لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟



سلمان مصالحة

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟


أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة  
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟" وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.

 قبلة اليهود:
 فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ "صخرة بيت المقدس" هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم "قبلة اليهود"، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: "وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: 1ج، ص 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي "قبلة اليهود"، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي "قبلة أهل الكتاب..." تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: "وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود" (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: "بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصَلاّهم." (في ظلال القرآن: ج 1، 72).

فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح "بيت المقدس" الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ"الصخرة" التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي "قبلة اليهود"، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟


من المعلوم أنّ الكعبة 
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي هو ولم يهاجر بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: "وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها." (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).

ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: "إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض..." (تفسير الرّازي - مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان "لفائدة"، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
 

فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: "أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم..." (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).

ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس..."، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: "ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس..." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
 

إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك "ليُؤمنوا به ويتبعوه."، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم." (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى "قبلة اليهود" كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو "قبلة اليهود" بالذّات؟
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


سلمان مصالحة

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


في سلسلة المقالات التالية
سأعرض على القارئ الكريم ما أتوصّل إليه بشأن فلسطين كما تتبدّى في التّراث العربي والإسلامي. وقبل أن أبدأ أودّ أن أمهّد لذلك فأقول إنّي لن أتعرّض في هذه المقالات لكتابات استشراقيّة حول هذه المسائل حتّى لا أُتّهم بأنّني أشيع آراء غربيّة وغريبة وما إلى ذلك من مقولات واتّهامات جاهزة لدى بعض النّفر من العرب، من صنف أولئك الّذين لا يقرؤون ولا يفقهون ولا يعون ما يشتمل عليه هذا التّراث العربيّ والإسلاميّ. وهي، على كلّ حال، مقولات واتّهامات تُفسد على القارئ النّبيه إمكانية النّظر ببصيرة حادّة وجادّة في قضايا تهمّ القارئ العربيّ بعامّة والفلسطيني منه على وجه التّحديد. فكم بالحريّ إذا كان الحديث عن تراثنا، ونحن عرب ننتمي إلى هذه الأمّة. فنحنُ قيّمون على حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، نعرف قراءة تراثنا المكتوب بلغتنا العربيّة، والّتي نعرفها جيّدًا مثلما نعرف هذا التّراث، تراثنا نحن. كما نعرف التّعامل معه بلساننا، ولسنا بأيّ حال من الأحوال بحاجة إلى أناس غرباء آخرين لقراءته ومساءلته.

في البداية،
لا بدّ من التّنويه إلى ما يلي: لمّا كانت فلسطين والقدس لم يرد ذكرهما في القرآن بتاتًا، وإنّما ورد ذكر بيت المقدس فقط، ليس نصًّا صريحًا في القرآن، بل ورد ذكرها في كتب التّفسير والتّاريخ وغيرها في سياق الحديث عن التوجّه بالصّلاة، أي القبلة، وفقط في سياق قصّة إسراء ومعراج الرّسول. ولذلك وجدت أنّه من المناسب أن أبدأ هذه السلسلة بمقالة حول القبلة.

فهل حقًّا القدس هي أولى القبلتين؟
تشيع في الكتابات العربيّة والإسلاميّة في هذا العصر مقولة إنّ القدس هي "أولى القبلتين"، أي أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل، أي في المرحلة الأولى لظهور الإسلام، كانوا يستقبلون القدس، أي يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس. فهل كان ذلك حقًّا؟من أجل الإجابة على هذه التّساؤلات، دعونا ننظر فيما نقله لنا السّلف عن هذه القضيّة. فلقد ورد في صحيح مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه "كان يصلي نحو بيت المقدس..." (صحيح مسلم: ج 1، 375؛ سنن أبي داود: ج 1، 340؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، 325)، أو برواية الطبري: "كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله صلعم بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله صلعم، نحوَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا..." (تفسير الطبري: ج 1، 548؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18؛ أنظر أيضًا الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ سبل الهدى والرّشاد للصالحي الشامي: 370). أي أنّ بيت المقدس، وبحسب هذه الرّوايات، كانت هي القبلة الأولى للرّسول والمسلمين.

