العالم، وهو بحاجة إلى دعم المتنوّرين العرب على وجه التّحديد، لأنّ الثّورة التّنويريّة الحقيقيّة في هذا الشّرق ستأتي من إيران بالذّات، بعد أن يطيح الشّعب الإيراني بنظام الملالي القابع في غياهب الماضي.

كذلك، على العرب تحديدًا
أن يلجموا النّظرة العنصريّة الشّائعة لديهم تجاه الفرس والعجم. فيكفي لهم أن ينظروا قليلاً في تاريخهم ليجدوا أنّ للفرس والعجم فضلاً كبيرًا على حضارتهم العربيّة والإسلاميّة في كافّة المجالات. ففي المجالات الدّينيّة نذكر على سبيل المثال لا الحصر، البخاري ومسلم والتّرمذي والنّسائي والبيهقي والسّرخسي وأبو حنيفة وغيرهم الكثير، فهل كان المسلمون سيحفظون دينهم لولا هؤلاء وأمثالهم من ذوي الأصول الفارسيّة؟ وفي مجال اللّغة العربيّة ذاتها، كيف كانت أحوال تلك اللّغة لولا سيبويه والزّمخشري والفيروزابادي وابن المقفع وغيرهم؟ وماذا بخصوص البيروني والرّازي والجرجاني والخوارزمي في سائر العلوم الطبيّة والموسيقيّة إلى آخر قائمة العلماء والفلاسفة وغيرهم الكثير الكثير الّذين كان جلّهم من أصول غير عربيّة، بل كانوا في الغالب من أصول فارسيّة على وجه التّحديد. إذن، قبل أن يتفوّه البعض من العرب بتعابير تنمّ عن نظرة عنصريّة مقيتة عليهم النّظر إلى كلّ هؤلاء بنوع من الإجلال والتّواضع.

حتّى أنّ ما ذُكر من حديث
بشأن عدم فضل العربيّ على الأعجميّ إلاّ بالتّقوى، فيبدو أيضًا أنّه حتّى في هذه الأمور لم يعد للعرب فضل على أحد. فحتّى هذه التّقوى لم تعد من صفاتهم، وعلى ما يبدو لم تكن يومًا من الأيّام من سماتهم. فنظرة واحدة إلى تاريخ العرب وتاريخ الخلفاء والرّؤساء قديمًا وحديثًا لنرى أنّها كانت أبعد ما يكون عن ذلك، بل يمكن القول إنّ ما كان يميّزها هو القتل والسّحل لبني البشر في كلّ مكان.


لم يبق إذن للعرب سوى
القهوة يتفاخرون بها على غيرهم، إذ هنالك خرافة لا ندري مدى صحّتها تقول إنّ العرب هم الّذين اكتشفوا القهوة. ولأنّي مولع بشرب القهوة صبوحًا وغبوقًا، وفي أيّ وقت كان، فأنا لهم من الشّاكرين. ولكن حتّى هذه القهوة، لم يعد للعرب فضل بها على غيرهم، إذ أنّ الإسپرسّو الطّلياني أو الفرنسي أفضل مذاقًا من كلّ ما يتشدّق به العرب من فضل القهوة العربيّة على غيرها.
بعد كلّ هذا، أليس من حقّنا أن نقول للعالم أجمع كلّ عام وأنتم بخير، وبالفارسيّة: سال نو مبارك!

والعقل وليّ التّوفيق.

يناير 2008


محمود درويش: شاعر، قاتل، قارئ

سلمان مصالحة ||

محمود درويش: شاعر، قاتل، قارئ



كان محمود درويش
على علم بكلّ التّفاصيل. نعم، كان يعرف كلّ التّفاصيل لأنّه شاعر. والشّعر ليس من الشّعور، أي العواطف والأحاسيس، كما شاع الفهم لدى جهلة العامّة والـ"خاصّة" من العرب. إنّما هو من الاستشعار، أي الفطنة والحدس. لقد عرف العرب ذلك منذ قديم الزّمان، فقالوا: "وسُمّي الشّاعرُ شاعرًا لفطنته، وهو الفقيه أيضًا، والفقه عندهم الفطنة..."، وقالوا أيضًا: لأنّ الشّاعر "يَظُنّ فيُحَقّق". لقد نسي العرب هذا الكلام من زمان أيضًا، فصاروا، لشدّة ما هم عاطفيّون، يظنّون أنّ الشّعر من الشّعور والعواطف.

ولأنّه كان شاعرًا بمعنى
هذه الفطنة، فقد كان يعرف ماذا سيجري بعد رحيله، فقال: "يُحبّونني ميّتًا ليَقُولوا: لقد كانَ منّا، وكانَ لنا. / سمعتُ الخُطَى ذاتها... تأتي / ولا تفتحُ الباب". هكذا، بفطنته الشّعريّة، وضع درويش تعليماته شعرًا لزمرة المخرجين المسرحيّين الّذي يعملون حثيثًا على إخراج جنازته على خشبة المعاناة الفلسطينيّة، والعربيّة أيضًا، وها هو الشّاعر "يظنّ فيحقّق". فما أن أسدل جفنيه في نوم أبديّ على "سرير غريب" وراء البحار، حتّى سارعت "الخطى ذاتها" تذرف دموع التّماسيح، الّتي أضحت على ما يبدو ماركة عربيّة مسجّلة، على الفقيد.

