آچي مشعول: تهليلة


آچي مشعول

تهليلة

بعيدًا في السّماء
يَحُومان عَلَى غَيْمَة
أمٌّ حَزينة
وَأَبٌ مُهَرِّج

لكنّي لَسْتُ مِنْ هناك
هذه لَيْسَتْ أنا
أنا، لقَاءَ بَطّة،
اشْتَرَيا مِنْ غَجَريّ

وَرُبَّما فَقَسْتُ منْ قَرْنَبيط
أو سَقَطْتُ من منقرِ
لَقْلَق.

لنْ أَعْرف أبدًا.
أبدًا لنْ أتَحَقَّق.


ترجمة: سلمان مصالحة

***
من مجموعة: زيارة بيتية، 2009

لقراءة المزيد من شعر آچي مشعول، انقر هنا.

عرب في مهب الريح

سـلمان مصـالحة

عرب في مهبّ الرّيح

سأبدأ الكلام برواية هذه الطرفة: قبل أعوام، وبينما كان الحديث يدور حول السّياسة والشرق الأوسط، ذكرتُ لصديق من أصل تركي المقولة القومويّة العربيّة الشّائعة على ألسنة الكثيرين من العرب والّتي تقول إنّ العالم العربي في وضع متخلّف لهذه الدرجة بسبب الحكم العثماني الذي استمرّ أزيد من أربعة قرون. وما أن سمع الصديق كلامي حتّى انفجر ضاحكًا. لم أفهم سبب ضحكه، فاستفسرت عمّا وراء هذا الضحك، فقال: في تركيا يقولون شيئًا مشابهًا، إنّهم يقولون هناك إنّ تركيا متخلّفة لأنّها حكمت العرب طوال هذه القرون.

تذكرت هذه النكتة الآن بينما كنت أتابع ما يجري على الساحة العربية الآن بعيد جريمة القرصنة العسكريّة الإسرائيلية على متن سفينة "مرمرة" التركية. وهكذا، بين ليلة وضحاها، أضحى أردوغان في نظر القومويّين حامي حمى العروبة. وبين ليلة وضحاها تناسى كلّ أدعياء القومويّة العروبيّة كلّ إرثهم الشعاراتي ضدّ العثمانيين الأتراك والذي رضعوه وأرضعوه ليل نهار لسامعيهم وقرّائهم وطفقوا يهلّلون لمسيحهم الجديد السلطان العثماني القادم من أسطنبول.

إنّ وضع كلّ أصحاب الشعارات هؤلاء من أدعياء العروبة لهو أشبه بمتسوّلي قشّة في عرض بحر متلاطم الأمواج. لا شكّ أنّهم سيرفعون أصواتهم مهلّلين للسّلاطين العثمانيين الجدد من ميكروفونات "قلب العروبة النابض" في أكبر قاعدة أميركيّة في الشرق الأوسط. إنّه "القلب النّابض" لذات السّلطنة التي كانت الصحافة العالمية قد أشارت قبل أسبوعين فقط إلى أنّ أميرها طلب أكثر من مرّة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مقابل السماح لقطر بإدخال مواد ومعونات لغزّة، ومقابل أن تقوم إسرائيل بتصريح إعلامي يشيد بدور قطر الإيجابي في المنطقة. وكالعادة، طبعًا لم تنبس ميكروفونات "قلب العروبة النابض" الجديد في استوديوهات امبراطورية قطر الشعبوية العظمى ببنت شفة حول كلّ هذه الأخبار.

هل نسي كلّ هؤلاء القوميين الجدد أنّهم طالما أشبعونا شعارات حول "لواء إسكندرون السّليب". فأين اختفى هذا اللّواء السّليب، وأين اختفت هذه الشّعارات؟ لقد بدأ اختفاء لواء الإسكندرون من الذاكرة السورية بعد حشد الأتراك الجيوش على الحدود السورية، فما كان من الرئيس الأسد الأب إلاّ أن لفلف القضيّة، وأخرج اللّواء "السّليب" من خارطة سورية، "قلب العروبة النابض"، على ما شنّفوا آذاننا به طوال عقود.

إنّ مشكلة كلّ هؤلاء ممّن يصنّفون في خانة "اليسار العربي"، إنْ كان هذا موجودًا أصلاً، ومشكلة كلّ هؤلاء القومويّين الشّعبويّين العرب هي أنّ كلّ هؤلاء جميعًا يعتاشون على ذات الطبخة التي تبدو ظاهرًا جميلة المظهر ولذيذة المذاق غير أنّها دميمة وقبيحة متخفّية خلف مساحيق الشعارات التجميلية التي تُطلى عليها، ومُقزّزة لكثرة ما أكل عليها الدهر وشرب. كلّ هؤلاء كانوا دومًا يتّسمون بالقبح. إنّه ذات القبح الذي شبّوا وشابوا عليه في تعاونهم الدائم مع أسوأ الأنظمة العربية الدكتاتورية المتعسّفة، ملكية كانت أم جمهورية.

فليتفكّر كلّ العرب قليلاً. ماذا جنى العرب من كلّ هذه الاستقلالات والحركات الوطنية بعد جلاء الاستعمار؟ لقد جنى العرب أنظمة ظالمة لشعوبها أسوأ بكثير من أنظمة الاستعمار ذاته. بل وأكثر من ذلك، فقد كان الاستعمار ذاته أرحم بكثير للمواطن العربي من كلّ هذه الأنظمة "الوطنية والقوميّة". وإذا كانت هذه هي الحال، فما الحاجة إذن إلى كلّ هذه الاستقلالات؟

كلّ الأنظمة العربية لا يعنيها شيء سوى الحفاظ على الامتيازات والبقاء القبليّ في السلطة، ولهذا فإنّ سياساتها تتبدّل من الألف إلى الياء إذا اقتضتها ضرورة البقاء. وفوق كلّ ذلك، فقد وجد المواطن العربي نفسه في آخر قائمة التخلّف على المستوى العالمي.

