راشومون متوسّطي

سـلمان مصـالحة | 

راشومون متوسّطي

 
لعلّ خير ما أبتدئ به هذا الدعاء: "إلهي! / أعوذُ بك الآن من شَرّ أهلي / يبيعون خَمْرًا رديئًا / ويُؤذونَ ليلَ السَّكَارى البريءْ"، وهي كلمات دعاء من قصيدة للشاعر التونسي محمّد الصغير، وهو الشاعر الذي شاء أن يأخذ اسم قبيلته "أولاد أحمد" بدلاً من اسم محمد الصغير. وهكذا أضحى، بين ليلة وضحاها، مفردًا بصيغة الجمع كما لو كان اسمًا لشركة مقاولات أو لافتة مرفوعة على متجر عائليّ. 

لقد كان أولاد أحمد قد قرأ هذه القصيدة جالسًا على يسار سميرة نقروش، وهي الجزائرية التي أدارت الجلسة الصباحيّة هذه من صباحات مهرجان أصوات البحر المتوسّط، والذي التأم للمرّة الثالثة عشرة في بلدة لوديف، جنوب فرنسا، في النصف الثاني من شهر تموز المنصرم. 

لقد عدت، بعد مرور أحد عشر عامًا، إلى بلدة لوديف في الجنوب الفرنسي. لقد كنت سمعت قبل مجيئي عن حيثيّات خلافات نشبت حول المهرجان بين الإدارة في السنوات السابقة وبين البلديّة لا أعرف تفاصيلها ومدى صحّة ما أشيع عنها، ولذلك لن أدخل في هذه المعمعات، إذ لا علاقة لها بموضوع هذه المقالة. وهكذا، فإنّ التعوّذ من شرّ الأهل، على ما يبدو، ينفع لكلّ زمان ومكان وبكلّ اللّغات. 

*** 

وعلى كلّ حال، فرغم المدّة الزمنية القصيرة التي أتيحت للطاقم الإداري الجديد للمهرجان مدعومًا من بلديّة لوديف للنهوض بالمهرجان، فقد بدا واضحًا التّنظيم الجيّد للقراءات حيث توزّع الشعراء على القراءات دوريًّا على مواقع مختلفة في البلدة، بدءًا من القاعات وردهات البيوت والساحات العامّة وانتهاء بالقراءات على إيقاع خرير النّهر (الوادي) الذي يقطع هذه البلدة الوادعة. وكلّ الفضل يعود لهذا الطاقم الجديد المدعوم من البلديّة، حيث ظهر التّفاني في العمل بغية مواصلة مشوار المهرجان وإنجاحه. 

كانت النهارات مكرّسة للقراءات الشعريّة، بينما احتلّت أماسي المهرجان عروضٌ موسيقيّة في مدرجات أُعدّت خصّصيًا لهذا الغرض. وقد تشكّلت في الليالي أيضًا حلقات موسيقيّة مرتجلة في الهواء الطّلق في ساحة الكاتدرائيّة حيث كان يجتمع الجمهور للاستماع، للشّراب وللدردشة، أو للتمايل على وقع الأنغام والرّقص، كلّ على ليله وليلاه، حتّى ساعات متأخّرة. 

لقد كان واضحًا خلال أيّام المهرجان أنّ المنظّمين قد أُفردوا بين القراءات العديدة للشعراء فسحات زمنيّة حرّة للشعراء القادمين من بلدان مختلفة للتمتّع بأجواء البلدة، للقاءات فرديّة هنا وهناك، على فنجان قهوة، كأس نبيذ محلّي لذيذ أو ما سوى ذلك. وهذه اللقاءات الشخصيّة مهمّة وهي أحيانًا تُنافس النصوص الشعريّة التي تُقرأ على انفراد. وذلك لأنّ اللّقاءات تكشف في الكثير من الأحيان ما بطن من أمور خلف تلك النّصوص والسطور. كما أنّها أحيانًا تُلقي ضوءًا على ما استتر خلف الابتسامات المتبادلة بين البعض من توتّرات مردّها إلى الشّلل والملل والنّحل الثقافية والاجتماعية والسياسية. وفي نهاية المطاف أحمد ربّي على كوني أعيش بعيدًا عن كلّ ذلك. 

