لماذا التّرجمة، وكيف؟


سلمان مصالحة


لماذا التّرجمة، وكيف؟



حضارتنا القديمة، على العموم،
هي حضارة البداوة الشّفهيّة المعتمدة على الحفظ السّماعي للشّعر أوّلاً، ثمّ للرّواية الأدبيّة والتاريخيّة لاحقًا حتّى جاء عصر التّدوين، وهو العصر الّذي نقل العربيّ من مرحلة العقل الپاسيڤي السّماعي إلى مرحلة العقل الفاعل الواعي. لهذا، ربّما ليس صدفة أنّ المصطلح "ترجمة" المستخدم في العربيّة قد وفد عليها من مصدر غير عربيّ. فالأصل من اللّغة الأكديّة، ثمّ عبر إلى الآراميّة ثمّ إلى العربيّة في مرحلة متأخّرة. وما من شكّ في أنّ انعدام وجود مصطلح في لغة شعب من الشّعوب هو خير شاهد على انعدام ما يحمله هذا المصطلح من مفاهيم دلاليّة وذهنيّة في حضارة هذا الشّعب. فهل كان لتأخُّر وفود هذا المصطلح على العربيّة أثرٌ على تخلُّف المعارف العربيّة؟ أغلب الظنّ أنّ الإجابة هي بالإيجاب، إذ أنّ الطّفرة العلميّة والأدبيّة العربيّة في القرون العربيّة الوسطى قد حدثت عقبَ حصول التّرجمات الّتي نقلت إلى العربيّة معارف الشّعوب الأخرى. وأغلب الظنّ أيضًا أنّ العرب دخلوا عصر الانحطاط مع توقُّف عمليّة التّرجمة هذه. وهذا ما يشهده العالم العربي في عصرنا الحاضر، كما تشير إليه تقارير التّنمية البشريّة الصّادرة عن الأمم المتّحدة.

على كلّ حال، يصحّ أن نقول الآن إنّ التّرجمة، على اختلاف مجالات المعارف المنقولة، هي شبكة الإنترنت الأولى قبل أن تداهمنا هذه الشّبكة المعاصرة. فالتّرجمة هذه هي الّتي قرّبت العالم من بعضه البعض في العصور الخوالي، ولولاها لما تثاقف العالم ولما تطوّرت العلوم وتكدّست المعارف وتناقلتها الشّعوب فيما بينها. فالتّرجمة هذه هي هي الّتي حوّلت العالم القديم - ولا زالت تفعل كذلك في عصرنا الحاضر - إلى قرية كونيّة منفتحة على بعضها.

ولمّا كنّا في هذه المقالة في معرض الحديث عن الشّعر، فربّما كانت عمليّة التّرجمة ذاتها، هي الّتي دفعت الجاحظ إلى إطلاق رأيه الفريد فيما يتعلّق بالشّعر العربيّ. وهو رأي لو تفكّرنا فيه قليلاً لسارعنا إلى لطم وجوهنا حزنًا على حالنا من جهة، أو لانْشَرحَ صدرنا وبششنا كثيرًا لفطنة هذا الرّجل من جهة أخرى.

لنقرأ ما يقول الجاحظ في الجزء الأوّل من كتاب الحيوان: "وقد نُقلت كتب الهند، وتُرجمت حكم اليونانيّة، وحُوّلت آداب الفرس، فبعضها ازداد حُسنًا، وبعضها ما انتقص شيئًا، ولو حُوّلت حكمة العرب، لبطلَ ذلك المُعجز الّذي هو الوزنُ، مع أنّهم لو حوّلوها لم يجدوا في معانيها شيئًا لم تذكُرْه العجمُ في كتبهم الّتي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمتهم".

وبكلمات أخرى،
يمكننا أن نلخّص أقوال الجاحظ بأنّ ترجمة آداب الشّعوب الأخرى على مجالاتها المختلفة إلى اللّغة العربيّة قد يزداد بعضها حسنًا، أو قد لا ينتقص من بعضها شيئًا. بينما لو تُرجمت حكمة العرب، أي آدابها الشّعريّة، لَغابَ عنها الوزنُ، والوزنُ فقط، وهو ما يعتبره العربُ إعجازًا. إذ أنّ ترجمة المضامين الشّعريّة العربيّة لا تأتي بمنفعة إلى الشّعوب الأخرى، ولا تحمل إليهم معاني جديدة لا يجدونها في كتبهم. الوزنُ إذن، كما نبّهنا بفطنته الجاحظ، هو كلّ ما يملكه الشّعر العربيّ. والوزن هذا الّذي يعنيه الجاحظ ليس سوى شكل من أشكال التّطريب الّتي لصقت بالذهنيّة العربيّة، شعرًا وموسيقى وخطابة، حتّى عصرنا هذا، دون فكاك من قيود هذا التّطريب، إلاّ فيما ندر طبعًا.


وهكذا، وعندما اكتشف العرب
في تلك القرون أنْ ليس لديهم ما يهبونه للشّعوب الأخرى من معارف، عادوا إلى دعوى الإعجاز العربي الموهومة، أي إلى دعوى التّقوقع في خانة هذا الوزن التّطريبي الّذي لا يمكنُ في رأيهم أنْ يُتَرجَم إلى لغات أخرى. وربّما كانت هذه النّظرة هي بالضّبط ما دفعهم إلى الانكفاء على أعقابهم وهجر التّرجمات من إبداعات ولغات الشّعوب الأخرى. وبذلك دخل العرب في عصر الظّلمات قرونًا طويلة، حتّى جاء الاستعمار إليهم حاملاً معه المطبعة، فبدأت تظهر من جديد على السّاحة العربيّة حركة بطيئة من التأليف ثمّ التّرجمات الّتي شقّ بصيص منها بعض سدول الظّلام الّذي خيّم على العالم العربي طوال قرون.

وهكذا أيضًا بدأ التّأثُّر شعريًّا بما وفد على العرب من ترجمات للشّعر الغربي من جهة، وبما قام به روّاد الشّعر العربي الحديث من شقّ طريق جديدة لهذا الشّعر، وللشّعريّة العربيّة على العموم، حتّى اتّسعت جادة هذه الشّعريّة فدخل فيها الشّعراء العرب زرافات ووحدانا.

صحيح أنّ القطيعة
الّتي شهدها الشّعر العربي المعاصر مع التّراث الشّعري العربي القديم هي، بلا شكّ، من مؤثّرات الانفتاح على التّراث الشّعري العالمي، اطّلاعًا وقراءةً من جهة، وترجمة لهذا الشّعر إلى اللّغة العربيّة من الجهة الأخرى. غير أنّ لهذه القطيعة وجهين: واحد إيجابيّ والآخر سلبيّ يلقي بظلاله على مجمل الحركة الشّعريّة العربيّة المعاصرة.

فالعزوف عن المعجز العربي، بلغة الجاحظ، أي إلقاء الوزن والتّطريب عرض الحائط له جانب إيجابي، ففيه ما يُهدّئ من انفعالات عاطفيّة عربيّة. وهذه هي حال نفسيّة عربيّة طالما كانت تُشكّل حجابًا مُسْدَلاً على عمل العقل، أي تحجب عنه إمكانيّة الولوج في مضامين الكلام وسبر أغوارها. ولكن، ومن جهة أخرى، فإنّنا نرى أنّ الشّعر العربي، وعلى وجه التّعميم أيضًا، قد أخذ يفقد مع هذا العزوف كلّ تلك القيم المضافة الّتي تجعل من الشّعر شعرًا، لما لَهُ من وقع مختلف في النّفس البشريّة على اختلاف مللها ونحلها وتعدد ألسنها. كما يمكننا أن نقول، إنّه لا ينبغي للشّاعر العربي أن يبدأ البناء في الهواء، إنّما يتوجّب عليه أن يقف أوّلاً على أسس صلدة، بدءًا من تراثه ومن أرضه، من ترابه وصخره هو. لأنّه، فيما عدا ذلك، سينهار بناؤه مع هبوب أوّل عاصفة عليه. ومتى ما تمكّن الشّاعر العربيّ من أسس هذا البناء المتينة وأثبت فيه أبوابه ونوافذه وسقوفه واتّجاهات انفتاحه على الفضاء الرّحب من حوله، يستطيع حينئذ أن يختار وجهة الخروج عبر أبوابه ونوافذه إلى الهواء الطّلق، ليسرح ويمرح في فضاء الشّعر كما يشاء.

