"إلى المسجد الأقصى"

سلمان مصالحة

"إلى المسجد الأقصى"

من المعلوم أنّ المسجد الأقصى
لم يكن موجودًا في الفترة التي حصل فيها حدث الإسراء والمعراج. من الناحية الزمنية فقد حصل الإسراء وكما ذكرنا من قبل في المرحلة الإسلامية الأولى، أي عندما كانت القدس وبلاد الشام خارج حدود الإسلام. كما أنّ افتتاح مدينة القدس في سنة 638م، بينما توفّي الرسول في سنة 632م. أمّا حدث الإسراء فقد حصل حوالي سنة 620م، أي قبل ثمانية عشر عامًا من دخول الجيوش الإسلامية المدينة في خلافة عمر بن الخطاب.

لقد بني مسجد قبّة الصخرة إبّان خلافة عبد الملك بن مروان في الفترة الأموية، والصخرة هي البناء الأوّل الذي قام به المسلمون في المدينة في سنة 691م. لقد قام عبد الملك ببناء المسجد بسبب تذمّر النّاس من منعهم عن أداء فريضة الحجّ إلى مكّة، لأنّ ابن الزبير كان يأخذ البيعة له من الحجّاج الوافدين إلى الحجاز. لقد حدا هذا التّذمُّر بعبد الملك إلى بناء الصخرة وتحويل النّاس للحجّ إليها بدل مكّة كما يذكر ابن خلكان:

"وبنى ابنُ الزبير الكعبة وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابين مع الأرض يدخل من أحدهما ويخرج من الآخر، وخلّق داخل الكعبة وخارجها فكان أول من خلّقها وكساها القباطي. وولّى أخاه عبيدة بن الزبير المدينة، وأخرجَ مروانَ بن الحكم وبنيه منها فصار إلى الشام. ولم يزل يقيم للنّاس الحجّ من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين. فلما ولي عبد الملك منعَ أهلَ الشام من الحجّ من أجل أنّ ابن الزبير كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجّوا. فضجّ الناسُ لما منعوا الحج، فبنى عبد الملك في بيت المقدس الصخرة، فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها. ويقال إن ذلك سبب التعريف من مسجد بيت المقدس ومساجد الأمصار." (وفيات الأعيان لابن خلكان: ج 3، 71-72).

مدينة إيلياء:
تجدر الإشارة إلى أنّه حتّى عندما دخل عمر بن الخطاب المدينة سنة 638 للميلاد لم تكن المدينة تحمل اسم "بيت المقدس" وإنّما كان اسمها إيلياء. وبهذا الاسم تظهر في نصّ الوثيقة، المعروفة بـ"العهدة العمرية"، الّتي حرّرها عمر بن الخطاب لأهلها عندما احتلها الجيش الإسلامي: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان... لا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحدٌ منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهلُ المدائن. وعليهم أن يُخرجوا منها الرّومَ واللُّصُوتَ..." (تاريخ الطبري: 2، 449؛ أنظر أيضًا: البداية والنهاية لابن كثير:ج 7، 65؛ الثقات لابن حبان: ج 2، 213). كما أنّ المسجد الذي تذكر المصادر الإسلاميّة وجوده في المدينة قبل فتح بلاد الشام والاحتلال الإسلامي للمدينة، فإنّه يُذكر باسم "مسجد إيلياء". كما أنّ حدث الإسراء الذي يُروى أنّه حصل قبل حوالي عقدين من الزّمان من احتلال المدينة قد حصل في إيلياء: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى النبي صلعم ليلة أسري به بإيلياء..." (صحيح البخاري: 4، 1743؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: 3، 225 ؛ نظم الدرر للبقاعي: ج 5 ص 17). ومن بين الأحاديث الشهيرة التي تذكر الموقع، يُشار إلى الحديث الذي يذكر "المسجد" مضافًا إلى إيلياء، كأحد ثلاثة مساجد تُزار، كما روى أبو هريرة عن الرسول أنّه قال: "إنّما يُسافَر إلى ثلاثة مساجد، مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد إيلياء" (صحيح مسلم: ج 2، 1014؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 6، 7؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 9، 6894؛ شعب الإيمان للبيهقي:ج 3، 91 ؛ صحيح ابن حبان: 7، 7).

حريّ بنا أيضًا أن نُذَكّر في هذا السياق بأنّ التوجّه بالصّلاة قبل تحويل القبلة إلى الكعبة كان يتمّ نحو مسجد إيلياء، كما روت نويلة بنت مسلم عن مجريات لحظة التّحويل، فقالت: "صلّينا الظهر -أو العصر -في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلعم قد استقبل البيت الحرام، فتحول النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، فصلينا السجدتين الباقيتين، ونحن مستقبلون البيت الحرام." (تفسير ابن كثير: ج 1، 460؛ انظر أيضًا: مجمع الزوائد للهيثمي: ج 1، 240-241؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 25، 43؛ ابن الأثير، أسد الغابة، 3، 421؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 2، 264؛ الدر المنثور
للسيوطي: ج 1، 65).

معنى المصطلح مسجد:
قبل المضيّ قدمًا في بحث ماهية هذا المسجد الأقصى الذي ورد في افتتاح سورة الإسراء، ولأنّ المساجد لا تنوجد بذاتها في أرضٍ ما بانعدام وجود مسلمين فيها، فما علينا إلاّ أنّ نحاول البحث عمّا يعنيه هذا المصطلح في التّراث العربي والإسلامي. ومن أجل الوصول إلى إجابات وافية في هذه المسألة، حريّ بنا أوّلا أن ننظر في ما يعنيه المصطلح "مسجد" في مرحلة نشوء الإسلام في جريرة العرب.

فمن الناحية اللّغوية، المسجد هو مكان السّجود. فالفعل "سجد" يعني خضع (الصحاح للجوهري؛ القاموس المحيط للفيروزآبادي)، كما أنّ الفعل "سجد" يدلّ على التذلُّل، فـ"كلّ ما ذلّ فقد سجد" (مقاييس اللّغة لابن فارس). ومن هنا فإنّ المصطلح "مسجد" يعني مكان العبادة على العموم، مكان السجود والتّذلُّل، وبكلمات أخرى فإنّ المسجد هو: "الذي يسجد فيه، وقال الزجاج: كلّ موضع يُتَعَبّدُ فيه فهو مسجد." (لسان العرب لابن منظور). أمّا "الأقصى" فتعني الأبعد، وذلك "لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام." (تفسير الطبري: ج 17، 333؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 5، 56؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 2، 493؛ تفسير الألوسي: ج 10، 359؛ تفسير النيسابوري: ج 5، 80). وهذا التّصوّر، القائل بأنّ المسجد، كمكان عبادة عام، يشمل أيضًا اليهود والنّصارى ولا يقتصر على المسلمين، يظهر فيما نُسب إلى محمّد ذاته من أقوال. فها هي عائشة تروي عن الرسول قولاً يعني، بين ما يعنيه، أنّ المسجد بنظره يحمل دلالة الكنيسة النصرانية أيضًا. لقد روت عائشة عن نساء الرسول، أم سلمة وأم حبيبة وعمّا رأتاه من جمال في كنيسة مارية بأرض الحبشة، فقالت: "ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها مارية، ... فذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدًا، ثم صوّروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله." (صحيح البخاري: ج 5، 252؛ صحيح ابن حبان: ج 7، 454؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 10، 79؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 119؛ عمدة الأحكام للمقدسي الجماعيلي: ج 1، 59؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 15، 488)، وهذا حديث "متّفق على صحته"، كما يذكر البغوي (شرح السنّة للبغوي: ج 1، 383). كما أنّا نعثر على تعزيز لهذا التصوُّر في ما ورد من حديث صحيح روي عن الرسول الذي قال: لعن الله، أو قاتل الله، اليهود والنصارى لأنّهم: "اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد." (صحيح البخاري: ج 2، 253؛ صحيح مسلم: ج 3، 448؛ مسند أحمد: ج 17، 76؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 12، 221؛ جامع الأصول من أحاديث الرّسول لابن الأثير: ج1، 3741). وها هو أبو سفيان أيضًا ينسب المصطلح مسجد إلى أهل الكتاب. فعندما سأله قيصر عن النبيّ ورغب أبو سفيان في إقناع قيصر أنّ محمّدًا كاذب بما روى من قصّة الإسراء، فقد قال أبو سفيان لقيصر: "زعم لنا أنّه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة، فجاء مسجدكم هذا، مسجد إيلياء..." (تفسير ابن كثير: ج 5 ، 45 ؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 225؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 287؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 325؛ الاكتفاء للكلاعي الأندلسي: ج 2, 307-308).