*** 

هل هو حقًّا مهرجان متوسّط؟ إنّ الاسم الذي أُطلق على المهرجان، "أصوات المتوسّط" هو على ما يبدو اسم مطّاط، إذ لا يقتصر القادمون إلى لوديف على البلاد الحادّة بهذا البحر. فلو نظرنا إلى أسماء البلاد التي يأتي منها الشّعراء إلى هذه البلدة، نجد على سبيل المثال أسماء مثل كوسوفو، مقدونيا، ألمانيا، البرتغال، العراق، وفي سنوات سابقة وجدنا البحرين، السعودية وما إلى ذلك. وعلى ما نعلم فكلّ هذه البلدان لا تحدّ بهذا البحر المتوسّط. فهل هنالك مقولة أخرى وراء هذه الحقيقة، مثلاً كأن يكون هذا المنتدى الشعري نوعًا من تثاقُف الشمال بالجنوب والغرب بالشّرق، أو شيئًا من هذا القبيل؟ أصارحكم القول: لا أملك إجابة وافية على هذا التّساؤل. قد تكون الإجابة نعم وقد تكون لا. 

وعلى كلّ حال، إذا كان ثمّة قصد تثاقفي من وراء هذا المهرجان، فإنّ من يقرأ عن مجرياته كما يُنشر باللغة العربية مقارنة بما يُنشر بلغات أخرى، فقد يأخذ المرء انطباعًا كما لو أنّه إزاء مهرجانات مختلفة تجري في عوالم مختلفة لا تمتّ إلى بعضها البعض بصلة. فقارئ الأخبار بالعربية يأخذ انطباعًا خاطئًا، كما لو أنّ المهرجان عربيّ بامتياز، لا وجود لأصوات ولغات أخرى فيه. 

في أحد الصباحات، أذهب قبل الظّهر لإحدى القراءات، فأستمع إلى كاترينا إليوپولو، شاعرة يونانية شابّة، تقرأ عن "امرأتها" المفترضة : "امرأتي ليستْ شَجَرَة / إنّها حجرٌ / عندما أقضمُها تَتكسّرُ أسناني./ …. / أستطيعُ فقط أنْ أُغيّرَ فَضاءَها / وهكذا أرْميها بَعيدًا / وبعدئذٍ أعْدُو مثلَ كلبٍ يَبْتَلعُ المسافات / لأُعِيدَها إليّ"، من كلمات قصيدتها "قصيدة حبّ". ثمّ أستمع إلى عزف محموت دمير الكردي التركي على السّاز. أتساءل، هل يجب أن يكتب اسمه بالعربيّة محمود ضمير، أم أبقي عليه كما هو في التركية؟ مهما يكن من أمر، فهو عازف بارع على آلة السّاز وهو مغنّ بارع أيضًا في التركية والكرديّة وقد ألهب الجمهور في ليالي ساحة الكاتدرائيّة. 

ثمّ استمع إلى قراءة كويتيم پاشاكو، شاعر غجري من كوسوفو، وأنصت للترجمة إلى اللّغة الفرنسيّة التي لا أتقنها فأستعين بصديقتي لفهم جوّها العامّ. وقبل أن ينهي قراءته، يقف ويخطو باتّجاه البيانو في طرف المنصّة ليعزف على مسامعنا لحنًا غجريًّا حزينًا مغنّيًا شيئًا بلغة لم أفهمها بالطّبع. ولا بأس في ذلك، فكثيرًا ما نستمتع بالميلوديات دون أن نفهم نصوصها، فالموسيقى عابرة لحدود اللّغة منذ أن تبلبلت الألسن في بابل. لاحقًا يتبيّن لي من حديث عابر معه إنّه بالإضافة إلى الشّعر فهو مهموم جدًّا بأحوال كوسوفو، وعلى وجه الخصوص ينصبّ اهتمامه حول حقوق الأقليّة الغجريّة في هذه الدولة الوليدة الجديدة بعد أن انفرطت سبحة يوغوسلافيا والبلقان بأسره. فماذا أقول للشاعر الغجريّ الآن؟ هل أردّد على مسامعه قول امرئ القيس من البحر الطويل : "أَجارتَنا إنّا غَريبان ها هُنا - وَكُلّ غَريبٍ للغَريب نَسيبُ"؟ غير أنّي أعدل عن ذلك. فما له، لنا، ولامرئ القيس الآن في هذه الساعة غير الجاهليّة في الجهة الأخرى من هذا البحر المتوسّط. 

