لماذا التّرجمة، وكيف؟


سلمان مصالحة


لماذا التّرجمة، وكيف؟



حضارتنا القديمة، على العموم،
هي حضارة البداوة الشّفهيّة المعتمدة على الحفظ السّماعي للشّعر أوّلاً، ثمّ للرّواية الأدبيّة والتاريخيّة لاحقًا حتّى جاء عصر التّدوين، وهو العصر الّذي نقل العربيّ من مرحلة العقل الپاسيڤي السّماعي إلى مرحلة العقل الفاعل الواعي. لهذا، ربّما ليس صدفة أنّ المصطلح "ترجمة" المستخدم في العربيّة قد وفد عليها من مصدر غير عربيّ. فالأصل من اللّغة الأكديّة، ثمّ عبر إلى الآراميّة ثمّ إلى العربيّة في مرحلة متأخّرة. وما من شكّ في أنّ انعدام وجود مصطلح في لغة شعب من الشّعوب هو خير شاهد على انعدام ما يحمله هذا المصطلح من مفاهيم دلاليّة وذهنيّة في حضارة هذا الشّعب. فهل كان لتأخُّر وفود هذا المصطلح على العربيّة أثرٌ على تخلُّف المعارف العربيّة؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابة هي بالإيجاب، إذ أنّ الطّفرة العلميّة والأدبيّة العربيّة في القرون العربيّة الوسطى قد حدثت عقبَ حصول التّرجمات الّتي نقلت إلى العربيّة معارف الشّعوب الأخرى. وأغلب الظنّ أيضًا أنّ العرب دخلوا عصر الانحطاط مع توقُّف عمليّة التّرجمة هذه. وهذا ما يشهده العالم العربي في عصرنا الحاضر، كما تشير إليه تقارير التّنمية البشريّة الصّادرة عن الأمم المتّحدة.

على كلّ حال، يصحّ أن نقول الآن إنّ التّرجمة، على اختلاف مجالات المعارف المنقولة، هي شبكة الإنترنت الأولى قبل أن تداهمنا هذه الشّبكة المعاصرة. فالتّرجمة هذه هي الّتي قرّبت العالم من بعضه البعض في العصور الخوالي، ولولاها لما تثاقف العالم ولما تطوّرت العلوم وتكدّست المعارف وتناقلتها الشّعوب فيما بينها. فالتّرجمة هذه هي هي الّتي حوّلت العالم القديم - ولا زالت تفعل كذلك في عصرنا الحاضر - إلى قرية كونيّة منفتحة على بعضها.

ولمّا كنّا في هذه المقالة في معرض الحديث عن الشّعر، فربّما كانت عمليّة التّرجمة ذاتها، هي الّتي دفعت الجاحظ إلى إطلاق رأيه الفريد فيما يتعلّق بالشّعر العربيّ. وهو رأي لو تفكّرنا فيه قليلاً لسارعنا إلى لطم وجوهنا حزنًا على حالنا من جهة، أو لانْشَرحَ صدرنا وبششنا كثيرًا لفطنة هذا الرّجل من جهة أخرى.

لنقرأ ما يقول الجاحظ في الجزء الأوّل من كتاب الحيوان: "وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجمت حكم اليونانيّة، وحُوّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حُسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوّلت حكمة العرب، لبطلَ ذلك المُعجز الّذي هو الوزنُ، مع أنّهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكُرْه العجمُ في كتبهم الّتي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمتهم".

