حول تعليق الأستاذ الأتاسي في "الأوان"

سلمان مصالحة

حول تعليق الأستاذ الأتاسي
في "الأوان"


لقد كتب الأستاذ أحمد نظير الأتاسي، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة لويزيانا الأميركية، تعليقًا على مقالتي المعنونة "إيلوهيم في الإسلام"، والمنشورة في منبر "الأوان". ولأسباب تقنية تتعلّق بمساحة الردّ أو أسباب تقنيّة أخرى، لم أستطع وضع ردّي على تعقيبه في موقع "الأوان" ذاته، فرأيت أن أنشر ردّي هنا، وأحيله إليه بملاحظة.

***
تعليق الأستاذ الأتاسي، كما ورد في "الأوان":

"أشارك الأستاذ قريط الرأي بأن التحليلات اللغوية مجرد إحتمالات (وأين نجد الحقائق أصلاً). رأي الأستاذ مصالحة بأن اللهم هي إلوهيم العبرية رأي معروف وشائع بين المستشرقين. وهؤلاء يرون كل أصل في العبرية. لكن ما أثار استغرابي هو اعتماده على الموروث اللغوي والأخباري العربي وهو موروث أسطوري ظهر في أواخر القرن الثاني وخلال الثالث، ويدل أن هؤلاء اللغويين والنحويين لم تكن لهم أية معرفة بحجاز محمد ولا حتى بالجزيرة العربية في زمن محمد. هل العربية لهجة قريش أم لغة تعامل رسمي مركبة من لهجات؟ هل العربية أقدم من نقش النمارة أم أحدث؟ لا نعرف. هل فرض الفاتحون العربية أم أنها كانت موجودة قبلهم؟ يجوز الوجهان وأي خليط منهما. أما هذه الصورة عن العرب المعزولين عن العالم في جزيرتهم ويتكلمون العربية منذ زمن إسماعيل، ويمر بهم رهبان وتجار ليعلموهم العبرية أو اليهودية أو المسيحية، أو يسافر بعضهم مثل أمية ليعودوا بدين جديد أو بآلهة جديدة مثل عمرو بن لحي، فهي صورة مضحكة كونها المسلمون في بغداد في مراحل متأخرة. قد تكون اللهم من أصل واحد مشترك أخذت عنه العربية والعبرية. حتى نقش النمارة أهو "عربي فصيح" حقيقةً أم آرامي أم خليط؟".

***

وعلى ذلك أقول:

الأستاذ الأتاسي، تحية.

(1)
تستطيع أن توافق مع من تشاء، بشرط أن يكون رأيك، أو رأيه، مؤسّسًا على ما يستند إليه. فلا يكفي القول: من يعرف؟ وقد يكون كذا، وقد يكون شيئًا آخر وما إلى ذلك ... التساؤلات مهمّة لكنّها لا تكفي، إذ يجدر العمل على محاولة الإجابة عليها. أنا، من جهتي، أحاول إعطاء تفسيراتي في المسائل التي أتطرّق إليها، مستندًا إلى استقراء موروثي، موروثنا، الثقافي، وداعمًا ذلك بمعارفي الأخرى. فإذا كان لديك تفسير آخر ينقض تفسيري لها، فهيّا أرشدنا، وقدّمه لنا!

الحقيقة، وأنت بلا شكّ تعرف ذلك، هي أنّ كلّ ما لدينا من موروث عن الحضارة العربيّة القديمة هو تدوين متأخّر. ولهذا السّبب فأنا أنظر إلى التاريخ العربي والإسلامي بوصفه إبداعات أدبيّة من عمل البشر، مع كلّ ما تشي به أعمال البشر الأدبيّة من خبايا، وأنا أتعامل معه على هذا النحو فقط. وعلى هذا النحو أيضًا أتعامل مع نصوص التوراة والإنجيل وكلّ النصوص التي تُعتبر مقدّسة لدى المؤمنين، فكلّها نصوص وإبداعات أدبيّة من عمل البشر يجب النّظر إليها بهذا المنظار.

ثمّ ها أنت، نفسك، تُصرّح في مدوّنتك الخاصّة عن هذه الموروثات العربية: "ولا يمكن أن نرميها كلها لأن ثمانين بالمائة منها خاطئ فالعشر الباقي يمكن أن يكون صحيحاً إلى حد ما". وعلى فكرة يا أستاذ: حساب ثمانين زائد عشرة يساوي تسعين، فأين ذهبت "عشرة" أخرى لاكتمال المائة بالمائة؟ (هذه مجرّد دعابة معترضة فقط). وها أنت أيضًا تواصل التساؤل في مدوّنتك: "فلنتصور عالمًا فيه الإسلام وليس فيه سيرة ابن اسحاق. يا لطيف! فمن أين نأتي بالنظريات التي تشرح ظهور الإسلام وما نحن فيه الآن؟"، وتساؤلك هذا هو تساؤل وجيه، بالطبع. فما عليك إلاّ محاولة الإجابة عليه.

(2)
ثمّ تشير أيضًا في تعليقك إلى استغرابك: "لكن ما أثار استغرابي هو اعتماده على الموروث اللغوي والأخباري العربي وهو موروث أسطوري ظهر في أواخر القرن الثاني وخلال الثالث...". غير أنّك، يا أستاذ، تناقض نفسك بنفسك. إذ أحيلك مرّة أخرى إلى النّظر في ما تكتبه أنت نفسك في مدوّنتك، في معرض الردّ على تساؤلات نادر قريط: "ليس التراث الإسلامي وخاصة روايات البدايات بأقل موضوعية أو اكثر تحزباً ونزوعاً إلى الإفراط والخيال من أي تاريخ قديم آخر، كلهم سواء". إذن يا أستاذ الأتاسي، قرّر ماذا تريد بشأن هذه الروايات. هل هي خرافات وأساطير لا يعتمد عليها، أم إنّّها ليست بأقلّ موضوعية من أي تاريخ آخر، كما تقول في مدونتك؟

وحتّى إذا رغبت في شطب كلّ هذه الروايات، وقررت أن تأخذ بنص القرآن فقط لا غير، فعن أن أيّ نصّ تتحدّث؟ فهنالك قراءات مختلفة. ولماذا تأخذ بقراءة دون غيرها؟ أوليس تغليب قراءة على أخرى هو أيضًا خلق جديد للقرآن من عمل البشر؟ ثمّ، هل هنالك عربيّ واحد على وجه الأرض يستطيع فهم هذا النصّ القرآني دون العودة إلى أسباب النزول وتفسيرات القدماء واللغويين؟ وكيف ستفهم، على سبيل المثال لا الحصر، دلالة المصطلح "الصّراط" في سورة الفاتحة، دون العودة إلى علماء اللّغة، والمفسّرين، واللغات الأخرى من غير العربية؟ ثمّ، لماذا لا تسأل نفسك: من أين جاء كلّ هذا الجدل القرآني مع بني إسرائيل، أهل الكتاب اليهود والنصارى؟ ولماذا سورة آل عمران، وسورة يوسف، وسورة بني إسرائيل، ولماذا موسى وعيسى ومريم، ولماذا التطرّق إلى خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية؟ ولماذا أسماء ملوك بني إسرائيل، داود، وسليمان، إلخ؟ أليست كلّ هذه الأمور من العبرية ومن التوراة؟ فإذا شطبت وألغيت كلّ هذه الأمور، فلن يبقى من القرآن والإسلام شيء، يا أستاذ الأتاسي.

(3)
وفيما يخصّ الأمور اللغويّة، فقط أذكّرك بأنّ العبريّة هي لغة التّوراة، والتوراة هي النصّ الأقدم على ما أظنّ. كما إنّ الآرامية هي لغة التلمود الأورشليمي، والآرامية والعبريّة هما لغة التلمود البابلي. والتوراة والتلمود هما في صلب اليهودية.
أمّا بخصوص اللغة العربية فأقول فقط، إنّنا نكتب اليوم بهذه اللغة العربيّة بفضل كلّ هؤلاء اللّغويين العلماء القدماء الذين أكنّ أنا لهم كلّ الاحترام لما بذلوا من جهود جبّارة لحفظ هذا الموروث اللّغوي لنا نحن. فلولا هؤلاء القدماء لما كان بوسعي أن أكتب بلغتي هذه التي أحترمها، بخلاف الكثيرين من حولي في عالم العرب.

وأخيرًا،
أنت أستاذ التاريخ الإسلامي، فما هي مراجعك المعتمدة التي تطلب من طلاّبك العودة إليها؟ وإذا كنت لا تكنّ الاحترام إلى هذه المراجع وهذا الموروث الثقافي العربي (ولا أعتقد أنّك كذلك)، فربّما من الأفضل أن تبحث لك عن مهنة أخرى.

أليس كذلك؟


"إيلوهيم" في الإسلام

سلمان مصالحة

"إيلوهيم" في الإسلام


قبل أن نمضي قدمًا في هذا المبحث دعونا نقرأ أوّلاً الرواية التالية: "أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني قال: حدّثني أبي... عن عُقبة بن بشير أنّه سأل محمد بن عليّ: مَنْ أوّل من تكّلم بالعربيّة؟ قال: إسماعيل بن إبرهيم، صلّى اللّه عليهما، وهو ابن ثلاث عشرة سنة. قال، قلتُ: فما كانَ كلامُ النّاس قبل ذلك يا أبا جعفر؟ قال: العبرانيّة. قال، قلت: فما كانَ كلامُ اللّه الّذي أنْزلَ على رُسُله وعباده في ذلك الزّمان؟ قال: العبرانيّة." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 50؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 517؛ الرد على الجهمية للدارمي: ج 1، 181).

إذن، بحسب هذه الرواية، فقد كان كلام الله الأوّل الّذي أنزل على الرسل باللّسان العبراني. ليس هذا فحسب، بل وبحسب ما تذكره الرّوايات الإسلاميّة أيضًا، فعلى ما يبدو، فقد كانت الكتابة العبريّة هي الأكثر شيوعًا في جزيرة العرب قبل الإسلام. فها هو ورقة بن نوفل كما دوّن لنا السّلف: "كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب." (صحيح البخاري: ج 1، 5؛ أنظر أيضًا: البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 3؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 15؛ أحكام القرآن لابن عربي: ج 8، 86؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 561). بل ويمكننا المضيّ قدمًا في القول أكثر من ذلك، حيث ذُكر أنّ التّفسير والترجمة أيضًا من العبرانية إلى العربية قد شاعا جدًّا في جزيرة العرب في بداية ظهور الإسلام، كما روي عن أبي هريرة، حيث قال: "كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام." (صحيح البخاري: ج 24، 425؛ أنظر أيضًا: سنن البيهقي: ج 2، 279؛ تفسير ابن كثير: ج1، 256؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 193؛ تفسير القرطبي: ج 13، 351؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 7792؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 16، 194؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 231).

غنيّ عن القول إنّ علاقة الإسلام بأهل الكتاب وباليهوديّة في جزيرة العرب هي علاقة وثيقة جدًّا، كما تشهد عليها أيضًا كثرة السّور والآيات القرآنية، بالإضافة إلى الأحاديث النبويّة التي تتطرّق إلى بني إسرائيل وأهل الكتاب بعامّة. لقد ذكر الرّواة أيضًا أنّ الرّسول ذاته قد حاول منذ بداية الدّعوة جاهدًا السّير على خطى اليهود واليهوديّة، ليس فيما يتعلّق بالإيمان التّوحيدي فحسب، بل في الطّقوس والفرائض. فمن ذلك على سبيل المثال، ما يتعلّق بصوم عاشوراء وهو يوم الكفّارة، أي الغفران، فقد أخرج البخاري في الصّحيح عن ابن عبّاس، قال: "قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصومُ يوم عاشوراء، فقال ما هذا، قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم، فصامَه موسى، فقال: أنا أحَقُّ بموسى منكم، فصامَه وأمرَ بصيامه". (صحيح البخاري: ج 2، 704؛ أنظر أيضًا: مسند الصحابة: ج 27، 325؛ فتح الباري لابن حجر: ج 4، 247؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 144؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، 575؛ اللؤلؤ والمرجان لعبد الباقي: ج 1، 331).

وفي هذه المقالة
أريد التوقّف عند أحد المصطلحات المركزيّة في الثّقافة الإسلاميّة. إنّه مصطلح ذو أهميّة بالغة، فقد ورد في القرآن وفي الأحاديث النّبويّة، كما إنّه شائع على ألسن المؤمنين وكثيرًا ما يُستعمل في التلبيات والأدعية والصّلوات الإسلاميّة على مرّ العصور، وأعني به مصطلح "اللّهُمّ".