بالإضافة إلى ذلك، فمن شأن هشاشة القراءات والتّرجمات من اللّغات الأخرى، إن لم نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كتشويه نصوص الشّعوب الأخرى في التّرجمات العربيّة الّتي قلّما تتمّ من اللّغة الأصليّة للنصّ الشّعري المنقول وإنّما عبر لغة ثالثة، وما تولّده هذه الهشاشة التّرجمانيّة من فهم مخطوء، قد تضع القارئ - الشّاعر- العربيّ في وضع يخيّم فيه الجهل بحقيقة النّصّ الشّعري الأصلي على ما يحويه هذا النّص في لغته الأصليّة.

وهنا نصل إلى عمليّة التّرجمة ذاتها.


ومرّة أخرى نعود لنأخذ بقول الجاحظ
فيما ينبغي للمترجم أن يكون أوّلاً قبل البدء بهذه المهمّة: "ولا بدّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانُه في نفس التّرجمة... وينبغي أن يكون أعلمَ النّاس باللّغة المنقولة والمنقول إليها، حتّى يكون فيهما سواءً وغايةً". وهذا العلم باللّغة الّذي يذهب إليه الجاحظ ليس علمًا مقصورًا على لغة القاموس، إنّما هو علم بكلّ طبقات هذه اللّغة على مرّ العصور، إذ أنّ اللّغة هي الأخرى كالبناء، تبدأ من زمان ومن مكان على هذه الأرض، ومن ثمّ تنبني لبنةً فوق أخرى، أو تتشكّلُ وتتلوّنُ مكوّنةً قصورًا مُنيفةً من المعارف الحضاريّة البشريّة.

ولذلك فإنّ التّرجمة، على غرار رياضة البدن، هي مهمّة شاقّة ومتعبة. غير أنّها، وعلى غرار الرّياضة البدنيّة، تحمل معها نفعًا هو ما يمكن أن نطلق عليه رياضة العقل. ومثلما ينتفع المترجمُ في عمله من الغوص في طبقات اللّغة المنقولة، فإنّه ينتفع أيضًا بالغوص في طبقات لغته إذ هو يحاول أن ينقل النّصّ إليها. فمن خلال هذه الرّحلة في أروقة وثنايا بيته اللّغوي كثيرًا ما يعثر على درر بأشكال مختلفة، هي ملك له، كانت محجوبة عن ناظريه ردحًا من الزّمن، فيسارع إلى انتشالها من تلك الأقباء المظلمة ليعيد عرضها على الملأ بحلّة جديدة.


وإذا كانت هذه
هي حال التّرجمة على العموم، فإنّ ترجمة النّصوص الشّعريّة هي ملكة هذه التّرجمات، لما ينضاف إلى جوهر الشّعر في التّراث الإنساني من قيم جماليّة تفرقه عن سائر الصّناعات الأدبيّة.


***


نشرت في "إيلاف"، 16 يونيو 2005

سخافات الفتاوى اليهوديّة

سلمان مصالحة
 
سخافات الفتاوى اليهوديّة
 
ما من شكّ في أنّ 
شريحة واسعة من القرّاء على علم بما شاع في السّنوات الأخيرة من مهازل الفتاوى الإسلاميّة. لقد لعبت هذه الفتاوى دورًا كبيرًا في إدخال الفكاهة إلى كثير من البيوت العربيّة في مشارق الأرض ومغاربها، نظرًا لما تضمّنته من أمور تدلّ على انشغال كثير من النّاس بتفاهات لا تُصَدَّق. بدءًا بإرضاع الكبير، مرورًا بالتّبرُّك ببول الرّسول وبصاقه وانتهاءً بأمور قد لا تخطر على بال. لقد كُتب الكثير عن هذه الأمور بالعربيّة مثلما كُتب عنها بلغات الشّعوب الأخرى حتّى أضحى هؤلاء ومن يتّبعهم مثارًا للسّخرية على رؤوس الأشهاد. لن نعود إلى هؤلاء في هذه المقالة، بل سنتعرض فيما يلي إلى مجموعة من الفتاوى الّتي لا تقلّ سخفًا عن تلك الفتاوى الإسلاميّة، ولكن هذه المرّة تأتي هذه الفتاوى من حاخامات يهود. 
 
 رُبّما كان يوم السّبت، بما يمثّله، 
أحد أهمّ الأمور الّتي منحتها الحضارة اليهوديّة للبشريّة، بمعنى إفراد هذا اليوم كيوم يتوقّف فيه العمل ويركن الإنسان والحيوان فيه للرّاحة. لقد نبع هذا من قصّة الخلق حيث فرغ الإله من خلق العالم في أيّام الأسبوع الستّة، وركن إلى الرّاحة في اليوم السّابع، يوم السّبت. قبل ذلك لم تعرف الحضارة البشريّة يومًا للرّاحة. لقد حافظ هذا اليوم على اسمه العبري "سبت" في اللّغة العربيّة. وللأهميّة المعزوّة ليوم السّبت في الحضارة اليهوديّة من حيث وجوب التّوقُّف عن المشاغل على جميع أشكالها، فهو يشغل بال الكثيرين من المستفسرين بقضايا شتّى قد لا تخطر على بال أحد من القرّاء. 
 
 مثال على ذلك، هل بوسع المرء أن يستخدم الشّمسيّة اتّقاءً للمطر أو أشعّة الشّمس أيّامَ السّبت؟ قد يظنّ البعض أنّ عمليّة فتح الشّمسيّة تشكّل عملاً يجب التّوقُّف عنه أيضًا، غير أنّ مردخاي إلياهو، وهو الحاخام السفرادي الأكبر قد أفتى بهذه المسألة قائلاً: "يُحظَر استعمال الشّمسيّة أيّام السّبت، حتّى وإنْ كانت مفتوحةً منذ يوم الجمعة". وتعليل ذلك أنّ الشّمسيّة هي بمثابة خيمة ترفه فوق الرأس، ولمّا كان التّخييم، أي إنشاء الخيام، محظورًا يوم السّبت، فإنّ حمل الشّمسيّة هو بمثابة تخييم، ولذا يُحظر رفعها حتّى وإن كانت مفتوحة منذ يوم الجمعة. 
 
غير أنّ أمورًا أخرى لها علاقة بالحياة العصريّة قد يُسمح بها إذا كان الابتداء بها يوم الجمعة. مثال على ذلك يتعلّق بالتّعامل مع بالإنترنت. فها هو حاخام مدينة صفد يتطرّق إلى سؤال حول إمكانيّة إنزال برامج من الإنترنت يوم السّبت. وعلى ذلك يجيب: "يُسمح إنزال برامج من الإنترنت أيّام السّبت، بشرط أن يبدأ الإنزال يوم الجمعة، وبشرط أن تكون شاشة الحاسوب مُطفأة، وكلّ ذلك مشروط أيضًا بأن يكون مشغّلو الموقع من غير اليهود". وتفسير أقوال الحاخام تعود إلى أنّ اليهودي مُلزم بالحفاظ على حرمة السّبت، فإذا كان مشغّل الموقع يهوديًّا فهذا يعني أنّه قد مسّ بحرمة السّبت، أمّا غير اليهودي فهو غير مُلزَم بهذه الحرمة، ولذلك إذا كانت شاشة الحاسوب مُطفأة وبدأ التّنزيل قبل دخول يوم السّبت فإنّ ذلك يحلّ لأنّ من يقوم بتنزيل البرامج لا يُشغّل الكهرباء، لكون شاشة الحاسوب مُطفأة يوم السّبت، ولكون مشغّل الموقع من غير اليهود. حُرمة السّبت تحظى بدرجة عالية من القدسيّة في نظر الحاخامات لدرجة أنّه حتّى لو رأى شخص وجود قَمْل في رأس أحد أبنائه فإنّه: "يُحظَر قصع القمل أيّام السّبت"، مثلما أفتى أحدهم. وعلى العموم، كما أفتى الحاخام السفرادي الأكبر: "يُحظر قتل الحشرات أيّام السّبت"، ويضيف أنّه يمكن رشّ المبيدات في الهواء لإبعاد الحشرات، وهو يعلّل ذلك بالقول: "لأنّ قاتل الحشرة مثله مثل قاتل البعير"، على حدّ قوله، فلمّا كان محظورًا قتل البعير يوم السّبت فإنّ ذلك يندرج أيضًا على الحشرات. وقد يصل التّطرُّق أحيانًا إلى مسائل قد تثير الضّحك في نفس من يسمعها. على سبيل المثال، هل يستطيع الفرد (اليهودي طبعًا) أن يضيف شقفة ليمون إلى كأس الشّاي الّذي يحتسيه يوم السّبت؟ وللإجابة على ذلك، ها هو عوڤاديا يوسف يفتي بهذه المسألة قائلاً: "يُحظر إضافة شقفة ليمون إلى كأس الشّاي يوم السّبت". وهو يعلّل ذلك على النّحو التّالي: "لأنّ اللّيمون يُعدّ من الأطعمة الحادّة. من هذا المنطلق فإنّ إضافته إلى الشّاي الحارّ تجعله ينطبخ، ولذلك فإنّ هذه الخطوة تُعدّ بمثابة عمليّة طبخ (علمًا أنّ الطبخ محظور على اليهود يوم السّبت). ويقول عوڤاديا يوسف: هنالك من يتشدّد بهذا الأمر وهنالك من يتهاون بهذه القضيّة سامحًا إضافة شقفة اللّيمون إلى الشّاي، غير أنّه يضيف: "من الأفضل التّشدّد بها الأمر". 
 