غير أنّنا لو واصلنا البحث
في هذه المسألة فسنرى أنّه لا يوجد إجماع حول هذه النّقطة، بل هناك رأيان بشأن القبلة الأولى. فهناك كثيرون يقولون إنّ القبلة الأولى هي الكعبة، ويذكرون أنّ رسول الله: "كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وها هو القرطبي يلخّص لنا هذا الخلاف: "واختلفوا أيضًا حين فُرضت عليه الصلاة أوّلاً بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أوّل ما افتُرضت الصلاة عليه إلى الكعبة. ولم يزل يُصلّي إليها طول مقامه بمكة... فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس... ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). وبكلمات أخرى، هنالك من يذهب إلى ترجيح هذا الرأي والقول إنّ الكعبة هي القبلة الأولى، وليس بيت المقدس. وكذا نستنتج أيضًا من رواية ابن عبّاس الّذي يذكر أنّ بداية الأمر كانت إلى البيت العتيق، ثمّ تحوّل إلى بيت المقدس وعاد بعدئذ إلى البيت العتيق: "استقبل رسول الله صلعم فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخَها..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أي أنّ البيت العتيق كان هو السّابق، وقد تركه الرّسول، ثمّ عاد إليه. بل هنالك من يصف الكعبة وبكلام صريح على أنّها هي بالذّات "أقدمُ القبلتين." (تفسير البيضاوي: ج 1، 420؛ تفسير ابن عجيبة: ج 1، 115).إذن، يتّضح ممّا أوردنا من آراء السّلف أنّه لا يوجد إجماع بشأن أوّلية القبلة لبيت المقدس، رغم شيوع هذه المقولة على الألسن وفي الكتابات في هذا الأوان.

وإذا لم يكن ثمّ إجماع بشأن القبلة الأولى،
فليس ثمّ إجماع أيضًا على السؤال، إنْ كان التّوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس قد جاء بأمر من الله أم بتخيير من لدنه. فهنالك من يقول بالتّخيير، كما يذكر الطبري: "قال الربيع قال أبو العالية: إن نبي الله صلعم خُيّر أن يوجّه وجهه حيث شاء فاختار بيت المقدس..." (تفسير الطبري: ج 2، 3). لكن، وفي الوقت ذاته، ثمّ روايات أخرى تقول بأنّ الاتّجاه نحو بيت المقدس كان بأمر إلهي، كما يظهر من الرواية التالية: "أنّ رسول الله صلعم لما هاجر إلى المدينة... أَمَرَه اللهُ أن يستقبلَ بيت المقدس..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 458 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ لباب النّقول في أسباب النّزول للسيوطي: ج 1، 16). وقد أثارت هذه المسألة نقاشات واسعة لأنّ لها علاقة بأمور عقائديّة، ليس هنا المجال للدّخول فيها.

ليس هذا فحسب،
بل لو أمعنا النّظر مليًّا في الرّوايات الإسلاميّة سنرى أنّ الاتّجاه بالصلاة ليس هو نحو جهة بيت المقدس بصورة عامّة، وإنّما هو، في حقيقة الأمر، نحو نقطة بعينها، وهي نقطة محدّدة بدقّة في بيت المقدس. وهذه النّقطة المحدّدة هي الصخرة، كما نقرأ لدى الطّبري: "أن النبي صلعم كان يستقبل صخرة بيت المقدس... " (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ انظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 259). ومثلما نقرأ أيضًا: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمرَ بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). بكلمات أخرى، فإنّ الاتّجاه بالصّلاة هو نحو نقطة بعينها في بيت المقدس، وهي الصّخرة.

مهما يكن من أمر،
فلا شكّ أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الإسلامي على أنّ القبلة قد تحوّلت إلى الكعبة بعد ستّة عشر أو سبعة عشر شهرًا من هجرة الرّسول إلى المدينة. وكان هذا التّحويل، على ما تذكر الرّوايات الإسلاميّة، هو بداية إبطال مفعول أوامر سابقة نصّ عليها الإسلام في بداية عهده، أو هو: "أوّل نسخ وقع في الإسلام" (سيرة ابن كثير: ج 2، 372؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أو أنّ: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).ممّا ذكرنا أعلاه، واستنادًا إلى الروايات التي حفظها لنا التّراث العربي والإسلامي، نرى كلّ هذا التّخبّط الواضح في مسألة جوهريّة، خاصّة وأنّها تتعلّق بمسألة أساسيّة، مسألة الصّلاة ووجهتها. وما من شكّ في أنّ هذا التّخبّط يدلّ على تناقُض واختلاف في الرّوايات، وهو أمر يشير في نهاية المطاف إلى تَطوّر في مجريات الأحداث والعبادات في المرحلة الإسلاميّة الأولى. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التّوفيق!*
في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا بيت المقدس ولماذا الصّخرة بالذّات؟ فانتظرون!