ولو ذهبنا إلى القرآن
لننظر في ما يحمله المصطلح "مسجد" من دلالات، فماذا نحن واجدون؟ ما من شكّ في أنّ دلالة المصطلح مسجد لا تقتصر على مكان عبادة المسلمين، وإنّما هي دلالة عامّة، وتسري أيضًا على مكان العبادة لدى أهل الكتاب. فها هي الآية الثامنة عشرة من سورة الجن تنصّ: "وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا". فما معنى مصطلح المساجد الذي يظهر في هذه الآية؟

تروي أسباب النّزول أنّ سبب نزول هذه الآية هو قول الجنّ للنّبي: "كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 395؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 8، 242؛ ). أي أنّ هؤلاء الجنّ من المسلمين يسألون الرسول سؤالاً وجيهًا بشأن حضور الصلاة في المسجد بينما هم موجودون في أماكن نائية جدًّا لا وجود للمساجد فيها، فنزلت الآية إجابة على سؤال الجنّ. أمّا ابن عبّاس عندما يتطرّق إلى هذه الآية، يقول: "لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجدٌ إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا - بيت المقدس." (تفسير ابن كثير: ج 8، 244؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 306؛ فتح القدير للشوكاني: ج 5، 437). وكما هو متوقّع فقد شغلت هذه المسألة بال المفسّرين منذ القدم، فهنالك من ذهب إلى التّعميم وهنالك من رجّح التّخصيص: "وقال الحسن المراد كلّ موضع سُجد فيه من الأرض سواء أُعدّ لذلك أم لا، إذ الارض كلّها مسجد لهذه الأمة، وكأنّه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح: جُعلت لي الأرض مسجدًا و طهورًا." (تفسير الألوسي: ج 21، 350؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 13، 395؛ تفسير البغوي: ج 8، 242؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 8، 382-383؛ المحرر الوجيز للمحاربي: ج 6، 436؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 10، 359). وها هو ابن العربي يتطرّق للموضوع شارحًا ذلك بقوله إنّ الأرض كلّها للّه على العموم، وأنّ الله جعل الأرضَ كلّها مسجدًا، ويورد الحديث النبوي: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا. غير أنّه يُضيف إلى هذا التّعميم القول بأنّه: "اصطفى منها مواضع ثلاثة بصفة المسجدية، وهي: المسجد الأقصى وهو مسجد إيلياء، ومسجد النبي صلعم، والمسجد الحرام." (أحكام القرآن لابن العربي: ج 7، 445)، وفي هذا القول إشارة إلى الحديث النبوي الآنف الذكر بشأن المساجد الثلاثة التي يُسافر إليها. إلاّ أنّ التّصوّر الأقدم يذهب إلى ترجيح التّعميم، وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح المساجد في الآية "يعنى الكنائس والبيع والمساجد" (تفسير مقاتل: ج 4، 146). أو كما يذكر أبو حيان: "والظاهر أنّ المساجد هي البيوت المُعدّة للصّلاة والعبادة في كل ملّة." (تفسير البحر المحيط لأبي حيان: ج 10، 359).

بوسعنا أن نعثر على تعزيز لهذا التّصوّر
في مكان آخر في القرآن. ففي معرض الحديث عن بني إسرائيل وما جرى لهم مع فرعون في مصر تذكر الآية القرآنية: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ" (سورة يونس: 87). فها هو المصطلح مسجد يُنسب إلى مكان عبادة بني إسرائيل كما يذكر المفسّرون: "قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة فلما أُرسل موسى أمرَ فرعون بمساجد بني إسرائيل فخُرّبت كُلّها ومُنعوا من الصلاة..." (تفسير القرطبي: ج 8، 330؛ أنظر أيضًا: زاد المسير لابن الجوزي: ج 4، 54؛ تفسير الرازي: ج 8، 335؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 9، 32). وها هو المصطلح "مساجد الله"، كما يرد في سورة البقرة في سياق خراب بيت المقدس: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا." (سورة البقرة: 114). تروي أسباب النّزول أنّ الآية نزلت في شأن طيطوس الرّومي وغزوه لبيت المقدس ومحاصرة أهله وقتلهم وإحراق التوراة: "حيث خرّب بيت المقدس وألقى فيه الجيفة، فكان خرابًا إلى زمن عمر بن الخطاب." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 102؛ أنظر أيضًا: تفسير الألوسي: ج 1، 475؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 264؛ تفسير الرازي: ج 2، 293؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 305؛ معاني القرآن للفراء: 67؛ تفسير النسفي: ج 1، 65؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 385؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 4، 331؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 1، 134). أمّا مصطلح "مساجد الله" الذي يظهر في الآية فهو كما يذكر المفسّرون: "يعنى بيت المقدس ومحاريبه." (تفسير البغوي: ج 1، 145؛ أنظر أيضًا: تفسير مقاتل: 1، 80؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 218؛ تفسير القرطبي: 2، 76). وهكذا نرى أنّ المصطلح مسجد هو تعبير عامّ لمكان العبادة، ولا يقتصر على مكان عبادة المسلمين فحسب.
***
في المقالة القادمة سنرى كيف ينظر التّراث الإسلامي إلى المسجد الأقصى وإلى الصخرة وقدسيّتها.

والعقل ولي التوفيق.
***

غروب



سلمان مصالحة ||

غروب


فِي الأفُقِ الّذي حِيكَ
مِثْلَ فَخٍّ للأَحْلام،
حُبٌّ أوَّلُ
تَتَعالَى فيهِ أَلْسِنَةُ النّار.


الزَّبَدُ الّذي انْطَفَأَ
عَلَى الرّمَال،
هُوَ ضَحِكٌ

          قَدْ تَحقَّق.

***

خلود/ للشاعر الهندي كبير

خُلُود

للشاعر الهندي كبير (ت: 1518)
المُلوكُ سَيذْهَبُون، وَكَذَا مَلِكاتُهم الجَميلات،
حرّاسُ البَلاط، وكُلُّ ذَوِي الأَنَفَة سَيَذْهَبُون.
القُضاةُ الّذين يُرَتّلون الڤِيدات سَيَذْهَبُون،
وَسَيذْهَبُ أُولئكَ الذين لهم يُنْصتُون.
اليُوچيّونَ المازوخيّونَ وَالمُفَكّرونَ اللاّمعُونَ سَيَذْهَبُون،
القَمَرُ سَيذْهَبُ، وَالشّمْسُ وَالماءُ وَالرّيح.
كَذَا يَقُولُ كَبير، يَسْتَطيعُ البَقاءَ فَقَطْ أُولئكَ
الّذينَ عُقُولُهم مُوثَقَةٌ بالصُّخُور.


ترجمة: سلمان مصالحة
*
كبير: بريشة الفنان غلام محمد شيخ
***

"Eternity" by Kabir, translated into Arabic by Salman Masalha

كيف يقولون "بَدْو" بالعبريّة؟

من الأرشيف - عام 2002 :

سلمان مصالحة


كيف يقولون "بَدْو" بالعبريّة؟


في المعبر الحدودي بين الأردن وإسرائيل،
وضمن إجراءات عاديّة، يُنزلك سائق التّاكسي عند نقطة الجمارك لتنتقل عبرها مع حقائبك إلى الطّرف الآخر، ثمّ لشبّاك دفع رسوم المغادرة. من هناك تدلفُ إلى المخرج، حيث موقف الباص الّذي سيعبر بك الجسر والنّهر، عائدًا إلى أرض الوطن المصاب بانفصام مُزمن في الشّخصيّة.

ظنون

سلمان مصالحة

ظنون

رَمَانِي الدَّهْرُ فِي
زَمَنٍ حَزِينٍ، بِهِ ازْدَحَمَتْ
شِمَالِي فِي يَمِينِي.
*
وَرَاحَ العَقْلُ يَبْحَثُ
عَنْ خَلاصٍ، فَلَمْ تُسْعِفْهُ
أَسْئِلَةُ اليَقِينِ.
*
سِوَى مَا كانَ
مِنْ وَهْمٍ، شَبَبْنَا عَلَى
عَتَباتِهِ، دُونَ الجُنُونِ.
*
بَحَثْتُ عَنِ المُخَبّأِ
فِي المَرَايَا، فَلَمْ أَعْثُرْ
عَلَى حُلُمٍ يَقِينِي
*
صُرُوفَ الشّكِّ، حَيْثُ
نَظَرْتُ حَوْلِي، وَرَاحَ الفَأْرُ
يَلْعَبُ فِي البُطُونِ.
*
لِكُلِّ مُسَافِرٍ فِي الأَرْضِ
شَأْنٌ، وَرَوْمُ الشَّأْنِ
يَبْدأُ
بِالظُّنُونِ

***

وصف يوم ماطر

سلمان مصالحة || وصف يوم ماطر


الأبخرة الّتي أخذت تُغطّي زجاج
النّافذة المُطلّة على التلّة المقابلة، سترت تلك المشاهد الرّبيعيّة الّتي تعود إلينا في هذه الأيّام كسابق عهدها وديدبانها كلّ عام. القطّة السّياميّة تواصل المواء مع أنّ شباط قد انسلخ منذ ليالٍ معدودات، وتركني مع الدّودات الأرضيّة اللّواتي يواصلن محاولاتهنّ اليائسة لتسلّق أصيص أثبتّهُ في الشّرفة رحمةً بالچيرانيوم الّذي لم يحظ بوجبات كافية من الماء في الصّيف الفائت، وذلك درءًا للإسراف في تبذير هذا المورد الوطني والقومي. لقد فعلتُ ذلك لأنّي أيقنتُ في أحد تلك الأيّام من أيّام آب المُنصرم أنّنا بلا شكّ نجلس على تخوم الصّحراء، رغم أنّ البعض منّا قد يركنُ إلى طمأنينة بعد أن تعوّد عليها لكثرة الاستعمال في وسائل الإعلام. ألم تُشبعنا تلك الوسائل منذ أيّام السّلف الأوائل أنّنا، وحمدًا للّه على نعمته، محظوظون لوقوعنا في هذه البقعة الّتي شاع اسمها على الملأ "الخطّ الأخضر"؟



