أتاتورك هو الحلّ

من الأرشيف:


سلمان مصالحة ||


 أتاتورك هو الحلّ


هنالك من يدّعي،
ولنوايا طيّبة بالطّبع، أنّ هؤلاء الّذين يقفون من وراء الجرائم الّتي يشهدها العالم في هذا الأوان، قد اختطفوا الإسلام وشوّهوا صورته. إنّ استخدام مصطلح الاختطاف بهذا الصّدد فيه كثير من المغالطة والتّضليل، لأنّ هؤلاء الّذين يطلقون هذه الدّعاوى يفترضون أنّ الإسلام أشبه بشخص وقع في قبضة بعض رجال المافيا وقد تمّ اختطافه عنوةً، بينما هذا الشّخص المخطوف يحاول الاعتراض على هذا الخطف. فهل هذا الوصف لما يجري على السّاحة العربيّة والإسلاميّة هي الحقيقة؟ أم أنّ هذا الإسلام "المخطوف" قد وقف دائمًا على قارعة الطّريق يستجدي رجال المافيا أن يخطفوه، قائلاً لهم: هيّا اخطفوني وافعلوا بي ما تشاؤون، لأنّكم ستجدون عندي كلّ ما تُسوّل لكم أنفسكم.

أنظروا إلى عناوين البيانات
الّتي تُنشر باسم المنظمّات الإرهابيّة الإسلاميّة بعد كلّ جريمة ينفّذونها. فها هو البيان الّذي نُشر بعد جريمة شرم الشّيخ الأخيرة، فماذا نقرأ في صدر هذا البيان؟ "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه" (البقرة: 193). والفتنة تعني الشّركُ والأندادُ، أو الكفر إلخ. والدّين هو بالطّبع دين الإسلام، إذ أنّ النّبيّ قال: أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة..." (تفسير الطّبري للآية من سورة البقرة). أو كما يذكر القرطبي: "وقاتلوهم" أمر بالقتال لكلّ مشرك في كلّ موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة... وهو أمر بقتال مُطلَق لا بشرط أن يبدأ الكفّار. ودليل ذلك قوله تعالى: ويكون الدّين للّه"، ثمّ يذكر الحديث النّبوي: أمرت أن أقاتل النّاس، ويضيف القرطبي: "فدلّت الآية والحديث على أن سببب القتال هو الكفر، أي فتنة، "فجعل الغاية عدم الكفر" (تفسير القرطبي). أمّا ابن كثير فيشرح الآية على النّحو التّالي: " ثمّ أمر اللّه تعالى بقتال الكفّار "حتّى لا تكون فتنة" أي شركٌ..."ويكون الدّين للّه" أي يكون دين اللّه هو الظّاهر العالي على سائر الأديان... لما ثبت في الصّحيحين من الحديث النّبوي: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللّه... وقوله: ؛فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظّالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عمّا هم فيه من الشّرك" (تفسير ابن كثير للآية). أمّا من يحتجّ بالآية الّتي تنصّ أن "لا إكراه في الدّين" فإنّ هذا النّصّ ليس مُطلقًا وإنّما هو "مقصور على ما نزلت فيه من قصّة اليهود وأمّا إكراهُ الكافر على دين الحقّ فواجب، ولهذا قاتلناهم على أن يُسلموا أو يؤدّوا الجزية، ويرضوا بحكم الدّين عليهم"، (سنن التّرمذي). أي أنّ قتال الكفّار واجب دينًا، لا لسبب سوى لفرض الإسلام عنوة وبحدّ السّيف. والكفّار هم كلّ أولئك الّذين لا يدينون بدين الإسلام، بمن فيهم النّصارى واليهود والمجوس وسائر بني البشر. أي أنّ هؤلاء الّذين يدبّجون بيانات الإرهاب بالآية: "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه"، يرضعون أيديولوجيّاتهم من مكان ما، ومن موروث ما. هل هنالك تفسير آخر؟

إذن، فبعد هذا الكلام
وهذه البيانات الّتي ينشرها هؤلاء الّذين يقفون من وراء العمليّات الإرهابيّة، هل نستطيع أن نقول إنّ هؤلاء الإرهابيّين قد خطفوا الإسلام حقًّا، أم أنّ الحقيقة هي نقيض هذا الكلام تمامًا. وبكلمات أخرى يجب علينا أن نُحدّد ونشخّص المسألة أوّلاً وقبل أن نطلق على الملأ الادّعاءات الّتي لا تستند إلى أساس. علينا أن نشخّص الخاطف والمخطوف في هذه القضيّة قبل البدء في إيجاد الوسائل لعلاج الموضوع في جميع جوانبه.