***
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"

_________________________________________
مقالات هذه السلسلة: 

المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***
***

صُوَر




سلمان مصالحة


صُوَر


الشَّارِعُ الـمَرْصُوفُ بِالأَوْهَامِ
كَالـْحُلُمِ الـمُبَاحْ،
النَّائمُونَ عَلَى فِرَاشِ هَوَانِهِمْ،
وَالسَّاهِرُونَ عَلَى رَصِيفٍ
مُسْتَبَاحْ. النَّادِبُونَ
لِـحَظِّهِمْ، وَالبَاحِثُونَ عَنِ
الفَلاحْ. الـْكَاتِمـُونَ
صَلاتَهُمْ بِصُدُورِهِمْ،
وَالعَابِرُونَ مَعَ الرِّيَاحْ.
الزَّوْرَقُ الـمَـنْسِيُّ عِنْدَ النَّهْرِ
فِـي وَضَحِ الصَّبَاحْ -
صُوَرٌ مِنَ الـمَنْفَى، رَمَاهَا
اللَّيْلُ فِـي دَرْبِـي وَرَاحْ.

يَا أَيـُّهَا اللَّيْلُ الَّذِي
نَسِيَ النَّدَى فِـي خَافِقِي،
خُذْنِـي إلَى بَلَدٍ
تَوَشَّحَ بِالرَّدَى.
جَسَدِي
نُواحْ.

*


من مجموعة: لغة أم، منشورات زمان، القدس 2006


***

لترجمة إنكليزية، اضغط هنا.

لترجمة فرنسية،
اضغط هنا.




حرباوات عرب 48

سلمان مصالحة

حرباوات عرب 48

الشّيوعيّون العرب، وعلى وجه الخصوص
من صنف هؤلاء وأتباعهم المنضوين تحت راية ما يسمّى الجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة، والّذين أقسمت قيادتهم ونوّابهم يمين الولاء لدولة إسرائيل، هم من أسوأ المدمنين الشّيوعيّين على رفع الشّعارات الكاذبة. إنّ هؤلاء، ولإدمانهم على تدخين الشّعارات الّتي نفخها فيهم سدنة الكرملين من الضّالّين غير المغفور لهم، أضحوا في حال يرثى لها. إذ أنّهم لم يجدوا، بعد أن تهاوت صروح أولئك الّذين زوّدهم بوجبات الشّعارات التّخديريّة، من سبيل لإشباع أنفسهم غير سبيل البحث عن القراعيم. والقراعيم، جمع قرعومة بلغتنا المحكيّة، هي أعقاب السّجائر المرميّة، بعد استنفاد المدخّن جرعات النّيكوتين منها.