إنّ دعاوى العروبة الكاذبة، وإن كانت تُدغدغ عواطف المراهقين العرب، غير أنّها تبقى في سنّ المراهقة حتّى مع تقدّم أصحابها في السنّ. ما لم يطرح هؤلاء بديلاً حقيقيًّا بعيدًا عن أنظمة العسف العربية على كافّة تنويعاتها فلن تقوم لهم قائمة. كلّ شيء يتغيّر ما عدا شعارات العروبة الكاذبة، فهي تتغيّر من موقع إلى موقع، بانتظار منقذ مخلّص أو مسيح، كريشة في مهبّ الريح.

والعقل ولي التوفيق.
***
نشرت في "إيلاف"

***

أما ما ينفع الناس


سـلمان مصـالحة

أمّا ما ينفع النّاس...


في ذكرى الأديب إميل حبيبي

مُراهقًا كنتُ قبل عقود من الزّمان مرّت علينا في هذه الديار الحزينة. وكذا كانَ أوّلُ عهدي به في ديار الشّباب السّعيدة البعيدة. كان يأتي متسلّلاً خلسة إلى حقيبتي المدرسيّة، ملتفعًا بصفحات جريدة، أو متخفّيًا بين دفّتي كتاب، أو مجلّة محظورة، أو هكذا خُيّل لي ولزملائي آنئذ، في نهاية ستّينيّات القرن المنصرم.

ولأنّني كنتُ مراهقًا في سالف ذلك الأوان، فقد حسدتُه. وأغلبُ ظنّي أنّي، على ما يبدو، لا أزال على هذه الفطنة الصحراويّة الّتي هبطت عليّ، مثلما كانت هبطت عليه وعلى آلِهِ من محلٍّ أرفعَ. كنتُ إذّاك ولا زلتُ أقول في نفسي: يا له من عفريت يتمثّل لنا في صور وأسماء مختلفة! لعلّه لاجئ من أحفاد هام بن الهيم قد حَلّ بين ظهرانينا يُلقي على شفاه الصّبايا، ثمّ النّساء من بعدُ، تميمةً سحريّة يتلفّظن بها دون علمٍ منهنّ بما تفعله هذه بهنّ وبي. فهذه تهمس في أذني: إنّه إميل حبيبي، وتلك تقول على الملأ: إميل حبيبي. وأمّا أنا، مهمومًا ضائعًا بين حانا ومانا وبين هذه وتلك، كنتُ أحاول أن أتلمّس لحيتي الغضّة باحثًا عن طريق إلى إصلاح ذات البين بينهنّ أجمع، فأقولُ، وأنا مِنْهُنّ على مسمع: إميل حبيبي أنا أيضًا، فيضحكن، مِنّي وعَلَيّ، على ما آلت إليه حالي إلى حالِ مَنْ جاءَ ليُكَحّلَها فَعَماها.

مرّت سنواتُ شباب النّفس وولّيتُ وجهي صوب القدس، فشَبَبْتُ هناك أنا على الطّوْق، بينما شابَ هو في الطّوق، حتّى وجد من المُحال حَمْلَ بطّيختين بيد واحدة، فآلى على نفسه أن ينبري إلى الكتابة الّتي تَدُومُ وتُديمُ.

غير أنّ الفكرة قد جاءته مُتأخّرةً بعد سكرةٍ استطالت في الطّوْق، فلم تُمهله الفكرةُ طويلاً، فكانَت خسارتنا نحنُ أَنْ غلبَ شَيْبُهُ شَبابَهُ. ولأنّه كان مهمومًا بقضايا الإنسان إلى حدّ الإدمان، لم يُفلح في الفطام من هذه القضايا، فظلّ حاملاً بطّيختين بيد واحدة، حتّى بعد هجره المناصب السّياسيّة، وذلك من خلال لقاءات وبيانات مشتركة إسرائيليّة فلسطينيّة.

في الحقيقة، قليلون هم أولئك الّذين عشقوا اللّغة العربيّة مثلما عشقها هو وعرف كيف يداعبها مداعبة الولهان بمكنوناتها، المنقّب الأثري في طبقاتها. هنالك خيط يربط بين هذا العشق للّغة، وبين عشق إميل حبيبي للإنسان. فعاشق اللّغة هو بالقوّة عاشق لما يختبئ وراءها، والعاشق الحقيقي للّغة لا يمكن إلاّ أن يكون عاشقًا للإنسان النّاطق. ربّما كان هذا العشق العميق للّغة هو هو الأساس الّذي بُني عليه التّوجُّه الإنساني في كلّ مواقفه، مُتّخذًا من السّخرية سلاحًا مُشْهَرًا في وجه الموت، كلّ موت، مُجرَّدًا من الأطواق العرقيّة والدّينيّة والجنسيّة.

ومرّت الأيّام، ومرّت الأعوام. ثمّ جاءت أخبار أوسلو، وكان إميل حبيبي متحمّسًا، كما كان كثيرون غيره متحمّسين، لها آنئذ. وهكذا، وبعد أنّ سلّى كثيرون النّفس بأوسلو ومشتقّاتها، سرعان ما اختطف منّا الإعلام العربيّ، وحتّى الفلسطيني، مصطلح "فلسطينيّي الدّاخل" وألقاه عباءة على رعايا المناطق الموسومة بالحروف الإفرنجيّة: "إي"، "بي" و"سي".

إذن، والحال هذه التي ألفينا أنفسنا فيها، ماذا تبقّى لنا نحنُ هنا من زمرة الـ"باقين في حيفا"؟ أعرف ماذا كان لسان حاله سيقول: إذا كانت الحال على هذا المنوال، فهذا يعني أنّنا أصبحنا "داخل الدّاخل". وكنتُ أنا سأُضيفُ مستعيرًا من المأثور: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكثُ في حيفا.