 وماذا بشأن الرجل والمرأة؟ 
عوڤاديا يوسف ذاته، وهو الحاخام المعروف أيضًا بتفوّهاته النّابية أحيانًا تجاه السّياسيّين الإسرائيليّين من الأحزاب العلمانيّة، يُصرّح أنّ على الرّجل (اليهودي طبعًا) عدم العبور بين امرأتين. فقد يحدث أحيانًا أنّ من يعيش في المدينة مثلاً ويمشي في الشّارع قد يُضطرّ إلى مواصلة سيره بالعبور بين امرأتين، غير أنّ هذا محظور على اليهوديّ التّقيّ، لأنّ عوڤاديا يوسف يعلّل ذلك بأن العبور بين امرأتين مثله مثل العبور بين حمارَيْن. وقد أثارت أقواله هذه، الّتي تشبّة عمليًّا المرأة بالحمار، تنديدات من أوساط كثيرة. حاخام آخر هو شلومو أڤينير يذهب بعيدًا في مسألة التّفريق بين مكانة الرّجل ومكانة المرأة في اليهوديّة. فقد أفتى هذا الحاخام، على سبيل المثال، إنّه حتّى في حالات الطّوارئ : "إذا رأى مُضَمّد، أو عامل إغاثة، جريحين بجراح خطيرة، وكان الجريحان امرأةً ورجلاً، فلزامٌ عليه أن يقدّم أوّلاً العونَ للرّجل، وبعدئذ للمرأة، وذلك لكي ينقذ قيامَه (أي قيام الرّجل) بفرائضه الدينيّة". 
 
 مسائل تتعلّق بقضاء الحاجة 
ها هو عوڤاديا يوسف مرّة أخرى يفتي: "على الجالس في المرحاض ألاّ يتكلّم مع أيّ شخص خارج المرحاض"، ويؤسّس فتواه على أحكام الرمبام (موسى بن ميمون) الّذي ذكر: "لا يذهب إلى المرحاض شخصان معًا، ولا يتكلّم ثمّ، وليغلق الباب وراءه". ويخفّف عوڤاديا يوسف من فتواه هذه بالسّماح بالتكلّم فقط في حالات الطّوارئ، وذلك بشرط أن يختصر المتكلّم بكلامه. ولكن، ليس الجالس في المرحاض لقضاء الحاجة ملزمًا بالصّمت فحسب، بل يُحظر عليه قراءة صحيفة عبريّة في ذا المكان. ففي فتوى أخرى يقول عوڤاديا يوسف: "يُحظر قراءة صحيفة عبريّة في المرحاض". مضيفًا إنّه على الرّغم من كون هذه الصّحف صحفًا علمانيّة إلاّ أنّها مكتوبة بحروف عبريّة، أي بلغة مقدّسة ولذلك يجب الامتناع عن إدخال هذه اللّغة إلى أماكن غير محترمة. أمّا الصّحف الإنكليزيّة (وغير العبريّة على العموم)، فيسمح بقراءتها في المرحاض. 
 
 وما هو حكم الطّير الّذي يسبّ ويشتم؟ 
حتّى طيور الببغاوات لا تفلت من هذه الفتاوى. وملخّص الحكاية أنّ أحد الأشخاص اشترى طير ببغاء ودفع ثمنه، غير أنّ هذا الطير كما هو معلوم قد يتفوّه ببعض الكلمات. غير أنّ هذا الطير بالذّات كان يتفوّه بألفاظ نابية، مثل "منيك"، "ابن زانية" و"هومو" إلى آخره. 
 
وحول هذه القضيّة جاءت فتوى الحاخام مئير مزوز، وهو الحاخام الأكبر لليهود التّونسيّين. وقد نصّت فتواه على ما يلي: "يجب تبكيم الببغاء بأقلّ قدر من المعاناة"، أي يجب قصّ لسانه. ولكن إن لم ينجح هذا العلاج، فـ "يجب ذبح الببغاء". غير أنّ صاحب الببغاء يرفض ذبحه لأنّ زوجته هدّدته إن فعل ذلك فستطلب الطّلاق منه. ولذا يقول إنّه على استعداد للتّبرّع بالببغاء لحديقة الحيوانات، ولكن بشرط أن يتمّ إبعاد الأطفال عنه، لكي لا يسمع الأطفال تلك الكلمات النّابية الصّادرة عن هذا الطير الفظّ. 
 
 كلّ هذه المضحكات الدّينيّة جمعها ودوّنها الموقع الإسرائيلي "حوفش" (أي حريّة بالعربيّة) والّذي يذكر، بين ما يذكر، من بين أهدافه ما يلي: "عرض الهويّة اليهوديّة العلمانيّة بوصفها قيمة حضاريّة ووجوديّة، وبيان التّوجهات المختلفة بشأن المصطلح "الله"، وإضفاء الشرعيّة على هذه التّوجّهات الّتي القاسم المشترك بينها هو نَفْيُ الإيمان بإله شخصاني، كما هي الحال في اليهودية والنصرانية، والّذي يراقبُ ويتدخّل بما يجري في العالَم، ويطلب من بني البشر أن يسجدوا له وقيموا فرائضه. وكذلك نقد الإيمان الدّيني وشرح انعدام منطقيّته...." (عن الموقع باللغة العبريّة). 
 
 إذن، وبعد كلّ ما أوردنا هنا من تفاهات تشغل بال المتديّنين اليهود، ألا تذكّر هذه القضايا السّخيفة القارئ العربي بالقضايا السّخيفة ذاتها الّتي تنشغل بها الفتاوى الإسلاميّة. على ما يبدو فحتّى النّظر في هذه القضايا تعلّمها الفقهاء الإسلاميّون من الإفتاء اليهودي. 
لذا لا مناص من القول إنّ: 
 
 العقل وليّ التّوفيق.
***

محرقة بني قريظة 2

سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (2)


بعد أن سمع سعد بن معاذ
الأصوات التي رغبت في استيهاب بني قريظة، خطب فيهم فقال: "لا آلوكم جهدًا. فقالوا، ما يعني بقوله هذا؟ ثم قال: عليكُم عهد الله وميثاقه أنّ الحكمَ فيهم ما حكمتُ؟ قالوا: نعم. فقال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلعم...: وعلى مَنْ ها هنا مثل ذلك؟ فقال رسول الله صلعم ومن معه: نعم. قال سعد: فإني أحكُمُ فيهم أنْ يُقْتلَ مَنْ جَرَتْ عليه المُوسَى، وتُسْبَى النّساءُ والذرية، وتُقسم الأموالُ." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 31؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ مكارم الأخلاق للخرائطي: ج 2، 34؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69؛ حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 171؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11). وبعد سماع هذا الحكم بالذّبح الّذي أصدره سعد بن معاذ على بني قريظة، والّذي كان حذّرهم منه أبو لبابة من قبل، صادق محمّد على هذا الحُكم قائلاً له: "لقد حَكَمْتَ بحُكْم الله عزّ وجلّ من فوق سبعة أرقعة." (مغازي الواقدي: ج 1،203. أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 371؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 443؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 226؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ سير إعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69). وبرواية أخرى، قال محمّد بعد أن أصدر سعد بن معاذ حكمه: "لقد حكمَ - حُكْمَ - الله عز وجل، ولقد رضي الله على عرشه بحكم سعد." (تفسير مقاتل: ج 3، 80).

