هل ينتصر اليقين على الدين


ثمّ تسلك الخرافة طريقًا جديدة، إذ تذهب إلى أناس تلك النّواحي لتسرد علينا أحوال معيشتهم. فها هي الخرافة تتعاظم: "وروى قتادة عن الحسن قال: وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القدور، ووجد عندها قومًا لباسُهم جلودُ السّباع، وليس لهم طعام إلاّ ما أحرقت الشّمس من الدّواب...

أين هي الأسرة الدولية؟


لا يوجد على الكلام جمرك، كما يقال في أمثالنا الشعبية. وهكذا ألفى المواطن العربي ذاته هائمًا على وجهه في خضمّ ما أفرزدته الجرائم المتبادلة بين أقوام هذه البقعة من الأرض.

سلمان مصالحة ||

أين هي الأسرة الدولية؟


بين فترة وأخرى، من عديد السنوات الخمس المنصرمة، تستثير الأحداث التي تعصف بمنطقتنا أصواتًا عربية تعرض على القارئ تساؤلات مثل ”أين الأسرة الدولية، ولماذا لا تُحرّك ساكنًا لوقف هذا النزيف في سورية وفي غيرها من أقطار هذه البقعة من الأرض“؟

إنّ استخدام مصطلح مثل ”الأسرة الدولية“ يشي بأنّ مُطلقه ينطلق في إصدار أحكامه وتساؤلاته من قناعة بانتمائه وانتماء من يحاول التحدّث باسمهم إلى ”أسرة“، ”عائلة“ أو مجموع بشري ذي أواصر قربى بما تحمله هذه المصطلحات من معانٍ.

غنيّ عن التأكيد هنا بأنّ الانتماء إلى هذه الـ”الأسرة“ الدولية لا يمكن أن يأتي من طرف واحد. إذ إنّ معنى الإنتماء يتطلّب إجماعًا من طرفين: من طرف طالب الانتماء وطرف المُنتمَى إليهم. هذا الإجماع مشروط بقواعد تضبطه وتضبط أطرافه على أكثر من صعيد واحد.

إنّ العواصف الأخيرة التي شهدتها المنطقة مع ما خلّفته من سفك لا يزال متواصلاً للدماء كشفت أيضًا على الملأ كلّ هذا التخبّط في الخطاب العربي الموجّه للداخل والخارج على حد سواء. فعلى الصعيد الداخلي، وأعني به الخطاب العربي الموجّه للرأي العام العربي لم نلاحظ أنّ ثمّة ”أسرة“ عربية واحدة تلتقط هذا الخطاب وتستوعبه. لقد كشف هذا الخطاب عن حقيقة الشرذمة الإثنية والطائفية التي تنخر هذا المجموع البشري الذي درجنا على أن نطلق عليه مصطلح الانتماء لهذه الـ”عروبة“.

وهكذا لاحظنا، في الكثير من الأحيان، أنّه وعلى الرغم من تغليف الكلام بكلام معسول وبلاغة عربية عن ممانعة ومقاومة وكسر شوكة الإرهاب من جهة، أو نشود الديمقراطية والحرية والمواطنة من جهة أخرى، كانت المواقف المُعلنة تشي بانتماء صاحبها ليس إلى مجموع بشري واحد، أسرة أو عائلة عربية واحدة، بل إلى ”قبيلة“ لها ميراث طائفي هو ميراث في جوهره اختلافي غير ائتلافي، وذلك على غالبية الأصعدة الاجتماعية منها، والسياسية، والثقافية والطائفية.

بكلمات أخرى، إنّ الخطاب الأيديولوجي المعسول، أصدر عن هذا الطرف أو ذاك، لم يعد ينطلي على أحد من أبناء هذه الأقوام المسمّاة ”عربيّة“. إذ إنّ الشرخ الإثني والطائفي هو الّذي كان المحرّك لاتّخاذ المواقف وهو الّذي كان يتبدّى للقارئ وللمستمع على طول هذه الأرض وعرضها.

لقد ظهر هذا الشرخ أيضًا في كلّ ما يتعلّق بمخاطبة العرب سائر العالم. إذ مرّة أخرى انكشف على الملأ أنّ ثمّة أصواتًا كثيرة بنبرات مختلفة تعبّر عن جوهر هذا التخبّط. فمن جهة، الكثيرون من أولئك الذين طالما شنّفوا آذاننا بمطالبة العالم، ويقصدون به القوى العظمى والغربية على وجه التحديد، بعدم التدخُّل في شؤون هذه المنطقة الداخلية قد أضحوا بين ليلة ”ربيع عربيّ“ وضحاها من أكثر الصّائتين المطالبين بتدخّل تلك القوى في شؤون هذه المنطقة النازفة. هكذا فجأة تتحوّل قوى الاستعمار الغربي إلى ”أسرة“ واحدة مطالَبة بوضع حدّ للنزيف داخل هذه الـ”عائلة“الدولية التي يدّعون الانتماء إليها.