لقد شاءت الأقدار
أن انفرط عقد "منظومتهم الاشتراكيّة" مثلما أدمنوا على إشاعة تسمية تلك الدّول الّتي سارت في ركاب "بيت-عزّهم" السّوڤييتي الّذي اندثر فلم يبق له أثر. وكعادة المدمنين الّذين لم يجدوا مصحّات للفطام من شعاراتهم، تراهم ملقيّين على قارعات الطّرق أو تجدهم يبحثون، في بعض ما تبقّى من براميل القمامة الشّيوعيّة المتناثرة على أطراف العالم، عن أعقاب سچائر يشفون بها ظمأ إدمانهم. وهكذا على سبيل المثال تراهم يشيدون في صحفهم الصّفراء ومواقعهم الحمراء البلهاء بنظام كوريا الشّماليّة، لا لشيء سوى أنّه يُخيَّل لجهلائهم أنّ مثل هذه الأنظمة يعادي أميركا والرأسماليّة ويؤمن بالاشتراكيّة. في حين يعلم كلّ من يمتلك ذرّة من عقل في هذا العالم أنّ هذا النّظام الكوري الشّمالي هو أسوأ نظام بقي على وجه الأرض، من ناحية تأليه الزّعيم وتوريث الرئاسة واستعباد النّاس وإفقارهم إلى أبعد الحدود. لقد حقّ في هؤلاء المدمنين القول أنْ تبدّلَ العالمُ وما بُدّلوا تبديلا.
نودّ التأكيد أوّلاً
على أنّه لا بأس في الاعتراض بشدّة أو رفض وإدانة السّياسات الأميركيّة، بل ربّما كان من واجب ذوي العقول المتنوّرة والحرّة الّتي تنشد الخير الاعتراض على تلك السّياسات الغبيّة وخاصّة تلك الّتي تأتي من قرائح محافظي بوش الجدد وأمثالهم المتعولمين. غير أنّ هذه الفئة من الشّيوعيّين وأتباعهم الجبهويّين من فلسطينيّي إسرائيل (عرب 48، عرب الدّاخل، عرب إسرائيل، وما شئتم من تسميات...)، ولشدّة إدمانهم الشّعارات المتوارثة كابرًا عن كابر فإنّهم لا يفرّقون بين الخير والشرّ في هذا العالم. فالشّعار الّذي ترعرعوا عليه شبّوا عليه وها هم يشيبون عليه. لقد أدمنوا على جرعات الغباء الّتي رضعوها من "منظومتهم" من المهد، ويبدو أنّهم سيحملونها في جعبتهم إلى اللّحد.

وعلى سبيل المثال،
يعلمُ كلّ إنسان بسيط يتّسم بالبديهة الخَيّرة من أهلنا في هذا الوطن أنّ القضاء على نظام صدّام التّكريتي الظّالم هو عملٌ خَيّرٌ، بينما التنفيذ وما جرى ويجري في ساحة العراق الآن هو شرّ. هذه هي المعادلة، غير أنّ المدمنين على شعارات المفروطة "الاشتراكيّة"، غير المأسوف عليها، لا يعترفون بحقيقة هذه المعادلة. بل إنّك تقرأ في صحافتهم مديحًا وإشادات بما يسمّونه زورًا وبهتانًا "مقاومة". الإرهاب الّذي يفجّر الكنائس والمساجد والأسواق على من يؤمّها من النّاس البسطاء الأبرياء، من جميع أطياف أبناء العراق على جميع مللهم ونحلهم، في المدن العراقيّة ليس "مقاومة" وليس "شريفة" بأيّ حال ولا يمكن أن يكون كذلك، أيّها الدجّالون الكذبة. إنّما هو جرائم تقشعرّ لها الأبدان مهما حاول الكذبة تلميعها.
وشيء آخر يجب قوله لهؤلاء الدّجالين
من رافعي شعار الأمميّة في حين أنّ الأمميّة منهم براء: كيف ينظر هؤلاء إلى أنفسهم في المرآة وهم يتشدّقون بفلسطينيّتهم ويرفعون صوتهم ضد الاحتلال الإسرائيلي من أجل رفع الضّيم والظّلم عن الشّعب الفلسطيني (والظّلم الإسرائيلي للفلسطينيّين هو أمر واقع ويجب محاربته كما يجب كنس الاحتلال من المناطق الفلسطينيّة المحتلّة، وهذا واجب على على كلّ إنسان حرّ وصاحب ضمير)، ولكنّهم في الوقت ذاته يدافعون عن نظام على شاكلة النّظام السّوداني وعصابات عُرْبانه الّتي شرّدت أكثر من مليونين وقتلت أكثر من مائتي ألف إنسان من أهل دارفور في السّنوات الأخيرة؟ أليس أهل دارفور جزءًا من هذه الأمميّة الّتي يدّعيها هؤلاء الدّجّالون؟ أم أنّهم، في ما يتعلّق بأهل دارفور ذوي البشرة الأشدّ سمارًا، عنصريّون عروبيّون قد ترعرعوا على بذاءات شاعرهم ورمز عروبتهم البليدة الّذي شحنهم بمقولة: "إنّ العبيد لأنجاس مناكيدُ"؟


