ميكروكوسموس العرب


سـلمان مصـالحة

ميكروكوسموس العرب



لبنان هو ميكروكوسموس العرب.

نعم، هو عالم صغير يكشف حال عالم عربيّ كبير من حوله. فإذا ما رغب المرء في معرفة أحوال العرب، فما عليه إلاّ معرفة أحوال لبنان. وكما قالت العرب قديمًا، فإنّ البعير من البعرة، والبعرة من البعير.

التّناقضات العربيّة أكبر وأكثر من أن تُحصى. غير أنّ السؤال الكبير الّذي يقضّ مضاجع كلّ ذي بصر وبصيرة يتمحور حول مسألة الهويّة، وبكلمات أخرى: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟ وماذا يعني أن تكون مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، إلى آخر هذه الكيانات غير المحدّدة المعالم؟

وهذا الكيان السياسي الذي يسمّى لبنان هو ميكروكوسموس العرب في مسألة الهويّة هذه. إنّ مصيبة لبنان ليست تقتصر على أنّه كيان مصطنع، فكلّ الكيانات والدّول في العالم بعامّة، وفي هذا العالم العربي بخاصّة، هي كيانات مصطنعة. لقد رسم الاستعمار حدود بلدان هذه المنطقة، بل وأنشأ لها جامعة عربيّة ورسم لها أعلامًا ورايات خفّاقة يتغنّى بها العرب. إنّ مصيبة لبنان هي في الحقيقة مصيبة كلّ كيانات العربان ذات كلّ هذه الطوائف والإثنيّات المتعدّدة. إنّها الكيانات الّتي، رغم مرور عقود على إنشائها، لم تصل بعد إلى سنّ الرّشد من النّاحية المدنيّة. وبدل بلوغ سنّ الرّشد المدنيّ فقد استطالت سنّ مراهقتها القبليّة والطائفيّة حتّى شاخت، فتحوّلت إلى مهزلة عصريّة في نظر العالم أوّلاً وقبل كلّ شيء. والخطير في الأمر أنّها أضحت مهزلة في نظر شرائح عربيّة واسعة وأجيال عربيّة شابّة وبالغة. لقد فقدت كلّ هذه الشّرائح العربيّة الأمل في إمكانيّة بناء كيانات عابرة للطوائف والقبائل والإثنيّات، عابرة لكلّ هذه التّشكيلات المجتمعيّة التي تنخر جسدها صباح مساء.

لقد كنت أشرت مرّة إلى مسألة لغويّة ذات دلالة كبرى بخصوص لبنان، فهذا البلد ورغم صغر مساحته وعدد سكّانه القليل، فإنّ قارئ الصحافة اللبنانيّة يُصدم عندما يقرأ تعابير مثل: "الرئيس سليمان"، و"الرئيس الحريري" و"الرئيس بري". فكم رئيسًا يوجد لهذا البلد؟ إنّ التأكيد على هذه الصفة-المنصب في الخطاب العام هو خير مثال على هذا التّفتّت والتّذرّر. لا يوجد بلد في العالم برأسين، فكم بالحري بثلاثة رؤوس. فحتّى في الطبيعة، عندما يولد مولود برأسين أو ثلاثة فهو لا يعيش طويلاً، بل سرعان ما يموت، إذ تقوم الطبيعة بتصحيح هذا الخلل الطارئ عليها. ومثلما هي الحال في الطبيعة، كذا هي الحال في الطبيعة السياسيّة. فإمّا بلد برأس واحد وإمّا هو وليد مسخ مصيره الهلاك والزّوال.

غير أنّ النّظام السّياسي الّذي انبنى عليه هذا البلد، منذ نشأته مع رحيل الاستعمار، كان نظامًا طائفيًّا يأخذ بالحسبان هذه التركيبة الغريبة العجيبة الّتي لا تأتلف بقدر ما تختلف. لم يستطع، أو لم يرغب زعماء طوائف وقبائل هذا البلد الخروج من قفصهم الطائفي، ولم يبنوا هويّة مدنيّة واحدة جامعة لأبنائه. وبعد أن تغيّرت الموازين الديمغرافيّة فيه مع مرّ الزّمن صارت الطريق سالكة إلى حروب أهليّة، هي طائفيّة في الأساس، رغم الشعارات الكاذبة الأخرى.