بل وأكثر من ذلك، فقد رُوي عن محمّد قولُه في هذا الحكم، وعلى مسمع من الجميع: "بذلك طَرَقَني المَلَكُ سَحَرًا." (الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11)، أي أنّ الملاك قد نزل عليه وأوعز له بهذا الحكم، بالذّات في سَحَر تلك اللّيلة التي كان سمع فيها، على ما يبدو، دعاء سعد بن معاذ الله أنْ لا يميتَه حتّى تقرّ عينه من بني قريظة. كما ذُكر في رواية أخرى أنّ محمّدًا قام باستشارة سعد بن معاذ بشأنهم بعد استسلامهم، فأشار عليه سعد بذبحهم، فوافقَهُ محمّد على ذلك قائلاً بأنّ ذلك هو ما أمره الله به. لقد توجّه محمّد إلى سعد سائلاً إيّاه أن يشير عليه فيهم، فأجابه سعد: "لو وُلّيتُ أمْرَهم قتلتُ مقاتلتَهم وسبيتُ ذراريهم وقسمتُ أموالَهم. فقال رسول الله صلعم: والذي نفسي بيده، لقد أشَرْتَ علَيّ فيهم بالذي أمَرَني الله به." كما يورد ابن سعد (طبقات ابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: تاريخ الإسلام للذهبي: ج 2، 322؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 288؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 5، 33؛ النكت والعيون للماوردي: ج 3، 370).

وها هي أصداء ذلك الحكم بقتل الرّجال دون الأولاد، تُسمع لاحقًا كما يرويها أحد بني قريظة، وكان من هؤلاء الأولاد الذين نجوا من تلك المجزرة لأنّه كان صغير السنّ ولم تكن عانَتُه أنبتت الشّعر بعد: "عن عبد الملك بن عمير قال، سمعت عطية القرظي يقول: عُرِضْنَا على النبيّ صلعم، يوم قريظة، فكانَ مَنْ أنْبَتَ قُتِلَ، ومَنْ لم يُنْبِتْ خُلِّيَ سَبيلُهُ، فكُنتُ فيمن لم يُنْبتْ، فخُلّي سَبيلي. وفي رواية: كنتُ، يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، غلامًا. فنَظَرُوا إلى مُؤتَزَري، فلم يجدُوني أنْبَتُّ، فها أنا ذا بين أظْهُركم."، وبرواية أخرى: "كنتُ يوم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة غلامًا. فشَكّوا فيّ، فنَظَرُوا إليّ فلم يجدُوا المَواسي جَرَتْ عَلَيّ، فَاستُبْقيتُ." (المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 29، 370-372؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 48، 207-210؛ مسند أحمد: ج 42، 237-239؛ سنن النسائي: ج 11، 190؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 3، 343؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 164؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6175؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 6، 209؛ المستدرك للحاكم: ج 3، 37).

محرقة بني قريظة:
وهكذا، وبعد أن صدر حكم سعد بن معاذ على بني قريظة، أمر محمّد بتكتيف الأسرى وفصل الرّجال عن النّساء والأطفال: "فأمرَ بهم رسولُ الله صلعم محمّدَ بن مسلمة فكُتفوا ونُحّوا ناحية وأخرج النّساء والذرية فكانوا ناحية." (طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 510؛ تاريخ الطبري: ج 2، 250؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 6، 374؛ تفسير حقي: ج 11، 32). فأمّا الرّجال فاقتيدوا إلى دار أسامة بن زيد، وأمّا النّساء والأطفال فقد اقتيدوا إلى دار بنت الحارث. ثمّ أمر محمّد بجمع كلّ ما تحتوي عليه حصونهم: "وجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب، فوجد فيها ألفًا وخمسمائة سيف وثلاثمائة درع وألفي رمح وخمسمائة ترس وحجفة، وخمرًا وجرار سكر، فأُهْريقَ ذلك كلّه." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75)، وبعدئذ أمر بنقل كلّ ما انتُهبَ منهم: "وأمرَ رسول الله صلعم بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب، فحُمل إلى دار بنت الحارث، وأمرَ بالإبل والغنم، فتُركتْ هناك ترعى في الشجر." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12). ثمّ بدأ محمّد بإجراء التّحضيرات لتنفيذ الحكم على بني قريظة، فقد رُوي أنّه: "رجع رسول الله صلعم إلى المدينة، وحَبَسَ بني قريظة في بعض دور الأنصار." (تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ أنظر أيضًا: المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90). بعدئذ "أمر رسول الله صلعم بأحمال التّمْر فنُثرتْ عليهم، فباتوا يكدمونها كدمَ الحُمُر، وجعلوا ليلتَهم يَدْرُسون التوراة، وأمرَ بعضُهم بعضًا بالثّبات على دينه ولُزُوم التّوراة." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029).

وفي صبيحة اليوم التالي قاد محمّد نفسه وأصحابه عمليّة الإعدام، حيث خرج مبكرًا إلى السوق وأمرَ بحفر قبر جماعيّ لهم: "قالوا: ثم غدا رسول الله صلعم إلى السوق، فأمر بخُدود فخُدّت في السّوق، ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسّوق، فكان أصحابُه يحفرون هناك. وجلس رسول الله صلعم ومعه علية أصحابه، ودعا برجال بني قريظة، فكانوا يخرجون رسلاً رسلاً، تُضْرَب أعناقُهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 204؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 120). وفي هذه الأثناء، بينما كانت عمليّة قتل الأسرى المكبّلين تجري على قدم وساق، لم يكن هؤلاء الأسرى من بني قريظة يعرفون ما يجري مع الّذين يُقتادون إلى موتهم: "فقالوا لكعب بن أسد: ما ترى محمّدًا يصنعُ بنا؟ قال: مايسوؤكم وما ينوؤكم. ويلكم، على كل حال لا تعقلون. ألا ترون أنّ الدّاعي لا يَنزعُ، وأنّه من ذهبَ منكُم لا يرجعُ؟ هو والله السّيف. قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم! قالوا: ليس هذا بحين عتاب... قال حيي: اتْركُوا ما تَرون من التّلاوُم، فإنّه لا يَرُدُّ عنكم شيئًا، واصبروا للسّيف. فلم يزالوا يُقْتَلون بين يدي رسول الله صلعم، وكان الذين يَلُون قَتْلَهم علي والزّبير." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 240؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 116؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 71؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 239؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307).

وقد شارك محمّد بنفسه في قتل الأسرى،
كما يروي أحد أحفاد سعد بن معاذ: "عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، قال: لما قَتلَ رسولُ الله صلعم حيي بن أخطب، ونباش بن قيس، وغزال بن سموأل، وكعب بن أسد وقام، قال لسعد بن معاذ: عليكَ بمَنْ بَقِي. فكان سعد يُخرجهم رسلاً رسلاً يقتلهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 200؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 238؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ نهاية الأرب للنويري: ج 4، 456). أمّا حيي بن أخطب، وهو زعيم بني النّضير الّذي كان التجأ إلى بني قريظة من قبل بعد إجلاء بني النّضير من أوطانهم، فقد اقتيدَ مكتوفًا، وكانَ قد شَقّ حلّة كان يلبسها، وأُحضر إلى محمّد: "ثم أُتي بحيي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه، عليه حلّة شقحية قد لبسها للقتل، ثم عمدَ إليها فَشَقّها أُنْملةً لئلا يسلبه إياها أحد، وقد قال له رسول الله صلعم حين طلع: ألمْ يُمكّن اللهُ منكَ، يا عدو الله؟ قال: بلى، والله ما لُمْتُ نفسي في عداوتك، ولقد التَمَسْتُ العزّ في مكانه... ثم أقبلَ على الناس فقال: يا أيّها الناس، لابأسَ بأمر الله! قَدَرٌ وكتابٌ، ملحمةٌ كُتبت على بني إسرائيل. ثم أمرَ به فضربَ عُنقَه." (مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 201؛ تاريخ الطبري: ج 2، 4؛ تفسير الطبري: ج 20، 247؛ تفسير البغوي: ج 6، 341؛ تفسير القرطبي: ج 14، 140-141؛ سنن البيهقي: ج 6، 323؛ الفائق للزمخشري: ج 2، 257؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 5، 241؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 103).