وهكذا، ولأنّنا ذهبنا
مع الذّاهبين الأوّلين من السّنين البوالي، دون أن تكون لدينا بصائر، وألقينا عصا التّرحال في هذه المدينة الّتي لا تلبث أن تتعرف فيها، على جلدك، على مزايا هذا الخطّ الفاصل بين الأخضر والأصفر. فالواقف على جبل سكوپس مُستقبلاً القبلة، وهي الحرم القدسيّ الشّريف، إذا التفت شمالاً يسرح نظره في تلك الهضاب الّتي تجرّدت من لباسها سوى من أديم الأرض الّذي امتلس مع آخر قطعة من نور الغروب كما لو كان غانية لعوبًا تستغيث الشّاعر الدّعوب. أمّا إن أملتَ برأسكَ نحو الغرب فإنّه لا شكّ سيقع نظرك على تلك المباني الشّاهقة الّتي أخذت تتسرّب في العقود الأخيرة إلى فضاء المدينة سادّةً على الرّائي خطّ الأفق. وكان هذا الأفق في الماضي غير البعيد قد علا رؤوس الجبال والتّلال في مغرب القدس. وهكذا تستعيد ذكريات من هنا وذكريات من هناك حينما كنتَ تعرّج على هذه التّلّة أو تصعد ذلك الجبل غير آبهٍ بالصّخور ولا بالعلّيق الّذي تعلّق بك مناشدًا إيّاك ألاّ تتركه لوحده. غير أنّ التّعرّجات هذه لم تعد سوى ذاكرة الآن. فها أنت تقفُ هناك معيدًا ذكرياتك الدّافئة وراء هذا الزّجاج الّذي وضعت هذه الطّبيعة الشّتويّة على صفحته غشاوةً فلا ترى ما يدور في الخارج عبرها، ولا يرى الخارجُ ما يدور في الدّاخل داخلك.

والآن، وبعد أن انقطع
التّيّار الكهربائي بقدرة قادر، أو قل لصعقة وقعت غير بعيد انفرطت على إثرها "سناسلُ" حجريّة طالما عملوا على نظمها في هذه المنحدرات اتّقاء لسقوط الدّواب في الحرث، وحفظًا للتّراب الّذي يُطلقون عليه تراب الأجداد. نعم، أليس أديم الأرض من هذه الأجساد الّتي ولّت ولم تترك لنا شيئًا سوى تلك الشّواهد الّتي تشهد حتّى الآن، تحت هذه الزّيتونة أو جنب ذلك الصّبّار عمّا جرى وصار؟ وحين ستهدأ هذه العواصف والزّعازع، ستُشعلُ سيچارتك الّتي لا تعرف رقمها، وستتقدّم نحو النّافذة الّتي ما زالت مُبهمة لا تبوح لك بالسرّ الّذي تُخبّئه لك في الخارج. وما أن تصل إليها وتمدّ يدك لتسمح ذلك البخار والغشاوة حتّى تعود حرارة النّور في الخيوط والمصابيح وكأنّ شيئًا لم يكن.

غير أنّ برودة الزّجاج
تتسلّل إلى أصابعك الّتي مسحت ببطء غشاوة النّافذة. تقترب من تلك الصّلعة الّتي انفرجت في غشاوة البخار فلا تُصدّق. كيف ذا بين ليلة وضحاها اختفت التّلال والهضاب، وكلّ ذلك بين ليلة وضحاها؟ كيف ذا يحصل والجميع نائمون راقدون مفرّخون تحت زوجاتهم. فهناك برز حيّ جديد، وإلى الشّرق كتلة كبيرة من الإسمنت، وشمالاً لم يبق شجرٌ ترتاح تحته في سفراتك الجبليّة وغيرها وغيرها. لم يعد هناك تراب، بل تحوّل كلّه إلى باطون مسلّح بأسلحة غير تقليديّة. تعود أدراجك إلى مكتبك هاذيًا في قرارة نفسك:
ألم أقل لكم من زمان، إنّه في "أوسلو" راحت القدس؟

***
هذا النص نشر في منتصف التسعينات من القرن الماضي.
***

"سبحان الذي أسرى"


سلمان مصالحة ||

"سبحان الذي أسرى"

لا شكّ أنّ حدث الإسراء  
كما ورد ذكره في الآية: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" والتي تفتتح السورة القرآنية التي سُمّيت به، هو أحد أهمّ الأحداث التي رافقت بدايات نشوء الدّعوة الإسلاميّة. كما أنّه يندرج في صلب التّصوّرات الّتي انبنت عليها هذه الدّعوة منذ البداية في جزيرة العرب. فمثلما كنّا أسلفنا من قبل، في معرض حديثنا عن القبلة والتوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس، والوقوف على أنّ هذا التوجّه نحو بيت المقدس كان بهدف استمالة قلوب اليهود، لأنّ محمّدًا كان يعتقد في قرارة نفسه أنّه هو النبيّ الأمّي - المسيح اليهودي المنتظر - الّذي يؤمن اليهود بأنّه سيعود في آخر الزّمان. يمكننا القول أيضًا، إنّ قصّة الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس تندرج ضمن هذه المحاولات التي هدفت إلى التأكيد على هذه الرؤيا الإسلاميّة، وتشير إلى عمليّة البحث الحثيثة عن شرعيّة يهوديّة لدعوته، في الوقت الّذي رفض فيه اليهود القبول به بوصفه هذا "النبيّ الأمّي" التّوراتي، بحسب الرواية الإسلامية.