إنّ هؤلاء بتوجّهاتهم هذه
إنّما يكشفون عن حقيقة لا يمكن كنسها وإخفاؤها تحت بساطهم المُهترئ. إنّهم في قرارة أنفسهم، وبما تنضح به صحفهم ومواقعهم، يشهدون على أنّهم أصوليّون وسلفيّون، بل وعنصريّون عروبيّون. وهم بذلك ليسوا بأقلّ سوءًا من المتأسلمين القدماء والجدد الّذين يعيثون فسادًا في المجتمعات العربيّة وفي ما سواها. ولأنّهم أصوليّون وسلفيّون فإنّك تراهم أو تقرأ في صحافتهم كلّ ذلك التّغامز والتوادد مع الأصوليّين الإسلاميّين، أو مع القبليّين العربان في كلّ مكان: "هنالك قوى أصولية دينية تناضل ضد العدوان والاحتلال، وهي أشرف من كل اليسار المدّعي والمزيف"، مثلما يصرّح أحد زعمائهم في صحافتهم. أليست مقولته هذه تكشف بالضّبط أنّه هو الّذي يمكن تسميته بـ "اليساري المزيّف"، المتزلّف للأصوليّة؟
لقد نسي هؤلاء الشّيوعيّون والجبهويّون،
أو تناسوا، شعاراتهم الأخرى الّتي طالما رفعوها في الماضي، مثل شعار "الدّين أفيون الشّعوب". لقد نسي هؤلاء أو تناسوا، أنّ من بين أهمّ الأسباب الّتي "فَسْقَلَتْ" وذرّرت أبناء المجتمع العربي في إسرائيل هو ظهور الحركة الإسلاميّة الّتي بدأت مدعومةً من الحكومات الإسرائيليّة بغرض ضرب التّوجّهات الوطنيّة الوحدويّة الديمقراطيّة والمنفتحة على العالم، الّتي كانت لدى شرائح صادقة من أبناء الجمهور العربي ولدى بعض القيادات السّابقة، رغم الكثير من التّحفّظات الّتي لدينا على تلك القيادات أيضًا. لكن يبدو أنّ خلفاء هؤلاء ولشدّة إدمانهم الشّعارات، ولاختفاء بعض الوجوه المسؤولة من السّاحة، فقد أضحت الشّعارات في ذهنيّاتهم مخدّرًا يفقدهم صوابهم، فتراهم في كلّ واد يهيمون، يقولون ما لا يفهمون. لذلك أيضًا تراهم يسارعون إلى الزّجّ بأنفسهم في منافسات عقيمة مع المتقومجين الجدد، فرسان فضائيّات الزّعيق، أو أنّهم يتودّدون إلى إسلاميّين جدد، من عربان أيديولوجيّات الحريق.

كيف نصف، إذن، حال هؤلاء؟
لا شكّ أنّهم الأكثر شبهًا بالحرباء. والحرباء هي هذا المخلوق الّذي طالما شدّ انتباهنا في سني طفولتنا لتلوّنه بلون الجسم الّذي يقف عليه، أو في بيئته، اتقّاء الافتراس. وفي بعض الأحايين تتشكّل الحرباء بلونين مختلفين من جانبيها. هذه هي حال هؤلاء أيضًا، فإنّهم في كثير من الأحيان يصرّحون بالعربيّة شيئًا واحدًا، ثمّ يقولون خلافه عندما يأتي التّصريح بالعبريّة. إنّهم، على ما يبدو، قد ذوّتوا جوهر مقولة "لكلّ مقام مقال"، أو أنّهم قد انطبعوا منذ نعومة أظفارهم بطبيعة الحرباوات المتلوّنة.
أليس كذلك؟

*
في المقالة القادمة سنشرح لكم معنى الآية:
"لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ غَباءً الّذِينَ تَشَيَّعُوا فَقالُوا إنّا شُيوعيّون جبهويّون فلسطينيّون إسرائيليّون".