وحال لبنان هذه هي حال هذا المشرق العربي. إنّها حال العراق المتعدّد الطوائف والإثنيّات. إنّها حال سورية كذلك. إنّها حال كلّ هذه الدول التي خلقها الاستعمار ورسم لها هويّات مشوّهة. لقد لعب ما يسمّى "اليسار العربي"، أو ما يسمّى "التيّار القومي" دورًا هامًّا في فقدان الأمل لدى هذه المجتمعات لأنّ هذه التيّارات تعاونت مع هذه الأنظمة القبليّة الطائفيّة المستبدّة، ولم تطرح بديلاً مدنيًّا لها. فدائمًا كانت شعارات البعث القوميّة، في العراق وسورية، وشعارات التيّارات المتعاونة معها ومع مثيلاتها في بلدان هذه المنطقة شعارات كاذبة تتستّر خلفها الأنظمة القبليّة الطائفيّة الاستبداديّة، وهي الأنظمة التي لا تختلف عن أنظمة السّلطنات والممالك التّوريثيّة الأخرى. وهكذا، وبدل استبدال الهوية القبليّة الطائفيّة بهويّة مدنيّة جامعة لأفراد المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، تجذّرت الطائفيّة والقبليّة في هذه المجتمعات.

ولمّا كانت هذه هي الحال الرّاهنة في هذا العالم العربي، ولمّا كان الحكم للطائفة والقبيلة عسفًا واستبدادًا وقتلاً وسحلاً، فإنّ كلّ من ينتمي إلى قبيلة وطائفة غير قبيلة وطائفة الحاكم فإنّه لا يشعر بأيّ انتماء إلى أيّ من هذه الأنظمة الحاكمة. وهكذا أضحت جميع هذه الأنظمة أكثر شبهًا بأنظمة أجنبيّة هي الأخرى، وصارت غالبيّة المجتمعات مهمّشة ومُهشّمة.

لهذا السّبب، ليس من الغريب أن تنهار جيوش هذه الأنظمة بسرعة في المعارك. إنّها تنهار بسرعة لأنّها جيوش لا تنبني على الانتماء للوطن والأرض، بل هي تنبني على الانتماء للنّظام القبلي الطائفي. لذلك، فعندما تشتمّ هذه الجيوش رائحة سقوط النّظام، فهي سرعان ما تنهار فيخلع كلّ فرد فيها بزّته ويذهب فارًّا نحو قبيلته، طائفته وربعه. هذا ما جرى في العراق، وهذا هو مصير جيوش كلّ هذا النّوع من الأنظمة القبليّة الطائفيّة.

وخلاصة القول، لا يمكن أن تكون عربيًّا وطائفيًّا في الآن ذاته. ليس بمعنى عدم الانتماء، فالأفراد ينتمون بالطبع إلى قبيلة أو طائفة، لكنّ المقصود هو أن تبقى هذه الانتماءات خارج المؤسّسة المدنيّة الجامعة التي هي الدّولة. كما لا يمكن أن تكون عربيًّا ومسلمًا في الآن ذاته، وعلى وجه الخصوص في البلدان المتعدّدة الطوائف والديانات، لأنّ "العربيّة" كهويّة ثقافيّة سابقة للإسلام وغيره من الديانات وجامعة حضاريّة لهذه المجتمعات على اختلاف مللها وأهوائها. من هنا، لا يمكن أن تنبني دول عصريّة ومدنيّة إلاّ خارج هذه الانتماءات التي تُفرّق أكثر ممّا تجمع. كما لا يمكن أن تنبني دولة مدنيّة وعصريّة إلاّ بفصل الدّين وكلّ هذه الانتماءات عن الدولة التي يجب أن تكون دولة مدنيّة، ليس إلاّ.

ما لم يتمّ ذلك، فلن تقوم قائمة لهذه المجتمعات، بل ستبقى هائمة على وجهها، في هذا الفضاء المتصحّر اجتماعيًّا، سياسيًّا وثقافيًّا، تنتقل مع كلّ هذه التّناقضات من حال إلى حال ككثبان الرّمال.

والعقل ولي التوفيق.