لقد جاءت رحلة الإسراء إلى بيت المقدس بالذّات، التي هي "قبلة اليهود" كما أشار إليها محمّد نفسه، مثلما فصّلنا الحديث في هذه المسألة من قبل، للتأكيد على شرعيّة هذه الدعوة التي كانت ستضفيها عليها رحلة الإسراء إلى "قبلة اليهود" على وجه التّحديد.لقد نزلت سورة الإسراء بمكّة كما تذكر الروايات، كما أنّ اسمها الأصلي يعكس تلك التوجّهات الأوليّة، إذ يذكر المفسّرون بشأن هذه السّورة أنّ اسمها هو "سورة بني إسرائيل"، كما أنّها تُسمّى بأسماء أخرى: "تسمّى الإسراء وسبحان أيضًا" (روح المعاني للألوسي: ج 14، 238؛ أنظر أيضًا: تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير النسفي: ج 2، 277؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 181). ليس هذا فحسب، بل وكما تفيد الرّوايات فإنّه حتّى بعد أن خُتمت "سورة بني إسرائيل"، فقد نزلت بضع آيات في المدينة لها علاقة بالموضوع، وألصقت بهذه السّورة لتصبح جزءًا منها، ما يشير إلى عمق هذا التوجّه الإسلامي باستجداء الاعتراف اليهودي بنبوّة محمّد. حيث يذكر الرّواة بشأن الآية 76 من سورة الإسراء {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا}، أنّها نزلت بعد أن قال بعض اليهود للنّبي: "إنّ أرض الأنبياء أرض الشّام وإنّ هذه ليست بأرض الأنبياء"، أو كما ورد في رواية أخرى أنّهم قالوا له: "إن كنت نبيا فالحَقْ بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام". وتضيف الرّواية أنّ هذه الأقوال كانت السّبب من وراء غزوة تبوك لأنّ محمّدًا كان ينوي الوصول إلى الشّام جريًا وراء ما قالت له اليهود من أنّ الشّام هي أرض الأنبياء، فقد ذكرت الرّوايات: "فصدّق رسول الله صلعم ما قالوا، فغزا تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة... فأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها محياك وفيها مماتك وفيها تبعث." (الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 320؛ أنظر أيضًا: تفسير الثعالبي: ج 2، 354؛ زاد المسير لابن الجوزي: ج 5، 69-70؛ فتح القدير للشوكاني: ج 3، 293).أمّا بشأن سورة بني إسرائيل - الإسراء - فيُروى عن ابن عبّاس أنّه قال: "إن التّوراة كلّها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل، ثمّ تلا: ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر." (تفسير الطبري: ج 17، 590؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 287؛ روح المعاني للألوسي: ج 15، 2). وهذه الآية التي تلاها ابن عبّاس بحسب الرّواية، "{ولا تجعلْ مع الله إلهًا آخر}"، ليست سوى ترجمة من اللغة العبريّة لإحدى الوصايا العشر التّوراتية: "لا يَكُنْ لكَ إلهٌ آخرُ سِوَاي!" (سفر الخروج، فصل 20، 3). وعلى ما يبدو، فلم يكن ابن عبّاس ليصرّح بأنّ التّوراة كلّها في سورة الإسراء ثمّ يتلو هذه الآية لولا علمه ويقينه بأنّ هذه الدعوة الجديدة إنّما هي دعوة يهوديّة توراتيّة في الأساس.
 مهما يكن من أمر، فإنّ قصّة الإسراء تشير إلى تلك الرحلة التي اقتاد بها جبريل محمّدًا، بحسب الروايات الإسلاميّة، على ظهر تلك الدابّة الأسطوريّة المُجنّحة، البراق، من مكّة إلى بيت المقدس ومن ثمّ التّعريج به للسموات ولقاء الأنبياء السابقين، وإيحاء الله له بما أوحى له به. حتّى أنّ هذه الدّابّة الأسطوريّة، البراق، كما تفيد الرّواية الإسلاميّة هي دابّة سليمان بن داود: "كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر." (تفسير مقاتل: ج 2، 247)، وذلك من أجل إضفاء شرعيّة يهوديّة نبويّة عليها من خلال ركوبه على دابّة سليمان بن داود الّذي تنظر إليه الرّواية الإسلاميّة بوصفه نبيًّا بخلاف النّظرة اليهوديّة الّتي تراه ملكًا ليس إلاّ. يشار هنا إلى أنّ كون الدّابّة مُجنّحة يندرج أيضًا ضمن الخرافات الإسلاميّة التي تفيد بأنّ سليمان بن داود كانت له خيول مُجنّحة، قيل إصابها وقيل ورثها عن أبيه داود، وقيل أخرجت له من البحر: "عن عوف رضي الله عنه قال : بلغني أن الخيل التي عقر سليمان عليه السلام كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده." (الدر المنثور: ج 7، 177؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 21، 193؛ تفسير البغوي: ج 7، 88؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 11، 386؛ تفسير القرطبي: ج 15، 193؛ تفسير الألوسي: ج 17، 331). 
قصّة الإسراء: يذكر مقاتل في تفسيره بشأن الإسراء: "أنّ النبى صلعم أصبح بمكة ليلة أسرى به من مكة، فقال لأم هانئ ابنة أبى طالب، وزوجها هبيرة بن أبى وهب المخزومى: لقد رأيت الليلة عجبًا، قالت: وما ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: لقد صليت فى مصلاي هذا صلاة العشا، وصلاة الفجر، وصليت فيما بينهما فى بيت المقدس، فقالت: وكيف فعلت؟ قال: أتاني جبريل، عليه السلام، وقد أخذت مضجعى من الفراش قبل أن أنام، وأخذ بيدى وأخرجنى من الباب وميكائيل، عليه السلام، بالباب ومعه دابّة، فوق الحمار ودون البغل، ووجهها كوجه الإنسان، وخدها كخد الفرس، وعرفها كعرف الفرس... لها جناحان، ذنبها كذنب البقر، وحافرها كأظلاف البقر، خطوها عند منتهى بصرها، كان سليمان بن داود، عليه السلام، يغدو عليها مسيرة شهر، فحملاني عليها، ثم أخذا يزفان بي حتّى أتيت بيت المقدس، ومُثّل لي النبيون، فصلّيت بهم، ورأيت ورأيت..." (تفسير مقاتل: ج 2، 247-248؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 332-333؛ تفسير البغوي: ج 5، 55-62؛ تفسير القرآن للصنعاني: ج 4، 3؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير ابن كثير: ج 5، 5-7؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5 ص 182).

وعندما روى محمّد على مسامع قريش عن رحلته هذه حاولت قريش استجوابه حول أمور تتعلّق ببيت المقدس، لم يعرف الإجابة عليها فاغتمّ لذلك كثيرًا، حتّى مثّل اللّه له بيت المقدس أمامه فطفق محمّد يصفه لهم بالتّفصيل: "روى الصحيح عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلعم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربتُ كربًا ما كربت مثله قط. قال فرفعه الله لي أنظرُ إليه فما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به." (تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ أنظر أيضًا: تفسير البغوي: ج 1، 57). 
وكالعادة، فيما يتعلّق بالأحداث الإسلاميّة، هنالك اختلاف حول حيثيّات الرّحلة كما تظهر في الرّوايات. فمن خلال النّظر في الرّوايات الإسلاميّة لا نستطيع الجزم بتاريخ الإسراء ولا الموقع الّذي انطلقت منه هذه الرّحلة الأسطوريّة ولا أين نزل وحلّ في الطّريق، إلى آخر هذه القضايا التي عادة ما تثير الكثير من الاختلافات.لقد شهدت الرّوايات على كلّ تلك الاختلافات في تاريخ ونقطة انطلاق الإسراء: "وقد اختُلف أيضًا في تاريخ الإسراء فروي أنّ ذلك كان قبل الهجرة إلى المدينة بسنة، وروي أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ حول اختلاف الروايات بشأن تاريخ الإسراء، انظر تفسير البغوي: ج 1، 57؛ تفسير مقاتل: ج 2، 247؛ تفسير القرطبي: ج 10، 180؛ تفسير الألوسي: ج 10، 356-357). كما أنّ ثمّة روايات تذكر أنّ الإسراء حدث من بيت أمّ هانئ ابنة أبي طالب، وهنالك روايات تقول إنّ الإسراء قد حدث من المسجد الحرام (تفسير الطبري: ج 17، 331-332؛ أنظر أيضًا: الكشاف للزمخشري: ج 1، 673-674؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 429). وهنالك خلاف أيضًا حول ما إذا كان الإسراء قد تمّ بالجسد أم بالرّوح، أم بكليهما، وقد وقف القدماء على هذه القضايا الخلافية: "وقد اختلف أهل العلم هل كان الإسراء بجسده صلعم مع روحه أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية والحسن وابن إسحاق... وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالرّوح." (فتح القدير للشوكاني: ج 3، 295؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 348-351؛ تفسير القرطبي:ج 10، 180؛ شرح البخاري لابن بطال: ج 20، 187؛ تفسير الرازي: ج 9، 494).ولا تتوقّف الاختلافات عند هذا الحدّ، بل تتعاظم بحسب الرّوايات حيث نشهد اختلافات فيما إذا كانت الرحلة مباشرة إلى بيت المقدس أمّ أنّه كانت له محطّات نزل فيها في الطّريق. فبينما الروايات القديمة تذكر الإسراء من مكّة إلى بيت المقدس مباشرة، تأتي روايات لاحقة فتذكر محطّات أخرى يهوديّة ومسيحيّة على الطّريق، نزل فيها وصلّى بأمر من جبريل: "فأتاني جبريل عليه السّلام بدابّة... ثم حملني عليها. فانطلقت تهوي بنا... حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت... ثم بلغنا أرضًا فقال: انزل، فنزلت. ثم قال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا، فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى. ثم انطلقت... ثم بلغنا أرضًا، بدت لنا قصور، فقال: انزل. فنزلت، فقال: صلِّ، فصليت. ثم ركبنا فقال: أتدري أين صليت؟ قلت: الله أعلم. قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني، فأتى قبلة المسجد، فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر، فصليت من المسجد حيث شاء الله." (تفسير ابن كثير: ج 5، 26؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 7، 452؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 185-186؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 3، 80-81).حتّى مسألة الصّلاة في المسجد لا يوجد إجماع عليها. فبينما تذكر الرّوايات دخول الرسول المسجد الأقصى والصّلاة فيه، إلاّ أنّ ثمّة من يرفض هذه الأقاويل استنادًا إلى القرآن ذاته، كما رُوي عن هزء حذيفة بن اليمان بمن يقول بدخول الرسول المسجد والصلاة فيه: "عن زر بن حبيش، قال: أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث، عن ليلة أسري بمحمد صلعم، وهو يقول: فانطلقنا حتى أتينا بيت المقدس. فلم يدخلاه. قال: قلت: بل دخله رسول الله صلعم ليلتئذ وصلّى فيه. قال: ما اسمُكَ يا أصْلَع، فإني أعرفُ وجهك ولا أدري ما اسمُك؟ قال: قلت: أنا زر بن حبيش. قال: فما علْمُك بأنّ رسول الله صلعم صلّى فيه ليلتئذ؟ قال: قلت: القرآنُ يخبرني بذلك. قال: من تكلم بالقرآن أفلح، اقرأ. قال: فقلت: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، قال: يا أصلع، هل تجد "صلّى فيه"؟ قلت: لا. قال: والله ما صلّى فيه رسول الله صلعم ليلتئذ. ولو صلّى فيه لكتب عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق. والله ما زايَلا البراقَ حتّى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع، ثم عادَا عودهما على بدئهما. قال: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه." (تفسير ابن كثير: ج 5، 21؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 17، 349).وفي رواية أخرى يهزأ حذيفة أيضًا من الرّواية القائلة بأنّ الرسول ربط الدابّة في الحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء. إذ عندما قيل لحذيفة إنّ الرسول ربط البراق بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، قال حذيفة: "أوَكانَ يخاف أن تذهب وقد آتاه الله بها؟" (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 335؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد بن حنبل: ج 51، 58؛ مسند الصحابة في الكتب التسعة: ج 35، 1؛ أخبار مكّة للفاكهاني: ج 3، 296؛ الردّ على الجهمية للدارمي: 62؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 11، 215؛ الإسراء والمعراج للألباني: ج 1، 63).***
في المقالة القادمة سنتطرق إلى المسجد الأقصى وسنجيب على السؤال، ما هو هذا المسجد؟والعقل ولي التوفيق
***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"