غير أنّ ذلك الشّقّ الّذي عمله حيي بن أخطب في الحلّة الّتي ارتداها قدر أنملة لم يكن، بحسب ما تذكره الرّواية "لئلا يسلبه إياها أحد"، بل هي علامة من علامات الحزن والحداد في اليهوديّة لدى موت الأقرباء، وهذا التّقليد لا زال قائمًا لدى اليهود المتديّنين حتّى اليوم. إنّ مصدر هذا التّقليد قديم، وهو يستند إلى تلك الإشارة التي وردت في التّوراة عن يعقوب، إذ شقّ يعقوب ثوبه لسماع خبر موت يوسف: "فَشَقَّ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ وَطَرَحَ مُسوحًا عَلَى حَقَوَيْهِ دِثارًا وَحَدَّ عَلَى ابْنِهِ أَيَّامًا كُثارًا." (سفر التكوين: فصل 37، 34، الترجمة من الأصل العبري هي لي)، وبحسب التّقليد يُشقّ الثّوب قدر أنملة في قَبّته لدى مقدم العنق. وهذا هو بلا شكّ سبب الشقّ في حلّة حيي بن أخطب، وليس ما ورد من تفسير له في الرّواية الإسلاميّة بهدف إضافة نُعوت لتقذيع اليهود والحطّ من قيمتهم.

وها هي عائشة أيضًا تؤكّد على أوامر محمّد بقتل رجال بني قريظة، كما تروي أيضًا قصّة مقتل امرأة يهوديّة واحدة منهم في تلك المجزرة: "قالوا: وكانت امرأةٌ من بني النضير يقال لها نباتة، وكانت تحت رجلٍ من بني قريظة فكان يحبّها وتحبّه، فلما اشتدّ عليهم الحصار بكت إليه وقالت: إنّك لمفارقي. فقال: هو والتوارة ما ترين، وأنت امرأةٌ فدلّي عليهم هذه الرّحى، فإنّا لم نقتل منهم أحداً بعد، وأنت امرأةٌ، وإن يظهر محمدٌ علينا لا يقتل النساء. وإنما كان يكرهُ أن تُسبَى، فأحبّ أن تُقتل بجرمها. وكانت في حصن الزبير بن باطا، فدلّت رحًى فوق الحصن، وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون في فيئه، فأطلعت الرّحى، فلما رآها القوم انفضّوا، وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الحصن. فلما كان اليوم الذي أمرَ رسولُ الله صلعم أن يُقْتلوا، دخلَتْ على عائشة فجعلت تضحك ظهراً لبطنٍ وهي تقول: سراةُ بني قريظة يقتلون، إذ سمعتْ صوت قائل يقول: يا نباتة! قالت: أنا والله التي أُدْعَى. قالت عائشة: ولم؟ قالت: قتلني زوجي - وكانت جاريةً حلوة الكلام. فقالت عائشة: وكيف قتلك زوجك؟ قالت: كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدلّيت رحًى على أصحاب محمد فشَدَختُ رأس رجلٍ منهم فمات، وأنا أُقتل به. فأمر رسول الله صلعم بها فقُتلت بخلاد بن سويد. قالت عائشة: لا أنسى طيبَ نفس نباتة وكثرةَ ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 241؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 102؛ مسند أحمد: ج 57، 228؛ صحيح أبي داود: ج 2، 507؛ سنن أبي داود: ج 8، 151؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6176؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55؛ تفسير الألوسي: ج 16، 85؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 234). ورغم ما تذكر عائشة من طيب نفس تلك المرأة اليهودية وبشاشتها، إلاّ أنّها لم تحاول إنقاذها من القتل.

أمّا قصّة العجوز اليهودي،
الزبير بن باطا، وما جرى من حديث بينه وبين ثابت بن قيس آنئذ، فإنّها تحمل في طيّاتها عمق تلك المأساة الّتي حلّت بيهود بني قريظة:
"كان الزبير بن باطا مَنَّ على ثابت بن قيس يوم بعاث، فأتى ثابتٌ الزبيرَ فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟
قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟
قال ثابت: إنّ لك عندي يدًا، وقد أردتُ أن أجزيك بها.
قال الزبير: إنّ الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليه اليوم.
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسولَ الله، إنّه كان للزبير عندي يدٌ، جزّ ناصيتي يوم بعاث فقال: اذْكُرْ هذه النعمةَ عندَك. وقد أحببتُ أن أجزيه بها، فهبه لي.
فقال رسول الله صلعم: فهو لك.
فأتاه فقال: إن رسول الله قد وهبك لي.
قال الزبير: شيخ كبير لا أهل ولا ولد ولا مال بيثرب، ما يصنع بالحياة؟
فأتى ثابت رسولَ الله صلعم فقال: يا رسول الله، أعطني ولده.
فأعطاه ولده فقال: يا رسول الله أعطني مالَه وأهلَه. فأعطاه رسول الله صلعم ماله وولده وأهله.
فرجع إلى الزبير فقال: إن رسول الله قد أعطاني ولدَكَ وأهلَكَ ومالَكَ.
فقال الزبير: يا ثابت، أمّا أنت فقد كافأتني وقضيتَ بالذي عليك. يا ثابت، ما فعلَ الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى عذارى الحي في وجهه - كعب بن أسد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ سيّد الحاضر والبادي، سيّد الحيين كليهما، يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل - حيي بن أخطب؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ أوّلُ غادية اليهود إذا حملوا، وحاميتهم إذا ولوا - غزال بن سموأل؟
قال: قتل.
قال: فما فعل الحول القلب الذي لا يؤمّ جماعة إلا فضّها ولا عقدة إلا حلّها - نباش بن قيس؟
قال: قتل.
قال: فما فعل لواء اليهود في الزحف - وهب بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعلَ والي رفادة اليهود وأبو الأيتام والأرامل من اليهود - عقبة بن زيد؟
قال: قتل.
قال: فما فعل العمران اللذان كانا يلتقيان بدراسة التوراة؟
قال: قتلا.
قال: يا ثابت، فما خير في العيش بعد هؤلاء؟ أأرجع إلى دار كانوا فيها حلولا فأخلد فيها بعدهم؟ لا حاجة لي في ذلك، فإني أسألك بيدي عندك إلا قدمتني إلى هذا القَتّال الذي يَقتل سراةَ بني قريظة ثم يقدّمني إلى مصارع قومي، وخذْ سيفي، فإنه صارمٌ. فاضربني به ضربةَ وأجهزْ، وارفعْ يدَكَ عن الطّعام وألصقْ بالرّأس واخْفضْ عن الدّماغ، فإنّه أحسنُ للجسد أن يبقى فيه العنق. يا ثابت، لا أصبر إفراغَ دلو من نَضَحٍ حتّى ألقى الأحبّة.
قال أبو بكر، وهو يسمع قوله: ويحك يا ابن باطا، إنّه ليسَ إفراغَ دلو ولكنّه عذابٌ أبدي.
قال: يا ثابت، قدمني فاقتلني.
قال ثابت: ما كنتُ لأقتلنك.
قال الزبير: ما كنت أُبالي من قتلني. ولكنْ يا ثابت، انظُرْ إلى امرأتي وولدي فإنّهم جزعوا من الموت، فاطلبْ إلى صاحبك أن يطلقَهُم وأنْ يردّ إليهم أموالَهم.
وأدناهُ إلى الزبير بن العوام، فقدّمهُ فضربَ عنقَهُ. وطلب ثابت إلى رسول الله صلعم في أهله وماله وولده، فردّ رسولُ الله صلعم كل ما كان من ذلك على ولده، وتركَ امرأتَه من السبا، ورد عليهم الأموال من النخل والإبل والرثّة إلا الحلقة فإنّه لم يردها عليهم. فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس." (مغازي الواقدي: ج 1، 519؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 251؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 242؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 117-118؛ تفسير البغوي: ج 6، 343؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 55-57؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ تفسير الألوسي: ج 16، 84؛ الأموال لابن زنجويه: ج 1، 382؛ الإيناس بعلم الأنساب للوزير المغربي: ج 1، 20). فكان هذا، على ما يبدو، هو "ردّ الجميل" الذي قدّمه ثابت بن قيس لهذا العجوز اليهودي من بني قريظة، والّذي كان عفا عنه وأطلقَ سراحَه من قبل حين كان ثابت هذا قد وقعَ في أسره يوم بعاث. (أمّا عن تعذيب الأسرى قبل إعدامهم فهذا ما نقرأه من رواية عن نباش بن قيس الّذي سأل عنه الزبير بن باطا من قبل، وعن أنّ الرّسول وبّخَ معذّبه على ما فعل قائلاً له إنّ في ضرب عنقه بالسّيف ما يكفي: "ثمّ أُتي بنباش بن قيس وقد جابذ الذي جاء به حتّى قاتَلَه، فَدَقَّ - أو: فَقَدَّ - الذي جاء به أنْفَه فأرْعَفَه. فقال رسول الله صلعم للّذي جاء به: لم صنعت به هذا؟ أما كانَ في السيف كفاية؟ فقال: يا رسول الله جابذني لأنْ يهرب، فقال: كذب، والتوراة يا أبا قاسم. ولو خلاني، ما تأخّرتُ عن مَوْطن قُتلَ فيه قَوْمي حتّى أكونَ كأحدهم." - مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 12-13).