البيان الختامي لمؤتمر القمّة العربيّة



سـلمان مصـالحة


بيـان ختـامي

قبل عامين، وقبيل انعقاد مؤتمر القمّة العربي، كنت نشرت في موقع "إيلاف" ما يشبه السبق الصحفي، أي نشرت نصّ البيان الختامي لمؤتمر القمّة العربيّة قبل انعقاده. ونظرًا لاقتراب انعقاد مؤتمر قمّة عربي آخر وهذه المرّة في ليبيا، أي في الإقطاعيّة القذّافيّة الموسومة بـ"الجماهيريّة اللّيبيّة العربيّة الاشتراكيّة العظمى"، فقد ارتأيت أن أعيد نشر المقالة هنا الآن. وما على القارئ إلاّ أن يستبدل اسم المدينة والدولة في هذه المقالة، ويضع بدلهما اسم ليبيا واسم المدينة، ليكون هذا البيان الختامي ملائمًا أيضًا لهذه القمّة الجديدة.


عيد الحبّ العربي

سـلمان مصـالحة

عيـد الـحــبّ العـربـي


لا أدري حتّامَ سيظلّ العرب
مغرمين بتقليد التقليعات الغربيّة. لن أتحدّث في هذه المقالة عن الفنون بجميع مجالاتها ولا عن الملبس أو المشرب، فكلّ هذه الأمور صارت واضحة للعيان. فعلى ما يبدو فلقد أضحى العرب مغرمين بقشور الحضارة الغربية دون لبّها، أمّا كلّ ما يتعلّق بالأمور الجوهرية المتمثّلة بالحريّة الفكريّة وحريّة الفرد ومساواة الرجل والمرأة والديمقراطية وتداول السلطة عبر الاقتراع الحرّ وفصل الدين عن الدولة فإنّ العرب لا يقربون كلّ هذه الأمور ولا يحاولون تقليدها أبدًا، وإذا حاولوا فإنّ هذه التّقليدات تأتي بصورة مشوّهة ومضحكة تكشف عن هزل التّقليد.

ذكر فذكروه

سلمان مصالحة

"ذكـرٌ فذكّرُوه"


(عن الذَّكْرَنَة العربيّة)

ما من شكّ في أنّ القارئ يعرف حال المجتمعات العربيّة الّتي تفضّل الذكر على الأنثى في الإنجاب. وقد ينسب علماء الاجتماع والأناسة وغيرهم من المهتمّين هذه الظاهرة إلى طبيعة الخلفيّات الإثنيّة والمعيشيّة للمجتمعات ويعزون هذا الميل إلى تفضيل الذكور إلى البحث عن وسائل إنتاج، أو ابتغاء إنتاج محاربين في صراع بقاء المجتمع في أطواره الأولى وما إلى ذلك من هذا الكلام المعهود. وكلّ هذه الإجابات وما شابهها، وإن كانت تشتمل في بعض الأحايين على بعض الحقيقة، فهي لا تفي الموضوع حقّه.

يمكن القول إنّ الرّغبة في إنجاب نسل ذكريّ هي رغبة الذّكر في الأساس، والقضيّة لها علاقة بصراع بقاء الذّكر. تنبع هذه الرّغبة من طموح الذكر إلى استنساخ الذّات الذكوريّة في الطّبيعة الّتي تتّسم فيها حاله بالهشاشة، وقد يكون مردّ ذلك إلى حقيقة طبيعيّة وهي كون الأمّ معروفة دائمًا، فالجنين محمول في رحمها. فالأمّ الحاملة للجنين في رحمها، معروفة قطعًا، بينما الأب، الذَّكَر الذي يُشارك ماؤه في تشكّل الجنين، يقع دائمًا في خانة الشكّ. فكلّ المواليد لهم أمّهات معروفات، بينما الآباء تحوم الشّكوك أبدًا حولهم. ومردّ هذا الشكّ إلى حقيقة كون الإخصاب قد يحصل، بطريق الصدفة أو لأسباب أخرى كثيرة، من منيّ لا يُعرَف مصدره. من هنا فإنّ الرغبة في إنجاب عدد أكبر من الذكور تنبع من الرغبة الغريزيّة للذّكر في رفع نسبة احتمالات الاستنساخ الذاتي في الطبيعة.