يتّضح ممّا أوردنا سالفًا
أنّ الخاطفَ في الواقع هو هذا التّراث الإسلامي، بينما هؤلاء الإرهابيّون فهم المخطوفون في حقيقة الأمر. لقد تحوّل الإسلام منذ نشأته إلى حركة عقائديّة قامت باستعمار الذهنيّة العربيّة القبليّة مُغدقةً عليها رؤيا ذكوريّة تَسَلُّطيّة هي من مخلّفات الإنسان البرّي الأقرب إلى حياة الغابة منه إلى حياة الإنسان الّذي يعيش في مجتمعات عاقلة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسّر أنّ كلّ هؤلاء الإرهابيّين يظهرون على خلفيّة هذا التّراث، ويخرجون من بيوت عباداته وقد تتلمذوا على أئمته وفقهائه؟

إذن، ما العمل في وضع كهذا؟
من أجل الوصول إلى علاج جذري لهذه الأمراض المزمنة في مجتمعاتنا العربيّة علينا أن نشخّص المرض أوّلاً. لذلك، ولأنّنا لا زلنا، نحن العرب، في هذا الطّور البدائي من التّطوُّر البشري، فليس أمامنا من سبيل في هذه المرحلة سوى البحث عن وسيلة للتّحرُّر من هذا الاستعمار، الدّيني والاجتماعي والّذي كبّل الذّهنيّة العربيّة منذ القدم . ولأنّ المسألة ليست بسيطة بالمرّة، وإذا كانت لدينا رغبة حقًّا في أن نعيش في مجتمع مدنيّ معاصر يتساوى فيه الأفراد على جميع مللهم ونحلهم، رجالاً ونساءً، في دولة القانون الّتي تضع الفرد في أعلى سلّم أولويّاتها، فما علينا إلاّ السّير في ركب الشّعوب المتحضّرة.

ولهذا السّبب، ليس أمام مجتمعاتنا من سبيل سوى سبيل فصل الدّين عن الدّولة، وربط هذا الفصل بإصلاحات سياسيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة غايتها الانتقال السّريع إلى دولة عصريّة تسير على هدى مبادئ دستور علماني على غرار الدّساتير الأوروبيّة. هنالك حاجة مُلحّة إلى علمنة التّربية والتّعليم في الدّولة العربيّة والإسلاميّة، وإعلان المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في جميع مجالات الحياة. لا بأس كذلك في تشجيع المواطنين على ترك اللّباس التّقليدي وخاصّة الكوفيّات وما شابهها والّتي أضحت تُشكّل في الحقيقة "كاتم عقل" أكثر منها زيًّا وطنيًّا. فلم يعد أمام العرب في هذا العصر من سبيل سوى السّير على خطى مصطفى كمال، إذ يبدو واضحًا الآن أنّه فيما يتعلّق بالعربان فإنّ:
أتاتورك هو الحلّ
*
نشرت: إيلاف، يوليو 2005
***

ظواهر الشّرف وبواطن القرف



سلمان مصالحة


ظواهر الشّرف وبواطن القرف


لمّا كان الإنسان العربيّ
لم يخرج بعد من طور التطوّر القبليّ، فإنّ الحلقة الأولى والوحيدة الّتي يعمل من خلالها ويجول في أطرافها ليس له منها فكاك هي حلقة القبيلة، أو ما أطلق عليه بعد سنين طويلة إسم العائلة أو الحمولة. والجوانب الدلاليّة في هذين المصطلحين واضحة للعيان، حيث أنّها تضع الرّجل في مركز هذه الوحدة الناشطة في المجتمع العربيّ من أقصاه إلى أقصاه. وفي هذه النّقطة لا توجد فوارق كبيرة بين المجتمعات العربية على خلفيّات دينيّة وطائفيّة.