وبخلاف صنيع ثابت هذا
الّذي لم يشفع للزّبير بن باطا الّذي مَنَّ عليه يوم بعاث، فقد كان هناك من نجا من بالقتل، كما يروى عن رفاعة بن سموأل القرظي الّذي استوهبته سليمى بنت قيس من محمّد: "قالوا: وكان رسول الله صلعم قد أمر بقتل من أُسر منهم، فسألته سليمى بنت قيس... وكانت إحدى خالات رسول الله صلعم... رفاعةَ بن سموأل القرظي وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها وكان يعرفها قبل ذلك. فقالت: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، هَبْ لي رفاعةَ بن سموأل، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاسْتَحْيَتْهُ." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 243؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 280). كما كان هناك من نجا بحياته وماله من تلك المجزرة، فقط بعد أن أعلن إسلامه: "وذكر الطبري أنّ ابن إسحاق قال في ثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد: هم من بني هدل ليسوا من بني قريظة ولا النضير، فنسبُهم فوق ذلك، هم بَنو عَمّ القوم، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم سعد بن معاذ." (أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43، 152؛ أنظر أيضًا: تفسر الطبري: ج 20، 246؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 114؛ لاستيعاب لابن عبد البر: ج 1، 63؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 43).

وحسبما يُروى، لقد كان ذلك اليوم الّذي نُفّذت فيه المجزرة يومًا قائظًا شديد الحرارة فشكا الأسرى المكتوفون من العطش. ولذلك أشار الرّسول على مُنفّذي الإعدام بأن يُتركُوا ليقيلوا في الظلّ ويُسْقوا حتّى يبردوا قليلاً، ثمّ مواصلة الإعدام بعد أن يبرد الطّقس قليلاً: "ثمّ قال رسول الله صلعم: أحْسِنوا إسارَهم وقَيِّلُوهم وأسْقُوهم حتّى يَبْردوا فتَقْتُلوا مَنْ بَقِي، لا تَجْمَعوا عليهم حرَّ الشّمس وحرَّ السّلاح - وكان يومًا صائفًا. فقَيّلُوهم وأسْقُوهم وأطْعَمُوهم. فلمّا أبردوا، راحَ رسولُ الله صلعم يَقْتلُ مَنْ بَقِي." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: عمدة القاري للعيني: ج 23؛ 113؛ السير الكبير للشيباني: ج 3، 1029؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 404؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 13؛ بدائع الصنائع للكاساني: ج 6، 92؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، 406؛ الموسوعة الفقهية الكويتية: ج 13، 256). لقد استمرّ القتل طوال ذلك النّهار، ولأنّهم لم يفرغوا من قتل جميع الأسرى في النّهار فقد استمرّت العمليّة في اللّيل أيضًا، حتّى إنّهم احتاجوا إلى إشعال سُعف النّخيل لكي يُضيئوا ساحة الإعدام ليلاً، كما روت عائشة: "فكانت عائشة تقول: قُتلت بنو قريظة يومَهم حتّى قُتلوا بالليل على شُعل السّعف. حدثني إبراهيم بن ثمامة، عن المسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قُتلوا إلى أن غابَ الشّفق، ثم رُدّ عليهم التّراب في الخندق. وكان من شُكَّ فيه منهم أنْ يكونَ بَلَغَ، نُظرَ إلى مُؤتَزَره؛ إنْ كانَ أنْبتَ قُتل، وإنْ كانَ لم يُنبتْ طُرحَ في السّبْي." (مغازي الواقدي: ج 1، 205؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 113).

أمّا بشأن السّبايا من النّساء والأطفال،
فقد باع محمّد مجموعة منهم لاستعبادهم في نجد مقابل خيل وسلاح، حسبما يُروى: "ثم بعث رسول الله صلعم سعد بن زيد الأنصاري، أخا بني عبد الأشهل، بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد، فابتاعَ لهُ بهم خيلاً وسلاحًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). كما كان قسم السّبايا على أتباعه: "ثم قسمَ رسولُ الله صلعم سبايا بني قريظة... واصْطَفَى لنفسه ريحانة بنت عمرو، فكانت في مُلْكه حتّى ماتت..." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307). وكان محمّد قد عرض على ريحانة هذه أن تُسلم وأن يتزوّجها ويعتقها، غير أنّها رفضت قبول الإسلام وأصرّت على بقائها على يهوديّتها: "وقد كان رسول الله صلعم عرضَ عليها أن يتزوّجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يا رسول الله، بل تَتْرُكني في مُلْكك، فهو أخَفّ علَيّ وعليك، فتركَها. وقد كانت حين سباها رسولُ الله صلعم قد تَعَصّتْ بالإسلام، وأبَتْ إلا اليهودية." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 343-344؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). وتذكر الروايات إنّ محمّدًا قد عزلها لهذا السّبب واكتئب بسببها: "فعَزَلَها رسولُ الله صلعم ووَجَدَ في نفسه لذلك من أَمْرِها." (تاريخ الطبري: ج 2، 6؛ انظر كذلك: تفسير البغوي: ج 6، 344؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 119؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 307؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 249). ثم تذكر الروايات أنّها أسلمتْ لاحقًا، فَسَرَّه ذلك.

وفيما يتعلّق بعدد الذين قُتلوا في تلك المجزرة وأُلقوا في تلك القبور الجماعيّة فقد اختلفوا فيه. فهنالك من يقول إنّه تراوح ما بين الستمائة إلى التسعمائة: "ثم بعث إليهم فضربَ أعناقَهم في تلك الخنادق...وهم ستمائة أو سبعمائة، والمُكثر يقول كانوا ما بين الثمانمائة والتسعمائة." (عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 54-55؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 101؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90)، غير أنّ هنالك من يذكر عددًا أكبر من ذلك بكثير: "وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير." (تفسير النّسفي: ج 3، 303؛ الكشاف للزمخشري: ج 1، 994؛ تفسير النيسابوري: ج 6، 251؛ البحر المحيط لأبي حيّان: ج 9، 144).

وهكذا طُويت صفحة بني قريظة بهذه المجزرة.



في المقالة القادمة، سنتطرق إلى ما جرى مع يهود خيبر.



والعقل وليّ التّوفيق.



***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




محرقة بني قريظة 1


سلمان مصالحة

محرقة بني قريظة (1)

بعد إجلاء بني النّضير،
واصل محمّد حملاته ضدّ اليهود، فقد قام في السنة الخامسة بعد الهجرة، وعقب يوم الخندق والأحزاب، بمحاصرة بني قريظة طوال خمس وعشرين ليلة. وحتّى بعد هذا الحصار الطويل الّذي فرضه محمّد عليهم، ومحاولة البعض منهم البحث عن مخرج من هذا الحصار، فقد أصرّ هؤلاء على رفض قبول الإسلام ورفضوا التّنازُل عن عقيدتهم اليهوديّة. لقد كانوا متمسّكين بتعاليم دينهم لدرجة قصوى، حتّى إنّهم رفضوا خرق حرمة السّبت لمهاجمة محمّد ليلاً على حين غرّة بينما كان يحاصرهم. فقد ذكرت الرّوايات أنّ حيي بن أخطب، وهو من بني النّضير الّذين كانوا أُجلوا من قبل، قد دخل على بني قريظة وتحدّث إليهم وإلى زعيمهم كعب بن أسد، وقال لهم بأنّ محمّدًا لن يفكّ عنهم الحصار حتّى يقبلوا بنبوّته.