ولمّا كانت هذه هي حال الذكر في الطّبيعة، فقد قامت الحضارة البشريّة، وبصورة عامّة، وعلى مرّ العصور بإلحاق النَّسَب إلى الذّكر. وقد يكون هذا النّسق النَّسَبِيّ الذّكري قد تطوّر على مرّ التاريخ البشري بوصفه شكلاً من أشكال التّعويض للذّكر على هشاشة وضعه في الطّبيعة. وهكذا نرى أنّ العرب القدماء، بوصفهم جزءًا من هذه الحضارة البشريّة، قد انتسبوا إلى الآباء، ولم ينتسبوا إلى الأمّهات إلاّ فيما ندر: "قد ذكر الجوهري أن القبائل هي بنو أب واحد. وقال ابن حزم: جميع قبائل العرب راجعة إلى أب واحد سوى ثلاث قبائل وهي تنوخ والعتق وغسان فإن كل قبيلة منها مجتمعة من عدة بطون... نعم الأب الواحد قد يكون أبا لعدة بطون ثم أبو القبيلة قد يكون له عدة أولاد فيحدث عن بعضهم قبيلة أو قبائل فينسب إليه من هو منهم ويبقى بعضهم بلا ولد، أو يولد له ولم يشتهر ولده فينسب إلى القبيلة الأولى." (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8؛ أنظر أيضًا: الصحاح للجوهري: ج 2، 60؛ المخصص لابن سيدة: ج 1، 265؛ مقاييس اللغة لابن فارس: ج 5، 44؛ لسان العرب لابن منظور: ج 11، 534؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 3، 230؛ خزانة الأدب للبغدادي: ج 4، 210).

وبكلمات أخرى، فإنّ النّسب القبلي إلى الأب الواحد هو الأصل في هذه الحضارة العربيّة، وحينما تتباعد الأنساب تتحوّل القبائل إلى شعوب وتأخذ في التشعّبات: "قال الماوردي: إذا تباعدت الأنساب صارت القبائل شعوبًا، والعمائرُ قبائلَ. يعني: وتصير البطونُ عمائرَ، والأفخاذُ بطونًا، والفصائلُ أفخاذًا، والحادث من النّسَب بعد ذلك فصائل." (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ج 1، 8). ونظرًا لطبيعة الحياة الاجتماعيّة العربيّة فقد أضحى النّسب، الذّكوري بصورة عامّة، جزءًا هامًّا من علوم العرب منذ قديم الزّمان لما له من أبعاد اجتماعيّة وسياسيّة تتعلّق بالأحلاف القبليّة، ولاحقًا لما لهذا النّسب من تأثير اجتماعيّ كبير في إضفاء شرعيّة سلطويّة في الذهنيّة العربيّة والإسلاميّة. وقد يقول قائل، ها هم الفاطميّون قد انتسبوا إلى أنثى، فنقول إنّه حتّى هذا الانتساب إلى فاطمة، بغية البحث عن شرعيّة في حكم المسلمين، فلم يكن انتسابًا إلى الأنثى بقدر ما هو انتساب إلى الذكر، والد فاطمة، وذلك لانقطاع النّسب الذّكَري من الوالد. أي أنّ الانتساب الفاطمي هو انتساب ظاهريّ للأنثى، بينما هو في قرارته انتساب ذكري إلى والدها، بغية إضفاء شرعيّة سياسيّة تتعلّق بخلافة المسلمين. وحتّى هذا الانتساب الظاهري لم يصمد في التاريخ العربي الذكري في الأساس. فعلى سبيل المثال، بوسعنا أن نلاحظ هذا البحث المستمرّ عن الانتساب، الذكري بالذّات، لإضفاء شرعيّة سلطويّة من خلال النّظر إلى كلمات السّلام الملكي الأردني: "يا مليكَ العرب / لك من خير نبي / شرفٌ في النّسب / حدّثتْ عنه بُطون الكُتب". بينما نرى كيف يتمّ الإنتساب إلى الذكورة في المغرب العربي بحثا عن الشرعيّة من خلال انتساب الملكيّة إلى "العرش العلوي".