فماذا أحدّثك الآن بعد مرور هذه الأعوام؟
لا أتذكّر الآن من ذا الّذي أطلق تلك المقولة الشهيرة لدى أبناء العمومة، أهو هرتسل أم بن غوريون، أم إنّه واحد آخر من صنف "البناغرة"، كما كنت أسلفتَ في ماضيك الأدبي الحاضر فينا دومًا. عندما سئل ذاك: متى تقوم دولة اليهود؟ أجاب: عندما يتمّ القبض على أوّل لصّ يهوديّ، أو عندما تخرج إلى الشارع أوّل عاهرة يهوديّة فمعنى ذلك أنّ الدّولة اليهوديّة قد قامت وهي تسير على قدم وساق. أو لنقل نحن ربّما على أقدام وسيقان.

وها نحنُ الآن، طاب ثراك، نسيرُ حثيثًا وقد قطعنا أكثر من عقود ستّة، واللّصوصُ من المولّدين هنا كُثرٌ. أمّا العاهراتُ، أراحكَ اللّه من شرّهنّ، فمستورداتٌ ممّا تبقّى من بلاد "المنظومة الاشتراكيّة"، كما اصطلحَ عليها رفاق دربك القدامى الّذين تقادمَ عهدُهم وتفرّقوا أيدي سبأ بعدما انفرطتْ منظومتهم أدراج الرياح فهاموا على وجوههم بعد أن كانَ الّذي كانَ.

وبخلاف أبناء العمومة، فها هم أبناء الأمومة الآن، ولشدّة وكثرة ما أخطؤوا ويخطئون في ترجماتهم عنهم، فقد برّح بهم الجهل ونسوا من أين تؤكل الكتف، فكانَ أنْ قلبوا الآيةَ رأسًا على عقب، فبدؤوا بالعُهْر والفساد ونسوا الدّولة.

أمّا بخصوصنا نحن الّذين بقينا، بُعيد النّكبة، هنا في الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل بفضل بني قومنا الذين ما فتئوا يقيمون مطاياهم ويقعدونها طوال هذه العقود المنصرمة، فلعلّ لسانَ حالك يقول: كيف حالُكم وما جرى بأحوالِكم يا معشرَ المتشائلين؟

ولأنّك كنت شديد الوَلَه تنقيبًا في كتب التّراث، فما بالُك إنْ أنا حدّثتُك هذه اللّيلة ببعضٍ ممّا انتشلتُ منه؟ ولأنّ عهدي بك شديدَ الفطنة سريعَ البديهة، فلن يلتبسَ عليك ما أنا ساردٌ الآن من مسألةٍ مستعصية قد حارَ في أمرها السّلفُ. لقد عُرضت هذه المسألة على شريح القاضي الذي اشتغل بالقضاء لدى الخلفاء الأوّلين، بدءًا من عُمر وانتهاء بمعاوية. وبعد القال والقيل والعنعنة المتسلسلة يروي لنا السّلف في باب حكم الخنثى المُشكل الّذي لم يتبيّن أمره بالعلامات المذكورة:

"عن ميسرة بن شُريح قال، تقدّمتْ إلى شُريح امرأةٌ فقالت: إنّي جئتُك مخاصمةً، فقال: وأينَ خصمُك؟ فقالت: أنتَ خصمي. فأخْلَى لها المجلسَ، فقال لها: تكلّمي.
فقالت: إنّي امرأةٌ لِي إحْليلٌ ولي فَرْجٌ.
فقال: قد كان لأمير المؤمنين عليه السّلام في هذا قضيّة. وَرّثَ من حيثُ جاء البَوْلُ.
قالت: إنّه يجيء منهما جميعًا.
فقال لها: من أين يسبقُ البَوْل؟
قالت: ليس منهما شيءٌ يسبق، يجيئان في وقت واحد وينقطعان في وقت واحد.
فقال لها: إنّكِ لتُخبرين بعجب.
فقالت: أُخبرُك بما هو أعجبُ من هذا: تَزَوَّجَني ابنُ عمٍّ لي، وأخدمني خادمًا، فوطئتُها فأولدتُها، وإنّما جئتُكَ لما وُلِدَ لي لتُفرّقَ بيني وبين زوجي.
فقامَ من مجلس القضاء، فدخلَ على عليّ عليه السّلام، فأخبره بما قالت المرأة، فأمرَ بها فأُدْخلتْ، وسألها عمّا قال القاضي، فقالت: هو الّذي أخْبركَ.
قال، فأحضرَ زوجَها ابنَ عمِّها، فقال له عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: هذه امرأتُك وابنةُ عمّكَ؟
قال: نعم.
قال: قدْ علمتَ ما كان؟
قال: نعم، قد أخدمتُها خادمًا فَوَطِئَتْها، فَأوْلَدَتْها.
قال: ثمّ وَطِئْتها، بعد ذلك؟
قال: نعم.
قال له عليّ عليه السّلام: لأنْتَ أجرأُ من خاصي الأسد.
ثمّ أشار عليّ إلى قنبر مولاه قائلاً: يا قنبر، أدْخِلْها بيتًا مع امرأة تعدّ أضلاعها.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، لا آمَنُ عليها رجلاً، ولا أئتمن عليها امرأة.
فقال عليّ: عليَّ بدينار الخصيّ. وكان من صالحي أهل الكوفة، وكان يثقُ به، فقال له: يا دينار أدخلها بيتًا، وعَرّها من ثيابها، ومُرْها أن تشدَّ مئزرًا وعُدّ أضلاعها. ففعل دينار ذلك، فكانَ أضلاعُها سبعةَ عشر: تسعة في اليمين وثمانية في اليسار.
فألبسها عليّ عليه السّلام ثياب الرّجال والقلنسوة والنّعلين، وألقى عليه الرّداء، وألحقه بالرّجال.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، ابنة عمّي وقد وَلَدتْ منّي، تُلْحقها بالرّجال؟
فقال: إنّي حكمتُ عليها بحكم اللّه. إنّ اللّه تبارك وتعالى خلقَ حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصر، وأضلاعُ الرّجال تنقص وأضلاع النّساء تمامٌ."