ومن جهة أخرى، كشفت الأحداث التي مرّت بها هذه المنطقة زيف شعارات كلّ أولئك الذين، وعلى مرّ عقود، أدمنوا على إثارة عواطف الأجيال العربية الناشئة بدءًا بمقولات الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة، مرورًا بالاشتراكية والديمقراطية، وانتهاءً بالمقاومة والممانعة، وما إلى ذلك من هذه البلاغة البليدة التي كانت بمثابة أفيون تزوّده هذه الأنظمة والأيديولوجيات الكاذبة للأجيال العربية. لقد تلقّفته هذه الأجيال حتّى أضحى نقمة عليها وعلى بيئتها، وصار من الصعب عليها عدم تناول هذه الوجبات اليومية من المخدّرات البلاغية العربية.

أين هي الأسرة الدولية؟ يتكرّر هذا السؤال لدى الكثيرين من أمثال هؤلاء. مرّة أخرى، كلّ هؤلاء الذين طالما علا صراخهم محيلين السامعين إلى مؤامرات القوى الغربية يطالبون الآن هذه القوى، ”الأسرة الدولية“ كما يسمّونها، أن تتدخّل. لكنّ كلّ هؤلاء يتهرّبون من طرح السؤال الأصعب، ألا وهو: أين ”الأسرة العربية“؟ أوليست لهذه الـ”أسرة“ دول وجيوش جبّارة؟ فلماذا لا تتدخّل جيوشها لوقف هذا النزيف؟

لا يوجد على الكلام جمرك، كما يقال في أمثالنا الشعبية. وهكذا ألفى المواطن العربي ذاته هائمًا على وجهه في خضمّ ما أفرزدته الجرائم المتبادلة بين أقوام هذه البقعة من الأرض.

ليس من السهل الخروج من هذه المآزق العربية. كلّ من يعتقد أنّ نفسيّات البشر، الذين مرّوا بهذه المآسي التي خلّفت مئات آلاف القتلى وملايين اللاجئين والمهجّرين من أوطانهم وبلدانهم، قد تتعافى قريبًا مُخطئ بالطبع. لا تمّحي هذه الكوارث بين ليلة وضحاها وكأنّ ”اللّي فات مات“.

لقد انتهى عهد في هذه البقعة من الأرض. لن تعود هذه الكيانات بناسها إلى سابق عهدها وعهدهم. إنّنا بلا شكّ على عتبة عهد جديد لا يمتّ بصلة إلى كلّ ما عرفناه عن هذه المنطقة. وما علينا إلاّ تلمّس طريق النجاة بأقلّ الخسائر البشرية. لأنّ الإنسان في نهاية المطاف هو هذه الأوطان الممزّقة.
*
الحياة، 28 يناير 2016

يوم عادي

سلمان مصالحة||

يوم عادي


أَرَانِي حَنِيَّ الظُّهْرِ،
أَهْلَكَنِي الصُّبْحُ.
أَمَا لِلْمَسَا سَيْفٌ لَدَيَّ!
أَمَا رُمْحُ!

جردة حسابات عربية


لقد مرّ هذا العام كسابقيه من أعوام هذا ”الربيع“ الذي لم يأت بنبت، لم يونع زهرًا ولم ينتج ثمرًا. بل على عكس ذلك تمامًا، فلا يزال هذا ”الربيع“ يهدم حجرًا ويقتل بشرًا في مشارق هذه البقعة من الأرض ومغاربها.

سلمان مصالحة ||

جردة حسابات عربية


ها هو عام آخر يودّعنا ليستقرّ في خزينة ذكرياتنا، وعمّا قريب سينظر كلّ منّا إلى الوراء محاولاً استجلاء ما كان فيما مضى من أيّام، ما أُنجز من برامج وما تأجّل فامتدّ إلى السنة القابلة. الذكريات الشخصية هي شأن خاصّ، وقد تشكّل زادًا، أو مخزونًا غنيًّا، يرى النور لاحقًا في نتاج الأدباء والشعراء.

أمّا الذكريات العامّة - ذكريات الأمم والشعوب - وبكلمات أخرى، التاريخ، فهي شأن عام حريّ بنا أن نتطرّق إليها علانية. بلا أدنى شكّ، فإنّ عمليّة التذكّر هي عملية انتقائية دائمًا. هنالك أمور قد تندثر أو قد يتلاشى ذكرها فتُدفن في غياهب النسيان، وهنالك أمور أخرى تنتشلها الذاكرة لتتصدّر المشهد أمام ناظري الفرد أو المجموع.