في الكثير الكثير من الأحيان 
 نقرأ ونسمع ونواجه أحاديثًا مسموعة ومرئيّة عن الكرامة العربيّة. ولكن، وحتّى الآن، لم يحاول أحدٌ ممّن يتلبّسون بالفكر أن يستقرئ هذا الموضوع ويستجلي هذا الدّجل السافر المختبئ وراء طبقات كثيفة من الأقنعة الشفّافة والكاذبة. والكرامة العربيّة، وهي كلمة مرادفة للشّرف في هذا الزّمن العربيّ الحديث، ارتبطت منذ القدم بالعرض العربيّ على طول المنطقة العربيّة وعرضها. والعرض العربيّ يرتبط بالمرأة جسدًا وروحًا، أو هكذا تقوم التربية العربية بإرضاع أفرادها منذ سنّ مبكّرة. وعلى الرّغم من أنّ المرأة هي نصف المجتمع فإنّ كامل المسؤولية في المجتمع العربيّ عن الكرامة والشّرف يقع على كاهل المرأة، وعليها لوحدها. أمّا الرّجل فيتنصّل من مسؤوليّته عن هذه الكرامة أو هذا الشّرف. إنّ هذه النّظرة البدائيّة المتجذّرة في الذّهن العربيّ الّتي تلصق الشّرف العربيّ بالمرأة لوحدها تقتطع مفهوم الكرامة من الرّجل العربيّ. وهكذا يبقى الرّجل العربي دون كرامة أو شرف نابعين من ذاته.

وحينما يكون الرّجل العربيّ 
بلا كرامة أو شرف نابعين من ذاته فإنّه يحاول الحفاظ عليهما في الـ"آخر" الّذي استحوذ على كرامته وشرفه، أو هذا الآخر الّذي يُنسَب شرفُ الرّجل العربيّ إليه. وهذا الآخر قد يكون زوجة، أو شقيقة، أو والدة أو صديقة. وهذا الشّرف يبقى منحصرًا في حدود ضيّقة هي حدود حلقة القبيلة أو العائلة. ولهذا السّبب نشاهد ونقرأ ونسمع عن حوادث القتل المتعمّد على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة، أو شرف القبيلة. ولمّا كان الرّجل العربيّ لا يزال في الطّور القبليّ فإنّ الشّرف والكرامة يقتصران على قبيلته، حمولته، فحسب. ولذلك فهو لا ينظر إلى شرف الآخر بنوع من الاحترام. ولهذا السّبب لا يتورّع الرّجل العربيّ في هتك عرض هذا الآخر لأنّه ليس منه بأيّ حال، أو هكذا نشأ، وهذه هي القيم الّتي رضعها في طفولته. وحينما يقوم الرّجل العربيّ بإشباع غرائزه من شرف الآخر فهو يبقى خارج نطاق المسّ بالشّرف وذلك لسببين: الأوّل لأنّه رجل، والثاني، لأنّ هذا الآخر ليس منه، أي ليس من قبيلته، ليس من صنفه، ليس من شعبه، ليس من جنسه.

والدّجل السّافر في هذا الموضوع، 
هو أنّ مفهوم الشّرف والكرامة لا يتّسع ليشمل شرف وكرامة الآخر، بل يبقى منحصرًا في هذه الـ"أنا" القبليّة. أي أنّ الرّجل العربيّ لا يبسط مفهوم الشّرف ليشمل شرف الآخرين بل يبقيه في خانته الذّاتيّة. وهذا المفهوم الخاطئ لمعنى الشّرف والكرامة هو أساس كلّ البلاء والويلات النّازلة بالمجتمع العربيّ. وما دام الإنسان العربيّ لا يبسط معنى الشّرف ليشمل شرف الآخرين، وهذا هو المعنى الحقيقي والعميق للشرف، فسيبقى هو معدوم الشّرف والكرامة. وإذا كان الرّجل العربيّ يربط معنى الشّرف بجسد المرأة وبتصرّفها فإنّ الرّجل العربيّ هو رجل قاتل بالقوّة. نحن نلاحظ هذه الظّاهرة على طول الذّهن العربي وعرضه، فهو لا يترك أيّ فرصة تفوته دون أن يهتك شرف وكرامة الآخر. وهذا الآخر ليس منه في نظره، وهذا الـ"ليس منه" هو هذه الحلقة القبليّة الّتي لم يستطع المجتمع العربي من محيطه إلى خليجه الفكاك منها.ليس صدفةأن نكون على أعتاب القرن الـ 21 ونحن ما زلنا نسمع ونرى في مجتمعاتنا العربيّة على جميع طوائفها، السنّيّة والشيعيّة والدرزيّة وغيرها، جرائم القتل على خلفيّة ما يسمّى بشرف العائلة. ولهذه الأسباب أيضًا فإنّنا لا نسمع الأصوات العالية الّتي تستنكر بلغة لا تقبل التأويل هذه الظّواهر.