***

مقالات هذه السلسلة:المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"

 المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
 المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
 المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
 المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
 المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2" 
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
 المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

مرگ بر ديكتاتور

سـلمان مصـالحة

مرگ بر ديكتاتور

أيًّا ما كانت النتائج
التي سيتمخّض عنها الوضع في إيران إثر الانتخابات الأخيرة والمظاهرات الشعبية المطالبة بإعادتها عقب دعاوى تزوير ملالي النّظام لها، فما من شكّ في أنّ أمرًا واحدًا قد ظهر جليًّا على الملأ وهو هذه الحيويّة الشّعبيّة التي تسم الإيرانيين، والتي لا يسع الفرد العربي إلاّ النّظر إليها مشدوهًا بنوع من الغيرة. العالم بأسره يشاهد كيف يقوم النّظام الإيراني بتقييد الصحافة ومنعها من إيصال الأحداث، غير أنّ الأجيال الإيرانية الشابّة المتمكّنة من تقنيّات الاتّصالات الحديثة التي تقدّمها الثورة التكنولوجية تتخطّى كلّ القيود وتوصل إلى العالم بالصوت والصورة كلّ ما يريد نظام الملالي إخفاءه عن أعين العالم.

لقد كنت كتبت في الماضي وقبل أكثر من ثلاث سنوات، وعلى وجه التّحديد في سپتمبر 2006، مقالة أشرت فيها إلى أنّ رياح التّغيير في هذا الشّرق لن تأتي من البلدان العربيّة وإنّما من إيران ومن الشّعب الإيراني بالذّات. كما نوّهت إلى تلك التوجّهات العنصرية العربية المقيتة الّتي تسم كتابات الكثيرين من العرب العاربة والمستعربة التي تنهل من روافد الجهل والجاهلية الجهلاء تجاه الآخرين وتجاه الشعب الإيراني على وجه الخصوص.

***

ليس دفاعًا عن إيران هذا الأوان

لا يشكّ أحد في أنّي أمقت
نظام الملالي الّذي أناخ بكلكله على صدور الشّعب الإيراني منذ عودة الخميني من منفاه الأوروپي. إنّ نظام الملالي هذا تمقته أيضًا الأجيال الإيرانية الشابّة. وبوسع المرء أن يستنتج ذلك من خلال التّقارير الّتي تُنشر عن أجواء وأهواء هذه الشّريحة الإيرانيّة الكبرى في صحف أجنبيّة كثيرة، مثلما قد يلاحظها المتتبّع للبلوچات الإيرانيّة على الإنترنت. لقد كنت كتبت في الماضي إلى أنّه لو قيّض لأن يحدث تحوّل جذري في هذه المنطقة، فما من شكّ في أنّ هذا التّحوّل سيأتي من إيران بالذّات. نعم من إيران، ليس من ملالي إيران بل من الأجيال الإيرانيّة الشّابّة الّتي ستُحدث ثورة حقيقيّة في هذه المنطقة. كما بوسعنا أن نقول إنّ تحوّلاً من هذا النّوع لا يمكن أن يأتي من البلدان العربيّة وذلك لطبيعة هذه المجتمعات القبليّة، ولعلّ في ما يجري في العراق، بعد أن جُدعت قبضة السّفّاح التّكريتي، خير شاهد على ذلك. وكذا هي الحال في سائر البلاد العربيّة الّتي تشكّل في حقيقة الأمر فيدراليّات قبليّة محكومة بالحديد والنّار، أكثر منها دولاً وشعوبًا حقيقيّة يجمعها وحدة هدف ووحدة مصير.



وفي الآونة الأخيرة،
ولأسباب سياسيّة وقبليّة، وفئويّة مذهبيّة في ظاهرها وفي باطنها، بدأت تظهر على السّطح في وسائل الإعلام العربيّة ظاهرة مقيتة تشهد على هذا الدّرك العنصري الّذي وصل إليه هؤلاء الكتبة من مدّعي القومويّة العربيّة. لا شكّ أنّ القرّاء قد بدؤوا يلاحظون تلك النّبرة الّتي تتحدّث عن الفرس وأطماعهم مستعيدين مقولات من غابر العصور عن مؤامرات الفرس والعجم الّتي تُحاك ضدّ العرب. طالما أشبَعَنا هؤلاء وأمثالهم في الماضي بشعارات أخوّة الشّعوب والدّيمقراطيّة وما إلى ذلك من كلام معسول، بينما ها هي اليوم كتاباتهم تنضح بمقولات لا يمكن أن ندرجها إلاّ في خانة العنصريّة العربيّة، تجاه الفرس حينًا وتجاه الأكراد حينًا آخر، إلى آخر قائمة البشر الّذين يعيشون في بلدان العربان أو حولها.

يجب أن نضع النّقاط
على الحروف المبهمات فنقول إنّ كلّ تلك الدّعاوى الّتي يشيعها هؤلاء إنّما هي نابعة من تلك العقيدة العنصريّة الّتي يترعرع العرب عليها وينهلونها من منابع ثقافتهم قديمة كانت هذه الثّقافة أم معاصرة. في الحقيقة لم يتحرّر العرب من هذه الدّعاوى العنصريّة في يوم من الأيّام. فقد تخبو هذه النّظرة ردحًا من الزّمن، ولأسباب عديدة ليس هنا المجال لطرحها، لكنّ هذه النّعرة سرعان ما تعلو وتثور من جديد مع كلّ أزمة وجوديّة يجد العرب أنفسهم فيها.

ألا يمكننا أن نقول إنّه لولا الفرس لما عرف العرب نحو وقواعد لغتهم هم، ولولا الفرس لما عرف العرب الفنون والعمارة والتّاريخ والعلوم. فها هو سيبويه في النّحو، وها هو الطبري في التّاريخ وفي تفسير القرآن، وها هو إبراهيم الموصلي في الموسيقى والغناء، وها هو الخوارزمي في الرّياضيّات والفلك، وها هما الفارابي وابن سينا في الفلسفة والعلوم، وها هو الرازي في الطب والكيمياء والفلسفة، وها هو البيروني وها هو الإصفهاني وبوسعنا أن نعدّد الأسماء تلو الأسماء مديدًا طويلاً. فلولا هؤلاء الفرس الّذين رفدوا الحضارة العربيّة بكلّ ما هو نافع ماكث في الأرض، كيف كانت ستكون أحوال هذه الحضارة الّتي يتبجّح بها هؤلاء العنصريّون الآن؟

والعنصريّون القومويّون العرب هم هم من تنضح كتاباتهم صبح مساء بتلك النّظرة العنصريّة تجاه سائر الإثنيّات الغير العربيّة الّتي تعيش في الفضاء العربي وفي الجوار العربي. كيف ينظر هؤلاء العنصريّون القومويّون إلى أكراد سورية، أو إلى أكراد العراق؟ يتشدّق هؤلاء بصلاح الدّين ناسين متناسين كونه كرديًّا وليس عربيًّا. وكيف ينظر هؤلاء إلى الأمازيغ في المغرب وقبائل شمال أفريقيا؟ ناهيك عن السُّمر في السّودان، وأهل دارفور؟ كذلك، انظروا ما آلت إليه حال الأقباط، وما أدراكم ما حالُ الأقباط؟

إنّ نطام الملالي زائل لا محالة،

لأنّ هذه هي سنّة التّاريخ. لن يستطيع نظام الملالي في إيران من مجاراة العصر رغم ما قد يبدو لأوّل وهلة. إنّ هذا النّظام قادم من عصور قديمة، وهو نظام عائد إلى عصور قديمة، ولذلك فإنّ كلّ توجّهاته هي توجّهات صِدامٍ مع الحضارة المعاصرة مع مستقبل البشر. إنّ زرع هذه الأيديولوجية الصّدَاميّة لدى الشّعب الإيراني هي الأفيون الّذي يخدّر به هؤلاء الملالي أهل هذه البقعة من الأرض. وهذه البقعة هي البقعة الّتي وضعَ الإسلامُ السّياسي (وفي الحقيقة لا يوجد إسلام غير سياسي) على عقول أهلها حجابًا حاجزًا يحجب عنهم حقائق هذا العالم، من أجل حملهم إلى العودة إلى الماضي المُتَخَيَّل. إنّ الحنين إلى ذلك الماضي الموهوم هو خير شاهد على العياء المعاصر، الحاضر في كلّ مجال من مجالات الحياة العربيّة؛ كما أنّه خير شاهد على انسداد الأفق الحضاري العربي للمستقبل المنظور. لهذا السّبب بدأنا نرى شيوع كلّ تلك التّعابير العنصريّة الّتي تنضح من كتابات بعض القومويّين الّذين آن الأوان إلى كشف عنصريّتهم البغيضة المتستّرة خلف شعاراتهم وبلاغتهم البليدة. إنّ هذه التّعابير والمقولات العنصريّة هي خير شاهد على بلادة ّهؤلاء وعلى عمق جهلهم. وعلى ما يبدو فإنّ طَبْعَ هؤلاء يغلب تَطَبُّعَهم، مهما تظاهروا بغير ذلك.
وعندما تكون الحال على هذا المنوال، فبئس المآل!