وبعد أن أنصت بنو قريظة إلى هذا الكلام، قام كعب بن أسد، وهو سيّدهم، وعرض عليهم: إمّا قبول الإسلام، وإمّا تبييت محمّد ومهاجمته على حين غرّة ليلة السّبت، وإمّا قتل النّساء والأولاد ثمّ الخروج للحرب حتّى الاستماتة. فكما تذكر الرّوايات لقد قام كعب بن أسد فيهم خطيبًا وقال: "يا معشر يهود، إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خلالاً ثلاثًا، فخُذوا أيّها. قالوا: وما هُنّ؟ قال: نُبايعُ هذا الرجلَ ونُصدّقُهُ... فتَأمَنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا: لا نُفارقُ حُكْمَ التوراة أبدًا، ولا نَسْتبدلُ به غيرَه. قال: فإذا أبَيْتُم هذه عليّ، فَهَلُمّ فلنَقْتُلْ أبناءَنا ونساءَنا، ثمّ نخرجُ إلى محمّد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسّيوف، ولم نترك وراءَنا ثقْلاً يهمّنا، حتّى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمّد. فإنْ نَهْلكْ، نَهْلكْ ولم نتركْ وراءَنا شيئًا نخشى عليه، وإنْ نَظْهَرْ فلَعَمْري لَنَتّخذَنّ النّساء والأبناء. قالوا: نقتلُ هؤلاء المساكين، فما خيرُ العيش بعدَهم؟ قال: فإذا أبَيْتُم هذه علَيّ، فإنّ الليلةَ ليلة السبت، وإنّه عَسَى أنْ يكونَ محمّد وأصحابُه قد أَمِنُوا، فانزلوا لَعَلّنا أنْ نُصيبَ من محمّد وأصحابِه غرّةً، قالوا: نُفْسِدُ سَبْتَنا ونُحْدِثُ فيه ما لم يَكُنْ أَحْدثَ فيه مَنْ كانَ قَبْلَنا؟" (تفسير الطبري: ج 20، 245-246. أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 235؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 3، 230؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 164؛ مغازي الواقدي: ج 1، 503؛ الروض الأنف للسهيلي: ج 3، 439-440؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 393؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 31؛ حياة الصحابة للكاندهلوي: ج 3، 213).
وبعد التّشاوُر في الأمر
الّذي وجدوا أنفسهم فيه، قرّروا أخيرًا، بحسب الرّوايات، الطّلب من محمّد أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر، لاستشارته في الموضوع، كما رُوي: "ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلعم، أن ابعَثْ إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا من حُلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 113). وأبو لبابة هذا، وهو من حُلفاء الأوس، قد عُرف عنه أنّه لا يرتدع من محمّد كما تذكر رواية الواقدي: "عن ابن المسيب، قال: كان أوّل شيء عتب فيه رسول الله صلعم على أبي لبابة بن عبد المنذر، أنّه خاصم يتيمًا له في عذق. فقضى رسول الله صلعم بالعذق لأبي لبابة فصيّحَ اليتيمُ واشتكى إلى رسول الله صلعم فقال رسول الله صلعم لأبي لبابة: هبْ لي العذق يا أبا لبابة - لكي يردّه رسول الله صلعم إلى اليتيم - فأبى أبو لبابة أن يهبَه لرسول الله صلعم، فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنّة، فأبى أبو لبابة أن يعطيه." (مغازي الواقدي: ج 1، 505؛ أنظر أيضًا: أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 146؛ ثمّ يروى أنّ شخصًا آخر، ثابت بن الدحداحة، رغب أن يفوز بمثله في الجنّة فابتاع العذق من أبي لبابة، ثم أعاده لليتيم).

وبعد أن سمع محمّد طلب بني قريظة قال لأبي لبابة: "اذهبْ فقُلْ لحلفائك ومواليك يَنْزِلُوا على حكم الله تعالى ورسوله." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 506). فانطلق أبو لبابة على الفور إلى بني قريظة ودخلَ عليهم في حصنهم: "فلمّا رأوه قام إليه الرّجال، وجهشَ إليه النّساءُ والصّبيان يبكون في وجهه، فَرَقَّ لهم." (تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 236؛ السيرة لابن كثير: ج 3، 231؛ تفسير البغوي: ج1، 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ مغازي الواقدي: ج 1، 201؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 66؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 20، 84؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 51؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 369)، ثمّ أخبرهم أبو لبابة بأنّ أصحاب محمّد سيقومون بذبحهم، قائلاً لهم: "انزلوا على حكم الله ورسوله. فقالوا: يا أبا لبابة نَصَرْناك يوم بعاث، ويوم الحدائق والمواطن كلّها التي كانت بين الأوس والخزرج ونحنُ مواليك وحلفاؤك، فانْصَحْ لنا ماذا ترى؟ فأشارَ إليهم ووَضَعَ يَدَهُ على حَلْقِهِ، يعني: الذّبْح." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ مغازي الواقدي: ج 1، 506؛ السيرة لابن حبان: ج 1، 255؛ تفسير الطبري: ج 20، 245-246؛ تفسير البغوي: ج1، ص 338؛ تاريخ الطبري: ج 2، 2-3؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 11، 455؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114-117).
وكالعادة يواكب القرآن الأحداث الجارية
فقد ذكر المفسّرون أنّ الآية "لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم" (المائدة، 41) قد نزلت في أبي لبابة لهذا السّبب، كما ذكر مقاتل: "نزلت فى أبي لبابة، اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بني عمرو بن عوف، وذلك أنّه أشار إلى أهل قريظة إلى حَلْقِه أنّ محمّدًا جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حُكْم سعد بن معاذ، وكان حليفًا لهم." (تفسير مقاتل: ج 1، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 301؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 288). بينما يقول آخرون إنّ الآية التي نزلت في أبي لبابة هي "لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء" (المائدة، 51): "وقال عكرمة: نزل فى أبي لبابة بن عبد المنذر لما بعثه النبي صلعم إلى بني قريظة حين حاصرهم، فاستشاروه... فجعل إصبعه فى حلقه، أشار إلى أنه الذبح، وأنّه يقتلكم فأنزل الله." (تفسير الخازن: ج 2، 296؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 10، 398؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 3، 67-68؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 2، 303؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 6، 112؛ تفسير ابن عبد السلام: ج 1، 484). وهنالك من يقول إنّ الآية التي نزلت فيه لهذا السّبب هي: "ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم" (الأنفال، 27)، يعنى أبا لبابة، وفيه نزلت هذه الآية... واسمه مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوف، وذلك أن النبى صلعم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح على مثل صلح أهل النصير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا فى أرض الشام، وأبى النبى صلعم أن ينزلوا إلا على الحكم، فأبوا. وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مُناصحهم، وهو حليف لهم، فبعثه النبى صلعم إليهم، فلما أتاهم، قالوا: يا أبا لبابة، أننزل على حكم محمد؟ فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه إنه الذبح، فلا تنزلوا على الحكم، فأطاعوه، وكان أبو لبابة وولده معهم." (تفسير مقاتل: ج 2، 32؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 13، 481؛ تفسير ابن كثير: ج 4، 40؛ الكشاف للزمخشري: ج 2، 355؛ تفسير الرازي: ج 7، 392؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 6، 36؛ تفسير البغوي: ج 3، 347؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 191؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 48).

وهكذا رفض بنو قريظة العرض وأصرّوا على موقفهم: "فقالوا: لا نَفْعَلُ، يعني: لا نَنْزلُ." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 3، 402). ولمّا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ فقد استمرّ الحصار، بل واشتدّ عليهم وأجهدَهم وبلغ منهم كلّ مبلغٍ لم يستطيعوا تحمّله بعدُ، فاضطرّوا في نهاية المطاف إلى الاستسلام: "فلما طال عليهم الحال، نزلوا على حكم سعد بن معاذ - سيّد الأوس - لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية، واعتقدوا أنّه يُحسن إليهم في ذلك، كما فعل عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع، حين استطلقهم من رسول الله." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397).
أمّا سعد بن معاذ هذا،
فقد كان من رجال محمّد. وقد كان محمّد، حين أجلى بني قينقاع من قبل وفرّق الغنائم الّتي استولى عليها منهم، قد "أعطى سعد بن معاذ درعًا من دروعهم المذكورة، وأعطى محمد بن مسلمة درعًا أخرى." (أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، 134. أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 66). وعلى ما يبدو، فقد كان محمّد على علاقة وثيقة بسعد بن معاذ، إذ يروى عن عبد الله بن الزبير أنّه قال: "أفطر رسول الله صلعم عند سعد بن معاذ، فقال: أفطرَ عندكم الصّائمون وأكلَ طعامَكم الأبرارُ وصلّتْ عليكم الملائكةُ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 556. أنظر أيضًا: صحيح ابن حبان: ج 12، 96؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 11، 466؛ موضح أوهام الجمع والتفريق للخطيب البغدادي: ج 2، 129؛ العلل للدارقطني: ج 4، 310؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 18، 285). كما يروى عن سعد هذا، الذي كان قد أُصيب من قبل في الخندق بسهم كاد يموت منه، أنّ محمّدًا نفسه قام بمعالجته وتطبيب جرحه. لقد كانت صلة محمّد بسعد بن معاذ وثيقة جدًّا لدرجة أنّه روي عنه أنّه قال بعد موته لاحقًا: "اهتزّ عرش الله عز وجل لموت سعد بن معاذ." (سنن ابن ماجة: ج 1، 193؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 13، 108؛ سنن الترمذي: ج 13، 490؛ الكنى والأسماء للدولابي: ج 5، 440؛ نسب معد واليمن الكبير لابن الكلبي: ج 1، 87؛ جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ج 1، 140-141؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444).