هذه الأصوات يجب أن تعلو أوّلاً وقبل كلّ شيء ممّن يتلبّسون أو يطلقون على أنفسهم زعامات دينيّة وروحيّة إزاء ما يحدث من زهق أرواح بريئة. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من أفواه رجال الفكر، إذا كان هنالك أناس ما زالوا يحترمون هذا التّعبير الكبير. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من القيادات السياسيّة الّتي تدّعي، في كلّ مناسبة أنّها تنشد تطوير المجتمع العربي. وهذه الأصوات يجب أن تعلو من المعلّمين والمربّين في المدارس الّذين يقومون على تربية الأجيال النّاشئة. ألا تلاحظون هذا الصّمت الّذي يلفّ هذه الجرائم المتكرّرة في مجتمعاتنا، ثمّ ألا تعتقدون أنّ هذا الصّمت هو شريك فعّال في هذه الجرائم؟

المجتمعات العربيّة بحاجة 
 إلى أناس يتّسمون بالجرأة الأخلاقيّة والأدبيّة من أجل مواجهة هذه الجرائم الّتي تُنفّذ باسمه وتُخزن في رصيده. نحن بحاجة إلى ثورة في الذّهن العربيّ. ثورة بوسعها تغيير المعادلة الجينيّة الّتي استحوذت على العقل العربي. نحن بحاجة إلى هذه الثّورة ليس فقط من أجل المرأة العربيّة، بل وأوّلاً وقبل كلّ شيء من أجل الرّجل العربي القابع في غياهب هذه العقدة الّتي انتزعت منه كرامته وشرفه ووضعتهما في شخص آخر.

قد يحاول الفرد العربيّ البحث عن جذور هذا الانحطاط الذّهني، أو هذا الانحطاط الإنساني. وللإشارة إلى الدّوافع الوثيقة لهذه الظّاهرة أقول: إنّ الأسباب لهذا الوضع نابعة من جذور عميقة لم يفلح بعد الرّجل العربيّ في لفظها من داخله. فحينما يعيش الفرد العربيّ في معزل عن الحريّة الفرديّة، بدءا بالخليّة الأولى الأقوى في المجتمع العربيّ، خليّة العائلة والقبيلة، وانتهاءًا بالخليّة الكبرى، خليّة المجتمع والدّولة، وجميع هذه الخلايا هي خلايا كابتة ومُضطَهِدَة، فهو يحاول البحث عن بدائل لهذا الكبت. بمعنى آخر، فإنّ انعدام هذه الحريّات هو في الواقع دوس على كرامته الإنسانيّة وانتهاك لشرفه البشريّ. وإزاء كلّ ذلك يقوم الرّجل العربيّ بالبحث عن خانة أخرى تحفظ له نوعًا من الأوطونوميا التّشريعيّة، فيستصدر قرارات القتل بمفرده، ويقوم بتنفيذ القرار بمباركة من المجتمع، وإن لم يكن بمباركة من المجتمع فهو يواجه صمتًا كبيرًا ولا مبالاة، هما في الواقع مباركة پاسيڤيّة لتشريعه وتنفيذه. والأنكى من كلّ ذلك أنّ سلطة الدّولة الّتي ترضع من التّقاليد الاجتماعيّة والدينيّة تنظر إلى هذه الظّاهرة بنوع من التفهّم.

وهذا الرّجل العربيّ المكبوت 
نشأ وترعرع في جوّ من الهزيمة الذّهنيّة والفكريّة. لقد آن الأوان الآن إلى إحداث إنقلاب وثورة على هذه الأنماط التّفكيريّة البالية. نحن بحاجة إلى إجراء هذا التّغيير للوصول بالإنسان العربيّ إلى مرحلة من اعتناق القيم البشريّة السامية. ومن أجل الوصول إلى ذلك علينا جميعًا أن نبحث عن طريق أو وسيلة تعيد إلى الرّجل العربيّ كرامته وشرفه. فالكرامة والشّرف ينبعان من الذّات الشخصيّة لا من ذوات أخر.

والجريمة الكبرى الّتي لم يُعاقب عليها شعبيًّا وأخلاقيًّا بعدُ رجالُ الدّين ورجالُ الفكر العرب هي تحميل المرأة وجسدها لوحدها هذا العبء الثّقيل. فعلى الرّجل العربيّ أن يهبّ لحمل هذا الشّرف لنفسه دون أن يكون هذا الشّرف مرتبطًا بالغير. فالمرأة العربيّة، وكلّ امرأة، هي المسؤولة الأولى والأخيرة والوحيدة عن شرفها وكرامتها. وشرفها وكرامتها ليسا بأيّ حال يخضعان لهذا الرّجل المهزوم في دينه أو ذاك الشاب المأزوم في ذهنه.