في الظّاهر نرى أنّ المصطلح مركّب من الاسم "الله" وقد أضيفت إليه ميم مشدّدة في آخره، وهذه هي صيغة فريدة من نوعها واقتصرت في العربيّة على اسم الجلالة لا غير. لهذا السّبب فقد شغلت هذه الصيغة الفريدة والخاصّة بهذا الاسم بال المفسّرين واللّغويين منذ القدم. فقد أشار الطبري إلى هذه المسألة بالقول: "واختلف أهل العربية في نصب ميم (اللّهُمَّ)... وفي دخول الميم فيه، وهو في الأصل (الله) بغير ميم." (تفسير الطبري: ج 6، 295). ولو تتبّعنا أثر ما قاله الأقدمون في هذه المسألة، فإنّنا نرى أنّ ثمّة اختلافًا بيّنًا بينهم، فهنالك من قال إنّ الميم التي في آخر "اللّهمّ" هي بمنزلة "ياء" النّداء، وقد جاءت عوضًا عن هذه الياء التي طُرحت منه. وهنالك من قال إنّ معنى اللهمّ هو "يا أللّه أُمّنَا بخير"، أي أنّهم فسّروا ذلك بالقول، إنّ ميم اللّهمّ أصلها من "أُمَّ"، وبعدما أسقطت الهمزة انتقلت ضمّتها إلى الهاء في اللّه. لقد لخّص ابن منظور الكلام حول الخلاف في هذه القضيّة: "قال الفرّاء: معنى اللّهُمَّ: يا أللّه أُمَّ بخيرٍ. وقال الزّجّاج: هذا إقدام عظيم، لأنّ كلّ ما كان من هذا الهمز الّذي طُرح فأكثر الكلام الإتيان به، يُقال ويلُ أُمّه وويل امّه، والأكثر إثبات الهمز... وقال الزّجّاج: وزعم الفرّاء أنّ الضّمّةَ، الّتي هي في الهاء، ضمّةُ الهمزة الّتي كانت في أُمّ. وهذا مُحالٌ أنْ يُترَك الضّمُّ الّذي هو دليل على نداء المُفرد، وأنْ يُجعلَ في اسم اللّه ضمّةُ أُمَّ، هذا إلحاد في اسم اللّه... قال أبو إسحق، وقال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم: اللّهمّ، بمعنى يا أللّه. وإنّ الميم المُشدّدة عوضٌ من يا." (لسان العرب: ج 13، 470؛ بغية التوسّع في هذا الخلاف الدّائر حول هذا المصطلح يمكن العودة إلى: تفسير الطبري: ج 6، 295-298؛ تفسير القرطبي: ج 4، 53-54؛ تفسير الرازي: ج 4، 159-160؛ تفسير النيسابوري: ج 2، 234).

وهكذا، فنحن نقرأ ونسمع
في هذه الروايات أصداء هذا الخلاف الّذي أثاره مصطلح "اللّهم" منذ القدم. غير أنّ حقيقة المصطلح هي شيء آخر مختلف تمامًا، على ما يبدو. ومن أجل الوقوف على هذه الحقيقة، حريّ بنا أن نقتفي أوّلاً أثر انتقال هذا المصطلح إلى العربيّة. إذ أنّ هذا الاقتفاء المُتّئِد سيضع في أيدينا مفتاحًا نستطيع بواسطته فتح مغاليق هذه المسألة. وذلك، لكي يضع قولنا النّقاط على الحروف المبهمات، ويكون في نهاية المطاف قولاً فصلاً في الخلاف الذي دار منذ القدم.

من الملاحظ أنّ الرّوايات العربيّة التي تتطرّق إلى المصطلح "اللهمّ" تحيلنا إلى كونه ذا علاقة وثيقة بالشّاعر أميّة بن أبي الصّلت بالذّات، حيث رُوي: "ويُقال إنّ أميّة قدَّمَ على أهل مكّة (باسْمِكَ اللّهُمَّ) فجعلوها في أوّل كُتبهم مكانَ (باسم اللّه الرّحمن الرّحيم)." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 130؛ أنظر أيضًا: مروج الذهب للمسعودي: ج 1، 25؛ صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480). وهكذا شاع استعمال هذه الصيغة لدى قريش في الحجاز في افتتاح الرسائل، حتّى إنّ الرسول ذاته قد افتتح رسائله بها: "وبلغنا أن رسول الله - صلعم - كتب في بدء الأمر على رسم قريش: (باسمك اللهم) حتى نزلت: {وقال اركبوا فيها باسم الله} فكتب: (بسم الله)، حتى نزلت: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان}، فكتب: (بسم الله الرحمن)، حتى نزلت: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، فكتب مثلها." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 16؛ أنظر أيضًا: صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480؛ المفصل لجواد علي: ج 1، 4889). فإذا كان أميّة بن أبي الصّلت هو الّذي أدخل هذا المصطلح إلى مكّة، على ما تفيد الرّوايات العربيّة، فمن أين استقى أميّة هذا المصطلح، وما هي مصادر ثقافته؟

وللإجابة على ذلك، نعود مرّة أخرى إلى الرّوايات العربيّة للاستعانة بها. لقد أورد الأصفهاني حكاية الإتيان بهذا المصطلح من الشّام. فقد رُوي أنّ أميّة كان قد أخذه عن دَيّار في كنيسة في طريق عودة وفد ثقيف من الشّام في حكاية المرأة اليهوديّة المتمثّلة بعظاية التي نفّرت الإبل، حيث تضيف الرواية أنّ أميّة نزل على ديّار في كنيسة واستعان به، فأشار عليه الدّيّار أن يقول: "سبع من فوق وسبع من أسفل باسمك اللهم فلن تضركم."، وهكذا كان. وبعد عودتهم إلى مكّة "ذكروا لهم هذا الحديث فكان ذلك أول ما كتب أهل مكة باسمك اللهم في كتبهم." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 133-134). وبغض النّظر عن هذه الخرافة الشعبيّة، إلاّ أنّ الملاحظ فيها هي ارتباط شخوصها بأميّة بن أبي الصّلت، بامرأة يهوديّة متمثّلة خرافيًّا بعظاية، وبراهب أو كاهن في كنيسة. غير أنّ الزمخشري يضيف بشأن خلفيّة أميّة الثّقافيّة، حيث يذكر: "كان داهية من دواهي ثقيف... ولذلك درسَ الكتبَ، وكان طَلاّبةً للعلم عَلاّمةً، معروفًا بالجولان في البلاد، راويةً." (ربيع الأبرار للزمخشري: ج 1، 126)، وبراوية أخرى: "وكان أمية بن أبي الصلت قد قرأ الكتبَ واتّبعَ أهلَ الكتاب." (البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 103). ليس هذا فحسب، بل إنّ أميّة هذا قد بلغ من علم أهل الكتاب مبلغًا كبيرًا: "وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي - صلعم - لادّعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد دارسَ النصارى وقرأ معهم، ودارسَ اليهودَ، وكلَّ الكتب قَرأ." (الاشتقاق لابن دريد: ج 1، 97؛ أنظر أيضًا: البدء والتاريخ لابن المظهر: ج 1، 103). بل وأكثر من ذلك، فهنالك روايات تذهب أبعد من ذلك حول الخلفيّة الدينيّة الّتي نشأ فيها أميّة بن أبي الصّلت، حيث تذكر هذه الروايات إنّه كان ينتمي إلى طائفة من اليهود الّذين تنصّروا: "وزعم الكلاباذي أنّه كان يهوديًّا." (فتح الباري لابن حجر: ج 11، 158؛ أنظر أيضًا: فيض القدير للمناوي: ج 1، 57).

وعلى ما يبدو، فقد كان هذا هو السّبب من وراء عدم احتجاج العلماء بشعر أميّة، كما روى الأصفهاني: "عن عبدالله بن مسلم، قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفُها العربُ...، وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة." (الأغاني للأصفهاني: ج 4، 128-129). فما معنى القول، إنّ أمية كان يأتي في شعره بأشياء لا تفهمها العرب؟ والجواب على ذلك واضح، ويمكن اختصاره في أنّه كان يأتي بمفردات ومصطلحات من أصول غير عربيّة، وعلى وجه الخصوص من الأصول التي كان قرأها في "كتاب اللّه عزّ وجلّ الأوّل"، أي من كتاب أهل الكتاب، وهو التّوراة المكتوبة باللّغة العبريّة. كما إنّ مقولة "عدم احتجاج العلماء بشعره" مردّها إلى هذا السّبب. ولهذا السّبب بالذّات فقد احتار القدماء واختلفوا بشأن مصطلح "اللهم" الّذي أدخله أمية بن أبي الصّلت إلى مكّة، فطفق أهل اللّغة يبحثون عن تعليل لهذه الصّيغة الشّائعة والفريدة.

والحقيقة هي أنّهم لو كانوا يعرفون
اللّغة العبريّة، لهان الأمر عليهم كثيرًا. ولكي لا أبقي مجالاً للشكّ في ما أرمي إليه من أنّ هذه المفردة هي مفردة عبريّة، دعونا نذهب ونقرأ ما ذكره سيبويه بشأن "اللّهمّ"، فقد أشار إليها سيبويه في كتابه: "وقال الخليل رحمه اللّه: اللّهمّ نداء والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه اللّه آخر الكلمة بمنزلة يا في أوّلها. إلاّ أنّ الميم ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها." (الكتاب لسيبويه: ج2، 196-197). لقد ذكر الفرّاء أيضًا أنّ الميم في آخر الاسم قد تأتي مخفّفة بغير شدّة: "وقد كثرت اللهم فى الكلام حتى خُفّفت ميمها فى بعض اللغات." (معاني القرآن للفراء: ج 1، 184)، كما أشار ابن منظور إلى أنّ الأصل في ميم "اللهم" هو التسكين لا التّحريك: "والميمُ مفتوحةٌ لسُكُونها وسُكُون الميم قبلها." (لسان العرب: ج 13، 470).

إذن، المفتاح الّذي نفتح به مغاليق هذا المصطلح هو في هذه الإشارات إلى الميم المضافة في آخر "اللهم"، بدءًا بما ذكره سيبويه بشأنها، حيث قال: "إلاّ أنّ الميم، ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها". فما هي نون المسلمين هذه؟ هذه النّون، كما يعلم الجميع، هي نون جمع التّسليم في العربيّة، وهي نون مبنيّة. إذن، فالميم في مصطلح "اللهم" هي ميم مبنيّة شبيهة بنون المسلمين، أي هذه النّون الّتي تفيد الجمع في العربيّة. ومثلما أنّ نون المسلمين تفيد جمع المسلم في العربية، كذا هي الحال مع هذه الميم بالذّات في "اللهم"، فهي أيضًا ما يفيد الجمع، لكن في اللّغة العبريّة بالذّات. فعلى سبيل المثال، كلمة يهودي تُجمع في العبريّة: يهوديم، وكلمة عربي تُجمع: عربيم، وسعودي تُجمع: سعوديم، وعراقي تجمع: عراقيم، وكذا هي الحال أيضًا في جمع إله في العبريّة، حيث تُجمع وتُكتب: "إلهيم" (بالحرف العبري = אלהים) وتلفظ إيلوهيم، أيضًا بتخفيف وتسكين الميم في هذا الاسم في الأصل العبراني.

من هنا نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه وهو أنّه وبعد أن أدخل أميّة بن أبي الصّلت، اليهودي الأصل الّذي "قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل" بحسب الرواية الإسلاميّة، ومن كثرة استعمال كلمة "إلهيم" العبريّة في جزيرة العرب، فقد بقي هذا الاسم العبراني على ما هو عليه، عبرانيًّا في نطقه، أي "إلهيم" بصيغة الجمع العبريّة. ثمّ تحوّل مع مرور الزّمن حتّى رسا الاسم على هذه الصّورة "اللّهم" في العربيّة، وبقيت معه ميم الجمع العبريّة شاهدةً بالتّسكين والتّخفيف، لغةً ونطقًا، على أصله العبراني.

وخلاصة القول هي أنّ تعبير "اللهم" في العربيّة هو ذاته "إلهيم" في العبريّة، بتصحيف وتحريف خفيف. لكن، ونظرًا لغرابة هذه الصيغة الفريدة المقتصرة على اسم الجلالة، فقد اختلف أهل التّفسير واللّغة فيه. وهكذا يمكننا القول، مرّة أخرى، إنّهم لو كانوا على علم باللغة العبريّة لكان أمر المصطلح "اللهم" [= إلهيم] جليًّا واضحًا، ولما كان التبس عليهم إلى هذا الحدّ.

والعقل ولي التوفيق
***

المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

***
أنظر أيضًا:

المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام
المقالة الثانية: كيف انتقل :يهوه" إلى الإسلام؟
المقالة الثالثة: "إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي

يوسانو طيكان / في هذا البلد

يوسانو طيكان

في هذا البلد

الرّجالُ الكبارُ السنّ
أذكياء جدًّا
في هذا البلَد.

دائمًا،
الشبّان هم الّذين
يضحّون بأنفسهم.


ترجمة: سلمان مصالحة

يوسانو طيكان (Yosano Tekkan)، هو الاسم الأدبي ليوسانو هيروشي
شاعر ياپاني من مواليد كيوطو (1873-1935).

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سلمان مصالحة

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سنقتفي في هذا البحث
أثر المصطلح التّوراتي الآخر الّذي ذكره "يهوه" لموسى في سفر الخروج اسمًا له، وسنرى كيف ظهر هذا المصطلح لفظًا ومعنًى في التّراث الإسلامي. وهذا المصطلح الّذي نعنيه هو المصطلح المركّب "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ" (= أكون الّذي أكون)، وهو مشتقّ أيضًا من ذات الجذر العبري الّذي يدلّ على معنى الكون، كما ويُعتبر مرادفًا للاسم الأعظم للّه في العقيدة اليهوديّة.