***

فها نحنُ، كما ترى، طاب مثواك، قد أضحينا هُنا كحالِ ابنة العمّ تلك، لا يؤتمن علينا، لا من رجل ولا من امرأة. فلا أبناء العمومة يأمنوننا إن نحنُ التقينا بالأشقّاء، ولا أبناء الأمومة يأمنُون إن نحنُ انفردنا بهؤلاء النّاس. إذ أنّ الوسواس الخنّاس، أو قل الخنّاث، لا يني يوسوس، ليس في نفوسنا نحنُ، بل في نفوس هؤلاء أجمعين.

إذن، والحالُ هذه، فلم يبقَ لنا سوى أن ننفجر ضحكًا حتّى تنهمر من عيوننا الدّموع، أو حتّى نستلقي على أقفيتنا، أو قُلْ قوافينا، مفترشين الفلاة ملتحفين السّماء، وما من مُنادٍ وما من حياة أو حياء.
***

ملاحظة: هذا النصّ قُدّم في أمسية لذكرى الأديب الراحل إميل حبيبي.

***
***

مارتين نيمولر - جاؤوا أولا

سـلمان مصـالحة

صرخة ضدّ اللاّمبالاة

هنالك صيغ متعدّدة لنصّ مارتين نيمولر (Martin Niemöller). لقد كتب النصّ، الصرخة، ضدّ النازية بعد إحكام سيطرتها على ألمانيا، وهو من بين النصوص الأشهر التي تُقتَبس ضدّ لامبالاة الأفراد، وضدّ الركون إلى الصمت في حال الظّلم والحكم المتعسّف. إنّه نصّ نافع لكلّ زمان ومكان، وحيثما حلّ ظلم وعسف في هذا العالم.

مارتين نيمولر

جاؤوا أوّلاً


جاؤُوا أوّلاً إلى الشّيُوعيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ شُيوعيًّا.
ثُمّ جاؤُوا إلى الاشتراكيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ اشتراكيًّا.
ثمّ جاؤُوا إلى أعْضاء النّقابات،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ نقابيًّا.
ثمّ جاؤُوا إلى اليَهُود،
فَلَمْ أرْفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ يهوديًّا.
بَعْدَئذٍ جاؤُوا إليَّ،
فَلَمْ يَتَبَقَّ أحَدٌ
لِيَرْفَعَ صَوْتَهُ لأجْلِي.

ترجمة: سلمان مصالحة

For English, press here

ما بعد كترمايا

سـلمان مصـالحة

ما بعد كترمايا

"كترمايا أكثر من قرية"، يكتب خالد صاغية في "الأخبار" حول ملابسات الجريمة التي ارتكبت في قرية كترمايا اللبنانية، حيث نفّذ عامل مصريّ جريمة قتل بشعة بحقّ عائلة لبنانية. بعد أن قبضت قوى الأمن اللبنانية على المجرم وأحضرته لتمثيل الجريمة، جاءت ردّة فعل أهل القرية بأن اختطفوه بالقوّة من قوى الأمن ونفّذوا به جريمة بشعة هم أيضًا وجرجروه في شوارع القرية وعلّقوه على عمود كهرباء في ساحة القرية وسط هتافات الثأر. ويضيف الكاتب في مقالته: "كترمايا هي لبنان حين يتجرّأ على النظر إلى نفسه في المرآة." (الأخبار اللبنانية، الإثنين 3 أيار 2010).

لقد أخطأ الكاتب في اختزال لبنان بهذه القرية، فـ"كترمايا" ليست لبنان وحده. إنّها بغداد حيث يٍقتل الناس البسطاء في الأسواق تحت مسمّى "المقاومة". إنّها المغرب العربي. إنّها فلسطين حيث يُلقى البشر من الطوابق العليا. إنّها مصر كما تصل إلينا أخبارها بين فترة وأخرى. إنّها سورية حيث يُعلّق البشر في الساحات العامّة. إنّها قتل المرأة العربيّة بحجّة ما يسمّى زورًا وبهتانًا "شرف العائلة". إنّها في نهاية المطاف ثقافة الصحراء وذهنيّة الصحراء، إنّها "حضارة" كلّ شعوب هذه البقعة من الأرض، مشرقها ومغربها. فهي على هذه الحال منذ البدايات الأولى لظهور العرب على مسرح التاريخ بجاهليّتهم وإسلامهم.

لن نذكّر هنا بما أفتى ابن خلدون بشأن هذه الـ"حضارة" الصحراوية التي خرجت من جزيرة العرب. فقد خرجت هذه الحضارة من الجاهليّة حاملة معها كلّ موبقات الجاهليّة أنّى حلّت وأنّى ارتحلت، حتّى إلى ما وراء البحار. لا دولة ولا قانون ولا ما يحزنون، ما عدا قانون الثأر القبليّ البدائي المتجذّر كأذرع الأخطبوط في كلّ صقع من هذه الأصقاع.

يحقّ لنا بين فينة وأخرى أن ننظر إلى تاريخنا لكي نعرف حقّ المعرفة من أين يأتي كلّ هذا العنف. فلينظر القارئ إلى ما دوّنه لنا السّلف عن بعض الشّخوص الذين أضحوا رموزًا "تُحتذى" في ذهنيّات أهل هذه الحضارة، "حضارتنا" جميعًا. فها هو "القائد الرمز"، خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، يأمر بقطع رأس مالك بن نويرة ليجعل من رأسه المقطوع أثفية لقدر يُطبخ فيها الطّعام لعسكره. فلنقرأ معًا: "كان مالك من أكثر النّاس شَعْرًا، وأنّ العسكر أثّفوا القُدور برؤوسهم، فما من رأس إلاّ وصلت النّار إلى بشرته، ما خلا مالكًا فإنّ القدر نضجتْ وما نضجَ رأسُه من كثرة شَعْرِه، ووقَى الشّعْرُ البشرةَ من حَرّ النّار أن تبلغ منه ذلك". (تاريخ الطبري: ج 2، 503؛ أنظر أيضًا: الأغاني للأصفهاني: ج 15، 293-294؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 4، 10؛ الإصابة لابن حجر: ج 3، 482؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 5، 529).