***


ولقد ذكرت أكثر من مرّة
أنّه ورغم كلّ ما يقال عن النظام الإيراني إلاّ أنّه يبقى والشعب الإيراني أكثر تعدّديّة وديمقراطيّة من جميع الأنظمة والشّعوب العربيّة كافّة. كما أشرت في أكثر من مناسبة إلى أنّ البلد الوحيد في هذه المنطقة الّذي قد تحدث فيه ثورة ديمقراطيّة حقيقيّة هو إيران بلا أدنى شكّ. إنّ الشّعب الإيراني المتحضّر والمنفتح على الحضارات بحاجة إلى دعم جميع المتنوّرين في هذا العالم، وهو بحاجة إلى دعم المتنوّرين العرب على وجه التّحديد، لأنّ الثّورة التّنويريّة الحقيقيّة في هذا الشّرق ستأتي من إيران بالذّات، بعد أن يطيح الشّعب الإيراني بنظام الملالي القابع في غياهب الماضي (إقرأ:
"لا فضل لعربي على أعجميّ إلاّ بالقهوة"). وها هي الجماهير الإيرانية قد خرجت إلى الشّوارع صارخة على الملأ: "مرگ بر ديكتاتور" (الموت للدكتاتور)، وذلك بخلاف الجماهير العربيّة التي تخرج فقط لتصرخ صرخة مختلفة، وهي صرخة أضحت ماركة مسجّلة عليها وباسمها، ألا وهي صرخة "بالرّوح بالدّم نفديك يا فلان"، كائنًا من كان على رأس قبائل العربان. ربّما كان هذا هو الفرق بين معدن الإيرانيوم ومعدن العربانيوم.

وأخيرًا، لا يسعنا سوى أن نقول نحن العرب أيضًا، لقد آن الأوان لأن نصرخ: "مرگ بر ديكتاتور"، لكلّ المستبدّين من العربان، كائنًا من كان ذلك المستبدّ، أكان رئيسًا يورّث الرئاسة لأبنائه من الولدان، أو كان ملكًا جاهلاً لا يعرف القراءة والكتابة ولا حتّى التّفوّه بجملة عربية سليمة في ممالك وأمارات وسلطنات جزيرة العربان، إلى آخر قائمة سلالات الكذب والبهتان.

والعقل ولي التوفيق.

***

المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


سلمان مصالحة


إجلاء اليهود من جزيرة العرب


لقد شهد افتتاح حصون خيبر
قتالاً شديدًا بين محمّد وأتباعه وبين اليهود الذين تصفهم الرّواية الإسلاميّة بالمشركين: "فقاتل رسول الله صلعم المشركين، قاتلوه أشدّ القتال وقتلوا من أصحابه عدة، وقُتل منهم جماعة كثيرة، وفتحها حصنًا حصنًا." (طبقات ابن سعد: ج 2، 106). وكان ابتداء افتتاح حصون خيبر بفتح حصن ناعم من حصون النّطاة: "وبدأ رسول الله صلعم بالأموال يأخذها مالاً مالاً ويفتتحها حصنًا حصنًا، فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 300؛ سيرة ابن حبان: ج 1، 293؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 278؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 179؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10). وبعد أن أفتتح محمّد حصن ناعم وقسم الغنائم على أصحابه، جاءه بنو سهم من بني أسلم وطلبوا منه أن يعطيهم شيئًا من تلك الغنائم، فلم يجدوا عنده شيئًا، إذ كان قد وزّعها على أصحابه. فوعدهم بأن تكون غنائم حصن الصعب بن معاذ لهم عند افتتاحه، كما يروي عبد الله بن أبي بكر: "أنّه حدّثَه بعضُ أسلم أنّ بني سهم مِنْ أسلمَ أتوا رسول الله صلعم فقالوا: يا رسول الله، والله لقد جهدنا وما بأيدينا شيء، فلم يجدوا عند رسول الله شيئًا يعطيهم إياه فقال النبي: اللهمّ إنّك قد عرفتَ حالَهم وأنْ ليست بهم قوة، وأنْ ليس بيدي شيء أعطيهم إياه، فافتحْ عليهم أعظمَ حصونها أكثرَها طعامًا وودكًا." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277). وكان اليهود الذين سلموا من فتح حصن ناعم قد انتقلوا إلى حصن الصّعب بن معاذ، فلاحقهم المسلمون وفتحوا حصن الصّعب قبل مغيب الشمس: "وكان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتح الله حصن الصعب قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم." (عون المعبود: ج 6، 492)، ويُعدّ حصن الصعب هذا من أغنى حصون خيبر، حيث تذكر الرّوايات: "وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع." (مغازي الواقدي: ج 1، 267؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ سيرة ابن هشام: ج 4، 302؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 319؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 366)، وذكرت أنّه: "لم يكن بخيبر حصن أكثر طعامًا وودكًا وماشية ومتاعًا منه." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 121؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 306؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 425؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 137).

ثمّ تحوّل من نجا من اليهود إلى حصن قلّة المنيع، وهو: "حصن بقلة جبل... وهو آخر حصون النطاة." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). فحاصرهم الرسول ثلاثة أيّام حتّى جاء إليه أحد اليهود ووشى له بمكان مصدر مياههم لكي يقطع الماء عنهم بشرط أن يؤمنّه على حياته وأهله وماله: "فجاء رجل من اليهود يقال له غزال، فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلّك على ما تستريح من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشقّ... قال: فأمّنه رسول الله صلعم على أهله وماله، فقال اليهودي: إنّك لو أقمت شهرًا ما بالوا، لهم دبول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك. فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك. فسار رسول الله صلعم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا فقاتلوا أشدّ القتال وقتل من المسلمين يومئذ نفر وأصيب من يهود ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله صلعم." (دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 307؛ أنظر أيضًا: زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 376؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 122-123). وبعد أن افتتحت حصون النّطاة انتقل المسلمون إلى حصار منطقة الشقّ وحصونها: "ثم صار المسلمون إلى حصار حصون الشقّ فكان أول حصن بدأ به من حصني الشق حصن أبي، فقاتل أهله قتالاً شديدًا، وهرب من كان فيه ولحق بحصن يقال له حصن البريء وهو الحصن الثاني من حصني الشقّ. فحصون الشق اثنان حصن أبي وحصن البريء." (عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 308).

صلح خيبر:
بعد افتتاح حصون النطاة والشق التجأ من سلم من اليهود من هذه الحصون إلى حصون الكتيبة، وهي القموص والوطيح والسلالم. فانتقل المسلمون إلى حصارها فافتتحوا القموص وهناك وقعت صفيّة بنت حيي بن أخطب في السبي، كما أسلفنا من قبل. فانتقل من نجا من اليهود إلى الوطيح والسلالم وتحصّنوا هناك أشدّ التحصّن، فأطبق المسلمون الحصار على الوطيح والسّلالم أيّامًا وليالي: "ولمّا افتتح رسول الله صلعم من حصونهم ما افتتح وحاز من الأموال ما حاز انتهوا إلى حصنيهم الوطيح والسلالم." (تاريخ الطبري: ج 2، 135؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 333؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 277؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 211؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492).

وبعد أن أُطبق الحصار على الوطيح والسلالم وأيقن اليهود، بعد أن استمرّ الحصار بضعة عشر يومًا، أنّهم لن يصمدوا أمام حصار المسلمين لهم، أرسل ابن أبي الحُقيق إلى الرسول طالبًا الصّلح: "وحاصر رسول الله صلعم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح والسلالم حتّى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيّرهم ويحقن لهم دماءهم، ففعل." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 337؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ عيون الأثر لابن سيد الناس: ج 2، 139؛ الروض المعطار للحميري: ج 1، 490؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283). لقد تمّ ذلك بعد أن أرسل زعيمهم ابن أبي الحقيق إلى محمّد طالبًا أن يكلّمه: "وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلعم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلعم: نعم. فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلعم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ أنظر أيضًا: دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 309؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 342).