***
نشرت في إيلاف، مارس 2007

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ



لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاس غَباءً


في المقالة السّابقة
تطرّقت إلى مسألة الشّعارات الّتي أدمنت عليها بعض القيادات والمتنفّذين في الجبهة الديمقراطيّة والحزب الشّيوعي الإسرائيلي، وهي الشّعارات البعيدة كلّ البعد عن الأمميّة والعلمانيّة اللّتين يدّعيانهما. وقد يسأل سائل: ألم تكتب بأنّك ستمنح صوتك في الانتخابات الإسرائيليّة السّابقة للجبهة الدّيمقراطيّة؟ والجواب على ذلك: بلى، ولا أنكر ذلك. بل وقد نشرت هذا الكلام هنا في "إيلاف"، وقد تمّ نقل المقالة بعد ذلك وتوزيعها في النّاصرة والجليل وبلدات أخرى عشيّة الانتخابات بعد استئذاني بعمل ذلك. ولكنّى أكّدت في المقالة، ويمكن العثور عليها في أرشيف "إيلاف"، على أنّي سأمنح صوتي للجبهة لأنّها "الأقلّ سوءًا" من بين سائر الأحزاب الموجودة على السّاحة، وذلك لكون الجبهة: "بما تمثّله من توجّهات على الصّعيد الإسرائيلي العام، سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، هي الخيار الأقلّ سوءًا" (أنظر المقالة).

لقد كتبت ذلك لأنّ الحقيقة هي أنّ كلّ الأحزاب القائمة على السّاحة سيئّة، ولذلك فأنا أنتخب "الأقلّ سوءًا" لكي لا يذهب صوتي، إن أنا امتنعت عن التّصويت، للأحزاب الكبيرة الحاكمة، كما هي الحال في قواعد الانتخابات النّسبيّة الإسرائيليّة. والتّأكيد هو على "الأقلّ سوءًا"، غير أنّ منحي صوتي لـ"الأقلّ سوءًا" لا يجعل الجبهة وقيادتها وصحفها فوق النّقد، بل يعني أنّ ثمّ أمورًا سيئّة فيها أيضًا، وفيها الكثير من ذلك. وهي أمور لا يمكن كنسها تحت بساط الشّعارات الّتي أضحت كاتمات عقول لدى البعض، ظنًّا من هؤلاء أنّهم وبمجرّد التّزنُّر بالشّعارات يسقطون عن أنفسهم إمكانية التعرّض للنّقد، بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا.
وسنكشف للقرّاء الآن بعضًا
من غباء بعض تلك القيادات والمتنفّذين في هذه الجبهة وصحافتها. ولأنّ هؤلاء البعض يدّعون مواكبة العصر فقد أفردوا لحزبهم وجبهتهم وصحافتهم موقعًا في هذه الشّبكة. إنّهم يدّعون بكونهم منبرًا حرًّا وتعدّديًّا، وأنّّهم يؤمنون بحريّة التّعبير وما إلى ذلك من شعارات، غير أنّ هذه الادّعاءات سرعان ما تسقط في مواجهة الواقع. فها هم يصرّحون في الخفاء بأنّ هنالك: "قواعد معيّنة نتّبعها في التّعامل مع الموادّ المنشورة في موقع الجبهة، تستند إلى رؤى سياسيّة تقرّها قيادة الجبهة". وعندما تسأل هؤلاء عن هذه القواعد والرّؤى فإنّهم لا يحيرون جوابًا، وكأنّ القواعد والرؤى السّياسيّة للأحزاب تنتمي إلى عالم الغيب؟