غير أنّ بني قريظة لم يكونوا على علم بعمق هذه العلاقة الوثيقة بينهما، ولم يكونوا على علم بما كان سعد بن معاذ يكنّه لهم من ضغائن على أثر إصابته تلك بسهم في تلك الغزوة. فقد روت عائشة عن سعد بن معاذ أنّه وبعد أن أصيب بسهم في الخندق، وهي غزوة الأحزاب التي حالف فيه يهود بنو قريظة والنّضير وآخرون قريشًا (التنبيه والإشراف للمسعودي: ج 1، 92؛ أنظر أيضًا: تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293)، ولأنّه كان خائفًا أن يموت من جرحه هذا فقد دعا ربّه قائلاً: "اللهمّ لا تُمتني حتّى تشفيني من قريظة." (طبقات ابن سعد: ج 3، 422؛ أنظر أيضًا: صفة الصفوة لابن الجوزي: ج 1، 80؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1، 289؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ وبراوية أخرى: "حتّى تقرّ عيني من بني قريظة."، تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 203؛ صحيح ابن حبان: ج 15، 484؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 142؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 6، 198؛ دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 17؛ معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني: ج 8، 444؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 6، 592؛ الأنساب للصحاري: ج 1، 182؛ فتح القدير للشوكاني: ج 4، 390).
ليس هذا فحسب،
بل إنّ محمّدًا قد ضرب له خيمة في مسجده، ليكون قريبًا منه، وكان يزوره ليطمئنّ عليه، كما تروي عائشة: "قالت: أصيب سعد يوم الخندق... فضرب عليه رسول الله صلعم خيمة في المسجد ليعوده من قريب." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، 425؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 14، 6؛ صحيح أبي داود: ج 2، 599؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 8، 454؛ سنن أبي داود: ج 9، 257؛ سنن البيهقي: ج 2، 185؛ سنن النسائي: ج 1، 261؛ مصنف ابن أبي شيبة: ج 8، 499؛ مستخرج أبي عوانة: ج 7، 445؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 6170؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 442؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 394؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 4، 47؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النّوري: ج 51، 228). وعلى ما يبدو فقد سمع محمّد دعاء سعد بن معاذ في تلك اللّيلة الّتي سبقت استسلام بني قريظة: "وكان سعد بن معاذ، الليلة التي في صبيحتها نزلت بنو قريظة على حكم رسول الله صلعم، قد دعا فقال: اللهمّ ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبْقِني لها، فإنّه لا قومَ أحبّ إلي أن أقاتلهم من قوم كذّبوا رسولَك آذوه... ولا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشّامي: ج 5، 11؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 7، 395؛ الرّوض الأنف للسهيلي: ج 3، 442؛ عمدة القاري للعيني: ج 22، 120؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 4، 49). وها هو ابن كثير يؤكّد على ما نرمي إليه، إذ يُصرّح بأنّ بني قريظة: "لم يعلموا أنّ سعدًا، رض، كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق، فكَوَاهُ رسولُ الله صلعم في أكحله، وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب، وقال سعد فيما دعا به: اللهمّ ... لا تُمتني حتّى تقرّ عيني من بني قريظة." (تفسير ابن كثير: ج 6، 397؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 77؛ في ظلال القرآن لسيد قطب: ج 6، 68).
ومعنى هذا الكلام
الّذي يرد في الرّوايات هو أنّ محمّدًا كان يعلم، على ما يبدو، بهذه الضّغينة التي يكنّها سعد بن معاذ لبني قريظة على أثر إصابته، وبأنّه يريد أن يشفي غليله منهم. لهذا السّبب، على ما يبدو أيضًا، وبعد أن سمع محمّد مطالب رجال الأوس بقولهم له: "تَهبُهُم لنا كما وهبتَ بنى قينقاع للخزرج." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 293، أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 75؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 114)، قال لهم محمّد: "ألا تَرْضُون أن يحكُمَ فيهم سعد بن معاذ؟ وهو سيد الأوس. فقالوا: بلى، ظنًّا منهم أنْ يحكمَ بإطلاقهم. فأمر بإحضار سعد ... ثم أقبلوا به إلى رسول الله صلعم وهم يقولون لسعد: يا أبا عمرو، أحسِنْ إلى مواليك، فقال رسول الله صلعم: قُوموا إلى سيّدكم ... فقاموا إليه وقالوا: يا أبا عمرو، إنّ رسولَ الله قد حَكّمَك في مواليك." (المختصر في أخبار البشر لأبي الفدا: ج 1، 90؛ أنظر أيضًا: تاريخ أبي الفدا: ج 1، 203-204؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 306-307؛ مسند سعد بن أبي وقاص: ج 1، 20؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 2، 321؛ سنن البيهقي: ج 2، 126؛ مسند البزار: ج 3، 325؛ إثبات صفة العلو لابن قدامة: ج 1، 69).
وبعد سماع هذه الأصوات وقف سعد بن معاذ خطيبًا فيهم وأصدر حكمه.

في المقالة القادمة، سنتطرق حكم سعد بن معاذ ومحرقة بني قريظة.

والعقل وليّ التّوفيق.

***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شارون أولدز - ذَكَرُ البابا

شارون أولدز || 

ذَكَرُ البابا


بمناسبة زيارة البابا بنيديكتوس السادس عشر إلى الأراضي المقدّسة، أقدّم لكم هذه الترجمة لقصيدة الشاعرة شارون أولدز (Sharon Olds) وهي بعنوان "ذَكَرُ البابا". إنّ هذه الشّاعرة الأميركيّة، المولودة في سان فرانسيسكو سنة 1942، ترى إلى البابا لحمًا ودمًا كسائر بني البشر. وعلى الرّغم من الهالة القدسيّة الّتي تحيط به في أذهان المؤمنين غير أنّه يظلّ بنظرها مع ذلك رجلاً كسائر الرّجال. ولهذا السّبب فما من شكّ في أنّه يعتريه في اللّيالي ما يعتري الرّجال، كما تشير الشّاعرة في قصيدتها. يُلاحظ أيضًا أنّ الشّاعرة تستعير في قصيدتها تشبيه السمكة، وفي ذلك إشارة إلى بعض الرّموز الّتي استُخدمت في القرون المسيحيّة الأولى.

ولمّا كنّا نسمع صباح مساء عن حظر بعض الكتب في العالم العربي وعن تكفير الكتّاب والشّعراء لأسباب سخيفة سُخْفَ هؤلاء المُكَفِّرين أنفسهم ومن هم على شاكلتهم، فقد خطر ببالي السؤال التالي: ماذا كان سيكون مصير شاعر، بل شاعرة عربيّة لو نشرت قصيدة كهذه فيما يتعلّق بالأئمّة والمشايخ؟ ناهيك عن أناس أعلى مرتبةً. أليس كذلك؟

القدس، 12 أيّار 2009
***

شارون أولدز

ذَكَرُ البابا


مُعلّقٌ عَميقًا في جَوْفِ عَباءاتِه،
مِضْرَابٌ ناعمٌ في مَرْكز جَرَس.
يَتحَرّكُ عندما يَمْشي، سَمَكةٌ روحانيّة* 
في هالةٍ من طُحْلُبٍ فضّيّ، 
الشَّعْرُ يَتَمايَلُ في الظّلمَة والحَرّ - وفي اللّيْل 
حِينَما تَنامُ عيناهُ، 
يَنْتَصبُ قائمًا
إجْلالاً للرَّبّ.


ترجمة: سلمان مصالحة

* روحانيّة: أي، من ذوات "الأرواح الّتي لا أجساد لها مثل الملائكة والجن وما أَشبهها"، كما يرد في لسان العرب تعريفًا للرّوحاني.

The Pope's Penis by Sharon Olds,
translated into Arabic by Salman Masalha.

***

Sharon Olds

The Pope's Penis

It hangs deep in his robes, a delicate
clapper at the center of a bell.
It moves when he moves, a ghostly fish in a
halo of silver seaweed, the hair
swaying in the dark and the heat -- and at night
while his eyes sleep, it stands up
in praise of God.

***

For Hebrew translation, press here.
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!