وهكذا، بين قراءة وأخرى تختلط كلّ الأصوات واللّغات في الأذن خلال الأسبوع، من الكرواتية، البرتغالية، الإيطالية، الإسپانية، اليونانية، العبريّة وغيرها من لغات المتوسط وغير المتوسط، مع اللغة العربية القادمة من أقطار عديدة. وكلّ هذه تمتزج مع اللغة الفرنسيّة شعرًا في الأصل وعبر الترجمة من اللّغات الأخرى. لكنّ شيئًا ما يحزّ في النّفس وهو ما سمعته من غير واحد من الفرنسيّين الّذين أثق بهم بخصوص الترجمات من العربيّة حيث ذكروا أنّ أسوأ الترجمات للفرنسيّة هي تلك الّتي جاءت من اللّغة العربيّة. أتساءل بيني وبين نفسي، هل هذه الحال هي قدر ملازم للعربيّ أنّى حلّ وأنّى ارتحل؟ 

*** 

شيء عن الموسيقى: في أحد جوانب الكاتدرائية المطلّ على حديقة عامّة بُني مدرج خاص ومنصّة للعروض الموسيقيّة. أذهب لعرض الفلامنكو والأندلسيّات برفقة سميرة. فجأة أسمع أنّ بعض الغناء الأندلسي، يرتفع في الأجواء باللغة العبريّة إضافة إلى بعضه بالعربيّة. أقول لسميرة ذلك فتتفاجأ، فأترجم لها بعض الغناء الذي كان أشبه بمناجاة دينيّة صوفيّة. ثمّ نلاحظ أنّ المغنّي كبير السنّ يضع على رأسه الكيپاه، وهي قبّعة صغيرة توضع على الرأس علامة على كونه يهوديًّا متديّنًا. وبين هذا وذاك، بين الإيقاعات المغربيّة وبين الغناء الإسپاني، تأخذنا راقصة الفلامنكو إلى عوالم ساحرة أخرى. ضربات نعليها تتصادى في ليل لوديف، بينما يتحرّك جسدها بإيقاعات متسارعة مشرعة يديها ناعفة بهما هواء هذه الليلة سفلاً وعلوًا، يمينًا ويسارًا، كما لو كانت مصارعة ثيران في حلبة تأخذ بالاتّساع تدريجيًّا في عيون الجمهور المشدوهة، ثمّ في أياديهم المصفّقة لها. وهكذا تتعالى في هذه الليلة الإيقاعات ممزوجة بحركات الجسد وبالكلمات العربية الإسپانية والعبريّة. 

ألتفت ورائي فأرى في الساحة العازف المغنّي محمود ضمير بين الواقفين الذين لم يجدوا مقعدًا في هذه الليلة. أتقدّم نحوه وأتحدّث إليه، فيُسرّ لي وهو العارف بأمور الموسيقى أنّ الموسيقى والألحان المغاربيّة فقيرة للغاية ولا تتّسم بأيّ عمق من الناحية الفنيّة ولا من ناحية التقنيّات. ولأنّي لستُ أفهم بالموسيقى بل أستمع إلى ما يروق لأذني فحسب، أحاول أن أسأل بعد عودتي إلى الوطن صديقًا فلسطينيًّا موسيقيًّا فاهمًا بهذه القضايا : هل صحيح ما أسرّه لي محمود ضمير بهذا الشأن؟ فيؤكّد الصّديق على هذا القول. 

لكن، هذا لا يعني أن موسيقى المشرق العربي بأحسن حالاً من شقيقاتها، فقد تركت أحد العروض بعد عشر دقائق فقط، فقد كان كونسرت الثلاثي الفلسطيني الّذي جرى في المدرّج الصغير باهتًا ومملاًّ جدًّا. وعندما سألت بعد عودتي صديقي الموسيقي الفسطيني عن رأيه في ذلك الثلاثي القادم من الشّرق قال لي متبسمًا إنّهم مثل شعر "فلان الفلاني"، وذكر لي اسم أحد مهابيل ما يُسمّى بالشعر الفلسطيني المحلّي، ففهمت قصده، فضحك وضحكت. 

خلافًا لذلك جاء في ليلة لاحقة كونسرت ثلاثي الجاز روزنبرغ في المدرج الأكبر، حيث التهب الجمهور بأسره من الحرفيّة الفنيّة والإتقان المحكم للعازفين، حيث أعاد الجمهور بالتصفيق الحادّ والصّفير هؤلاء العازفين أكثر من مرّة إلى المنصّة. حتّى أنّ الصديقة التي صرّحت قبل الأمسية إنّها قد لا تأتي للعرض لأنّها لا تحبّ الجاز فقد رأيت الفرح يتصبّب من عينيها ويديها في هذه الأمسية بعد أن حضرتها. 