وبالإضافة إلى الجلاء
عن أرضهم ومنازلهم فقد أضاف محمّد شرطًا آخر، وهو أن لا يُخفوا شيئًا من أموالهم عنه. إذ أنّه، على ما يبدو، كان يبحث عن شيء ما: "فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم... فاشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيّبوا شيئًا، فإن فعلوا فلا ذمّة لهم ولا عصمة." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: طبقات ابن سعد: ج 2، 110؛ صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 12، 29؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، 492). لقد كان يبحث، كما يُستشفّ من الرّوايات، عن كنز حيي بن أخطب. وهو كنز يحتوي على الأموال والحلي التي كان حيي حملها معه عندما تمّ إجلاء بني النّضير إلى خيبر: "فغيّبوا مسكًا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه الى خيبر حين أُجليت النضير."(صحيح ابن حبان: ج 11، 562؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 583؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 2، 62؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 377؛ فتح الباري لابن حجر: ج 12، 31؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). لقد حاول محمّد الاستفسار عن كنز حيي: "فقال رسول الله صلعم لعمّ حيي: ما فعل مسْكُ حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهَبَتْه النفقات والحروب، فقال صلعم: العهدُ قريبٌ والمالُ أكثر من ذلك." (صحيح ابن حبان: ج 11، 562-563؛ أنظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283؛). أي أنّه يعني أنّ الكنز يحتوي على الكثير من الأموال ولم يمض وقت طويل منذ الجلاء فمن غير المعقول أن يكون المال قد نفد.

تعذيب زوج صفيّة:
كما تذكر الرّوايات كيف تمّ اقتياد كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، زوج صفيّة، إلى محمّد للتّحقيق معه حول الكنز: "قال ابن إسحاق: وأُتي رسول الله صلعم بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وكان عنده كنز بني النّضير، فسأله فجحد أن يكون يعلم مكانه. فأُتي رسول الله صلعم برجل من يهود فقال لرسول الله صلعم: إني قد رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة فقال رسول الله لكنانة: أرأيتَ إنْ وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. فأمر رسول الله صلعم بالخربة فحُفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله ما بقي، فأبَى أن يؤدّيه." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبعد أن رفض كنانة الإفصاح عن مخبأ سائر الكنز فقد دفع به محمّد إلى الزّبير بن العوام قائلاً له: "عَذّبْهُ حتّى تستأصلَ ما عنده! فكان الزبير يقدحُ بزنده في صدره حتى أشرفَ على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى محمد بن مسلمة فضربَ عنقَه بأخيه محمود بن مسلمة. (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 336؛ تفسير البغوي: ج 7، 309؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 220؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 374؛ الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 343). وبرواية أخرى ذُكر أنّ ابن عمّ كنانة كشف عن مكان الكنز: "فاعترف ابن عمّ كنانة عليهما بالمال حين دفعه رسول الله صلعم إلى الزبير يُعذّبه. فدفع رسول الله صلعم كنانة إلى محمد بن مسلمة فقتله." (زاد المعاد لابن قيم الجوزية:ج 3، 283).

بعد ذلك أراد أن يجلي اليهود عن ديارهم فطلبوا منه أن يبقيهم في أرضهم قائلين له إنّهم أعلمُ وأكثر دربة من أصحابه برعاية الأرض والنّخل: "وقالوا: نحن أعْلَمُ بها منكم، وأعْمَرُ لها." (معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149؛ البلدان لياقوت: ج 2، 195؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 283)، فأقرّهم على أن أن يدفعوا له النّصف من ثمر الأرض، كما ورد في الرّوايات: "وأراد ان يجليهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلعم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها فكانوا لا يتفرغون أن يقوموا. فأعطاهم خيبر على أنّ لهم الشطر من كل زرع ونخل وشيء ما بدا لرسول الله صلعم." (صحيح ابن حبان: ج 11، 563؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 1160؛ سنن البيهقي: ج 6، 114؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 124؛ نيل الأوطار للشوكاني: ج 8، 132؛ الأوسط لابن المنذر: ج 10، 263؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10)، فوافق محمّد على الاقتراح وأقرّهم على ذلك.

***
يهود فدك
في ذات الوقت الذي خرج فيه محمّد وأتباعه إلى غزو خيبر، قام أيضًا بإرسال محيصة بن مسعود إلى أهل فدك لدعوتهم إلى الإسلام، مهدّدًا إيّاهم، أنّهم سيكونون هم أيضًا عرضة للغزو مثل أهل خيبر إذا لم يستجيبوا لدعوته: "لما أقبل رسول الله صلعم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدك يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحلّ بساحتهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). لقد حاولوا في البداية رفض ما يُعرض عليهم ظنًّا منهم أنّهم يستطيعون الصمود أمام هذا الغزو: "قال محيصة جئتهم فأقمتُ عندهم يومين وجعلوا يتربّصون ويقولون: بالنّطاة عامر وياسر وأسير والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمّدًا يقرب حرّاهم، إنّ بها عشرة آلاف مقاتل." (مغازي الواقدي: ج 1، 706).


غير أنّ الأخبار التي وصلت بشأن القتل والسبي وما جرى في حصون خيبر، كما تذكر الروايات، قد فتّت من عزائمهم: "حتى جاءهم قتلُ أهل حصن ناعم وأهل النّجدة منهم، ففَتّ ذلك أعضادهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 138). وعلى أثر أخبار الغزو والقتل هذه قرّروا أن يرسلوا مع محيصة رجالاً منهم يطلبون الصّلح: " قال محيصة: وقدم معي رجل من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع، في نفر من اليهود... ويقال عرضوا على النبي صلعم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلعم عليهم من الأموال شيء، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذّوها. فأبى النبي صلعم أن يقبل ذلك." (مغازي الواقدي: ج 1، 706). وقد استقرّ الصلح في نهاية المطاف على مثل صلح خيبر: "وقع الصلح بينهم أنّ لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلعم نصفها. فقبل رسول الله صلعم ذلك... فأقرّهم رسولُ الله صلعم على ذلك ولم يبلّغهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 140؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 375؛ تاريخ خليفة بن خياط: ج 1، 10؛ معجم ما استعجم للبكري: ج 1، 149).

***
يهود وادي القرى
بعد الانتهاء من خيبر تحوّل محمّد وأتباعه إلى وادي القرى، حيث حلّوا على مقربة من منازل لليهود فاستقبلهم اليهود برمي السّهام من حصونهم، حسبما روى أبو هريرة، قال: "خرجنا مع رسول الله صلعم من خيبر إلى وادي القرى.... فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضَوَى إليها أناسٌ من العرب... وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 289؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 254). فأسرع محمّد إلى إجراء الاستعدادات لقتال اليهود ودعوتهم إلى الإسلام لأجل حقن دمائهم: "فعبّى رسول الله أصحابه للقتال وصفّهم،... ثم دعاهم إلى الإسلام وأخبرهم إنْ أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً، كلّما قتل منهم رجلاً دُعي من بقي منهم إلى الإسلام... وقاتلهم حتى أمسى، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتّى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً وغنّمهم الله أموالَهم وأصابوا أثاثًا ومتاعًا كثيرًا. وأقام رسول الله صلعم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على أصحابه، وترك الأرض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها." (سيرة ابن كثير: ج 3، 412-413؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 710-711؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ سبل الهدى وارشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).


وعندما علم يهود تيماء بما جرى مع سائر اليهود فقد أيقنوا أن لا سبيل أمامهم وقرّروا طلب الصّلح من الرّسول على الجزية: "فلما بلغ يهود تيماء ما وطئ به رسول الله صلعم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلعم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم." (مغازي الواقدي: ج 1، 711؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3 313)، وقد ذكرت الرّواية أنّ محمّدًا كتب لهم كتابًا بذلك: "هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا، أنّ لهم الذمة، وعليهم الجزية، ولا عداء ولا جلاء." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 351؛ طبقات ابن سعد: ج 1، 279).

***
تسميم محمّد:
وبعد أن انتهى محمّد وأتباعه من إخضاع اليهود في خيبر وفي سائر أماكن تواجدهم في فدك ووادي القرى وتيماء والاستيلاء على أموال المواقع التي كان افتتاحها حربًا وتوزيعها على المسلمين وإقرار بعضها على النصف صلحًا وإبقاء بعضهم يعملون في الأرض، عاد إلى المدينة: "ثم انصرف رسول الله صلعم راجعًا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر ووادي القرى وغنّمه الله عزوجل." (سيرة ابن كثير: ج 3، 413؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 5، 149).

وكان من بين اليهود من أسلم، ومنهم من بقي في أرضه، يعمل في الأرض ويدفع للمسلمين نصف ثمر الأرض. ومن بين السبايا اللّواتي أسلمن، على ما ذكرت الرّوايات، زينب بنت الحارث اليهوديّة، ابنة أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم. وبعد أن اطمأنّ الرّسول إلى إخضاع اليهود، جاءت إليه زينب هذه وقدّمت له شاةً مسمومة: "عن جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله صلعم لمّا افتتح خيبر واطمأنّ جعلت زينب بنت الحارث وهي بنت أخي مرحب وامرأة سلام بن مشكم سمًّا قاتلاً في عنز لها، ذَبحَتْها وصَلَتْها وأكثرت السمّ في الذراعين والكتف. فلمّا صلّى النبي صلعم المغرب انصرفَ وهي جالسة عند رحله، فقالت: يا أبا القاسم هدية أهديتها لك، فأمر بها النبي صلعم. فأُخذت منها، ثم وُضعت بين يديه وأصحابه حضور، منهم بشر بن البراء بن معرور، وتناول رسول الله فانتهشَ من الذراع وتناول بشر عظمًا آخر فانتهش منه، وأكل القوم منها. فلما أكل رسول الله صلعم لقمةً قال: ارفعوا أيديكم، فإنّ هذه الذّراع تخبرني أنها مسمومة". وتذكر الرّوايات أنّ بشر بن البراء قد مات من تلك الأكلة الّتي أكلها من الشاة المسمومة الّتي أهدتها زينب: "فلم يقم بشر حتّى تغيّر لونُه وماطله وَجَعُهُ سنةً ومات. وقال بعضهم: لم يرمْ بشر من مكانه حتّى توفي." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 1، 13؛ البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 253؛ تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39).