وبكلمات أخرى،
يمكننا أن نلخّص أقوال الجاحظ بأنّ ترجمة آداب الشّعوب الأخرى على مجالاتها المختلفة إلى اللّغة العربيّة قد يزداد بعضها حسنًا، أو قد لا ينتقص من بعضها شيئًا. بينما لو تُرجمت حكمة العرب، أي آدابها الشّعريّة، لَغابَ عنها الوزنُ، والوزنُ فقط، وهو ما يعتبره العربُ إعجازًا. إذ أنّ ترجمة المضامين الشّعريّة العربيّة لا تأتي بمنفعة إلى الشّعوب الأخرى، ولا تحمل إليهم معاني جديدة لا يجدونها في كتبهم. الوزنُ إذن، كما نبّهنا بفطنته الجاحظ، هو كلّ ما يملكه الشّعر العربيّ. والوزن هذا الّذي يعنيه الجاحظ ليس سوى شكل من أشكال التّطريب الّتي لصقت بالذهنيّة العربيّة، شعرًا وموسيقى وخطابة، حتّى عصرنا هذا، دون فكاك من قيود هذا التّطريب، إلاّ فيما ندر طبعًا.


وهكذا، وعندما اكتشف العرب
في تلك القرون أنْ ليس لديهم ما يهبونه للشّعوب الأخرى من معارف، عادوا إلى دعوى الإعجاز العربي الموهومة، أي إلى دعوى التّقوقع في خانة هذا الوزن التّطريبي الّذي لا يمكنُ في رأيهم أنْ يُتَرجَم إلى لغات أخرى. وربّما كانت هذه النّظرة هي بالضّبط ما دفعهم إلى الانكفاء على أعقابهم وهجر التّرجمات من إبداعات ولغات الشّعوب الأخرى. وبذلك دخل العرب في عصر الظّلمات قرونًا طويلة، حتّى جاء الاستعمار إليهم حاملاً معه المطبعة، فبدأت تظهر من جديد على السّاحة العربيّة حركة بطيئة من التأليف ثمّ التّرجمات الّتي شقّ بصيص منها بعض سدول الظّلام الّذي خيّم على العالم العربي طوال قرون.

وهكذا أيضًا بدأ التّأثُّر شعريًّا بما وفد على العرب من ترجمات للشّعر الغربي من جهة، وبما قام به روّاد الشّعر العربي الحديث من شقّ طريق جديدة لهذا الشّعر، وللشّعريّة العربيّة على العموم، حتّى اتّسعت جادة هذه الشّعريّة فدخل فيها الشّعراء العرب زرافات ووحدانا.

صحيح أنّ القطيعة
الّتي شهدها الشّعر العربي المعاصر مع التّراث الشّعري العربي القديم هي، بلا شكّ، من مؤثّرات الانفتاح على التّراث الشّعري العالمي، اطّلاعًا وقراءةً من جهة، وترجمة لهذا الشّعر إلى اللّغة العربيّة من الجهة الأخرى. غير أنّ لهذه القطيعة وجهين: واحد إيجابيّ والآخر سلبيّ يلقي بظلاله على مجمل الحركة الشّعريّة العربيّة المعاصرة.

فالعزوف عن المعجز العربي، بلغة الجاحظ، أي إلقاء الوزن والتّطريب عرض الحائط له جانب إيجابي، ففيه ما يُهدّئ من انفعالات عاطفيّة عربيّة. وهذه هي حال نفسيّة عربيّة طالما كانت تُشكّل حجابًا مُسْدَلاً على عمل العقل، أي تحجب عنه إمكانيّة الولوج في مضامين الكلام وسبر أغوارها. ولكن، ومن جهة أخرى، فإنّنا نرى أنّ الشّعر العربي، وعلى وجه التّعميم أيضًا، قد أخذ يفقد مع هذا العزوف كلّ تلك القيم المضافة الّتي تجعل من الشّعر شعرًا، لما لَهُ من وقع مختلف في النّفس البشريّة على اختلاف مللها ونحلها وتعدد ألسنها. كما يمكننا أن نقول، إنّه لا ينبغي للشّاعر العربي أن يبدأ البناء في الهواء، إنّما يتوجّب عليه أن يقف أوّلاً على أسس صلدة، بدءًا من تراثه ومن أرضه، من ترابه وصخره هو. لأنّه، فيما عدا ذلك، سينهار بناؤه مع هبوب أوّل عاصفة عليه. ومتى ما تمكّن الشّاعر العربيّ من أسس هذا البناء المتينة وأثبت فيه أبوابه ونوافذه وسقوفه واتّجاهات انفتاحه على الفضاء الرّحب من حوله، يستطيع حينئذ أن يختار وجهة الخروج عبر أبوابه ونوافذه إلى الهواء الطّلق، ليسرح ويمرح في فضاء الشّعر كما يشاء.