*** 

وأخيرًا: دلالة جديدة لمصطلح الـ"ممانعة"؟ لقد توصلّت خلال أيّام المهرجان إلى قناعة أخرى. هنالك دلالة جديدة لمصطلح الـ"ممانعة". الآن فهمت أنّ مصطلح "الممانعة" يعني شيئًا آخر غير تلك الدلالات التي شاعت في الإعلام العربي. فلقد نما إلى أسماعي أنّ الشاعر السّوري عارف حمزة الذي كان مدعوًّا للمهرجان لم يستطع الحضور، مع أنّه حاول جاهدًا أن يأتي للمشاركة في المهرجان. وعلى ما فهمت من أقوال البعض فإنّه بعد أن توجّه لاستصدار جواز سفر بغية السّفر للمشاركة في المهرجان تبيّن له أنّ ثمّة أمرًا يحظر عليه الخروج من بلده. لم يكن الشاعر السّوري يعلم بهذا الأمر من قبل، كما لم يشرح له أحد سبب هذا المنع. هذه هي إذن، على ما يبدو، الدلالة الحقيقيّة لمصطلح "الممانعة" في عرف أنظمة من هذا النّوع. أي الـ"ممانعة" هي منع كاتب أو شاعر من مغادرة بلده للمشاركة في مهرجان دوليّ. "لا باس"، كما يلهج أخوتنا المغاربة، أو : "هيك الـممانعة وإلاّ بلاش"، كما نقول نحن في لهجتنا. 

إذن، والحال هذه، فلنتعوّذ في النهاية مرّة أخرى بكلمات التّونسي المفرد، أولاد أحمد: "صدَقتَ، إلهي. / إنّ الملوكَ – كما الرُّؤساءُ – / إذا دخلوا قريةً أفسَدُوها / فخرِّبْ قُصورَ الملوكِ / ليَصلُحَ أمرُ القُرَى".
***
نشر في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

إنْ قالت النّار خُذني إلى البحر


سـلمان مصـالحة
 

إنْ قالت النّار خُذني إلى البحر

هَلِ الشِّعْرُ إنْسٌ غَرِيبٌ أَتَى راجِلاً
مِنْ مَكانٍ بَعِيد، وَسُرْعَانَ مَا
يَعْتَرِيهِ أُوَارُ النَّدَمْ؟
أَمِ الشِّعْرُ حِسٌّ خَفِـيتٌ تَوَارَى مَعَ
النّارِ حِينَ قَضَتْ نَحْبَهَا، إذْ مَضَتْ
فِـي اخْتِبارِ حُدُودِ الأَلَمْ؟

***

وَمَنْ يَحْمِلُ الصَّوْتَ لَيْلاً، بُعَيْدَ
اخْتِفاءِ الحَنِينِ الَّذِي أَشْبَعَ الذّكْرَياتِ
كَلامًا كَـثِيفًا نَمَا مِنْ عَدَمْ؟
وَمَنْ يَحْمِلُ النَّفْسَ، حِينَ تُفِـيقُ مِنَ
المَوْتِ، حِينَ سَتُبْحِرُ خَلْفَ عُيُونٍ
تَسَمَّرَ فِـيها السَّنَا حِقْبَةً، لَمْ تَنَمْ؟

***

وَإنْ قَالَتِ النّارُ للْقَلْبِ، خُذْنِـي
أَصِيلاً إلَى البَحْرِ؟ هَلْ يَسْمَعُ المَوْجُ
صَوْتَ الوَلِيدِ الَّذِي شَاقَهُ المَرْتَعُ؟
وَكَـيْفَ يَكُونُ الحَدِيثُ عَنِ القَلْبِ
بَعْدَ انْقِضاءِ الفُصُولِ؟ وَماذا يَصِيرُ
الرَّمَادُ الخَفِـيفُ إذَا مَسَّهُ المَاءُ؟
هَلْ يَنْفَعُ الشُّعَرَاءَ لِدَمْلِ الجِراحِ الّتِـي
وَرِثُوهَا أَبًا سائِلاً عَنْ أَبٍ؟

***

وَحِينَ يَغِيبُ الزَّمانُ عَنِ اللَّحْظَةِ،
وَتَعْلُو مِنَ الهَاوِياتِ الخُطُوبُ الَّتِـي
تَأخُذُ النَّفْسَ فِـي رِحْلَةِ اللاَّرُجُوعِ
إلَى حُلُمٍ سَابِقٍ، مَنْ يُعِيدُ الضِّيَاءَ
إلَى مُقْلَةٍ مَكَـثَتْ فِـي الغُرُوبِ؟
وَمَنْ فِـي الظَّلامِ سَيَرْسِمُ لَيْلاً
لَهُ ما لَهُ مِنْ صَفَا اللَّيْلَةِ؟