ليس هذا فحسب، بل إنّ التّراث يعلّمنا أنّ خالدًا بن الوليد، المدعو سيف اللّه المسلول، قد فعل ذلك لأنّه رغب في امرأة مالك، الّتي تشير إليها الروايات: "كانَ يُقال إنّه لم يُرَ أحسنُ من ساقيها" (الأغاني للأصفهاني: ج 15، 296). وبالفعل، "يُقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهلُ العلم". (الفتوح لابن أعثم: ج 1، 26).

ولنقرأ معًا ما يرويه لنا الطّبري عن مقتل الخليفة عثمان: "وأما عمرو بن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات وقال: أمّا ثلاث منهنّ فإني طعنتهن للّه، وأمّا ستّ فإني طعنت إياهن لما كان في صدري عليه." (طبقات ابن سعد: ج 3، 74؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 3، 424؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 39، 409). وبعد أن تمّ الإجهاز على عثمان، وهو خليفة المسلمين، فقد ألقي في دمنة لثلاثة أيّام، كما دوّن لنا السّلف: "عن مالك قال: لما قُتل عثمان رض أُلقي على المزبلة ثلاثة أيام." (الاستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر: ج 1، 322؛ أنظر أيضًا: الفتوح لابن أعثم: الفتوح لابن أعثم: ج 1، 430)، وذلك حتّى جاءت الكلاب ونهشته على المزبلة.

على هذا التاريخ المليء بالجرائم البشعة منذ البدايات الأولى يترعرع ويكبر أطفال العرب. لذلك، فإنّ ما جرى في كترمايا ليس صورة لبنان وحده، إنّه صورة هذا التراث العربي بأسره.

لقد شاهدت التقرير في إحدى المحطّات اللبنانيّة، وهو موجود في الإنترنت أيضًاويستطيع العالم بأسره مشاهدته. في التلفزيونات المتحضّرة يقومون بإخفاء جزء من الصورة وتمويهها لكي لا تظهر بشاعة الجريمة على الشاشة. إنّهم يفعلون ذلك حفاظًا على نفسيّات المشاهدين، والأطفال منهم بخاصّة. غير أنّ التلفزيون اللّبناني، وقد تكون محطّات عربيّة أخرى أيضًا قد بثّت كلّ تلك الصور الهمجيّة دون التفكّر فيما تبقيه هذه المشاهد من أثر في نفسيّات الأطفال العرب.

وهكذا ورغم تقادم السنين فلا يزال أطفال العرب يكبرون على هذا العنف الوحشي البدائي منذ العصور القديمة وحتّى عصرنا الحاضر، دون رقيب أو حسيب. المشاهد البشعة من تاريخنا القديم قد دوّنها لنا السّلف، أمّا في هذا الأوان فإنّ الصورة المتلفزة هي التدوين المعاصر الأكثر خطورة على نفسيّات المشاهدين. فأين علماء النّفس العرب، وأين علماء الاجتماع العرب من كلّ هذا؟ وأين أهل الثقافة العرب ومنظّمات حقوق الإنسان العربيّة، إن وُجدت أصلاً، من كلّ هذا؟ وأين منظّمات حقوق الأطفال من كلّ هذا؟ ولماذا لا يرفعون أصواتهم لوقف هذا الاعتداء التلفزيوني الوحشي على نفسيّات الأطفال العرب؟

خلاصة القول، إنّ "كترمايا" هي حقيقة كلّ هذا الشرق المأزوم منذ قرون طويلة. والسؤال الجوهري الّذي لا مناص من طرحه هو: حتّامَ ستبقى الحال على ما هي عليه؟ وقد آن الأوان أن نجد بعض الجرأة الأخلاقية على النّظر إلى أنفسنا العربيّة في المرآة.

أليس كذلك؟
***
المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

أيضًا في:
شفاف الشرق الأوسط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جلعاد شليط والضمير الغائب

سـلمان مصـالحة

جلعاد شليط والضمير الغائب

يجب التأكيد أوّلاً على أنّ جلعاد شليط هو جندي إسرائيلي وقع في أسر قوّات فلسطينيّة في غزّة خلال عمليّة عسكريّة على خلفيّة الصّراع الفلسطيني ضدّ الاحتلال الإسرائيلي المستمرّ منذ عقود. هذه الحقيقة وهذه الخلفيّة تضعان كلاًّ من العمليّة وأسر الجندي في خانة المشروعات الطبيعيّة الأمميّة لمن هو واقع في حالة صراع ضدّ احتلال. ولقد كُتب الكثير وقيل الكثير باللغة العربيّة حول قضيّة هذا الأسير الإسرائيلي القابع في غزّة منذ عدّة أعوام.

لن أتحدّث هنا في هذه المقالة عن موبقات الاحتلال الإسرائيلي، بجيشه ومستوطنيه، المتراكمة فوق صدور الفلسطينيّين منذ عقود. فكلّ هذه الموبقات معروفة للقاصي والداني، كما أنّ وسائل الإعلام، العربية منها بصورة خاصّة، وكذلك غير العربيّة بما فيها العبريّة أيضًا، تعجّ بهذه الأخبار والتحقيقات.

ولن أتحدّث في هذه المقالة عن مدى الحكمة في هذه العمليّة التي كلّفت الجانب الفلسطيني آلاف القتلى والجرحى، إضافة إلى الدّمار الّذي حلّ بغزّة وأهلها بعد أن انهال عليهم "رصاصًا مصبوبًا" على مرأى ومسمع من العالم، العربي والأجنبي. وها هو الحصار لا يزال مطبقًا على غزّة منذ ذلك الأوان دون أن يفعل هذان العالمان، لا الأجنبيّ ولا العربيّ، شيئًا يُذكر لأجل فكّ هذا الحصار.