بالإضافة إلى ذلك، فمن شأن هشاشة القراءات والتّرجمات من اللّغات الأخرى، إن لم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كتشويه نصوص الشّعوب الأخرى في التّرجمات العربيّة الّتي قلّما تتمّ من اللّغة الأصليّة للنصّ الشّعري المنقول وإنّما عبر لغة ثالثة، وما تولّده هذه الهشاشة التّرجمانيّة من فهم مخطوء، قد تضع القارئ - الشّاعر- العربيّ في وضع يخيّم فيه الجهل بحقيقة النّصّ الشّعري الأصلي على ما يحويه هذا النّص في لغته الأصليّة.

وهنا نصل إلى عمليّة التّرجمة ذاتها.


ومرّة أخرى نعود لنأخذ بقول الجاحظ
فيما ينبغي للمترجم أن يكون أوّلاً قبل البدء بهذه المهمّة: "ولا بدّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانُه في نفس التّرجمة... وينبغي أن يكون أعلمَ النّاس باللّغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواءً وغايةً". وهذا العلم باللّغة الّذي يذهب إليه الجاحظ ليس علمًا مقصورًا على لغة القاموس، إنّما هو علم بكلّ طبقات هذه اللّغة على مرّ العصور، إذ أنّ اللّغة هي الأخرى كالبناء، تبدأ من زمان ومن مكان على هذه الأرض، ومن ثمّ تنبني لبنةً فوق أخرى، أو تتشكّلُ وتتلوّنُ مكوّنةً قصورًا مُنيفةً من المعارف الحضاريّة البشريّة.

ولذلك فإنّ التّرجمة، على غرار رياضة البدن، هي مهمّة شاقّة ومتعبة. غير أنّها، وعلى غرار الرّياضة البدنيّة، تحمل معها نفعًا هو ما يمكن أن نطلق عليه رياضة العقل. ومثلما ينتفع المترجمُ في عمله من الغوص في طبقات اللّغة المنقولة، فإنّه ينتفع أيضًا بالغوص في طبقات لغته إذ هو يحاول أن ينقل النّصّ إليها. فمن خلال هذه الرّحلة في أروقة وثنايا بيته اللّغوي كثيرًا ما يعثر على درر بأشكال مختلفة، هي ملك له، كانت محجوبة عن ناظريه ردحًا من الزّمن، فيسارع إلى انتشالها من تلك الأقباء المظلمة ليعيد عرضها على الملأ بحلّة جديدة.


وإذا كانت هذه
هي حال التّرجمة على العموم، فإنّ ترجمة النّصوص الشّعريّة هي ملكة هذه التّرجمات، لما ينضاف إلى جوهر الشّعر في التّراث الإنساني من قيم جماليّة تفرقه عن سائر الصّناعات الأدبيّة.


***


نشرت في "إيلاف"، 16 يونيو 2005

سخافات الفتاوى اليهوديّة

سلمان مصالحة
 
سخافات الفتاوى اليهوديّة
 
ما من شكّ في أنّ 
شريحة واسعة من القرّاء على علم بما شاع في السّنوات الأخيرة من مهازل الفتاوى الإسلاميّة. لقد لعبت هذه الفتاوى دورًا كبيرًا في إدخال الفكاهة إلى كثير من البيوت العربيّة في مشارق الأرض ومغاربها، نظرًا لما تضمّنته من أمور تدلّ على انشغال كثير من النّاس بتفاهات لا تُصَدَّق. بدءًا بإرضاع الكبير، مرورًا بالتّبرُّك ببول الرّسول وبصاقه وانتهاءً بأمور قد لا تخطر على بال. لقد كُتب الكثير عن هذه الأمور بالعربيّة مثلما كُتب عنها بلغات الشّعوب الأخرى حتّى أضحى هؤلاء ومن يتّبعهم مثارًا للسّخرية على رؤوس الأشهاد. لن نعود إلى هؤلاء في هذه المقالة، بل سنتعرض فيما يلي إلى مجموعة من الفتاوى الّتي لا تقلّ سخفًا عن تلك الفتاوى الإسلاميّة، ولكن هذه المرّة تأتي هذه الفتاوى من حاخامات يهود. 
 