إنّ تفضيل الذكر على الأنثى متجذّر في الحضارة العربيّة ومنذ القدم. ويكفي النّظر إلى دلالات الأصل "ذكر" في اللّغة العربيّة لنرى مدى هذا التجذُّر، فالذّكر في العربيّة يشمل معاني الشدّة، فيقال يومٌ مُذكَّر "إِذا وُصِفَ بالشِّدّةِ والصعوبة وكثرة القتل." (لسان العرب: مادة "ذكر")، ويحمل معاني القوّة والشجاعة والأنفة والشّهامة والإباء، والمطر الشّديد الوابل، كما إنّ: "الذَّكَرُ والذَّكِيرُ من الحديد: أَيْبَسُه وأَشَدُّه وأَجْوَدُه، وهو خلافُ الأَنِيثِ، وبذلك يُسمّى السيف مُذَكَّرًا." (أنظر مادّة "ذكر" في: الصّحاح للجوهري؛ لسان العرب؛ القاموس المحيط؛ مقاييس اللّغة). ليس فقط أنّ الإسلام قد أبقى على هذه النّظرة الدونية تجاه الأنثى، بل قد ذهب أبعد من ذلك ووصل إلى شيطنتها، كما روي في الحديث: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان." (صحيح مسلم: ج 2، 1021؛ أنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 2، 404؛ سنن البيهقي: ج 7، 80؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 9079؛ العجم الكبير للطبراني: ج 24، 50). ولهذا أيضًا، فقد ذهب أبعد من ذلك، فها هي جهنّم أكثر أهلها من النّساء، كما روي في حديث آخر: "ورأيتُ النّار فلم أر كاليوم منظرًا قط، ورأيتُ أكثرَ أهلها النساء" (صحيح البخاري: ج 17، 307؛ أنظر أيضًا: سنن النسائي: ج 5، 398؛ صحيح ابن حبان: ج 16، 460؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 10، 307؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 1، 407). لقد بلغ تفضيل الذكر على الأنثى في الإسلام درجة أضحى ينعكس حتّى في اختلاف القراءات القرآنية، فقد ذكر القدماء بهذا الشأن تفضيل القراءة بالياء (= مذكّر) على القراءة بالتاء (= مؤنّث): "عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: إذا شككتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً، فإنّ القرآنَ ذكرٌ فَذَكِّروه." (مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، 202). فالذّكرُ في العربيّة هو الجليل الخطير، أو هو "النّصل المطبوع من خلاصة الحديد، فالمعنى: أن القرآن نبيهٌ خطيرٌ فاعرفُوا له ذلك وصفوا به." (الفائق للزمخشري: ج 2، 13؛ أنظر أيضًا: سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 450). ولا تقتصر الذكورة على وصف القرآن، بل تتعدّاه أيضًا إلى الحديث، فقد ذكر الزّهري: "الحديثُ ذكرٌ يحبّه ذكورُ الرّجال ويكرَهُه مُؤنّثوهم. وأراد الزهري أنّ الحديثَ أرفعُ العلم وأجَلُّه خطرًا، كما أنّ الذكور أفضل من الإناث، فأَلِبّاءُ الرّجال وأهلُ التمييز منهم يحبّونه، وليس كالرّأي السخيف الذي يحبه سُخفاء الرجال، فضربَ التذكير والتأنيث لذلك مثلاً..." (غريب الحديث لابن قتيبة: ج 2، 229؛ أنظر أيضًا: المجالسة وجواهر العلم لأبي بكر الدينوري: 228؛ النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي : ج 1، 16). وحتّى العطور والطّيوب الّتي كان يتطيّب بها العرب قد تمّ تقسيمها إلى مذكّر ومؤنّث، ووصلت الكراهية العربيّة الإسلاميّة إلى العطور والطّيوب المؤنّثة، حيث فضّلوا عليها المذكّرة: "كانوا يكرهون المُؤَنّثَ من الطّيب ولا يَرَوْنَ بِذُكْورَتِه بأْسًا." (الفائق للزمخشري: ج 1، 64؛ لسان العرب: مادة "أنث"؛ تهذيب اللغة للأزهري: ج 5، 112؛ غريب الحديث لابن الجوزي: ج 1، 362).

وهكذا نرى بوضوح تلك النّظرة السّلبيّة العربيّة للأنثى ومنذ القدم، حيث يظهر تفضيل الذكر على الأنثى في كافّة مجالات الحياة في الحضارة العربيّة، قديمها وحديثها. وربّما كان من أبرز مظاهر تفضيل الذكر على الأنثى في هذه الحضارة المشرقيّة على العموم، ما نراه في الأصل اللّغوي، حيث تمّ ربط البقاء الحضاري بصورة عامّة بالذّكر دون الأنثى. يظهر ذلك جليًّا من خلال هذا الرّبط البنيوي في اللّغة بين "الذّكَر" من جهة، وبين "الذّاكرة" من جهة أخرى، فكلاهما يعودان إلى ذات الأصل اللّغوي.

والعقل ولي التوفيق!

*** المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!