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


سلمان مصالحة

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


صيغة "يهوه" التّوراتيّة:
لقد رأينا، استنادًا إلى ما ورد في التّوراة، أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الدّيني اليهودي على أنّ المصطلحات العبريّة "إهْيِهْ"، و"إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، ثمّ الصّيغة الأكثر شيوعًا ألا وهي صيغة "يهوه"، هي الاسم الصّريح، الاسم الأعظم والأقدس للّه، ولذلك فهو لا يُلْفظ كما هو بل يُلفظ "أدوناي"، وذلك حذر الانتقاص من هذا الاسم الأعظم. وعلى ما يبدو، يستند هذا الحظر على التّلفُّظ بالاسم الصّريح "يهوه" إلى ما ورد في الكلمة الثالثة، من بين الكلمات (= الوصايا) العشر، الّتي ذكرها اللّه في التّوراة: "لا تَنْطِقِ اسْمَ يهوه إلهكَ سَوْءًا: فَلَنْ يُبَرِّئَ يهوه الَّذِي يَنْطِقُ اسْمَهُ سَوْءًا." (خروج، فصل 20: 6).

لقد لعب يهوه دورًا كبيرًا على مرّ التاريخ اليهودي، واستنادًا إلى ما ورد في التّوراة هنالك من يذهب بعيدًا في التّفسير الأسطوري فيقول إنّ الاسم "يهوه" كان منقوشًا على سيف الملك داود لدى لقائه مع جوليات: "فَقَالَ دَاوُدُ للفلِسْطِيّ: أنْتَ تَأْتِي إلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِقَنَاةٍ وَبِرُمْحٍ، وَأَنَا آتِي إلَيْكَ بِاسْمِ يهوه صباؤوت [= الأجْناد]، إلهِ مَعَاركِ إسْرائيلَ الّذِي جَدَّفْتَهُ." (صموئيل الأول، فصل 17: 45)، أو أنّ الاسم كان منحوتًا حتّى على عصا موسى، بحسب الأسطورة.

من الجدير بالذّكر أنّ اللغة العبرية، على غرار العربيّة، تشتمل على حركات تُثبت على الحروف، وهي حركات قد تغيّر من لفظ الكلمات ودلالاتها. ولهذا السّبب لا يوجد إجماع على حركات تشكيل الاسم "يهوه" في الموروث اليهودي. هنالك من قال إنّ الاسم يُلفَظ "يِهْوِهْ"، وهنالك من قال بأنّ الاسم يُلفَظ "يِهُوَهْ"، غير أنّ الأبحاث المعاصرة تقول إنّ اللّفظ الدّقيق للاسم في الماضي كان "يَهْوِهْ"، وذلك استنادًا إلى ورود الاسم المُقدّس بصورة مختصرة "يَهْ"، والّذي يُعتَقَد بأنّه اختصارٌ للاسم الصّريح للّه. فقد ورد في المزامير على سبيل المثال: "مُبَارَكٌ يهوه إلهُ إسْرائيلَ، مُنْذُ الأَزَلِ وَإلَى الأَبَدِ -- فَقَالَ كُلُّ الشَّعْبِ: أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ." (مزامير 106: 48). يُشار هنا إلى أنّ عبارة "أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ" هذه، هي أصل عبراني توراتي وتعني: آمَنْتُ [= لَبَّيْكَ]، الحَمْدُ لِلّهِ. وقد شاعت كتابتها ولفظها "آمين، هَلِّلُويَا"، كما وردت في الأصل العبري، وكذا تظهر في الترجمات العربيّة، وغير العربيّة، للتّوراة.

أمّا من ناحية الدّلالة
المعزوّة للمصطلح "يهوه" في اليهوديّة، فقد أشار راشي في تفسيره، إلى أنّ هذا الاسم فيه ما يدلّ على الجوهر الحقّ للإله. وذكر مُفسّرون آخرون أنّ هذا الاسم ينماز عن سائر الأسماء بأنّه خاصّ بالله ولا يشاركه فيه أحد، وهو بمثابة اسم شخصيّ يتفرّد به الإله، ولهذا السّبب أيضًا فقد أُطلق عليه مصطلح "الاسم الصّريح"، أو الاسم الأقدس. بالإضافة إلى ذلك، يُشار هنا أنّ الصيغة العبريّة التّوراتيّة للاسم "يهوه" هي صيغة فريدة بذاتها، وهي صيغة خاصّة بالإله الّذي لا شريك له، مثلما أنّ الصيغة أيضًا فريدة ولا شريك آخر لها في اللّغة.

إنّ هذه الصيغة للاسم "يهوه" مشتقّة من الجذر العبريّ "هاء واو هاء" وهو الجذر الّذي يحمل معنى "الكون" [= مصدر الفعل كان، يكون]. فالفعل الماضي منه في اللّغة العبرية هو: "هَيَهْ" [= كان]، والحاضر: "هُوِهْ" [= كائن]، والمستقبل: "يِهْيِهْ" [= يكون]، والمستقبل بضمير المتكلّم هو: "إهْيِهْ" [= أكون]. من هنا فإنّ التّعبير التّوراتي "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، والذي ورد على لسان الله لدى تكليمه موسى من جوف العوسجة المحترقة، يعني: أكُونُ الّذِي أكُونُ. وهكذا فإنّ المصطلح "يهوه"، أي الاسم الصّريح الأعظم لله الّذي يرد في التّوراة، هو صيغة عبريّة مُركّبة من الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يشير بحسب العقيدة اليهوديّة إلى طبيعة هذا الإله، ألا وهي الكون، أي الوجود، في الماضي منذ القدم -الأزل-، والكائن في الحاضر، والّذي يكون في المستقبل إلى الأبد.

كيف انتقل هذا الاسم إلى الإسلام؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال دعونا نعود إلى التراث الإسلامي لنستقرئ ما دوّنه لنا السّلف بهذا الخصوص. فلنبدأ ولنقرأ معًا هذا الحديث: "عن أنس بن مالك، قال: كنت جالسًا مع النبي صلعم في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي صلعم: هل تدرون ما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى." (شرح السنّة للبغوي: ج 2، 390؛ إنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 1، 279؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 1، 340؛ الدعاء للطبراني: ج 1، 123؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 181).

بعد قراءة هذا الحديث يعلو السؤال: ما هو، إذن، هذا الاسم الأعظم للّه الّذي يذكره النبيّ في الحديث؟ هل هو اللّه، أم المنّان أم البديع، أم ذو الجلال والإكرام، أم الحي أم القيوم؟ إذ أنّ الحديث المذكور آنفًا يشتمل على أكثر من صفة أو اسم للّه، كما أنّه لا يُفصح عن هذا الاسم الأعظم من بين هذه الأسماء الحسنى الواردة في دعاء الرّجل.

من أجل الوصول إلى إجابة واضحة على هذا التّساؤل، نحن مضطرّون إلى مواصلة البحث واستقراء المأثورات الإسلاميّة. وها هي الرّوايات التّالية تدفع بنا قدمًا نحو الإجابة على السؤال: "عن أسماء بنت يزيد: أن النبي صلعم قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وفاتحة آل عمران {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم}." (سنن الترمذي: ج 5، 517؛ أنظر أيضًا: شرح السنة للبغوي: ج 2، 392؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 417؛ أنظر أيضًا: مسند ابن حنبل: ج 6، 461؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 6، 47؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2)، وفي رواية أخرى: "عن أبي إمامة عن النبي صلعم، قال : إنّ اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث: البقرة وآل عمران وطه." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ أنظر أيضًا: معارج القبول للحكمي: ج 1، 208؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ الدر المنظّم للسيوطي: ج 1، 2).

فماذا يوجد في هذه السّور الثّلاث؟ وما هي المصطلحات التي ترد فيها وتدلّ على اسم اللّه الأعظم، وليست موجودة في غيرها؟ على هذا السؤال تجيب الرّواية التي يوردها الطحاوي: "... قال أبو حفص: فنظرت في هذه السور الثلاث، فرأيتُ فيها أشياء ليس في القرآن مثلها: آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي طه: {وعنت الوجوه للحي القيوم}... فثبتَ بذلك أن اسم اللّه الأعظم هو: الحيّ القيّوم." (مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 3، 271؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 510؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2).

من أين، إذن، جاء
هذا المفهوم القائل بأنّ هذا المصطلح، "الحيّ القيّوم"، هو الاسم الأعظم للّه؟ قبل الإجابة على السؤال، من الجدير بالذكر أوّلاً أنّ تعبير الـ"قيّوم" هذا هو صيغة عربيّة إسلاميّة مُستَحدَثَة، وليست من التّراث اللّغوي العربي الجاهلي. والصّيغ المستحدَثَة ابتغاء إفادة معانٍ ودلالات جديدة في اللّغة عادة ما تأتي وتتطوّر بتأثير الاتّصال بلغات وحضارات أخرى. ومنذ القدم أثارت هذه الصيغة المُستحدَثة الكثير من التّساؤلات اللّغويّة: "قال ابن كيسان: القيّوم فَيْعُول من القيام وليس بفَعُّول، لأنه ليس في الكلام فَعُّول من ذوات الواو، ولو كان ذلك لقيل قَوُّوم. والقَيّام فَيْعَالٌ أصله القَيْوَام، وأصلُ القَيُّوم القَيْوُوم." (معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260-261؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155-159؛ التبيان في إعراب القرآن للعكبري: ج 1، 106؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 3، 243؛ الدر المصون للحلبي: ج 1، 932).

ولكن، وقبل المضيّ قدمًا في بيان هذا الجانب، حريّ بنا أن نذكر أنّ ثمّة قراءات أخرى مختلفة للنّصّ القرآني، فـ"القيّوم" ليست هي القراءة الوحيدة للنّصّ. فهنالك قراءة أخرى هي "قَيِّم"، وهنالك قراءة أخرى ثالثة مختلفة وهي "قَيّام" كما قرأ عمر بن الخطّاب وابن مسعود: "قرأ عمر وابن مسعود (القيّام) وقرأ علقمة (القَيِّم) وكلّها لغات بمعنى واحد." (تفسير البغوي: ج 1، 312؛ حول اختلاف القراءات، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 6، 2709؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155؛ الكشف والبيان للثعلبي: 2، 62؛ معاني القرآن للفراء: ج 1، 172؛ تغليق التعليق لابن حجر العسقلاني: ج 4، 4؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 13، 430؛ عمدة القاري للعيني: ج 36، 117؛ الدر المصون لـلحلبي: ج 1، 932؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 19، 179؛ معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260).

وبشأن هذه الاختلافات في قراءة النصّ القرآني فإنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ قراءة عمر بن الخطّاب وابن مسعود هي الأقرب إلى الصّواب على ما يبدو. فمثلما أنّ مصطلحات أخرى انتقلت من العبريّة إلى القرآن، كذا هي الحال بخصوص قراءة "الحيّ القيّام"، إذ أنّها هي الأخرى على ما يبدو منقولة من العبريّة. فهذه الصّيغة "حيّ وقيّام" هي صيغة عبريّة قديمة، وقد وردت في التلمود في أوصاف الإله، إذ نقرأ بشأن الإله: "مَلِكٌ إلهٌ حيّ وَقَيّام، جَلّ وَتَعالَى..." (التلمود البابلي، باب الاحتفال: صفحة 13 أ، چماراه)، كما نقرأ أيضًا: "مَلِكُ مُلُوكِ المُلوكِ القدُّوس المُبارَك الّذي هو حَيّ وَقَيّام إلَى الأبَد وإلَى أبَد الآبدين..." (التلمود البابلي، باب البركات: ص 28 ب، چماراه؛ ص 32 أ، چماراه؛ أنظر أيضًا: التلمود الأورشليمي: باب سنهدرين، ص 30 أ، فصل 6). وفي هذا السّياق، يُشار هنا إلى أنّ المفردة العبريّة "قيّام" الواردة في هذه النّصوص القديمة معناها: قائمٌ، كائنٌ، موجودٌ.

يمكننا العثور على تعزيز لهذا التصوّر
فيما دوّنه لنا السّلف من نصوص: "والقيّوم مبالغة من القيام، وهو الثباتُ والوجود. وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال وأنّه لا يجوز وصفه بالعدم بحال، وذلك حقيقة القدم." (التبصير في الدّين للإسفراييني: ج 1، 155). أو أنّه، بكلمات أخرى، كما يروى: "هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا يزول أبدا. ويقال الحي الذي لا بادىء له... وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحيّ قبل كل حيّ، والحيّ بعد كل حيّ، الدائم الذي لا يموت." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ أنظر أيضًا: معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 259). أي أنّ صفة القيّوميّة هذه قائمة منذ الأزل وإلى الأبد: "فصفات الخالق الحي القيوم قائمة به، لائقة بجلاله، أزلية بأزليته، دائمة بديموميته، لم يزل متّصفًا بها ولا يزال كذلك، لم تُسبق بضدّ ولم تعقب به، بل له تعالى الكمالُ المطلق أوّلا وأبدًا، ليس كمثله شيء." (معارج القبول للحكمي: ج 1، 211؛ أنظر أيضًا: قوت القلوب لأبي طالب المكّي: ج 1، 492). كما تذكر الرّوايات الإسلاميّة أنّ اسم الحيّ القيّوم متضمّنٌ لجميع الصّفات الفعليّة للإله: "ولهذا ورد أنّ الحيّ القَيُّوم هو الاسم الأعظم." (التّنبيهات اللّطيفة للسعدي: 23).