 رُبّما كان يوم السّبت، بما يمثّله، 
أحد أهمّ الأمور الّتي منحتها الحضارة اليهوديّة للبشريّة، بمعنى إفراد هذا اليوم كيوم يتوقّف فيه العمل ويركن الإنسان والحيوان فيه للرّاحة. لقد نبع هذا من قصّة الخلق حيث فرغ الإله من خلق العالم في أيّام الأسبوع الستّة، وركن إلى الرّاحة في اليوم السّابع، يوم السّبت. قبل ذلك لم تعرف الحضارة البشريّة يومًا للرّاحة. لقد حافظ هذا اليوم على اسمه العبري "سبت" في اللّغة العربيّة. وللأهميّة المعزوّة ليوم السّبت في الحضارة اليهوديّة من حيث وجوب التّوقُّف عن المشاغل على جميع أشكالها، فهو يشغل بال الكثيرين من المستفسرين بقضايا شتّى قد لا تخطر على بال أحد من القرّاء. 
 
 مثال على ذلك، هل بوسع المرء أن يستخدم الشّمسيّة اتّقاءً للمطر أو أشعّة الشّمس أيّامَ السّبت؟ قد يظنّ البعض أنّ عمليّة فتح الشّمسيّة تشكّل عملاً يجب التّوقُّف عنه أيضًا، غير أنّ مردخاي إلياهو، وهو الحاخام السفرادي الأكبر قد أفتى بهذه المسألة قائلاً: "يُحظَر استعمال الشّمسيّة أيّام السّبت، حتّى وإنْ كانت مفتوحةً منذ يوم الجمعة". وتعليل ذلك أنّ الشّمسيّة هي بمثابة خيمة ترفه فوق الرأس، ولمّا كان التّخييم، أي إنشاء الخيام، محظورًا يوم السّبت، فإنّ حمل الشّمسيّة هو بمثابة تخييم، ولذا يُحظر رفعها حتّى وإن كانت مفتوحة منذ يوم الجمعة. 
 