فقط بالأمس القريب،كانت مقل التّماسيح جافّة، وإن كان في تلك المقل شيء من رطوبة فقد كانت تلك رطوبة سامّة. نعم، بالأمس القريب كانت كلّ تلك التّماسيح تكيل الاتّهامات إلى درويش، مرّة بسبب الغيرة منه ومرّة بسبب الحيرة منه. وبين غيرة وحيرة كان ثمّة أناس ممّن أطلق عليهم اسم "مراهقي العروبة" يصمونه سياسيًّا، حينًا لأنّه يظهر في قراءات مع شعراء إسرائيليّين في أوروبا أو غيرها، ومرّة لأنّه جاء ليقرأ شعره على أهله وربعه في حيفا. هكذا كان بالأمس القريب. لكن، ما أن أغمض عينيه حتّى انهالت دموع هؤلاء مدرارة "هنا" و"هناك"، "هناك" و"هنا"، كما شاعت مفرداته في السّنوات الأخيرة.

وها هو درويش يسمع كلّ هؤلاء الّذين "يحبّونه ميّتًا"، يسمع خطاهم على عتبة بيته. بالأمس القريب، لم تكن الخطى "تفتح الباب". فقط الآن، الآن فقط، بعد أن اشتمّت الخطى أنّ العيون قد أغمضت في رحلة أبديّة، راحت تتدافع على الدّخول. نعم، كانت قبلُ "تأتي ولا تفتح الباب. لكنّها تدخل الآن"، فقد أزفت ساعة الاتّجار، وكلّ واحد يرغب بفتات ضوء من هالة أحاطت به حيًّا، والآن ميتًا.

وها هي الخطى تدهم
الباب دهمًا. وها هي الخطى تتشكّل أمام أعيننا المشدوهة، تتشكّل أمام عينيه المغمضتين: "يخرج منها الثّلاثة: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ". ليسوا ثلاثة أيّها الشّاعر، إنّهم أكثر ممّا تستطيع أن تُحصي الآن. إنّهم شعراء، قتلة وقرّاء يصطفّون على عتبة بيتك يذرفون دمعًا شفّافًا، أستطيع أن أرى خلله ما يُضمرون وما يسترون في دواخلهم. فيا لك من شاعر مخرج، ويا لها من مسرحيّة. فما أكثر المندسّين الآن على هذه الخشبة. كلّهم هواة تمثيل أيّها الشّاعر المهاجر، وكلّهم يصرّ إنّه الممثّل الشّرعي الوحيد، أيّها الشّاعر، ولا شرع، ولا شعر ولا ما يحزنون أيّها الشّاعر. وبقدر ما تنفتح أعيننا على مصاريعها اندهاشًا، بقدر ما تتّسع مقل التّماسيح ذرفًا وانتهاشًا.

لم تشأ أنت أن تشاهد
العرض المسرحيّ إلى نهايته لأنّك أنت رسمت نهايته، فأسرعت خارجًا من القاعة. أستطيع أن ألمح تلك الابتسامة الّتي تحاول أن تخفيها في ظلمة القاعة. طلبت منهم أن يكونوا بطيئين: "قلت: سأسألكم أن تكونوا بطيئين، أن / تقتلوني رويدًا رويدًا". غير أنّك، وإن كنت فطنًا شعرًا، لم تكن فطنًا إلى قوانين الغابة العربيّة. فما أن انسللت خارجًا حتّى سارعوا إلى اعتلاء خشبة المسرح، منهم الـ"شّاعر"، ومنهم الـ"قاتل"، ومنهم الـ"قارئ". ولأنّك لم تكن فطنًا على ما يبدو أو ربّما لأنّك، كعادتك، لم تشأ أن تُغضب السّياسيّين لم تضف إلى هؤلاء الثّلاثة واحدًا رابعًا، هو الـ"سياسي"، رجل السّلطة "هنا" و"هناك"، "هناك" و"هنا". ولأنّي كنت صريحًا مع ذاتي، فقد كنت صريحًا معك وكتبت أمورًا أغاظتك كما نما إلى أسماعي من صديقة وفيّة لك ولي. غير أنّ الأمور اطمأنّت في الآونة الأخيرة، ودار الحديث عن لقاء هادئ لجسر البعيد وكسر الجليد. كنت تعلم حقّ العلم، وقبل أن تخرج في رحلتك الأبديّة أنّ ذلك البعيد لم يكن بعدًا بل قربٌ، وأنّ ذلك الجليد لم يكن قرًّا بل حبٌّ، أيّها الشّاعر المهاجر.

أمّا الآن، وبينما
أنت مسجّى الآن أمام أعين جميع هؤلاء المنتمين إلى فصيلة التّماسيح، من صنف أولئك الّذين لا "يظنّون" ولا "يحقّقون"، نقول لك بكلامك: "ما زال في الدّرب دربُ". وأمّا "الكلام الّذي قلته لزوجة قلبك"، فسيبقى لك على الدّهر.
فنم هنيئًا أيّها الفتى العربيّ، فأنتم السّابقون.
***

نشرت المقالة في إيلاف 13/8/2008

****


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!