كما لن أتحدّث عن عمرو موسى، أمين عام كتاتيب المشيخات العربيّة، الذي لم نسمعه أبدًا يطالب جمهورية مصر العربية ورئيسها بفتح حدود مصر مع غزّة لإنهاء الحصار فورًا. لا نفهم كيف يطلب حضرته من إسرائيل، وهي العدوّ في منظوره العروبيّ، بفكّ الحصار عن غزّة، ولا يطلب من بلده العربي، "الشّقيقة مصر"، بعمل ذلك. فهل هذا هو منطقه العروبيّ؟ وهل ثمّة عربيّ على وجه الأرض يستطيع فهم هذا المنطق أصلاً؟ لكن، ما لنا ولهذا.

بعد مرور أعوام على هذه القضيّة وملابساتها، ثمّة حاجة ماسّة إلى قول شيء لم يُقل بعد في اللغة العربية. لم يُقل بعدُ في اللغة الفلسطينيّة، على وجه الخصوص، وفي الشارع الفلسطيني المعني بهذه المسألة أكثر من غيره، لأنّها تخصّه مباشرة وتخصّ قضيّته.

كما أسلفت من قبل، فإنّ عمليّة أسر جندي، في حالة صراع مع الاحتلال، هي عمليّة مشروعة بحسب النواميس المتعارف عليها دوليًّا. لذا، فإنّ الحديث عن صفقة تبادل أسرى هو أمر مشروع أيضًا. لن أتحدّث في هذه المقالة عن صفقات تبادل الأسرى بين العرب وإسرائيل الّتي تمّت في الماضي وينتظر الجميع أن تتمّ أيضًا في حالة الأسير جلعاد شليط. لقد تطرّق البعض إلى مسألة حسابيّة تتعلّق بـ"كم يساوي أسير إسرائيليّ من العرب؟"، وما لهذه المسألة من أبعاد أخلاقيّة لها علاقة بقيمة الفرد العربي مقابل الآخر.

لا شكّ أنّ الأسير الإسرائيلي يحظى بمعاملة لائقة وإنسانيّة في الأسر الفلسطيني لما يمثّله من ورقة في أيدي الفلسطينيّين لإتمام صفقة تبادل الأسرى مع الجانب الإسرائيلي. لكن، ومن جهة أخرى، فإنّ صمت الكتّاب الفلسطينيّين على عدم إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي هو صمت معيب بكلّ المقاييس ويشكّل خللاً أخلاقيًّا، فلسطينيًّا، عربيًّا وإسلاميًّا.

كثيرًا ما يتساءل العرب بخصوص تشويه صورة العربي في الإعلام وفي الرأي العام في العالم. كلّ هذه التساؤلات نابعة برأيي من عدم فهم العربيّ لهذا العالم من حوله. مثلما أنّ هذا العالم لا يفهم العالمَ العربيَّ، أنظمته ومجتمعاته أيضًا. هذا ناهيك عن أنّ صورة العربيّ مشوّهة في نظر العربيّ ذاته.

يستطيع الجانب الفلسطيني أن يُسجّل لصالحه نقاطًا أخلاقيّة واضحة أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي في هذه القضايا. لا أدري لماذا يترك العرب هذه الجوانب الأخلاقيّة للآخرين، ولماذا يصرّون على ترك هذه الساحة، كما لو أنّ القضايا الأخلاقيّة لا تعني العرب من قريب أو بعيد.

لهذا السّبب، يجب الخروج من خانة هذا الصّمت الفلسطينيّ والعربي المعيب أخلاقيًّا، ويجب إتاحة الفرصة لعائلة جلعاد شليط بزيارته في الأسر في غزّة، مثلما يزور الفلسطينيّون أسراهم في إسرائيل. أو يجب، على الأقلّ، إتاحة الفرصة للصّليب الأحمر بزيارة الأسير الإسرائيلي في غزّة والوقوف على وضعه. لمن لا يعرف هذه الأمور، فإنّ هذا هو صوت الضّمير الفلسطينيّ الأخلاقي الّذي يجب أن يصدر علانيةً، وهذا هو الصّوت الّذي يفهمه العالم المتحضّر ويتعاطف معه.

قد يثير هذا الكلام حفيظة الكثيرين، غير أنّي على يقين أنّه ما لم يَعْلُ هذا الصّوت وأصوات عربيّة أخرى في هذه القضايا فلا يعجبنّ أحدٌ من ذلك التشويه في الصورة العربيّة في العالم.

***
***




ذاكرة مصرية (قصيدتان)


سـلمان مصـالحة || ذاكرة مصرية
                                   (قصيدتان)

منون الوجوه؟

(1)
مَنونَ الوجوهُ الّتي تختفي في الزّحام
مُحمَّلةً قسماتِ الرّصيف
ووقْعَ خُطًى ناطقَة؟
مَنونَ الوُجوهُ الّتي تقتفي خطوَها،
بأعْيُنها أعْيُني عالقَة؟

(2)
أنا في عيوني اختبأتُ
كما الأحرف السّادقَة.
وَهُمْ،
كالفَلائكِ قبلَ هُبوب رياح
على الضّفّة المُتعَبَة.
وَهُمْ،
رحلةٌ كالطّريق
تطولُ كأذرُع العاشقة.

(3)
مَنونَ الوجوهُ الّتي تحمل الرّاقصات
اللّواتي يَمِلْنَ كفرعِ الخريف
على التّرعة المُترَعَة؟
يميلُ الرّصيفُ بهنّ
ويحملُ قلبي مَعَهْ.