غير أنّ أمورًا أخرى لها علاقة بالحياة العصريّة قد يُسمح بها إذا كان الابتداء بها يوم الجمعة. مثال على ذلك يتعلّق بالتّعامل مع بالإنترنت. فها هو حاخام مدينة صفد يتطرّق إلى سؤال حول إمكانيّة إنزال برامج من الإنترنت يوم السّبت. وعلى ذلك يجيب: "يُسمح إنزال برامج من الإنترنت أيّام السّبت، بشرط أن يبدأ الإنزال يوم الجمعة، وبشرط أن تكون شاشة الحاسوب مُطفأة، وكلّ ذلك مشروط أيضًا بأن يكون مشغّلو الموقع من غير اليهود". وتفسير أقوال الحاخام تعود إلى أنّ اليهودي مُلزم بالحفاظ على حرمة السّبت، فإذا كان مشغّل الموقع يهوديًّا فهذا يعني أنّه قد مسّ بحرمة السّبت، أمّا غير اليهودي فهو غير مُلزَم بهذه الحرمة، ولذلك إذا كانت شاشة الحاسوب مُطفأة وبدأ التّنزيل قبل دخول يوم السّبت فإنّ ذلك يحلّ لأنّ من يقوم بتنزيل البرامج لا يُشغّل الكهرباء، لكون شاشة الحاسوب مُطفأة يوم السّبت، ولكون مشغّل الموقع من غير اليهود. حُرمة السّبت تحظى بدرجة عالية من القدسيّة في نظر الحاخامات لدرجة أنّه حتّى لو رأى شخص وجود قَمْل في رأس أحد أبنائه فإنّه: "يُحظَر قصع القمل أيّام السّبت"، مثلما أفتى أحدهم. وعلى العموم، كما أفتى الحاخام السفرادي الأكبر: "يُحظر قتل الحشرات أيّام السّبت"، ويضيف أنّه يمكن رشّ المبيدات في الهواء لإبعاد الحشرات، وهو يعلّل ذلك بالقول: "لأنّ قاتل الحشرة مثله مثل قاتل البعير"، على حدّ قوله، فلمّا كان محظورًا قتل البعير يوم السّبت فإنّ ذلك يندرج أيضًا على الحشرات. وقد يصل التّطرُّق أحيانًا إلى مسائل قد تثير الضّحك في نفس من يسمعها. على سبيل المثال، هل يستطيع الفرد (اليهودي طبعًا) أن يضيف شقفة ليمون إلى كأس الشّاي الّذي يحتسيه يوم السّبت؟ وللإجابة على ذلك، ها هو عوڤاديا يوسف يفتي بهذه المسألة قائلاً: "يُحظر إضافة شقفة ليمون إلى كأس الشّاي يوم السّبت". وهو يعلّل ذلك على النّحو التّالي: "لأنّ اللّيمون يُعدّ من الأطعمة الحادّة. من هذا المنطلق فإنّ إضافته إلى الشّاي الحارّ تجعله ينطبخ، ولذلك فإنّ هذه الخطوة تُعدّ بمثابة عمليّة طبخ (علمًا أنّ الطبخ محظور على اليهود يوم السّبت). ويقول عوڤاديا يوسف: هنالك من يتشدّد بهذا الأمر وهنالك من يتهاون بهذه القضيّة سامحًا إضافة شقفة اللّيمون إلى الشّاي، غير أنّه يضيف: "من الأفضل التّشدّد بها الأمر". 
 
 وماذا بشأن الرجل والمرأة؟ 
عوڤاديا يوسف ذاته، وهو الحاخام المعروف أيضًا بتفوّهاته النّابية أحيانًا تجاه السّياسيّين الإسرائيليّين من الأحزاب العلمانيّة، يُصرّح أنّ على الرّجل (اليهودي طبعًا) عدم العبور بين امرأتين. فقد يحدث أحيانًا أنّ من يعيش في المدينة مثلاً ويمشي في الشّارع قد يُضطرّ إلى مواصلة سيره بالعبور بين امرأتين، غير أنّ هذا محظور على اليهوديّ التّقيّ، لأنّ عوڤاديا يوسف يعلّل ذلك بأن العبور بين امرأتين مثله مثل العبور بين حمارَيْن. وقد أثارت أقواله هذه، الّتي تشبّة عمليًّا المرأة بالحمار، تنديدات من أوساط كثيرة. حاخام آخر هو شلومو أڤينير يذهب بعيدًا في مسألة التّفريق بين مكانة الرّجل ومكانة المرأة في اليهوديّة. فقد أفتى هذا الحاخام، على سبيل المثال، إنّه حتّى في حالات الطّوارئ : "إذا رأى مُضَمّد، أو عامل إغاثة، جريحين بجراح خطيرة، وكان الجريحان امرأةً ورجلاً، فلزامٌ عليه أن يقدّم أوّلاً العونَ للرّجل، وبعدئذ للمرأة، وذلك لكي ينقذ قيامَه (أي قيام الرّجل) بفرائضه الدينيّة". 
 