إنّ تحرير الرّجل العربيّ 
من هذه العقدة هدفه دفع العقل العربيّ إلى التحرّر، وحينما سيتحرّر العقل العربيّ من هذه الرّواسب فسيكون بوسع العرب مواجهة القرن الآزف. أمّا إن لم يحدث ذلك فسيبقى العرب قابعين في القرون الخوالي متشبّثين بالعرض، أو قل الشّرف الزّائف. وهو الدّليل القاطع على انعدام هذا الشرف وهذه الكرامة النّابعة من الذّات الفرديّة للإنسان. وما لم يتمّ هذا التّحوّل فسيبقى العرب إلى الأبد مستضعفين في الأرض.

***


نشرت في: "كلّ العرب"، يوليو 1994
*
مقالات أخرى حول الموضوع:
"لماذا يقتل الرجل العربي المرأة"، إيلاف
"الرجل العربي هو المشكلة، المرأة هي الحلّ"، إيلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟


سلمان مصالحة

لماذا يقتل الرّجل العربي المرأة؟



ما من شكّ في أنّ مكانة المرأة
في المجتمع هي حجر الأساس الّذي تُبنى عليه العمارة الحضاريّة البشريّة. لذا فإنّ مكانة المرأة العربيّة هي قضيّة في غاية الأهميّة، لما كان لهذه النّظرة المُحَقِّرة للنّساء من إسقاطات على مجمل التّطوّر البشري للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة طوال القرون الماضية ولما سيكون لهذة النّظرة، لو بقيت على ما هي عليه، من تأثير في العقود، إن لم نقل القرون، الجائية.

بالإضافة إلى أسباب قد تكون سياسيّة واقتصاديّة وأخرى كثيرة لهذا الوضع المزري، فإنّ أحد أهمّ المسبّبات للتّخلُّف العربي هو هذه النّظرة لمكانة المرأة الدّونيّة في المجتمع، أي في الحياة المتحضّرة لبني البشر. إذ كلّما ارتفعت مكانة المرأة المجتمعيّة كلّما اندفعت المجتمعات قدمًا في ركب التّطوّر على جميع الأصعدة. وبالعكس كلّما انخفضت مكانة المرأة في المجتمعات البشريّة كلّما تقوقعت هذه المجتمعات في شرنقة التّخلُّف الّتي تعزلها عن عالم الحياة المتنوّرة حتّى تتعفّن هذه المجتمعات وتتفسّخ فتذروها الرّياح وتلقي بها على قارعة الطّريق تدوسها الأقدام المسرعة في حركة ارتقائيّة حثيثة.

غير أنّنا، وإذا ما نشدنا الوصول
 إلى تغيير لهذا الوضع المزري، لا يمكننا بأيّ حال أن نتجاهل الأسس الّتي انبنت عليها هذه النّظرة العربيّة المُحَقِّرَة للمرأة ومنذ فجر الحضارة العربيّة وحتّى عصرنا الحاضر. ولهذا السّبب، نحن في أمسّ الحاجة إلى صياغة فكريّة جديدة تُؤسِّسُ لبناء مجتمعيّ جديد قد لا نستمتع به نحن في المستقبل القريب، غير أنّه قد يشكّل بيتًا آمنًا للأجيال العربيّة المستقبليّة.

الصّياغة الفكريّة الجديدة الّتي نودّ الوصول إليها، يجب أن تنبني على ثورة في المفاهيم المؤسِّسَة لهذه المجتمعات العربيّة. وهذه الثّورة يمكن أن نُجملها في مقولة واحدة ومقتضبة: يجب نفض الأسس المجتمعيّة العربيّة رأسًا على عقب، وبدل البناء على أسس ذكوريّة للمجتمع، يجب أن تنبني المجتمعات العربيّة على أسس أنثويّة. صحيح أنّ هذا التّحوّل ليس بالأمر السّهل، إلاّ أنّه هو الحلّ الأوحد لبناء مجتمع عربيّ سليم ومعافى. ولهذا الغرض هنالك حاجة إلى علاج هذه العُقَد الذّكوريّة العربيّة بأدوات معرفيّة وسيكولوجيّة بعيدة الغور، كما أنّها بحاجة إلى أناة وعقول منفتحة من قبل الذّكور خاصّة.