لقد نسي هؤلاء أنّ للإنترنت فضائل لا يعرفونها. إذ إنّ المتصفّح ذا البصر والبصيرة سيكتشف أنّ الأمّيّة أقرب إلى هؤلاء من الأمميّة. إذ لو أنّهم كانوا يقرؤون ما نقرأ من هذه "المواقف والرّؤى الّتي تقرّها قيادة الجبهة"، كما يدّعون، ويمكن الوصول إليها عبر موقعهم، لكانت هذه القيادة وإدارات صحافتها ومحرّريها قد اختفت عن الأنظار، ومن زمان.
فعلى سبيل المثال، تراهم يتشدّقون صباح مساء بقيادتهم، صاحبة الصّون والعفاف، ولهذا الغرض يتزيّون بكلّ ما هو شعاراتي كعادة المدمنين عليها، فيفردون للقارئ إحالات إلى كُتّاب مقالات يعتزّون بهم لمجرّد كونهم فلسطينيّين لا غير. غير أنّ من يقرأ عميقًا في موقع "أصحاب المواقف والرّؤى السّياسيّة" سيكتشف في الحال أنّه أمام أناس أقلّ ما يمكن أن يقال عنهم هو أنّهم على درجة من الغباء والأميّة يصعب الوصول إليهما.
ولماذا أقول هذا الكلام؟
لقد أفردوا في صدارة موقعهم صورًا لقياداتهم الّتي فارقت الحياة وإحالات إلى سيرهم إجلالاً منهم لهذه القيادات. ولا بأس في ذلك، فقد عرفت بعضها إذ ربطتني بها علاقات شخصيّة، كما أكنّ للبعض منها احترامًا حقيقيًّا، رغم أنّي كنت قد أسمعتها شخصيًّا، وفي أكثر من مناسبة ولقاء، تحفّظي من بعض مواقفها وسلوكيّاتها، وليس هنا المجال لتفصيل تلك اللّقاءات والمشاهد والتّحفّظات. إنّهم يرفعون هذه الشّخصيّات بمثابة شعار فحسب، إذ أنّ القارئ النّبيه سيصل في موقعهم ذاته وخلف تلك الشّعارات إلى أمور من نوع آخر.
لنقرأ، على سبيل المثال فحسب،عن بعض ملابسات ما جرى أيّام النّكبة والمواقف المتلوّنة والمتبدّلة للشّيوعيّين بين ليلة وضحاها، ممّا يصل إليه القارئ عبر موقعهم. يذكر أحد الكتّاب المميّزين: "حينما أعلنت الهيئة العربية العليا معارضتها لقرار التقسيم، أصدرت عصبة التحرر الوطني،وهي الجناح العربي في الحزب الشيوعي، أصدرت بياناً تمتدح فيه المفتي،وتسمي قراره بمحاربة التقسيم بأنه انتفاضة قومية رائعة. وصفق الناس يومها للشيوعيين.ولكن الشيوعيين العرب كانوا غافلين. ففجأة تغير موقف الاتحاد السوڤيتي وأعلن موافقته على التقسيم. وإذا الشيوعيون العرب الذين كانوا ينادون بوحدة فلسطين واستقلالها ينادون بتقسيمها. وإذا الحزب الشيوعي ينشقّ على نفسه. وإذا إميل توما وبولس فرح يعارضان التقسيم، بينما فؤاد نصار وطوبي وحبيبي يؤيدونه. ويركض فؤاد نصار قائد الشيوعيين إلى أبراهام بن صور المبامي الصهيوني ويحاول إقناعه بأن التقسيم أفضل من الدولة الثنائية الموحدة التي كان ينادي بها المبام. هكذا مسح العباقرة العرب الشيوعيون ما قالوه بالأمس، فسبحان مبدل الأحوال!".