(4)
مَنونَ انْتُمُ السّائرونَ
إلى لا وصول
على الشّارع المُزدَحِم؟
على ظَهْرِكم قد تَدلّى الزّمانُ
جدائلَ صبرٍ
قُطُوفَ عناء،
كَشَعْر الصبيّة هذي الّتي
ترتدي جلدَها المُنسدِل
وخاصرتاها حزام.
تحلُّ الجدائلَ آنًا رويدًا،
وآنًا يكون بها خُيلاء.
فيفلتُ من راحتيها سلام،
وتنعفُهُ في الهواء،
وفي شفتيها يفيق ابتسام.

(5)
شَفا غُربَتِي لا يُطيقُ الكلام.
فكيف تجفّ الدّموع،
وفي النّيل منبعُ دَمْعي.
وأنت عيوني
وأنت شجوني
فأين أضيعُ وأين أصيع؟

فكوني جنوني
وكوني
كما شاءَك النّيلُ كوني
معابدَ فرعون كوني،
خُطَى عاهرة
تجوبُ الشّوارعَ بعد نزول مساء
وأضْلُعها ضامرة.
فكوني سُكوني
وكوني كلامي
فإنّي عشقتُك يا قاهرة.

القاهرة ربيع 1987

***

بعد يوم

(1)
بعدَ يومٍ تُصبحُ اللّحظةُ ذكرى.
يكشفُ العاشقُ سرَّه.
بعدَ يومٍ
بعدَ ساعَة
يرفعُ النّيلُ شراعَه
ويُوَلّي مثلما ولّى القطار.
حاملاً حزني على أكتافه
وتباريحَ انتظار.

(2)
بعد يوم، بعد ساعة
تكبرُ اللّحظةُ في نفسي الّتي كالرّيح
هبّتْ فوقَ رأسي تتهادى،
بعد أن هرّبْتِنِي من بلادي
لبلادٍ في فؤادي
ليسَ فيها غير إنسان وشاعر
وتراتيل قصيدة.
وحروف تعشقُ الحبرَ الّذي قد كانَها
مثلما قد كُنتِنِي قبل حُضوري
بيديك والدّفوف.
وأنا قَرْعُ طبولٍ أفرِقيّة
لأغانٍ غَجريّة،
وشتاء للخريف.

(3)
بعد يوم وجريدة،
يفضحُ العاشقُ سرَّهْ،
ويطيرُ النّيلُ،
والأفلاكُ
والنّاسُ
على جانح طائر.
يُصبحُ العاشقُ شاعر
وتصيرين
قصيدة.

أسوان، ربيع 1987
***

من مجموعة: كالعنكبوت بلا خيوط، القدس (1989)
***

ميكروكوسموس العرب


سـلمان مصـالحة

ميكروكوسموس العرب



لبنان هو ميكروكوسموس العرب.

نعم، هو عالم صغير يكشف حال عالم عربيّ كبير من حوله. فإذا ما رغب المرء في معرفة أحوال العرب، فما عليه إلاّ معرفة أحوال لبنان. وكما قالت العرب قديمًا، فإنّ البعير من البعرة، والبعرة من البعير.

التّناقضات العربيّة أكبر وأكثر من أن تُحصى. غير أنّ السؤال الكبير الّذي يقضّ مضاجع كلّ ذي بصر وبصيرة يتمحور حول مسألة الهويّة، وبكلمات أخرى: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟ وماذا يعني أن تكون مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، إلى آخر هذه الكيانات غير المحدّدة المعالم؟

وهذا الكيان السياسي الذي يسمّى لبنان هو ميكروكوسموس العرب في مسألة الهويّة هذه. إنّ مصيبة لبنان ليست تقتصر على أنّه كيان مصطنع، فكلّ الكيانات والدّول في العالم بعامّة، وفي هذا العالم العربي بخاصّة، هي كيانات مصطنعة. لقد رسم الاستعمار حدود بلدان هذه المنطقة، بل وأنشأ لها جامعة عربيّة ورسم لها أعلامًا ورايات خفّاقة يتغنّى بها العرب. إنّ مصيبة لبنان هي في الحقيقة مصيبة كلّ كيانات العربان ذات كلّ هذه الطوائف والإثنيّات المتعدّدة. إنّها الكيانات الّتي، رغم مرور عقود على إنشائها، لم تصل بعد إلى سنّ الرّشد من النّاحية المدنيّة. وبدل بلوغ سنّ الرّشد المدنيّ فقد استطالت سنّ مراهقتها القبليّة والطائفيّة حتّى شاخت، فتحوّلت إلى مهزلة عصريّة في نظر العالم أوّلاً وقبل كلّ شيء. والخطير في الأمر أنّها أضحت مهزلة في نظر شرائح عربيّة واسعة وأجيال عربيّة شابّة وبالغة. لقد فقدت كلّ هذه الشّرائح العربيّة الأمل في إمكانيّة بناء كيانات عابرة للطوائف والقبائل والإثنيّات، عابرة لكلّ هذه التّشكيلات المجتمعيّة التي تنخر جسدها صباح مساء.

لقد كنت أشرت مرّة إلى مسألة لغويّة ذات دلالة كبرى بخصوص لبنان، فهذا البلد ورغم صغر مساحته وعدد سكّانه القليل، فإنّ قارئ الصحافة اللبنانيّة يُصدم عندما يقرأ تعابير مثل: "الرئيس سليمان"، و"الرئيس الحريري" و"الرئيس بري". فكم رئيسًا يوجد لهذا البلد؟ إنّ التأكيد على هذه الصفة-المنصب في الخطاب العام هو خير مثال على هذا التّفتّت والتّذرّر. لا يوجد بلد في العالم برأسين، فكم بالحري بثلاثة رؤوس. فحتّى في الطبيعة، عندما يولد مولود برأسين أو ثلاثة فهو لا يعيش طويلاً، بل سرعان ما يموت، إذ تقوم الطبيعة بتصحيح هذا الخلل الطارئ عليها. ومثلما هي الحال في الطبيعة، كذا هي الحال في الطبيعة السياسيّة. فإمّا بلد برأس واحد وإمّا هو وليد مسخ مصيره الهلاك والزّوال.