فلو عدنا إلى الوراء، إلى حقبة 
جاهليّة العرب وإلى ما رسخ في الذّهن منها، فإنّ الوأد الجاهلي، كما يعرضه لنا القرطبي في تفسيره نجد أنّ العرب كانت تدفن البنات بعد ولادتهنّ أحياء لسببين: الأوّل، "مخافة الحاجة والإملاق وإمّا خوفًا من السّبي والاسترقاق". ولعلّ مقولة "خوف الحاجة والإملاق" قد وضعت هنا فقط لمجرّد تسجيع الكلام لشغف العرب بهذه العادة اللّغويّة، إذ أنّ المرأة الجاهليّة كانت عضوًا نشطًا في منظومة الإنتاج الجاهليّة مثلها في ذلك مثل الرّجل، إن لم تكن مهمّتها تفوق مهمّته أصلاً. أمّا الشّطر الثّاني من السّبب وهو "خوف السّبي والاسترقاق"، فقد يكون هو الأقرب إلى الحقيقة بسبب تلك الذّهنيّة الذّكوريّة الّتي تخشى من فقدان السّيطرة على ماكينة التّفريخ هذه كما يراها الذّكر العربيّ، ولارتباط مُحرّك هذه الماكينة بالشّرف الذّكوري فحسب.

غير أنّي أميل شخصيًّا إلى الأخذ بالسّبب الآخر الّذي يورده القرطبي تفسيرًا لهذه الظّاهرة، حيث يذكر القرطبي: "كانوا يقولون إنّ الملائكة بنات اللّه، فألحقوا البنات به«. فإذا كان السّبب في ذلك هو إيمانهم بأنّ الملائكة بنات اللّه، ولذلك يلحقون البنات باللّه، فهذا يعني بالضّبط ما هو نقيض للنّظرة الدّونيّة للمرأة، إذ يُفهم من هذه الجملة أنّ النّظرة الجاهليّة إلى البنات هي نظرة تقديس لهنّ كما لو كانت البنات ملائكة، ولذلك فهم يلحقون البنات باللّه. وبكلمات أخرى فهم يقدّمون البنات قرابين للّه، أي من خلال طقس دينيّ للتّقرُّب لآلهة الجاهليّة. وهذا التّفسير أقربُ إلى الصّواب في نظري، إذ أنّه يندرج ضمن هذه الطّقسيّة الدّينيّة، أي تقريب الأبناء للآلهة، لدى كثير من الحضارات القديمة على اختلاف مشاربها ومواقعها، وفي أصقاع شتّى من أنحاء العالَم في العصور القديمة.

إنّ عدم الالتفات إلى هذا التّفسير الّذي أقدّمه هنا من قِبَل أهل العلم من العرب قديمًا وحديثًا مردُّهُ إلى تلك النّظرة الّتي تأسّست عليها الأيديولوجيّة الإسلاميّة والمتمثّلة بتجهيل الحقبة الّتي سبقت الدّعوة، أي بإضفاء صبغة الجاهليّة عليها. وكلّ ذلك بغية رفع قيمة هذه الدّعوة الجديدة مقابل ما سبقها من حضارة عربيّة قديمة.