كما أنّ إميل توما ذاته لا يسلم من سياط الكاتب الّذي يتزيّن به الموقع. فلنقرأ معًا، إذن، كلمات الكاتب: "ولنرجع إلى التاريخ مرة أخرى: السنة 1948، الشهر آذار، المكان حيفا، الشيوعي إميل توما عضو في اللجنة القومية في حيفا. إميل يجتمع سراً مع قادة صهيونيين!. وقد يدعي إميل أنه كان يريد إحلال هدنة في حيفا. ولكن الناس سامحهم الله، يسيئون الظن دائماً، وهم يقولون إن إميل كان يسلم أسرار العرب للصهيونيين الذين يجتمع بهم...". بهذه اللّغة يهاجمه الكاتب الّذي يتشرّف به أصحاب "المواقف والرؤى الّتي تقرّها قيادة الجبهة". وهذا الكلام مميّز لديهم، ليس لأنّهم يؤمنون بحريّة التّعبير، فهم لم يكونوا في يوم من الأيّام كذلك. إنّما هو موجود لديهم لأنّهم، من جهة، قد أدمنوا على الشّعارات فحسب، ولأنّهم لا يقرؤون ،من الجهة الأخرى. سأكتفي بهذا القدر من الاقتباسات الآن، وهنالك أمور كثيرة أخرى ووكلام وكتابات تتعرّض إلى مواقف وسلوكيّات شخصيّات مركزيّة، مثل إميل حبيبي، صليبا خميس، عصام العبّاسي وغيرهم.
لم أرغب في ذكر
اسم كاتب المقال المذكور أعلاه، وذلك لسببين: أوّلاً، لكي لا يسارع المحرّرون إلى شطب هذه الموادّ من موقعهم، ونحن نريد من القرّاء أن يطّلعوا عليها قبل أن تُشطَب، لكي يتعرّف القارئ على منسوب غبائهم. وثانيًا، لأني أرغب في إرغامهم على القراءة، بل وإرغامهم على تخصيص طاقم يكدّ بحثًا في أرشيفهم عن هذه "الرّؤى الّتي تقرّها قيادة جبهتهم ومحرّري صحافتهم ومواقعهم.
فماذا يمكن أن يُقال، إذن، عن هؤلاء؟ لو قُيّض لجحا أن ينشئ صحيفة أو موقعًا لكان أكثر ذكاءً منهم.
ورغم كلّ ذلك،
ولكي لا يُفهم كلامي على التّعميم، أقول إنّه ما زال هناك بعض المنتمين للجبهة والحزب، من صنف أولئك الّذين يعملون بجديّة وبصدق لمصلحة النّاس، بعيدًا عن الشّعارات المتقومجة الّتي تذهب أدراج الرّياح، أو أدراج الأثير الفضائي العروبي القادم من أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة في الشّرق الأوسط، بوق واضعي نظريّات "الفوضى البنّائة". فإذا كان الرّفاق والشباب المنفتحون الصّادقون، والأوفياء إلى مبادئ الأمميّة والعلمانيّة ممّن ينتمون إلى هذا الجسم يشعرون بالحرج من هذا الهرج، فما عليهم سوى الاحتجاج على ما تقوم به بعض قياداتهم وبعض المتنفّذين في صحافة الجعجعة البلهاء الّتي يحرّرونها. وإذا كانوا يريدون خيرًا للنّاس في هذا الوطن، فما عليهم سوى العمل على إحالة جميع هؤلاء المجعجعين وأمثالهم إلى التّقاعد. لأنّهم إنْ لم يفعلوا ذلك يصبحون مسؤولين عن كلّ ما يجري خلف ظهورهم وباسمهم.
وأمر أخير نودّ التأكيد عليه،وعلى مسمع من جميع هؤلاء ومن لفّ لفّهم من مدمني الشّعارات الكاذبة: لا يمكن للأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل، والّتي تناضل وبحقّ من أجل الحفاظ على حقوقها في وطنها ضدّ السّياسات العنصريّة الإسرائيليّة، إلاّ أن تكون نصيرة لكلّ الأقليّات الّتي تناضل من أجل حقوقها في أوطانها، كالأكراد في سوريا والعراق وتركيا وإيران، وكألأقباط في مصر، وكأهل دارفور في السّودان، وكالأمازيغ وغيرهم في دول المغرب وسائر الأقليّات في البلاد العربيّة، أو كأيّ أقليّة أخرى مضطهدة على وجه الأرض. كما لا يمكن للأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في إسرائيل أن تكون في جانب نظام قمعي كالنّظام البعثي العروبي العنصري، مثال الّذي رحل إلى غير رجعة من بلاد الرّافدين، أو كنظام البعث الّذي يلاحق ويسجن خيرة المثقّفين السّوريّين، والّذي سيرحلُ هو الآخر عاجلاً أم آجلاً من بلاد الشّام، مثلما رحل عن لبنان.
نحن نؤمن بالحريّة لنا ولغيرنا، كما أنّنا ننشد الخير لنا ولغيرنا إذ أنّ المبادئ الإنسانيّة في نهاية المطاف لا يمكن أن تتجزّأ. بل على العكس من ذلك تمامًا، هذا هو المعنى الحقيقي للأمميّة. هذا إذا كنّا نؤمن بها حقًّا ولا نرفعها كمجرّد شعار يتلاشى مع هبوب كلّ نسمة قومويّة أو إسلامويّة، بغية منافسة شعاراتيّة مع تيّارات ظلاميّة أخرى ظهرت على السّاحة.


وَالعَقْلُ وَلِيُّ التّوفيق.

***
نشرت في إيلاف، مارس 2007



قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!