سبب التّسميم:
ولمعرفة ملابسات التّسميم، تذكر الرّوايات أنّ محمّدًا طلب أن يتمّ إحضار اليهود أمامه وسؤالهم عن ذلك: "فقال رسول الله صلعم: اجمعوا لي من كان ها هنا من يهود. فجمعوا له، فقال النبي صلعم: ... هل أنتم صادقي عن شيء إذا سألتكم عنه؟ قالوا: نعم ... فقال رسول الله صلعم: مَنْ أهلُ النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيرًا ثم تخلفونا فيها، فقال لهم رسول الله صلعم: والله لا نخلفكم فيها أبدًا. ثم قال لهم:... هل جعلتم في هذه الشاة سمًّا؟ فقالوا: نعم. قال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: أردنا، إنْ كنتَ كاذبًا أن نستريح منك، وإنْ كنتَ نبيًّا لم يَضُرّك." (سيرة ابن كثير: ج 3، 394؛ أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 11، 291؛ شرح السنّة للبغوي: ج 7، 40-41؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 5، 435؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 354؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: ج 3، 290؛ الخصائص الكبرى للسيوطي: ج 1، 430).

كما تذكر الرّوايات إنّه دعا زينب بنت الحارث، المرأة اليهودية ذاتها، الّتي وضعت السمّ في الشّاة واستجوبها حول الموضوع: "فدعاها فقال: ما حملك؟ قالت: نلتَ من قومي وقتلتَ أبي وعمّي وزوجي، فقلت: إنْ كان نبيًّا فستخبره الذراع وإن كان ملكًا أسترحنا منه." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ تفسير البغوي: ج 7، 310؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير ابن كثير: ج 7، 211). أمّا بخصوص مصير زينب هذه فهنالك اختلاف بما آل إليه مصيرها: "واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أوّلا، فلما مات بشر قتلها قصاصا." (الرحيق المختوم للمباركفوري: ج 1، 347؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155). أو أنّه "لم يقتلها لإسلامها حينئذ، على ما قيل." (تاريخ ابن خلدون: ج 2، 39؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تاريخ الطبري: ج 2، 303؛ )، غير أنّ هنالك روايات تؤكّد على أنّه أمر أولياء بشر بقتلها: "فدفعها إلى أولياء بشر يقتلونها. وهو الثبت." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ طبقات ابن سعد: ج 2، 107؛ عون المعبود للعظيم آبادي: ج 10، 32؛ سمط النجوم للعصامي: ج 1، 328؛ شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ سبل الهدى والرشاد للصاحلي الشامي: ج 5، 155).

محمّد يشير إلى مفعول السمّ:
ويروى أنّ الرّسول ذكر ذلك السمّ، الّذي وضعته له زينب بنت الحارث، في مرضه الّذي توفّي فيه مشيرًا إلى سريان مفعوله فيه: "عن محمد بن إسحاق عن مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى قال، وقد كان رسول الله صلعم قال في مرضه الذي توفي فيه، ودخلت عليه أم بشر بن البراء تعوده: يا أم بشر، إن هذا الأوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من الأكلة التي أكلتُ مع ابنك بخيبر." (تاريخ الطبري: ج 2، 138؛ أنظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 12، 221؛ تفسير البغوي: ج 7، 312). ويروى أيضًا عن عائشة أنّها قالت: "كان النبي صلعم يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألَم الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السمّ." (تفسير البغوي: ج 7، 310؛ أنظر أيضًا: شرح سنن ابن ماجة للسيوطي: ج 1، 254؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213)، وبرواية أخرى فيها إقرار بمفعول السمّ: "ما زالت أكلة خيبر يعاودني ألَمُ سمّها." (تاريخ الإسلام للذهبي: ج 1، 143؛ أنظر أيضًا: تفسير النيسابوري: ج 1، 265؛ تفسير الرازي: ج 2، 212؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 19، 27؛ فيض القدير للمناوي: ج 5، 572).

إجلاء اليهود من جزيرة العرب:
بعد أن توفّي الرسول ووقع الاختيار على أبي بكر أن يكون خليفة للمسلمين بعد محمّد واصل أبو بكر التّعامل مع اليهود الباقين في جزيرة العرب بحسب المبادئ التي كان أقرّها الرسول عليهم في اتّفاقيّات الصّلح التي عقدوها معه: "فلما توفّى الله نبيه صلعم أقرّها أبو بكر رض بعد رسول الله صلعم بأيديهم على المعاملة التي عاملهم عليها رسول الله صلعم حتى توفي." (سيرة ابن هشام: ج 4، 329؛ تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415). وبعد أن توفّي أبو بكر وخلفه عمر بن الخطّاب استمرّ عمر على ذات النّهج فترة من الزّمن حتّى وصل إلى مسامعه قولٌ منسوب إلى الرّسول في مرضه الّذي قُبض فيه: لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان: "ففحص عمر عن ذلك حتّى بلغه الثبت. فأرسل إلى يهود، أنّ الله قد أذن في اجلائكم، فقد بلغني أن رسول الله صلعم قال: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان، فمن كان عنده عهد من رسول الله فليأتني به أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء." (تاريخ الطبري: ج 2، 307؛ أنظر أيضًا: سيرة ابن هشام: ج 2، 356؛ سيرة ابن كثير: ج 3، 415).

غير أنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ ثمّة أسبابًا أخرى لإجلاء اليهود. فمثلما أشرنا من قبل فقد أُبقي اليهود في البداية لمعرفتهم وعلمهم في تدبير وعمارة الأرض، ولم يكن المسلمون آنئذ على دراية بهذه الأمور. فلمّا كثرت الأموال في أيدي المسلمين، وتعلّموا أمور الزّراعة والاعتناء بالأرض والنّخيل قرّروا الاستيلاء على أراضي اليهود. كذا يُستشفّ من الرّواية التالية بهذا الشأن: "حتّى كان عمر، فكثر المال في أيدي المسلمين، وقووا على عمل الأرض، فأجلى عمر اليهود إلى الشام وقسم الأموال بين المسلمين إلى اليوم." (الأموال للهروي: ج 1، 144؛ البلدان لياقوت: ج 2، 410). وعلى كلّ حال، لقد أجلى عمر يهود خيبر وفدك، ولم يخرج يهود تيماء ووادي القرى لأنّ مناطق تيماء ووادي القرى تعتبر من بلاد الشام وليست داخلة في جزيرة العرب، على ما روي: "فلما كان زمن عمر بن الخطاب رض أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وأن ما وراء ذلك من الشام" (زاد المعاد لابن قيم الجوزية: ج 3، 313؛ أنظر أيضًا: مغازي الواقدي: ج 1، 706؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 4، 366؛ تاريخ أبي الفدا: ج 1، 213).

وعلى ما يبدو فقد بقي هناك من أسلم من اليهود في جزيرة العرب وفي المدينة، وظلّوا يعملون في الأرض ويهتمّون بالنّخيل: "بيت الخيبري - نسبة إلى خيبر بلدة قديمة مشهورة. وإليها ينسب كثير بالمدينة المنورة. وحرفتهم حفر الآبار وضرب اللبن. ويقال: إن أصلهم من يهود خيبر الذين أجلاهم النبي صلعم من المدينة. وقيل: إنهم مواليد لعبيد عنزة، لأن خيبر أملاك لهم إلى اليوم. ويحضرون فيها أيام الصيف مقدار عشرين يومًا ويجذّونها قبل استواء ثمارها. وهذا دأبهم في كل عام." (تحفة المدنيين لابن الفقيه: ج 1، 52).

كما أنّ ثمّة من اليهود الّذين أجلاهم عمر إلى الشّام قد ظلّوا يحنّون إلى ديارهم في جزيرة العرب، وفي أقوالهم تُسمع أصداء ما جرى لليهود في الحجاز:"عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر. قتله يوم خيبر رجل من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة، يوم نزل محمد خيبر. وكنا ممّن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنّه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أُعيّر. تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابنُ سيّد اليهود، لم يترك اليهودية، قُتل عليها أبوك وتخالفه؟" (مغازي الواقدي: ج 1، 265).

***



في المقالة القادمة سنتطرق إلى قصّة الإسراء والمسجد الأقصى.

والعقل وليّ التوفيق.



***
المقالة في "شفاف الشرق الأوسط"
***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة:
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!