غير أنّ الإسلام
الّذي قولب صورة الجاهليّة على مقاسه هو، في محاولة منه لوضع حدّ فاصل بين "همجيّة" موهومة للحقبة الجاهليّة من جهة وبين "نور" إسلامي من جهة أخرى، لم يأت سوى بشكل آخر من أشكال الاستعباد للمرأة. بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك لنقول بأنّ الإسلام قد حطّ من قيمة المرأة قياسًا بما كانت عليه من قبل. فبينما كانت الأنثى أقرب إلى كونها من جنس الملائكة الّتي تُلحق باللّه، كما ذكرنا سابقًا، تحوّلت مع الإسلام إلى مخلوق يُنظر إليه، من جهة، بصفته عورة، كما يقول الحنابلة. إذ أنّّه حتّى الظّفر منها عورة "فإذا خرجت من بيتها فلا تُبنْ منه شيئًا، ولا خفّها فإنّ الخفّ يصفُ القدمَ، وأحبّ إليّ أن تجعل لكُمّّها زرًّا عند يدها حتّى لا يبين منه شيئًا"، كما يقول الإمام أحمد، وكذا ابن قيّم وابن تيميّة، إذ أنّ المرأة كلّها عورة كما يقول الإمام القرطبي.أو وجوب الحجاب، لا لكون الوجه عورة، بل لأنّ الكشف هو مظنّة الفتنة، كما تقول الحنفيّة: "حرمة النّظر لخوف الفتنة، وخوف الفتنة في النّظر إلى وجهها، وعامّة محاسنها في وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء"، كما يروي السّرخسي في المبسوط، وكذا تقول المالكيّة أيضًا. بل وأكثر من ذلك، إذ أنّ النّووي الشّافعي يقول: لا يجوز للمسلمة أن تكشف وجهها ونحوه من بدنها ليهوديّة أو نصرانيّة وغيرهما من الكافرات، إلاّ أن تكون الكافرة مملوكة لها". وقد ذكر أنّ آية الحجاب قد نزلت بسبب غيرة الرّسول على عائشة، فقد روي عن مجاهد: "أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يطعمُ ومعه بعض أصحابه، فأصابت يدُ رجلٍ منهم يدَ عائشة، فمره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فنزلت آية الحجاب"، كما يذكر الطّبري في تفسيره. وهذا الكلام يعني شيئًا واحدًا وهو أنّه لو أنّ يدَ ذلك الرّجل لم تمسّ يد عائشة لما كانت نزلت آية الحجاب أبدًا.

فمهما حاول البعض من الإسلامويّين تلطيف الأمور بإخفاء النّصوص عن أعين النّاس، فليس أمام قارئ هذه النّصوص من سبيل سوى مواجهة الحقيقة، إذ أنّ المشكلة ليست في التّفسيرات، وإنّما هي في النّصوص المؤسِّسَة لهذه الأيديولوجيّة الذّكوريّة. إنّ هذا التّعوير أو التّفتين أو شيطنة المرأة بصورة عامّة هو الّذي يُفضي إلى مبدأ الانتقاص من قدرها ومكانتها شرعًا. وهو المبدأ الّذي لا زال مُتحكّمًا في الذّهنيّة العربيّة إلى عصرنا الحاضر. إذن، ومن هذه النّاحية، يشكّل الإسلام في تصوّري تدهورًا ملحوظًا في مكانة المرأة الاجتماعيّة، حتّى قياسًا بما كانت عليه مكانتها في ما سبق من زمن، أي في فترة "الجاهليّة"، كما يحلو للإسلامويّين وَسْمَ تلك الحقبة من الزّمن العربيّ.

مهما يكن من أمر،
 حتّى لو أمعنّا النّظر في طرفي صورة الأنثى، الطّرف الجاهلي منها بالإضافة إلى الطّرف الإسلامي، كما يُقدّمه لنا دارسو الحضارة العرب، إسلامويّين كانوا أو ذوي تصوّرات أخرى، لوصلنا إلى استنتاج لا مفرّ منه. إنّه استنتاج يرى بأنّ النّظرة الذّكوريّة المتجذّرة في الذّهنيّة العربيّة والإسلاميّة تجاه المرأة، هي ما يدفع بالذّكر العربيّ إلى القيام بعمليّة "قتل" أو "إعدام" للأنثى على العموم وعلى عدّة أصعدة. فكما يتّضح فإنّ الوجهين اللّذين قد يبدوان نقيضين للوهلة الأولى، وهما الوأد القبلي الجاهلي على خلفيّة الخوف "من السّبي والاسترقاق" من جهة، والنّظرة إلى المرأة بصفتها عورة أو درءًا للفتنة، كما يجمع على ذلك فقهاء الإسلام، ما هما إلاّ وجهين لعملة واحدة ينبعان من تلك العقدة الذّكوريّة العربيّة الّتي تربط الشّرف بالمرأة، وعلى وجه الخصوص بالجانب الجنسي فيها.