وهكذا يتّضح لنا أنّ دلالة الاسم "الحيّ القيّوم"، أو "القيّام" بحسب القراءة الأخرى للنصّ القرآني، هي ذات الدّلالة لـ"يهوه" التوراتي، كما نجدها في المأثورات اليهوديّة. ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إنّ مصطلح "الحيّ القيّوم" هو استنساخ ونقل وترجمة إسلاميّة لمصطلحات عبريّة توراتيّة وتلموديّة تتعلّق بـ"يهوه"، الاسم الصّريح والأعظم لله في اليهوديّة، كما تتعلّق أيضًا بالمصطلح التّوراتي المركّب "إهْيِهْ أشرْ إهْيِهْ" الّذي ذكره اللّه لموسى في البريّة: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ... هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3: 10-15). وحول هذه المسألة بالذّات، ولكي تكتمل الصّورة وتتضّح بجميع جوانبها، سأفصّل الحديث في المقالة القادمة.

والعقل ولي التّوفيق.
***


***
أنظر المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام.

"يهوه" التوراتي في الإسلام


سلمان مصالحة



"يهوه" التوراتي في الإسلام


بدايةً، يمكننا القول
إنّه، وعلى العموم، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال فهم الإسلام على حقيقته وبصورة عميقة دون التمكُّن من معرفة اللّغة العبريّة، لغة التّوراة، لما لهذه اللّغة وما تشتمل عليه من مفردات ومضامين كان لها أكبر الأثر في التراث الإسلامي منذ فجر الإسلام.

في هذه الدراسة سأحاول الوقوف على أحد هذه الجوانب، وهو جانب ذو دلالات كبرى فيما يتعلّق بالعلاقة بين اليهوديّة والإسلام، وأعني به كيفيّة انتقال المصطلح "يهوه" التوراتي إلى صلب الإسلام، مثلما سيتبدّى لنا من القراءة الفاحصة لهذا التّراث. ولكن، وقبل الدخول في صلب هذه المسألة، نجد لزامًا علينا أن ننظر قبلُ في المصطلح "يهوه" كما يظهر في التّوراة في أصلها العبري، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى ظهور هذا المصطلح في ترجمات عربيّة غير دقيقة للتّوراة العبريّة. وأخيرًا سنحاول الوقوف على كيفيّة ظهور "يهوه" في ترجمة إسلاميّة قديمة وأكثر دقّة، كما سينجلي لنا من قراءة المأثورات الإسلاميّة.

"يهوه" في التّوراة:
لو ذهبنا إلى قراءة التّوراة باللّغة العبريّة سنلاحظ أنّ المصطلح "يهوه" يظهر في التّوراة العبريّة 6828 مرّة. ولا شكّ أنّ في هذا العدد ما يدلّ على الأهميّة القصوى التي تُعزى له في هذا النّصّ المركزيّ في التراث الديني اليهودي الّذي يتأسّس على التّوراة، مرورًا بتراث المسيحيّة بعامّة، ولاحقًا في التراث الإسلامي أيضًا.

ولكن، لو أمعنّا النّظر قليلاً لرأينا أنّ "يهوه" لا يظهر في الفصل الأوّل من سفر المبدأ -التّكوين- الّذي يسرد قصّة الخلق، حيث نقرأ في سفر فاتحة التّوراة: "فِي المَبْدَأ بَرَأَ اللّهُ السَّمواتِ وَالأَرْضَ. وَكانَتِ الأَرْضُ خَلاءً وَخَواءً، وَظلامٌ عَلَى وَجْهِ العَمْقِ، وَرُوحُ اللّهِ تَحُومُ عَلَى وَجْهِ المَاءِ. فَقالَ اللّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكانَ نُورٌ. وَرَأَى اللّهُ النُّورَ خَيْرًا، فَمَازَ اللّهُ بَيْنَ النُّورِ وَبَيْنَ الظَّلامِ. فَسَمَّى اللّهُ النُّورَ نَهَارًا وَالظّلامَ سَمَّاهُ لَيْلاً، فَكانَ مَسَاءٌ وَكانَ صَبَاحٌ يَوْمًا أَحَدًا." (سفر التكوين، الفصل 1: 1-5. الترجمة من الأصل العبري هنا وفيما يلي هي لي).

وهكذا نرى أنّ اللّه - إلوهيم في الأصل العبراني، وهي صيغة الجمع العبريّة للمفردة إله - هو الذي يظهر في بداية قصّة الخلق. أمّا المصطلح "يهوه" الّذي نحن بصدده فيظهر لاحقًا في الفصل الثاني، حيث نقرأ: "فَأُكْمِلَتِ السّمواتُ وَالأَرْضُ وُكُلُّ جُنْدِهَا. وَفَرَغَ اللّهُ فِي اليَوْمِ السّابِعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي صَنَعَ، فَسَبَتَ فِي اليَوْمِ السّابعِ مِنْ كُلِّ العَمَلِ الّذِي صَنَعَ. فَبَارَكَ اللّهُ اليَوْمَ السّابعَ وَقَدَّسَهُ لأَنَّهُ سَبَتَ مِنْ كُلِّ العَمَلِ الّذِى بَرَأَ اللّهُ صُنْعًا. هذِهِ مَوَالِدُ السَّمواتِ والأَرْضِ إذْ بُرِئَتْ يَوْمَ صَنَعَ يهوه اللّهُ أَرْضًا وسَمواتٍ. وَكُلُّ نَبْتِ الحَقْلِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي الأَرْضِ وَكُلُّ عُشبِ الحَقْلِ بَعْدُ لَمْ يَنْمُ. لأَنّ يهوه اللّهَ لَمْ يُمْطِرْ بَعْدُ عَلَى الأرْضِ... فَخَلَقَ يهوه اللّهُ الإنْسانَ عَفَرًا مِنَ التُّرْبَةِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَياةٍ فَكَانَ آدَمُ نَفْسًا حَيّةً." (سفر المبدأ، فصل 2، 1-6).

إذن، كما رأينا، يبدأ ظهور "يهوه" في الفصل الثاني: "يَوْمَ صَنَعَ يهوه اللّهُ أَرْضًا وسَمواتٍ"، ثمّ تتكرّر لاحقًا هذه الصيغة "يهوه اللّه"، أو بالإضافة "يهوه إله..."، في الكثير من الفصول والأسفار التّوراتيّة. وبكلمات أخرى، تشير هذه الصيغة إلى أنّ "يهوه" هنا هو بمثابة اسم للّه الّذي صنع الأرض والسّموات. ليس هذا فحسب، بل إنّنا نرى أنّ اللّه ذاته، وكما يرد في التّوراة أيضًا هو الّذي يذكر هذا الاسم لموسى، وذلك في معرض سرد الرّواية التي تتطرّق إلى تكليم اللّه له، ثمّ أمره بالذهاب إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل من مصر، لأنّه يعلم مدى الضّيم الّذي يلاقونه هناك، فيقول اللّه له: "وَالآنَ امْضِ فَأُرسِلُكَ إلَى فرْعَونَ وَأَخْرِجْ شَعْبِي بَنِي إسْرائيلَ مِنْ مِصْرَ... فَقَالَ مُوسَى للّهِ: هَا أَنَا آتِي إلَى بَنِي إسْرائيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إلهُ آبَائكُمْ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ، فَقَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ مَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْدُ اللّهُ لِمُوسَى: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: (يهوه) إلهُ آبَائِكُمْ إلهُ إبْرَاهِيمَ إلَهُ إسْحَاقَ وَإلهُ يَعْقُوبَ، أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3، 10-15). ثمّ يعود اللّه مرّة أخرى في مصر ويُكلّم موسى ويذكّره باسمه: "وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أنَا يهوه..." (سفر الخروج، الفصل 6: 1-2).

إذن، بحسب النصّ التّوراتي، فإنّ اللّه نفسه هو الذي يذكر الاسم "يهوه" لموسى: "هذا اسْمِي إلَى الأبَد"، و"أَنَا يهوه". من الجدير بالذّكر هنا، أنّ الكلمات التي تظهر بين قوسين (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ) قد تركتها كما تظهر وتُلفَظ في اللّغة العبريّة، وذلك لأهميّتها الكبرى في سياق بحثنا هذا، إذ أنّنا سنعود إلى التّطرُّق إليها لاحقًا.

"يهوه" إله إسرائيل:
تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ المصطلح "يهوه" يظهر في التّوراة العبريّة بتركيبات مختلفة. فعلى سبيل المثال يظهر "يهوه" بوصفه إله السّموات وإله الأرض: "وأُحَلِّفُكَ بِيهوه إلَهِ السَّمَواتِ، وَإلَهِ الأَرْضِ: أَنْ لا تَأْخُذَ امْرَأَةً، لِابْنِي، مِنْ بَناتِ الكنْعَانِيِّ، الَّذِي أَنَا قَاطِنٌ بِجِوَارِه." (تكوين، فصل 24: 3)، أو كما ورد على لسان كورش ملك الفرس الّذي أعاد السبي اليهودي: "كَذَا قَالَ كُورش مَلِكُ فَارِسَ: كُلَّ مَمالِكِ الأَرْضِ أَعْطَانِيهَا يهوه إلَهُ السَّمَواتِ، وَهُوَ أَمَرَنِي أَنْ أبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، فِي أورشليمَ الّتِي فِي يِهُودَا." (أخبار الأيّام الثاني، فصل 36: 23). كما يظهر "يهوه" أيضًا بوصفه "إله سام"، كما ورد على لسان نوح: "فقال: مُبَارَكٌ يهوه إلَهُ سَامٍ؛ وَليَكُنْ كنعانُ عَبْدًا لَهُ." (سفر التكوين، الفصل 9: 26). كما ويظهر أيضًا في الأصل العبريّ بتعبير "هَـأَدُون يهوه" (= الرّبّ يهوه)، مثلما ورد في سفر الخروج: "ثَلاثَ مَرّاتٍ فِي السّنةِ، لِيُرَ كُلُّ ذُكُورِكَ أَمَامَ الرَّبِّ يهوه." (سفر الخروج، الفصل 23: 17؛ الفصل 34: 23).

غير أنّ التّعبير "يهوه" غالبًا ما يظهر في التّوراة بوصفه إله إبراهيم، إسحاق ويعقوب، إله إسرائيل وكذلك إله العبرانيّين: "وَبعْدَئذٍ جَاءَ مُوسَى وَأَهَارُونُ فَقَالاَ لِفرْعونَ: كَذَا قَالَ يهوه، إلهُ إسْرائيلَ، سَرِّحْ شَعْبِي، لِيَحُجُّوا إلَيّ فِي البَرِّيَّةِ. فَقَالَ فرعونُ مَنْ يهوه لأَسْمَعَ قَوْلَهُ فَأُسَرِّحَ إسْرائيلَ؟ لا أَعْرِفُ يهوه وَأيْضًا إسرائيلَ لَنْ أُسَرِّحَهُ. فَقَالا: إلَهُ العِبْرانِيّين قَدْ صَدَفَنَا، فَلْنَمْضِ لَنَا فِي الطَّرِيقِ ثَلاثةَ أيَّامٍ فِي البَرِّيَّةِ وَلْنَذْبَحْ ليهوه إلَهِنَا، لِئَلاّ يَضْرِبَنَا بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالسَّيْفِ." (سفر الخروج، فصل 5: 1-3).

لكن، وبحسب النّصّ التّوراتي، لم يظهر اللّه باسمه الصّريح "يهوه" لإبراهيم، إسحاق أو يعقوب، وإنّما ظهر لهؤلاء باسم آخر هو "شدّاي". تُشير التّوراة إلى أنّ ظهوره بالاسم الصّريح "يهوه" كان فقط لموسى ولشعب إسرائيل، مثلما نقرأ في سفر الخروج: "فَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أَنَا يهوه. وَتَراءَيْتُ لإبْراهيمَ ولإسْحاقَ وَلِيَعْقُوبَ بِالإلَهِ شَدَّايْ، وَبِاسْمِي يهوه لَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ." (سفر الخروج، الفصل 6: 2-3). لقد وردت هذه الإشارة أيضًا في سفر التكوين، حيث نقرأ هناك: "وَكَانَ إبْراهِيمُ ابْنَ تِسْعِينَ سَنَةً وَتِسْعِ سِنينَ. فَتَرَاءَى يهوه لإبْراهِيمَ وَقَالَ لَهُ: أَنَا (إلْ شَدَّيْ)، تَمَشَّ أَمَامِي وَكُنْ وَرِعًا." (تكوين، الفصل 17: 1. "إلْ شَدَّيْ" تُلفظ بالمدّ "إيلْ شَدَّايْ").

"يهوه" هو الاسم الصّريح للّه:
منذ القدم، واستنادًا إلى النصّ التّوراتي، تعزو اليهوديّة أهميّة كبرى لأسماء اللّه التي وردت في التّوراة، وعلى وجه الخصوص للاسم "يهوه"، حيث يُعتبر هذا المصطلح الاسْمَ الأقدسَ الأعظمَ للّه. ولذلك، ولأجل هذه القداسة الكبرى المعزوّة له فهو لا يُلفظ "يهوه" كما هو منقوش في الحروف العبريّة، بل يُلفظ "أَدُونَايْ" (= الرّبّ، رَبِّي) خلال الصّلاة أو خلال الدروس الدينيّة، أو يُلفظ "هَـشِمْ" (= الاسم) في سائر الحالات الأخرى.