 مسائل تتعلّق بقضاء الحاجة 
ها هو عوڤاديا يوسف مرّة أخرى يفتي: "على الجالس في المرحاض ألاّ يتكلّم مع أيّ شخص خارج المرحاض"، ويؤسّس فتواه على أحكام الرمبام (موسى بن ميمون) الّذي ذكر: "لا يذهب إلى المرحاض شخصان معًا، ولا يتكلّم ثمّ، وليغلق الباب وراءه". ويخفّف عوڤاديا يوسف من فتواه هذه بالسّماح بالتكلّم فقط في حالات الطّوارئ، وذلك بشرط أن يختصر المتكلّم بكلامه. ولكن، ليس الجالس في المرحاض لقضاء الحاجة ملزمًا بالصّمت فحسب، بل يُحظر عليه قراءة صحيفة عبريّة في ذا المكان. ففي فتوى أخرى يقول عوڤاديا يوسف: "يُحظر قراءة صحيفة عبريّة في المرحاض". مضيفًا إنّه على الرّغم من كون هذه الصّحف صحفًا علمانيّة إلاّ أنّها مكتوبة بحروف عبريّة، أي بلغة مقدّسة ولذلك يجب الامتناع عن إدخال هذه اللّغة إلى أماكن غير محترمة. أمّا الصّحف الإنكليزيّة (وغير العبريّة على العموم)، فيسمح بقراءتها في المرحاض. 
 
 وما هو حكم الطّير الّذي يسبّ ويشتم؟ 
حتّى طيور الببغاوات لا تفلت من هذه الفتاوى. وملخّص الحكاية أنّ أحد الأشخاص اشترى طير ببغاء ودفع ثمنه، غير أنّ هذا الطير كما هو معلوم قد يتفوّه ببعض الكلمات. غير أنّ هذا الطير بالذّات كان يتفوّه بألفاظ نابية، مثل "منيك"، "ابن زانية" و"هومو" إلى آخره. 
 
وحول هذه القضيّة جاءت فتوى الحاخام مئير مزوز، وهو الحاخام الأكبر لليهود التّونسيّين. وقد نصّت فتواه على ما يلي: "يجب تبكيم الببغاء بأقلّ قدر من المعاناة"، أي يجب قصّ لسانه. ولكن إن لم ينجح هذا العلاج، فـ "يجب ذبح الببغاء". غير أنّ صاحب الببغاء يرفض ذبحه لأنّ زوجته هدّدته إن فعل ذلك فستطلب الطّلاق منه. ولذا يقول إنّه على استعداد للتّبرّع بالببغاء لحديقة الحيوانات، ولكن بشرط أن يتمّ إبعاد الأطفال عنه، لكي لا يسمع الأطفال تلك الكلمات النّابية الصّادرة عن هذا الطير الفظّ. 
 
 كلّ هذه المضحكات الدّينيّة جمعها ودوّنها الموقع الإسرائيلي "حوفش" (أي حريّة بالعربيّة) والّذي يذكر، بين ما يذكر، من بين أهدافه ما يلي: "عرض الهويّة اليهوديّة العلمانيّة بوصفها قيمة حضاريّة ووجوديّة، وبيان التّوجهات المختلفة بشأن المصطلح "الله"، وإضفاء الشرعيّة على هذه التّوجّهات الّتي القاسم المشترك بينها هو نَفْيُ الإيمان بإله شخصاني، كما هي الحال في اليهودية والنصرانية، والّذي يراقبُ ويتدخّل بما يجري في العالَم، ويطلب من بني البشر أن يسجدوا له وقيموا فرائضه. وكذلك نقد الإيمان الدّيني وشرح انعدام منطقيّته...." (عن الموقع باللغة العبريّة). 
 
 إذن، وبعد كلّ ما أوردنا هنا من تفاهات تشغل بال المتديّنين اليهود، ألا تذكّر هذه القضايا السّخيفة القارئ العربي بالقضايا السّخيفة ذاتها الّتي تنشغل بها الفتاوى الإسلاميّة. على ما يبدو فحتّى النّظر في هذه القضايا تعلّمها الفقهاء الإسلاميّون من الإفتاء اليهودي. 
لذا لا مناص من القول إنّ: 
 
 العقل وليّ التّوفيق.
***
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!