غير أنّ النّظام السّياسي الّذي انبنى عليه هذا البلد، منذ نشأته مع رحيل الاستعمار، كان نظامًا طائفيًّا يأخذ بالحسبان هذه التركيبة الغريبة العجيبة الّتي لا تأتلف بقدر ما تختلف. لم يستطع، أو لم يرغب زعماء طوائف وقبائل هذا البلد الخروج من قفصهم الطائفي، ولم يبنوا هويّة مدنيّة واحدة جامعة لأبنائه. وبعد أن تغيّرت الموازين الديمغرافيّة فيه مع مرّ الزّمن صارت الطريق سالكة إلى حروب أهليّة، هي طائفيّة في الأساس، رغم الشعارات الكاذبة الأخرى.

وحال لبنان هذه هي حال هذا المشرق العربي. إنّها حال العراق المتعدّد الطوائف والإثنيّات. إنّها حال سورية كذلك. إنّها حال كلّ هذه الدول التي خلقها الاستعمار ورسم لها هويّات مشوّهة. لقد لعب ما يسمّى "اليسار العربي"، أو ما يسمّى "التيّار القومي" دورًا هامًّا في فقدان الأمل لدى هذه المجتمعات لأنّ هذه التيّارات تعاونت مع هذه الأنظمة القبليّة الطائفيّة المستبدّة، ولم تطرح بديلاً مدنيًّا لها. فدائمًا كانت شعارات البعث القوميّة، في العراق وسورية، وشعارات التيّارات المتعاونة معها ومع مثيلاتها في بلدان هذه المنطقة شعارات كاذبة تتستّر خلفها الأنظمة القبليّة الطائفيّة الاستبداديّة، وهي الأنظمة التي لا تختلف عن أنظمة السّلطنات والممالك التّوريثيّة الأخرى. وهكذا، وبدل استبدال الهوية القبليّة الطائفيّة بهويّة مدنيّة جامعة لأفراد المجتمع على اختلاف مللهم ونحلهم، تجذّرت الطائفيّة والقبليّة في هذه المجتمعات.

ولمّا كانت هذه هي الحال الرّاهنة في هذا العالم العربي، ولمّا كان الحكم للطائفة والقبيلة عسفًا واستبدادًا وقتلاً وسحلاً، فإنّ كلّ من ينتمي إلى قبيلة وطائفة غير قبيلة وطائفة الحاكم فإنّه لا يشعر بأيّ انتماء إلى أيّ من هذه الأنظمة الحاكمة. وهكذا أضحت جميع هذه الأنظمة أكثر شبهًا بأنظمة أجنبيّة هي الأخرى، وصارت غالبيّة المجتمعات مهمّشة ومُهشّمة.

لهذا السّبب، ليس من الغريب أن تنهار جيوش هذه الأنظمة بسرعة في المعارك. إنّها تنهار بسرعة لأنّها جيوش لا تنبني على الانتماء للوطن والأرض، بل هي تنبني على الانتماء للنّظام القبلي الطائفي. لذلك، فعندما تشتمّ هذه الجيوش رائحة سقوط النّظام، فهي سرعان ما تنهار فيخلع كلّ فرد فيها بزّته ويذهب فارًّا نحو قبيلته، طائفته وربعه. هذا ما جرى في العراق، وهذا هو مصير جيوش كلّ هذا النّوع من الأنظمة القبليّة الطائفيّة.

وخلاصة القول، لا يمكن أن تكون عربيًّا وطائفيًّا في الآن ذاته. ليس بمعنى عدم الانتماء، فالأفراد ينتمون بالطبع إلى قبيلة أو طائفة، لكنّ المقصود هو أن تبقى هذه الانتماءات خارج المؤسّسة المدنيّة الجامعة التي هي الدّولة. كما لا يمكن أن تكون عربيًّا ومسلمًا في الآن ذاته، وعلى وجه الخصوص في البلدان المتعدّدة الطوائف والديانات، لأنّ "العربيّة" كهويّة ثقافيّة سابقة للإسلام وغيره من الديانات وجامعة حضاريّة لهذه المجتمعات على اختلاف مللها وأهوائها. من هنا، لا يمكن أن تنبني دول عصريّة ومدنيّة إلاّ خارج هذه الانتماءات التي تُفرّق أكثر ممّا تجمع. كما لا يمكن أن تنبني دولة مدنيّة وعصريّة إلاّ بفصل الدّين وكلّ هذه الانتماءات عن الدولة التي يجب أن تكون دولة مدنيّة، ليس إلاّ.

ما لم يتمّ ذلك، فلن تقوم قائمة لهذه المجتمعات، بل ستبقى هائمة على وجهها، في هذا الفضاء المتصحّر اجتماعيًّا، سياسيًّا وثقافيًّا، تنتقل مع كلّ هذه التّناقضات من حال إلى حال ككثبان الرّمال.

والعقل ولي التوفيق.

البيان الختامي لمؤتمر القمّة العربيّة



سـلمان مصـالحة


بيـان ختـامي

قبل عامين، وقبيل انعقاد مؤتمر القمّة العربي، كنت نشرت في موقع "إيلاف" ما يشبه السبق الصحفي، أي نشرت نصّ البيان الختامي لمؤتمر القمّة العربيّة قبل انعقاده. ونظرًا لاقتراب انعقاد مؤتمر قمّة عربي آخر وهذه المرّة في ليبيا، أي في الإقطاعيّة القذّافيّة الموسومة بـ"الجماهيريّة اللّيبيّة العربيّة الاشتراكيّة العظمى"، فقد ارتأيت أن أعيد نشر المقالة هنا الآن. وما على القارئ إلاّ أن يستبدل اسم المدينة والدولة في هذه المقالة، ويضع بدلهما اسم ليبيا واسم المدينة، ليكون هذا البيان الختامي ملائمًا أيضًا لهذه القمّة الجديدة.


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!