بسبب هذه القداسة الكبرى ولأنّه لا يُلفظ كما هو مكتوب يُطلق عليه أيضًا "اسم الحروف الأربعة"، وهو بالإضافة إلى سائر أسماء اللّه الواردة في التّوراة يُحظرُ محوها بعد كتابتها، كما إنّ الكتابات التي ترد فيها أسماء اللّه المُقدّسة يُحظر إتلافها، بل يتمّ تحويلها إلى مكان تُحفظ فيه كلّ هذه الكتابات والمخطوطات لقداستها. لهذا السّبب أُنشئت الـ"جنيزة"، وهي مكان سَتْر وحفظ الكتابات المقدّسة في العقيدة اليهوديّة. وفي هذا السّياق بالذّات يذكر الرّمبام: "كُلّ مَنْ يُتْلِفُ اسْمًا مِنَ الأسماء المُقدّسة الطّاهرة الّتي يُدعَى بها القدُّوس المُبَارَك، يَنْتَقِصُ من التّوراة... وسبعة أسماء هي: الاسم المكتوب بالـ (ياء هاء واو هاء)، وهو الاسم الصّريح، أو المكتوب بالـ (ألف دال نون ياء)، و(إل)، و(إله)، و(إلوهيم)، و(إهيه)، و(شداي)، و(صباؤوت). كُلّ مَنْ يمحو حتّى حرفًا واحدًا من السبعة الأسماء هذه، فإنّه ينتقص." (أنظر: الرمبام، أحكام أصول التّوراة، الفصل السّادس).

إنّ أقوال الرّمبام هذه مُستنبطة بالطّبع من التّلمود، إذ أنّه يستند في حكمه إلى ما ورد هناك، حيث نقرأ في التلمود البابلي: "ثَمّ أسماء تُمحَى وَثَمَّ أسماء لا تُمحَى. هذه هي أسماء لا تُمحى، مثل: إل، إلهك، إلوهيم، إلهكم، إهيه أشر إهيه، ألف، دال. (تلمود بابلي، ورقة 35، أ، چماراه). أمّا التلمود الأورشليمي فيفصّل الشّرح في هذه المسألة: "هذه أسماء لا تُمْحى، الّذي يكتب الاسم بالحروف الأربعة، بالياء وبالهاء، بالألف وبالدال - إيل، إلوهيم، إلهك، إلهُ، إلهي، إلهنا، إلهكم، شداي، صباؤوت، إهيه أشر إهيه، فقد كتب الألف والدّال من (أدوناي)، الألف والهاء من (إهيه)، الشين والدّال من (شداي)، الصاد والباء من (صباؤوت)." (التلمود الأورشليمي، ورقة 12 ب، الفصل الأوّل، أحكام ط چماراه).

وهكذا، وممّا أسلفنا، نستطيع أن نرى كلّ تلك الأهميّة التي تعزى لهذه المصطلحات - الأسماء -المركزيّة الواردة في التّوراة لما لها من قداسة كبرى في العقيدة اليهوديّة.

الترجمات العربيّة للتّوراة:
بعد أن وقفنا على أمر هذا المصطلح - الاسم - "يهوه"، كما يرد في التّوراة، فما من شكّ أنّ القارئ العربيّ للتّوراة سيلاحظ أنّ هذه القضايا الجوهريّة الشّائكة المتعلّقة بالعقيدة اليهوديّة تتلاشى أو تختفي بالكامل خلال قراءته للتّرجمات العربيّة - النّصرانيّة بالأساس- لنصّ التّوراة. ولذلك بوسعنا القول إنّه، فقط أولئك الّذين يعرفون اللّغة العبريّة، لغة التّوراة، يستطيعون الوقوف على كلّ هذه التّفاصيل الشائكة ذات الأبعاد والدّلالات الجوهريّة.

فعلى سبيل المثال، لو نظرنا إلى تلك الترجمات العربية، نلاحظ أنّ الاسم "يهوه" يظهر مترجمًا بمصطلح "الرّبّ". وهذه هي ترجمة إشكاليّة بكلّ معنى الكلمة، وقد تكون تمّت على هذا النّحو لأنّها جاءت من لغات أخرى غير العبريّة، وربّما تمّت على هذا النّحو لإشاعتها وربطها ومن ثمّ لإحالتها في ذهن القارئ العربي، أنصرانيًّا كان القارئ أو غير نصرانيّ، إلى تعابير نصرانيّة أخرى مثل "الرّبّ يسوع" أو "المسيح الرّبّ"، وما إلى ذلك من هذه الصّيغ الشّائعة في النّصرانيّة لأسباب عقائديّة هي في صلب النصرانيّة. وهكذا، واستنادًا إلى هذا النّهج، فها هو "يهوه إله السّموات" في الأصل العبري يتحوّل في الترجمات العربيّة الشائعة إلى "الرّبّ إله السّموات". بينما عندما نقرأ النصّ العبري لسفر الخروج حيث ترد الصيغة العبريّة "هَـأَدُون يهوه" (= الرّبّ يهوه) كما هي في الأصل العبري (سفرالخروج، الفصل 23: 17؛ الفصل 34: 23)، فإنّنا نجد أنّ هذه الصيغة قد تحوّلت في الترجمات العربيّة النصرانيّة للتوراة إلى "السَّيِّدِ الرَّبّ" (ترجمة فان دايك وكتاب الحياة)، أو أنّها تصبح "الرَّبّ الإِله" (الترجمة الكاثوليكيّة). وحتّى عندما يصرّح اللّه حرفيًّا بأنّه "يهوه" فإنّ الترجمات العربيّة تتخبّط في هذه الحالات. فلو نظرنا في قصّة حلم يعقوب، نقرأ في الأصل العبراني: "فَهَا هُوَ ذَا يهوه وَاقِفٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا يهوه إلَهُ إبْراهِيمَ أَبِيكَ، وَإلهُ إسْحاقَ..." (تكوين، الفصل 28: 13)، بينما تأتي الترجمات العربيّة لتضع: " أنَا الرّبّ إلهُ إبراهيم...".

غير أنّ التّخبُّط يزداد ظهورًا عندما تجتمع الأسماء في النصّ التّوراتي في ذات السياق. لقد كنت أشرت سابقًا إلى النصّ الذي يكلّم فيه الله موسى ويشير فيه إلى ظهوره باسم آخر لإبراهيم: "فَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أَنَا (يهوه). وَتَراءَيْتُ لإبْراهيمَ ولإسْحَاقَ وَلِيَعْقُوبَ بِالإلَهِ (شَدَّايْ)، وَبِاسْمِي (يهوه) لَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ." (سفر الأسماء - خروج -، الفصل 6: 2-3). فكيف جاءت الترجمات العربية في هذه الحالة؟ لقد تُرجمت "أنَا يهوه" كالعادة: "أنا الرّبّ". أمّا في الصيغة "الإله شدّاي"، فقد جاءت ترجمة فان دايك "الإله القادر على كلّ شيء"، وفي الترجمة الكاثوليكية وترجمة كتاب الحياة نقرأ قريبًا منها: "إلهًا قديرًا"، مع أنّ "شدّاي"، كما أسلفت من قبل هو أحد أسماء اللّه المقدّسة جدًّا في اليهوديّة. ولكن عندما نواصل القراءة ونصل إلى "اسمي يهوه"، تظهر الفروق في الترجمة، فنرى أنّ ترجمة فان دايك قد أبقت الصيغة العبرية "يهوه" كما هي في الأصل، بينما الترجمة الكاثوليكية قد وضعت: "اسمي الرّبّ".

أمّا ذروة التخبّط فنعثر عليها في القصّة التي أشرت إليها من قبل، وهي إيعاز الله لموسى بإخراج بني إسرائيل من مصر، فقد ورد في النصّ التّوراتي: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْدُ اللّهُ لِمُوسَى: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: (يهوه) إلهُ آبَائِكُمْ... أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ...". فلو نظرنا إلى الترجمات العربيّة سنلاحظ أنّه فقط في ترجمة فان دايك قد تمّ الإبقاء على هذه المصطلحات كما هي في الأصل. أمّا في ترجمة كتاب الحياة فقد أضيف شرح للمصطلحات: "أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ (وَمَعْنَاهُ أَنَا الْكَائِنُ الدَّائِمُ)... أَهْيَهْ (أَنَا الْكَائِنُ)... إِنَّ الرَّبَّ (الكَائِنَ) إِلهَ آبَائِكُمْ... قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ.". أمّا الترجمة الكاثوليكية فقد ترجمت المصطلحات إلى شيء آخر: "فقالَ اللهُ لِموسى: (أَنا هُوَ مَنْ هُوَ). وقال: كَذا تَقولُ لِبَني إِسْرائيل: (أَنَا هُوَ) أرسَلَني إِلَيكم.... (الرَّبُّ) إِلهُ آبائِكُم...أَرسَلَني إِلَيكم". وهكذا يرى القارئ بوضوح كلّ هذا التّخبُّط والبلبلة في هذه الترجمات العربيّة.

أمّا أنا فقد فضّلت الآن أن أبقي هذه التّعابير والأسماء على أصولها ومخارج لفظها العبريّة: "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ" و"إهْيِهْ" و"يهوه"،كما كنت أوردتها من قبل. وذلك لما لهذه المسألة من أهميّة ودلالات كبرى في كيفيّة انتقالها إلى التراث الإسلامي، مثلما سنرى لاحقًا.
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى دلالات المصطلح "يهوه"، الاسم الأقدس لله في التراث اليهودي، ثمّ سأبيّن كيف انتقل هذا المصطلح إلى الإسلام.

والعقل وليّ التوفيق.
***


***
المقالة الثانية: كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟
 

سراب

سـلمان مصـالحة

سـراب

غَـابَ بَـيْــنَ الضَّـــبَـابْ - نَـازِفًــا كَـالمَـطَــــرْ
فِـي يَـدَيْــــهِ كِــتَـــــابْ - مِــنْ زَمَـــانٍ غَـبَــــرْ
طَــلَّ لَـمْـحًــا وَغَـابْ - كَـالنَّــدَى فِي السَّـحَـرْ
رُوحُــهُ خَـلْــفَ بَـابْ ـ تَـكْـتَــــوِي بِالـسَّــمَــرْ
نِـصْـــفُ قَـلْـبِـهِ ذَابْ - نِـصْـفُـــهُ يُـعـْـتَـصَــرْ

***

لَــيْـــسَ إلاّ الـغِـيَـــابْ - يَـا لَــهُ مِــنْ خَــبَــــرْ
مَــرَّ يَـوْمًـــا وَشَــابْ - وَانْـثَـنَـى وَاسْـــتَـمَـرْ
وَاخْــتَــفَــى كَالسَّــرَابْ - فِي هَجِيــرِ الفِكَـــرْ
حَــالِــمــًــا بِـالإيَـــابْ - فِــي أَغَـــانٍ أُخَـــرْ
فِـي الهَـوَى
فِـي الـشَّـبَابْ
فِـي الثَّـرَى
فِـي الحَجَـرْ


***

نوڤمبر 2009
ـــ
For English, press here

فَسّاؤون ضَرّاطون في اليهوديّة


سلمان مصالحة


فَسّاؤون ضَرّاطون في اليهوديّة

قبل أن ندخل
في الموضوع الّذي نحن بصدده، لنبدأ بإيراد هذه الرّواية: "كان بالمدينة عطّاران يهوديان، فأسْلمَ أحدُهما ولَقِيَهُ صاحبُه بعد حين، فقال: كيفَ رَأيْتَ دينَ الإسلام؟ قال: خَيْرَ دين، إلاّ أنّهم لا يَدَعُونا نَفْسُو في الصّلاة. قال صاحبُه: وَيْلَكَ! افْسُ وَهُمْ لا يَعْلَمُون." (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

مهما يكن من أمر هذه الرّواية بوصفها تنتمي إلى الرّوايات الشّعبيّة فهي، على غرار هذا النّوع الأدبي عادة، تكشف عن بواطن المجتمعات. كما أنّها تشي بأصداء ذلك التوتّر القائم بخصوص أحكام الفساء والضّراط بين اليهوديّة والإسلام.

لكن، ورغم ما تشي به هذه الرّواية من أصداء الخلاف الفقهي في هذه الأمور، غير أنّنا يمكننا القول إنّه ولمّا أنعم الله على الإسلام باليهوديّة، فقد جاء يحذوها "حذو القذّة بالقذّة" كما يقال، مثلما كنّا وقفنا على بعض هذه الجوانب في مقالات وسياقات أخرى في الماضي.

أمّا في هذا السّياق الّذي نحن بصدده الآن، فلو ذهبنا وتتبّعنا آثار الضّارطين في اليهوديّة لوجدنا ضالّتنا المنشودة ووقفنا على مصادر أحكام الضّراط في الإسلام، ولَتبيّنَ لنا ما ينماز به حكم المُحْدِثين - الفاسين أو الضّارطين - في الصّلاة بين هؤلاء وأولئك.