فخوف السّبي والاسترقاق الجاهلي ليس سوى خوف من استحواذ ذكوريّة غريبة على محرّك التّفريخ الّذي يسيطر عليه الرّجل العربي المنتمي إلى وحدة قبليّة تعمل بموجب منظومة من القيم الذّكوريّة. والأمر هو ذاته فيما يتعلّق بالنّظرة التّعويريّة للمرأة في الإسلام. صحيح أنّ الوأد الجسدي قد حُظر إسلاميًّا، غير أنّ هذا الوأد، كغيره من قيم الجاهليّة، قد استمرّ في الإسلام بصيغة أخرى، من خلال تحجيب المرأة في الفضاء العام، والاستحواذ بها داخل حدود البيت لكون المرأة كلّها عورة، أو كما روي عن ابن مسعود عن النّبي: "المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشّيطان«. ولذلك أيضًا فقد روى مسلم في كتاب النكاح من صحيحه أنّ النّبي "رأى امرأةً فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها، فقضى حاجته ثمّ خرج إلى أصحابه فقال: إنّ المرأة تُقبل في صورة شيطان وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصرَ أحدُكم امرأةً فليأْتِ أهلَهُ، فإنّ ذلك يردُّ ما في نفسه". وبكلمات أخرى يردّ ما نفسه من شهوة مواقعتها. لهذا السّبب أيضًا يقول النّبي كما روى البخاري في صحيحه: "اطّلعتُ في النّار فرأيتُ أكثر أهلهت النّساء".

من هنا، فإنّ الوأد الجسدي - جاهليًّا - في التّراب، والوأد الجسدي - إسلاميًّا - في الحجاب يستمدّان شرعيّتهما من كون الشّرف الذّكوري العربي مرتبطًا بالمرأة ليس إلاّ. وهذا الشّرف لو أمعنّا فيه النّظر لرأينا أنّه نابع من خارج ذات الذّكر العربي. أي أنّ الذّكر العربي يعتزّ بالشّرف الّذي ليس من كُنهه هو كذات بشريّة مستقلّة. ولهذا السّبب أيضًا، نرى أنّ الرّجل العربي قد يرتكب جريمة متمثّلة بقتل ابنته أو شقيقته أو أنثى قريبة منه تحت ما يسمّى بجرائم الشّرف. وهو إنّما يفعل ذلك ليس في العالم العربي والإسلامي فحسب، وإنّما كثيرًا ما نقرأ عن ارتكاب هذه الجرائم في البلاد الأوروبيّة وغيرها. أي أنّ هذه النّظرة تنتقل مع العربي في حلّه في بلاد العربان، وفي ترحاله إلى بلاد البيضان والسّودان.

إنّ الرّجل العربي 
يقوم بارتكاب هذا النّوع من الجرائم، وأدًا جاهليًّا أو تحجيبًا وتعويرًا إسلاميًّا أو قتلاً على خلفيّات الشّرف في هذا العصر، لأنّه ترعرع على هذه الذّهنيّة الاستحواذيّة الذّكوريّة القبليّة في مراحل تطوّره الأولى. وأغلب الظنّ أنّ هذه الذّهنيّة ليست سوى ذهنيّة غريزيّة هي من مخلّفات الحيوانيّة البشريّة في مراحل التّطوُّر البشريّة الأولى منذ عهد سحيق في الغابة. في الحقيقة الرّجل العربي يريد الأنثى القريبة لنفسه غير أنّ التّابوات الصّارمة تحول دون ذلك، فيحوّل الأنثى القريبة إلى صلة الرّحم. ولهذا السّبب أيضًا يعمد العرب على العموم إلى التّزاوج داخل القبيلة من أبناء العمومة والخؤولة. وهم يفعلون ذلك من أجل الاستحواذ بماكينة التّفريخ ضمن حدود القبيلة ذاتها بغية تكثير الجينات الذّكوريّة الذّاتيّة في الطّبيعة البرّيّة الوحشيّة، أو لتكثير العدد القبلي لحاملي العصيّ، كما يُقال لدى العوام. إذ أنّ كلّ ما هو خارج نطاق القبيلة ذاتها يُعتبر غريبًا يُهدّد الهيمنة على مناطق ومجالات النّفوذ في الطّبيعة البريّة.

ليس من عجب إذن، أن نرى هذا الدّرك الّذي وصلت إليه أحوال العرب مقارنة بالشّعوب المتطوّرة في هذا العالم. فالحضارة الذّكوريّة العربيّة لا زالت في مراحل أوليّة من التّطوُّر البشري، وهي بحاجة إلى نقلة نوعيّة. ومن هنا أيضًا فإنّنا نُطلق دعوتنا الصّريحة هذه إلى قلب الأمور رأسًا على عقب، والعمل على بناء المجتمع العربي على أسس أنثويّة بدل الأسس الذّكوريّة الّتي لا تستطيع بأيّ حال أن ترتقي بالمجتمعات العربيّة، وفي حضارتنا العربيّة قديمًا وحديثًا ما يكفي من براهين على ما نرمي إليه.

فهل من سميع أو مجيب؟

يوليو 2005


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!