لقد مرّ هذا العام الذي سينصرم بعد قليل مخلّفًا لنا كلّ هذه الحال العربية التي لم تلتئم جراحها بعد. وعلى ما يبدو فإنّها حال تشي بأنّ هذه المآزق مرشّحة للاستمرار والامتداد لسنوات طويلة قادمة. فإذا أمعنّا النظر في حال التفتّت هذه التي ضربت أصقاعًا شتّى في هذه البقعة من الأرض، فماذا نحن واجدون؟

لقد مرّ هذا العام كسابقيه من أعوام هذا ”الربيع“ الذي لم يأت بنبت، لم يونع زهرًا ولم ينتج ثمرًا. بل على عكس ذلك تمامًا، فلا يزال هذا ”الربيع“ يهدم حجرًا ويقتل بشرًا في مشارق هذه البقعة من الأرض ومغاربها.

لقد تفتّتت أقطار هذا ”الربيع“ بـ”شعوبها“ المزعومة وتفرّقت أيدي سبأ عائدة إلى تركيبتها الإثنية، القبلية والطائفية المتأصّلة. فها هو العراق لم يتبقّ منه غير الاسم فحسب. وها هي سورية الدامية منذ سنوات قد أضحت ركامًا بشريًّا وعمرانيًّا، وتشتّتت أطياف ناسها إلى أجل غير مسمّى. أمّا اليمن ”السعيد“ فقد عاد تعيسًا بئيسًا مركونًا على هامش جزيرة العرب ينتظر خلاصًا لن يأتيه في مستقبل منظور. وها هي ليبيا تكتشف أصلها وفصلها القبلي السابق لكلّ سيرورات التشكّل المجتمعي.

أمّا عن لبنان، فحدّث ولا حرج. إنّ حال هذا البلد هي الحال العربية الأصل في الحقيقة، وهي التي انتصرت في هذا ”الربيع“ العربي. فحال هذا البلد كحال رئاسته المتقاعدة المتباعدة منذ مدّة طويلة. إنّ حالة العجز الطائفي في لبنان قد أضحت مرضًا مزمنًا لدرجة أنّهم لا يستطيعون انتخاب رئيس واحد لهم. كم زعيمًا طائفيًّا وقبليًّا يحمل لقب ”رئيس“ في هذا البلد؟ ففلان رئيس وعلاّن رئيس إلى آخر قائمة زعماء الطوائف.

وأخيرًا، كما يقال، فالأقربون أولى بالمعروف. فقد يسأل سائل: ماذا بشأن القضيّة الفلسطينية؟ والإجابة على ذلك ستكون بالطبع بواسطة تساؤلات: ماذا تقصد؟ وعن أيّ قضيّة تتحدّث؟ والسبب من وراء ذلك أنّ هذه القضية لم تعد تعني أحدًا في هذا العالم. فها هو العالم العربي، كما أسلفنا، مشغول بقضاياه المستعصية التي لا يبدو أنّها تمضي إلى حلول معقولة. كما إنّ العالم الآخر مشغول بقضاياه. وإذا كان الفلسطينيون أنفسهم قد أضحوا مشتّتين منفصلين في كيانيين هشّين لا رابط بينهما. فماذا ينتظرون من العالم أن يفعل، إذا كانوا هم أنفسهم لا يعرفون كيف يتصرّفون كشعب موحّد بقيادة موحّدة تتعامل مع القضيّة باستراتيجية واحدة؟ إذن، والحال هذه، غنيّ عن التأكيد في هذا السياق أنّ نكبة الفلسطينيين الكبرى مردّها إلى هذه القيادات الفلسطينية البائسة دون استثناء.

هكذا، إذن، أضحى هذا العالم العربي رجل العالم المريض، ملقيًّا على قارعة الطريق، منكوبًا بذهنيّات زعاماته الطائفية والقبليّة التي تستطيع منها فكاكًا. لقد مرّت عقود طويلة لم تفلح فيها هذه الزعامات أن تبني دولاً أو تخلق شعوبًا، بل ظلّت رهينة المحابس المتجذّرة في ذهنيّاتها.

وخلاصة الكلام، لقد انصرم عام آخر والحال العربية الراهنة هي شاهد بارز على فشل ما يُسمّى ”القومية العربية“. إنّ أحوالنا لا تبشّر بأيّ خير لعقود طويلة قادمة. كم كان بودّي أن أبعث بعض الأمل في نفوس القارئ العربي! غير أنّي لا أجد سبيلاً إلى ذلك البصيص في هذا النفق العربيّ المدلهم. أليس كذلك؟


*
الحياة، 3 يناير 2016



قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!