الرّيح السيّئة تقطع الصّلاة:
على ما يبدو، فإنّ الشّارع في الإسلام قد حذا، في مسألة وجوب قطع الصّلاة في حال الإحداث، حذو الشّارع في اليهوديّة. وهذه المسألة في اليهودية لها علاقة أيضًا بالصّلاة، إذ أنّها تُذكر في سياق إحدى أهمّ الفرائض اليهوديّة، ألا وهي دعاء "اسمع يا إسرائيل"، وهو الدّعاء الّذي يختزل مبدأ التّوحيد اليهودي الّذي لا يُشركُ مع اللّه أحدًا، لا نبيًّا ولا رسولاً أيًّا كان. يُشار هنا إلى أنّ دعاء "اسمع يا إسرائيل" هو فرض مركزيّ في اليهودية يُلخّص الإيمان بوحدانيّة اللّه، حيث تتمّ تلاوته مرّتين في اليوم، في الفجر وفي المساء، كما يتلى أحيانًا في مناسبات هامّة أخرى أيضًا. يرد هذا المبدأ في التّوراة، وينصّ كما يلي: "اسْمَعْ يا إسْرَائيل، يهوه إلهُنَا، يهوه أَحَدٌ. وَأَحِبَّ يهوه إلهَكَ بكُلِّ قَلْبِكَ، وبكُلِّ نَفْسِكَ وبكُلِّ قُوّتكَ. ولتَكُنْ هذِهِ الأَقْوَالُ الّتي أَنَذَا آمُرُكَ بَهَا اليَوْمَ في قَلْبِكَ. فَاتْلُهَا عَلَى أبْنَائِكَ وكَلِّمْهُمْ بِهَا، جَالِسًا في بَيْتِكَ، وَماشِيًا في الطَّريق، وَهَاجِدًا وَقَاعِدًا. وَارْبُطْهَا آيَةً عَلَى يَدِكَ، وَلتَكُنْ رَبْعَةً بَيْنَ عَيْنَيْكَ. وَاكْتُبْهَا عَلَى قَوائمِ بَيْتِكَ، وَعَلَى أَبْوابِكَ." (سفر التثنية، الفصل 6، 4-8؛ الترجمة من الأصل العبري هي لي وقد آثرت الآن الإبقاء على المصطلح "يهوه" كما يظهر في الأصل العبري، إذ أنّ التّرجمات العربيّة الموجودة للتّوراة غير دقيقة بالمرّة، وربّما أعمل مستقبلاً على ترجمة جديدة وكاملة للتوراة من الأصل العبري. وسأعود في مقالة قادمة للبحث في مسألة الترجمة الإسلاميّة الدّقيقة لـهذا المصطلح "يهوه" من التّوراة العبريّة مثلما يظهر في القرآن وفي سائر المأثورات الإسلاميّة).
أمّا فيما يخصّ المسألة التي نبحث فيها، فإنّ الشّارع في اليهوديّة يقول بوجوب قطع تلاوة "اسمع يا إسرائيل" في حال وجود ريح نتنة، كما أنّ وجوب القطع هذا هو وجوب على وجه الخصوص في حال كون مُحْدِث الرّائحة - أي الفاسي أو الضّارط - هو المصلّي ذاته، وذلك حتّى تذهب هذه الرّيح. نعثر على هذا الحكم لدى الرّابي موسى بن ميمون، الشّهير باسم الرّمْبام (1138-1204م)، وهو أهمّ الفقهاء في الشّرع اليهودي والّذي يستند بالطّبع في أحكامه ومؤلّفاته إلى التّلمود، وخاصّة البابلي والّذي يسمّى أيضًا "چماراه"، وهو من القرن الثّالث للميلاد.

الرّيح ريحان:
يقسم الرّمبام هذه الرّيح التي يدور الحديث عنها إلى ريحين. الرّيح الأولى هي الرّيح المُنتنة الخارجة من جسم منتن بذاته، والرّيح الثانية هي الرّيح المُنتنة الخارجة من جسم عَرَضًا. يذكر الرّمبام في هذا السّياق ما نصّه: "رائحة نتنة بذاتها، يبتعد عنها قدر أربعة أذرع ويقرأ، في حال ذهاب الرّيح. وإنْ لم تذهبْ، يبتعد حتّى مكان ذهاب الرّيح. والّتي ليستْ بذاتها، مَثَلُ الّذي تخرجُ منه ريحٌ من أسْفَل، يبتعد مقدار ذهاب الرّيح ثمّ يقرأ." (الرمبام: أحكام تلاوة اسمع، 12). نستطيع الوقوف على أهميّة هذه التّلاوة من خلال الميز بينها وبين سائر التلاوات التوراتية فيما يتعلّق بوجود روائح منتنة بصورة عامّة، وعلى وجه الخصوص إن كانت هذه الرّوائح صادرة من أسفل، كما يذكر: "بَيْنَما هو يقرأ وَصَلَ إلى مكان مُنتن، لا يضع يدَهُ على فَمِه [وأنفه] ويَقْرأ، إنّما يتوقّف حتّى تَذْهَبَ زُهُومتُها، ثمّ يعود لقراءته؛ وكذا في سائر أمور التوراة. [أمّا بشأن] خُروج ريح من صديقه، فرغم أنّها تَقْطعُ تلاوةَ اسْمَعْ [يا إسرائيل]، فهي لا تَقْطَع سائر أمورَ التّوراة" (الرّمبام: أحكام تلاوة اسمع: 14. ما جاء بين معقوفين في النصّ هو إضافة منّي للتّوضيح). أي أنّ تلاوة "اسْمَعْ يا إسرائيل" هي التّلاوة الأعظم في اليهوديّة. كما أنّ وُجوبَ قطع هذه الصّلاة، بخلاف سائر الأمور، هو فَرْضٌ قاطعٌ في حال وجود ريح سيّئة، أكان مصدرَ هذه الرّيح جسمٌ منتن بذاته، أو كانَ مصدرَها المؤمنُ المُحْدِثُ، إنْ بفسائه أو بضراطه.
كما يذهب الرّمبام أبعد من ذلك، حيث يتطرّق أيضًا إلى العطاس والجشاء والتثاؤب في الصّلاة، رغم أنّ حكم كلّ هذه أخفّ حكمًا من الرّيح السّفلى، فيقول: "مَنْ يتجشّأ ويتثاءب ويعطُس في صلاته، إنْ كان هذا بإرادته فهو مذموم؛ وإنْ كانَ فَحَصَ جسْمَه قَبْلَ صلاته وأتاهُ هذا رغمًا عنه، فلا غرو في ذلك.... [بينما، في حال] خرجتْ منهُ ريحٌ من أسْفَل، بَيْنَما هو قائمٌ في الصّلاة، رغمًا عنه، يصمت حتّى تذهب الرّيح، ثمّ يعود لصلاته." (الرّمبام: أحكام الصّلاة 4، 11).

الاضطرار للضّراط:
غير أنّ أمور الإحداث هذه قد تخرج عن سيطرة المؤمن، إذ في بعض الأحيان، لا يستطيع المؤمن تمالك نفسه من الفساء والضّراط. وفي هذه الحال يضيف الرّمبام تلاوة خاصّة يجدر بالمؤمن أن يقولها، فيذكر بهذا السّياق: "إنْ طَلَبَ [اضْطُرَّ إلى] إخْراجَ ريحٍ من أسْفَل واغْتَمَّ كثيرًا ولا يَقْدرُ على تَمَالُكِ نَفْسه، يَخطو للوراء أربعةَ أذْرع، وينتظرُ حتّى تذهبَ الرّيح؛ ثمّ يقول: يا ربّ العالمين، خَلَقْتَنا ثُقُوبًا ثُقُوبًا، وَفراغًا فراغًا؛ جَلِيٌّ ومَعْلُومٌ لَدُنْكَ عَارُنَا وَشَنَارُنا، عَارٌ وشَنَارٌ في حَيَاتِنَا، دُودٌ وَقَتَعٌ في مَمَاتِنا. ثمّ يعود إلى مكانه، ويصلّي." (الرّمبام: أحكام الصّلاة 4، 12).

أمّا بخصوص الضّراط في النّوم،
فمثلما رأينا من قبل في المأثورات الإسلاميّة، من وجوب الوضوء لمن خلد إلى النّوم خشية إحداثه نائمًا، فسوةً أو ضرطةً، دون أن يشعر، فها نحن نعثر أيضًا على هذه الخشية من الإحداث في النّوم بالذّات لدى الشّارع في اليهوديّة، إذ يتمّ التّطرُّق لهذه المسألة في باب طقس "وضع التّفيلين"، (والـ"تّفيلين" هو عدّة خاصّة للطّقس الدّيني مصنوعة من الجلد، وهي قسمان؛ قسم يوضع على اليد وآخر على الرأس، وتُستخدم في الصّلاة)، حيث يُحْظَر الفساء أو الضّراط في هذا الطّقس. ولهذا السّبب أيضًا فقد حظرت اليهوديّة الخلود إلى النّوم مع "التّفيلين"، حتّى لو كانت هذه نَيْمُومَةً خفيفة، وذلك حذرَ أن يكون النّائم قد أحدثَ فسوةً أو ضرطةً بينما هو نائم، دون أن يدري. وكلّ هذا الحظر هو بسبب ما للإحداث من نجاسة للـ"تفيلين". وفي هذا السّياق يذكر الرّمبام: "[عدّة] التّفيلين تُوجبُ جَسَدًا نظيفًا كإليشع، فليحذرْ ألاّ تَخْرُجَ مِنْهُ ريحٌ من أسْفَل، طَالَمَا هي عليه." (الرّمبام: أحكام التّفيلين، فصل 4، 15). يستند الرّمبام في حكمه هذا بالطّبع على التلمود البابلي، المسمّى أيضًا الـ"چماراه": "قال الرّابي يناي: [عدّة] التّفيلين تُوجبُ جسدًا نظيفًا كإليشع... قال أبيي: ألاّ يُحْدِث [يفسو أو يضرط] فيها، قال [الرّابي] الكبير: ألاّ ينام مَعها." (التلمود البابلي، الورقة 49، 1).
وللضّراط أحكام ليس في الصّلاة فقط، بل يجدر الاحتشام بالضّراط على العموم. وهكذا فحتّى في حال الذّهاب لقضاء الحاجة، هنالك أحكام احتشام يجدر بتلاميذ التوراة أن يسيروا على هديها. وفي بعض الأحيان يُستخدم مصطلح آخر كناية عن الضّراط، حيث يُستخدم المصطلح "عطاس"، فعلى سبيل المثال نقرأ: "إذا ذهبَ [لقضاء الحاجة] خلْفَ جدار، يبتعد حتّى لا يستطيع صاحبُه سماعَه إذا ما عَطَسَ، وإذا ذهب [لقضاء الحاجة] في سَهْلٍ، يبتعد حتّى لا يستطيع صاحبُه رؤيةَ تشميره..." (الرّمبام: أحكام آراء، فصل 5، 6).

ضرطة تؤدّي إلى توبة صادقة:
كما يرد ذكر الضّراط أيضًا في روايات الـ"أغاداه" وهي مرويّات لا تُعدّ جزءًا من التّشريع، وإنّما هي نصوص تحتوي على قصص وأمثال تدور حول مواضيع وقضايا ومسائل مختلفة قد تُستَنتج من النّصوص التّوراتية. وهكذا نجد في الـ"أغاداه" قصّة إلعازار بن دوردايا الّذي اشتهر بخطاياه الكثيرة، فقد حُكي عنه أنّه لم يترك زانية واحدة في العالم لم يطرق بابها، وهكذا يُروى أنّه: "سمع مرّة عن وجود زانية في بلاد وراء البحار وكانت هذه تتقاضى صرّةً من الدّنانير على خدماتها. حمل صرّةً من دنانير وانطلق يطلبها، فقطع سبعة أنهر. وبينما كانت تُعدّ الفراشَ، ضَرَطَتْ، فقالت: مثلما أنّ هذه الضّرْطةَ لن تعودَ إلى مكانها، هكذا لَنْ تُقبَلَ تَوْبَةُ إلعازار بن دوردايا.
فانطلق وذهب وقعد بين الجبال والتّلال، ثمّ دعا وقال: "أيّتها الجبال والتّلال، اطلُبِي لي الرّحمة. قالت له: قبل أن نطلب لك الرّحمة، [أوْلَى بنا أنْ] نطلبَ الرّحمةَ لأنفسنا، إذ ذُكرَ: {فإنّ الجِبَالَ تَحُولُ والتِّلالَ تَزُولُ.} (أشعيا 54، 10). وهكذا، انتقل إلعازار بن دوردايا داعيًا طالبًا الرحمة من الأرض والسماء ثمّ الشمس والقمر والنّجوم، وكلّها تردّ عليه بنفس المقولة، بأنّ الأولى بها أن تطلب الرحمة لأنفسها قبل أن تطلبها له. فقال لنفسه: "ليس الأمر منوطًا إلاّ بي. ووضعَ رأسَه بين رُكْبَتَيهِ وأجْهشَ بالبكاء حتّى لفَظَ أنفاسَهُ. عندئذ جاء صوتٌ [من السّماء] يقول: رابي إلعازار بن دوردايا مدعُوّ إلى الحياة الآخرة." (التلمود البابلي: باب عبادة الأوثان، الورقة 17، 1).

لقد وردت هذه القصّة أيضًا في المشناة، وهي نصوص تشتمل على فرائض وأحكام توراتيّة كما وتشتمل على نصوص التّوراة التي انتقلت بالرواية الشّفهيّة حتّى تمّ تدوينها وتحريرها في القرن الثاني للميلاد. كما أنّ هذه القصّة تُروى في سياق التّوبة الصّادقة، وكون الفرد نفسه مسؤولاً عن أعماله، ولهذا تذكر الرّوايات أنّ الرّابي يهودا هاناسي، وهو مؤلّف المشناة، قد بكى وقال بشأنه: "هنالك من يفوز بآخرته بسنوات، وهنالك من يفوز بآخرته بساعة واحدة." (التلمود البابلي: باب عبادة الأوثان، الورقة 17، 1). بل وأكثر من ذلك، فقد أضاف مؤلّف المشناة: "ليسَ فقط أنّ التّائبين تُقبَل توبتهم، وإنّما يُكَنّون رابي". وقبل هذا لم يكن إلعازار بن دوردايا يدرس التّوراة ولم يكن يُكَنَّى رابي".

وهكذا، وعلى ما يبدو، فكلّ هذه "التّوبة الصّادقة"، الّتي كان ثوابُ صاحبها الفوزَ بالآخرة، لم تكن لتحصل لولا تلك الضّرطَة الّتي أحدثتها تلك الزانية التي قطع إلعازار بن دوردايا سبعة أنهر حاملاً معه صرّة دنانير بحثًا عنها.
***
أمّا في النصرانية
فقد وجدوا، على ما يبدو، حلاًّ فريدًا لإشكاليّات الضّراط في الكنائس والبيع والصوامع وسائر أماكن عباداتهم. لقد كانوا أكثر ذكاءً وحيلةً من اليهود والمسلمين في حلّ هذه المسألة العويصة، إذ أدخلوا البخور إلى هذه الأماكن. وهكذا احتالوا فغَلّبوا رائحةَ البخور على رائحة ضراط القساوسة والقمامصة والبطارقة والبابوات وسائر المؤمنين. أليس كذلك؟

خبر عاجل:
لقد اكتشف العلماء أخيرًا أنّ الدّروز أيضًا، من الجُهّال والعُقّال، يفسون ويضرطون أحيانًا وبسريّة تامّة. وذلك لما للإحداث من عواقب اجتماعيّة وخيمة قد تؤدّي إلى النّزوح عن البلد، كما رُوي عن أحد مُحْدِثِيهم. كما وتبيّن أيضًا من خلال بحوث مخبريّة أنّ فساءَهم وضُراطَهم لا يختلفان كثيرًا عن فساء وضراط اليهود والمسلمين والنّصارى في هذا المشرق الآسن، لأنّ تربتهم واحدة ومناخهم واحد وهواءهم واحد، فـ"كلّهم في الهوا سوا"، كما يقال. غير أنّ الخبراء بهذه العلوم الدّقيقة لم يعثروا بعد على نصوص لديهم تتطرّق إلى مسائل الضّراط، وأكّدوا على أنّهم سيواصلون البحث في هذا المضمار.
***

ولعلّ خير ما نختتم به
هذا المبحث الآن هو رواية عربيّة تتطرّق إلى ما جرى مع مُسيلمة لدى مواقعته لرفيقته سجاح. فقد دوّن لنا السّلف في هذا السّياق: "ولمّا وقعَ مُسيلمة على سجاح ضَرَطتْ، فقال: ما هذا؟ قالت: هذا من ثقل الوَحْي." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 447).

***
وهكذا، وبعد أن وقفنا على قضايا الضّراط واختلاف أحكامه، طريفها ومتلدها، نختمُ أخيرًا بهذه الأبيات نقيضةً لأبيات ابن ساعدة، لنوصد بها هذا الباب. فليتفكّرْ في الأمر أُولو الألباب:

في الضّارِطينَ الأوَّلِيــ - ـنَ، مِنَ اليَهُودِ، لَنَا مَنَابِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَآثِرًا - لِلضَّرْطِ، كَيْفَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا - يَسْعَى الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي، لا مَحَا - لَةَ، حَيْثُ صَارَ العَقْلُ صَائِرْ

والعقل وليّ التّوفيق.
***

***
المقالة الأولى: الضّراط في التّراث العربي
المقالة الثانية: فَسّاؤون في الجاهليّة ضَرّاطون في الإسلام

ـــــــــــــ

المقالة والتعليقات كما نشرت في الأوان






فَسّاؤون في الجاهلية ضَرّاطون في الإسلام

 

سلمان مصالحة

فَسّاؤون في الجاهلية ضَرّاطون في الإسلام


ولمّا أنعم الله
على العرب بالإسلام، فقد أضاف الإسلام إلى معارفهم بالضّراط طبقةً جديدة، وعلمًا جديدًا إلى علومهم التّليدة. إذ لم يعد الضّراط، كما رأينا في المقالة السابقة، يقتصر على الإنسان والحيوان فحسب، بل تعدّاه الآن إلى الشّيطان، كما روي عن الرسول: "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم، قال: إذا أذّنَ المُؤذّنُ أدْبَرَ الشيطانُ وله ضُراط، فإذا سكتَ أقبل. فإذا ثوّب أدبرَ وله ضُراط، فإذا سكت أقبل، يخطر بين المرء ونفسه حتى يظلّ الرجلُ لا يدري كم صَلّى، فإذا صلّى أحدُكم فوجد ذلك، فليسجُد سجدتين وهو جالس." (صحيح ابن حبان: ج 7، 322، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 1، 220؛ صحيح مسلم: ج 3، 69؛ سنن الدارقطني: ج 4، 60؛ سنن النسائي: ج 3، 70؛ سنن أبي داود: ج 2، 193؛ الجامع الكبير للسيوطي: ج 1، 1543؛ مستخرج أبي عوانة: ج 2، 370؛ سنن البيهقي: ج 2، 331؛ مسند الشاميين للطبراني: ج 7، 208؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 68؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 3818؛ الأوسط لابن منذر: ج 4، 107؛ الترغيب للمنذري: ج 1، 110؛ المستطرف للأبشيهي: ج 1، 22).

غير أنّ هذا الشّيطان الّذي يهرب ضارطًا لسماع الأذان لا يلبث أن يعود ليندسّ بين المصلّين، إذ أنّه ليس لديه شغلٌ آخر يشغله سوى غواية المؤمن ابتغاء صرفه عن أمور دينه، كالصلاة مثلاً. كما أنّه لا يعرف طريقًا للوصول إلى هذه الغاية سوى طريق الضّراط. لكنّ ضراط الشّيطان هو ضراط صوت وليس ضراط رائحة، بخلاف ضراط المؤمنين على ما يبدو، كما رُوي عن الرسول: "عن سعيد المقبرى، قال أبو هريرة، قال رسول الله صلعم: إنّ أحدَكُم إذا كان فى الصّلاة جاءَهُ الشيطانُ فأبسَ به كما يبسُ الرجلُ بدابّته، فإذا سكنَ له أضْرَطَ بين أليتَيْه ليَفْتنَه عن صلاته. فإذا وجدَ أحدُكم شيئًا من ذلك فلا ينصرفْ حتّى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا لا يشكّ فيه." (مسند أحمد بن حنبل: ج 18، 123؛ أنظر أيضًا: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي: ج 1، 300؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 39، 224).

بالإضافة إلى ذلك، يقوم هذا الشيطان الخبيث بملاحقة المؤمنين إلى عقر دارهم. ولكن، ورغم ذلك، فهنالك وسائل لطرده من البيوت ليفرّ هاربًا ضارطًا بأقصى سرعة. فقد روي عن عبد الله بن مسعود، قال: "ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط." (سنن الدارمي: ج 10، 311؛ أنظر أيضًا: تفسير ابن كثير: ج 1، 150؛ تفسير القرطبي: ج 1، 152؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 28، 165).

وعلى ما يبدو فإنّ الضّراط
هو سمة من سمات هذا الشّيطان، وهي سمة يُعرَف بها وتدلُّ عليه أيضًا، كما ورد في رواية إنقاذ العابد من بني إسرائيل من أحابيله: "حدثنا الفضيل بن عياض، عن سليمان، قال: تعبّد رجل من بني إسرائيل في غار، فبعث إبليسُ شيطانًا فدخل الغار فجعل يُصلّي معه، فقال له العابد: من أنت؟ قال: أتعبّدُ معك، ثم قال: هل أدُلّك على أفضل ممّا نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: اخْرُجْ بنا نطلب قريةً فنأمُر بالمَعْروف، فأطاعه. فأقبلَ رجلٌ إليهما عند باب القرية فجعلَ الشّيطانُ حين رآه يضرطُ، فأخَذَه الرّجلُ فذبَحَهُ. فقال له العابد: ما صنعت؟ قتلتَ خيرَ النّاس. قال، فقال: إنّما هذا شيطانٌ وأنا رحمةٌ رحمَكَ بها رَبُّك." (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 284).

غير أنّ ثمّة فرقًا
جوهريًّا بين ضراط الشّياطين وضراط المؤمنين. فإذا كان الشّيطان يحاول بضراطه أن يفتن المؤمن ويصرفه عن صلاته، فإنّ حدوث فساء أو ضراط من المؤمن يقطع الصّلاة وجوبًا: "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم قال: إنّ الرجل في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة تصلي عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مجلسه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدث. فقيل له: وما يحدث؟ قال: فسوة أو ضرطة." (مسند الشاميين للطبراني: ج 6، 25؛ انظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 7، 7099؛ عمدة القاري: ج 3، 53). ولذلك رُوي عنه أيضًا قوله: "لا يقطعُ الصلاةَ إلا الحَدثُ. ولا أستحييكم ممّا لم يستحي منه رسول الله صلعم. والحدثُ أن تفسُو أو تضرط." (سنن البيهقي: ج 1، 220). كما أنّ الضراط حقّ أيضًا ولا يجب الاستحياء منه. لكن، لزام على من فسا أو ضرط أن يذهب ويتوضّأ ثمّ يعود للصلاة: "إذا فسا أحدكم أو ضرط فليتوضأ، فإنّ الله لا يستحيي من الحقّ." (جامع الأحاديث للسيوطي: ج 3، 379؛ أنظر أيضًا: مصنف عبد الرازق: ج 1، 139).

بل وأكثر من ذلك،
فها هي المأثورات الّتي دوّنها لنا السّلف تفيدنا أنّ الفساء والضّراط هما من جملة العلوم التي أسبغها الله على بني البشر الجهلة بهذه العلوم الدّقيقة. هذا ما نستنتجه من رواية ابن عبّاس بهذا الشأن، فقد ذكر في تفسير الآية 31 من سورة البقرة: {وعلّم آدمَ الأسماء كلّها}، قال: "عَلّمَهُ اسْمَ كلّ شيء حتّى الهنة والهُنَيّة والفَسْوَة والضّرْطَة." (تفسير الطبري: ج 1، 484)، أو أنّه دخل حتّى في التّفاصيل الدّقيقة لهذا العلم، فقد ذكر أنّه علّمة حتّى الفرق بين الفسوة الكبيرة والفسوة الصّغيرة لكي لا تلتبس عليه هذه الأمور: "قال ابن عباس: عَلّمَه حتّى الفَسْوَة والفُسَيّة." (تفسير ابن كثير: ج 1، 223؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 120؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 2، 47؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 9؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج 7، 94).

ولمّا كانت الضّرطةُ تعريفًا هي ريح خارجةٌ من الجوف، فقد يعلو على السّطح سؤال آخر، هل يعني ذلك أنّ كلّ ريح خارجة من الجوف تنقض الوضوء قياسًا كالضّرطة: "قد وجدنا الرّيحَ تخرجُ من الدّبر فتنقض الوضوء وليست نجاسةً، فهلاّ قستم عليها الجَشْوَة والعَطْسَة، لأنّها ريح خارجة من الجوف كذلك؟" (المحلى لابن حزم: ج 1، 452). لقد أوضح ابن قيّم الجوزيّة الفروق بين الرّيحين في إجابته على هذه المسألة: "وفرّق بين الرّيح الخارجة من الدبر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه، فهذا أيضًا من محاسن هذه الشريعة وكمالها... والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدّماغ ثم تطلب لها منفذًا فتخرج من الخياشيم فيحدث العطاس. وكذلك الجشاء، ريحٌ تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحتبسُ تحت المعدة. ومن سَوّى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحسّ." (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزيّة: ج 2، 107-108). وبكلمات أخرى، الفرق شاسع بين الجشوة أو العطسة وبين الضّرطة، وذلك رغم اشتراكهما تعريفًا بكونهما ريحًا خارجة من الجوف، على غرار الضّرطة، إذ شتّان ما بين الرّيحين.

لقد أشرنا آنفًا إلى أنّ عرب الجاهليّة
كانوا يتضاحكون إذا وقع من أحدهم ضرطة في المجلس، وأنّ هذا السّلوك المنكر هو أيضًا من سلوكيّات قوم لوط. وفي هذا السّياق فقد أشار القرآن إلى فواحش ومنكرات قوم لوط، كما ذكرت عائشة أم المؤمنين بشأن الآية 29 من سورة العنكبوت: "عن عروة بن الزبير عن عائشة، في قوله تعالى {وتأتُون في ناديكم المُنْكر}، قالت: الضّراط." (تاريخ الطبري: ج 1، 176؛ أنظر أيضًا: فتح القدير للشوكاني: ج 4، 288). وكما أسلفنا فإنّ هذه السّلوكيات كانت سلوكيّات مميّزة لقوم لوط: "فإنّهم كانوا يتضارطون في المجلس ويتضاحكون." (عمدة القاري للعيني: ج 28، 496؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 113؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 206؛ الكامل لابن الأثير: ج 1، 38).

ولكنّ أهل الشّرع في الإسلام قد نهوا عن الضحك إذا وقع من أحدهم ضرطة في مجلس، وذلك استنادًا إلى عظة الرّسول بهذه الأمور: "عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد الله بن زمعة أخبره، أنه سمع رسول الله صلعم يومًا في خطبته، ذكر الناقة والذي عقرها... ثم وعظهم من ضحكهم من الضّرطة، فقال: ما يضحك أحدكم ممّا يفعل." (المعجم الكبير للطبراني: ج 18، 483؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد: ج 34، 454؛ شرح السنة للبغوي: ج 5، 88؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 9، 261؛ شعب الإيمان للبيهقي: ج 14، 278؛ صحيح ابن حبان: ج 24، 122؛ صحيح البخاري: ج 16، 360؛ رياض الصالحين للنووي: ج 1، 195). أي في حال وقوع ضرطة من أحد المؤمنين في مجلس، فإنّ الرّسول في عظته للمؤمنين، وبخلاف تضاحك أهل الجاهليّة وقوم لوط من هذه الأمور، فهو يأمر: "بالإغماض والتجاهل والإعراض عن سماع صوت الضّراط." (عمدة القاري: ج 28، 495).

غير أنّ ما يُلزم المؤمن،
في حال إحداثه فسوة أو ضرطة في الصّلاة، هو أن يقطع صلاته ويذهب ليتوضّأ ثمّ يعود. إذ أنّ الضرطة في هذه الحال تقطع الصّلاة وهي موجبة للوضوء لما فيها من النجاسة. ولهذا السّبب فإنّ النوم أيضًا يوجب الوضوء لأنّ النّائم قد يُحدث، وبكلمات أخرى قد يفسو أو يضرط، في حال نومه. وقد أشار الرّسول إلى ذلك بقوله: "العينُ وكاءُ السَّهِ فإذا نامت العينُ استطلق الوكاءُ" (سنن البيهقي: ج 1، 118؛ أنظر أيضًا: سنن الدارقطني: ج 1، 160؛ سنن الدارمي: ج 2، 353؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 9، 614؛ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وبراوية أخرى: "العينُ وكاءُ السَّهِ، فمن نام فليتوضّأ". فالعين التي تبصر، كما يقول المناوي شارحًا لهذا الحديث هي وكاءُ السَّهِ، أي هي ما تحفظه عن عن أن يخرج منه شيء. لذلك فالوجوب على من نام أن يتوضّأ. أي أنّه، كما يضيف: "جعل اليقظةَ للاسْت كالوكاء للقربة، وهو الخيط الذي يُشدّ بها." (التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي: ج 2، 309).

الصّليب بمنزلة الضّراط:
ومن موجبات الوضوء، التي تُعدّ على ما يبدو كالضّراط في الصّلاة، يمكن الإشارة إلى مسّ الصّليب لما به من نجاسة أيضًا. فقد روي في هذا السياق عن تقديم عليّ بن أبي طالب لرجل آخر في الصّلاة وذهابه ليتوضّأ لأنّه مسّ صليبًا، كما تنصّ عليه الراوية: "وأمّا مَسُّ الصليب والوثن، فإننا روينا عن عبد الرزاق...عن أبي عمرو الشيباني، أنّ علي بن أبي طالب رض استتابَ المستورد العجلي، وأنّ عليًّا مَسَّ بيده صليبًا كانت في عنق المستورد، فلمّا دخل عليّ في الصلاة قَدّمَ رجلاً وذهب. ثم أخبر الناس أنّه لم يفعل ذلك لحدثٍ أحْدَثَه، ولكنّه مَسَّ هذه الأنجاس، فأحبّ أن يُحدث منها وضوءًا." (المُحلّى بالآثار لابن حزم: ج 1، 458). وبكلمات أخرى، يقول عليّ للمؤمنين إنّه قد ذهب ليتوضّأ، ليس بسبب حَدثٍ أحدثه، أي ضرطة أو فسوة خرجت منه، وإنّما بسبب مسّه الصّليب لما به من نجاسة موجبة للوضوء، على غرار الضرطة.

ليس هذا فحسب، بل إنّ صوت نواقيس الكنائس شبيه بضراط الحمير، كما يذكر سفيان الثوري: "حدثنا ضمرة قال، قلت لسفيان الثوري: أيّ شيء أقول إذا سمعتُ صَوْتَ الناقُوس؟ قال: أي شيء تقولُ إذا ضرطَ الحمارُ؟" (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 139).

ضراط الخلفاء:
مهما يكن من أمر، ولأنّ الإسلام قد نهى عن الضحك من الضرطة، فعلى ما يبدو لم يعد حدوث الضرطة يؤدّي إلى شيء من الإحراج، فها هو عمر بن الخطّاب يعترف أمام النّاس بضراطه على المنبر إذ وقف خطيبًا فيهم: "ويروى أن عمر رضي الله عنه كان يخطب فقال: أيّها الناس إني ميّزتُ بين أنْ أخافَ الله وأخافَكُم، فرأيتُ خوفَ الله أولى، ألا وإنّي قد خَرجَتْ منّي ضَرْطةٌ، وها أنا أتوضّأ وأعود." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو الحجّاج يعترف بضراطه أيضًا: "وضرط الحجاج على المنبر فقال: ألا إنّ كلّ جوف ضروط. واستدعى بالماء فتوضأ." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو المغيرة ينزل عن المنبر ليتوضّأ بعد أن ضرط: "صعد المغيرة المنبر فضرط فحرّك يده وضرب بها استَه وقال: كُلّ اسْتٍ ضروط، ثم نزل وتوضأ، وعاد إلى مكانه." (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان للسّياسة حظّ من الضراط. وعلى ما يبدو فقد كان للضّراط تأثير خفيّ في أمور السّياسة على مرّ العصور العربيّة. هذا ما نستنتجه من الرّواية بشأن التّوتُّر القائم بين السنّة والشّيعة، ومحاولة معاوية با أبي سفيان التّشنيع والنّيل من سمعة شيعة عليّ. فحسبما حفظ لنا السّلف من روايات، ذُكر أنّ أبا الأسود الديلي، من شيعة علي، قد: "دخل على معاوية خاليًا، فتحادثا طويلاً، فحبقَ أبو الأسود. فقال لمعاوية: إنّها فلتة، فاكتُمْها عَلَيّ، فقال معاوية: أفْعَلُ ذلك. فلمّا خرج من عنده، دخل على معاوية عمرو بن العاص فأخبرَه عن ضرطة أبي الأسود. ثم خرج عمرو فلقي أبا الأسود بالسّوق، فقال له: ما فَعَلَتْ ضَرْطتُكَ يا أبا الأسود؟ فقال أبو الأسود: كُلّ ذي جوف ضروط، ثم غدا على معاوية فقال له: إن امْرأً لم يُؤمنْ على ضرطةٍ حَقيقٌ ألاّ يُؤمن على إمرة المؤمنين." (سمط النجوم العوالي للعصامي: ج 2، 61؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 38؛ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446).

لقد حاول الخلفاء أحيانًا التّخفيف من روع الضّارطين في مجالسهم معترفين أمامهم بأنّهم هم أنفسهم من المكثرين بالضّراط: "كلمت امرأةٌ هشام بن عبد الملك في حاجة فضرطت، فسكتت وخجلت!فقال: تكلمي ولا تستحي فما سمعتُ هذا من أحدٍ أكثرَ ممّا سمعتُه مني." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 47)، وبرواية أخرى: "وحبق كاتب لعمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه واستحيا ممّا جاء به. فقال عمر: لا عليكَ، خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليذهب روعك، فما سَمعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سَمعْتُها من نفسي." (سمط اللآلي للميمني: ج 1، 119).

وها هو الصّاحب يُهدّئ، شعرًا، من خجل أحد الفقهاء الضّارطين في مجلسه: "وحضر بعضُ الفقهاء مجلس الصاحب فضرطَ، فاشتدّ خجلُهُ. فقال الصاحب: "قُلْ لابْنِ دُوشابَ لا تَخْرُجْ عَلَى خَجَلٍ - منْ ضَرْطَةٍ أشْبَهَتْ نايًا عَلَى عُودِ / فإنّها الرّيحُ لا تَسْطيعُ تَحْبسُها - إذْ أنْتَ لسْتَ سُليمانَ بْنَ داوُدِ." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 447). ولا غرو من تشبيه الصّاحب للضرطة بصوت النّاي الذي يرافق العود، فها هو سعيد بن جبير الكاتب: "من المعروفين بالضُّراط، وكان يضرط على عيدان القيان، ويزعم أنّ الضُّراط أحسنُ من السّماع." (نثر الدر للآبي: ج 2، 39؛ أنظر أيضًا: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)

لقد بلغ الأمر بالبعض أن اتّخذوا من الضّراط مهنة يتكسّبون بها، وهذا ما دفع بأبي عامر الجرجاني أن يقول شعرًا: "قد ضاقَ صَدْرِي من صُدور زَماننا - فَهُمُ جماعُ الشّرِّ بالإجْماعِ / يَتضارَطُونَ، فإنْ شَكَوتَ ضُراطَهم - شَفَعُوا سَماعَ الضّرْط بالإسْماعِ / هذا يُفَرْقعُ بالضُّراط وَذاكُمُ - يَرْمِي بمثل حِجارَةِ المِقْلاعِ / وَمِنَ البَليّةِ أنْ تُعاشرَ مَعْشَرًا - يَتَضَارَطُونَ الدّهْرَ بالإيقاعِ" (الوافي بالوفيات للصفدي: ج 7، 168؛ أنظر أيضًا: معجم الأدباء لياقوت الحموي: ج 2، 247)

الضراط في الأحلام:
لقد بلغ شغف العرب على مرّ العصور بأمور الضّراط أنّهم أضحوا يحلمون به، ولذلك فقد أفردوا له بابًا في تفسير أحلامهم أيضًا. غير أنّه، ومثلما تختلف النّظرة للضّرطة من بلد إلى بلد ومن شعب إلى شعب، كذلك هي الحال أيضًا في تفسير وقوع الضّرطة في الحلم، بين تفسيرات أهل الكفر وتفسيرات أهل الإسلام: "واعْلَمْ أنّ تربة كلّ بلد تخالفُ غيرها من البلاد لاختلاف الماء والهواء والمكان. فلذلك، يختلفُ تأويلُ كل طائفة من المُعَبِّرين من أهل الكفر والإسلام، لاختلاف الطّبائع والبلدان... والطينُ والوحلُ لأهل الهند مالٌ ولغيرهم محنة وبلية، كما أن الضّرْطةَ عندهم بشارةٌ وسرور ولغيرهم كلامٌ قبيحٌ." (تعطير الأنام في تفسير الأحلام لعبد الغني النابلسي: ج 1، 3).

وعلى كلّ حال، ولأنّ ثمّة فروقًا جليّة واضحة بين صنوف الفساء والضّراط، فبقدر هذه الفروق بين الصّنوف يأتي تفسيرها إذا وقعت في الأحلام، كما دوّن لنا السّلف، فالضّراط: "هو في المنام كلام رديء، أو نازلة تنزل بفاعلها.... ومن رأى أنّ ريحًا خرج منه وله صوت، فإنّه يتكلّم بكلمة قبيحة. ومن رأى أنّه بين قوم فخرجت منه ضرطة من غير إرادة، فإنّه يأتيه فرج من غمّ وعسر... فإن ضرط متعمّدًا وكان له صوتٌ عال ونتن، فإنه يتكلم بكلام قبيح أو يعمل عملاً قبيحًا وينال منه سوء الثناء عليه على قدر نتنه، وتشنيعًا بقدر الصوت. فإن كان له نتن من غير صوت فإنه ثناء قَبيح من غير تشنيع على قدر نتنه. فإنْ ضرط بين قوم، فإنهم إن كانوا في غمّ أو همّ فُرّج عنهم، وإن كانت تجارة ربح فيها، وإن كان في عُسر تحول يسرًا. وإن ضرطَ بجهد فإنه يؤدّي ما لا يطيق فإن ضرطَ سهلاً، فإنه يؤدي ما يطيق. وإن رأى أنه ضرطَ ضرطةً ورافقها ريح نالَ عزًّا ورفعةً في سفر، ولكن تتفرق أمورُه وتنجلي غمومُه ويرجع سالمًا. والضّراط بالفم في المنام يدلّ على الزّلل في الكلام..." (تعطير الأنام في تفسير الأحلام لعبد الغني النّابلسي: ج 2، 58)

وهكذا نرى
أنّ النّظرة للضّراط قد مرّت بتطوّرات عديدة على مدى التاريخ العربي، وقد لعب الضّراط دورًا هامًّا في الحضارة العربيّة، في النّواحي الاجتماعيّة، الدينيّة والسّياسيّة، قديمها وجديدها، طريفها وتليدها.

وأخيرًا، لعلّ خير ما نختتم به دراستنا هذه حول الضراط في التراث العربي، هو أن نستعير مقولة ابن أبي علقمة تعميمًا على العرب أجمعين، إذ يبدو أنّ العرب مخضرمون في هذا الباب، فسّاؤون في الجاهلية ضرّاطون في الإسلام. تذكر الرّواية العربيّة: "مر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فقال: يا عبد القيس، فسائين في الجاهلية ضراطين في الإسلام، إن جاء دين آخر خريتم." (التذكرة الحمدونية: ج 3، 222؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

والسؤال الّذي يطرح نفسه هو، هل ستبقى أبواب الضّراط مفتوحة على مصاريعها جالبة معها تصوّرات مستجدّة وعلومًا عربيّة مستحدثة؟ هذا ما سيكشفه لنا المستقبل.

والعقل وليّ التّوفيق.
***

***
مقالات السلسلة:
المقالة الأولى: "الضراط في التراث العربي"
المقالة الثالثة: "فسّاؤون ضرّاطون في اليهوديّة"

ـــــــــــــــ 


 المقالة والتعقيبات كما نُشرت في موقع الأوان








قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!