***

وَحِينَ يَصِيرُ المَكانُ كَـثِيبًا مِنَ
الحُزْنِ تَحْمِلُهُ الرِّيحُ أَنَّى تَرُوحُ.
وَحِينَ سَتُفْتَحُ، بَعْدَ سُبَاتِ
الخَرِيفِ، عَلَى مِصْرَعَيْهَا
القُرُوحُ. وَحِينَ، عَلَى شَفَةِ
القَفْرِ، يَنْمُو الضَّبابُ الجَدِيبُ.
وَحِينَ سَتُمْحَى الدُّرُوبُ
وَتَفْنَى عَلَى هذِهِ الأَرْضِ،

يَبْقَى الكَلامُ الجَرِيحُ
بُيوتًا مِنَ الشِّعْرِ، نَارًا تَوَقَّدُ
فِـي مَفْرَقِ الرُّوحِ.
يَأوِي إلَيْهَا، إذَا ما
أضاعَ الطَّرِيقَ، الغَرِيبُ.

***

كاترينا إليوپولو: قصيدة حبّ

كاترينا إليوپولو

قصيدة حبّ


حلمتُ عن امرأة
امرأتي ليستْ أربعاء الرّماد
كما ليستْ هي الجمعة الحزينة
وليستْ أحدَ الصُّعُود
امرأتي هي دَوْمًا الخميس.

وبكلمات أُخرى، ما لا يقبله العقل.

عُنقها حلبةُ سباقٍ
مَثْلومةٌ من وقْعِ الحذوات
ميدانٌ مُرْتَعدٌ

تُمسكٌ ساعةً صغيرة
بينَ أسْنانها
وعندما نُقبِّلُ بعضَنا أخْشَى من
أنْ أبْتَلعَها

عندئذٍ ستعرفُ دائمًا إيقاعي

امرأتي ليستْ شَجَرَة
إنّها حجرٌ
عندما أقضمُها تَتكسّرُ أسناني.
إنّها أيضًا تُعاني، إذ ليسَ بوسعي
أنْ أُغيّر شكْلَها.

أستطيعُ فقط أنْ أُغيّرَ فَضاءَها
وهكذا أرْميها بَعيدًا
وبعدئذٍ أعْدُو مثلَ كلبٍ يَبْتَلعُ المسافات
لأُعِيدَها إليّ.


ترجمة: سلمان مصالحة

Katerina Iliopoulou, "Love Poem", translated into Arabic by Salman Masalha

****


Katerina Iliopoulou

Love Poem


I dreamt of a woman
My woman is not Ash Wednesday
Nor is she Good Friday
Nor the Sunday of Doubting Thomas
My woman is always Thursday.

That is to say inconceivable.

Her neck is a racetrack
Furrowed by hooves
A vibrating field.

She holds a small watch
Between her teeth
And when we kiss I worry
I might swallow it

Then she will always know my rhythm.

My woman is not a tree
She is a stone
When I crunch her my teeth shatter.
She suffers too because it’s impossible for me
To change her shape

I can only change her space
So I throw her away
And then I run like a dog sucking in the distance
To get her back.


From the book of poems “Mister T.”, Melani 2007, translated by Konstantine Matsukas


***

آچي مشعول: تهليلة


آچي مشعول

تهليلة

بعيدًا في السّماء
يَحُومان عَلَى غَيْمَة
أمٌّ حَزينة
وَأَبٌ مُهَرِّج

لكنّي لَسْتُ مِنْ هناك
هذه لَيْسَتْ أنا
أنا، لقَاءَ بَطّة،
اشْتَرَيا مِنْ غَجَريّ

وَرُبَّما فَقَسْتُ منْ قَرْنَبيط
أو سَقَطْتُ من منقرِ
لَقْلَق.

لنْ أَعْرف أبدًا.
أبدًا لنْ أتَحَقَّق.


ترجمة: سلمان مصالحة

***
من مجموعة: زيارة بيتية، 2009

لقراءة المزيد من شعر آچي مشعول، انقر هنا.

عرب في مهب الريح

سـلمان مصـالحة

عرب في مهبّ الرّيح

سأبدأ الكلام برواية هذه الطرفة: قبل أعوام، وبينما كان الحديث يدور حول السّياسة والشرق الأوسط، ذكرتُ لصديق من أصل تركي المقولة القومويّة العربيّة الشّائعة على ألسنة الكثيرين من العرب والّتي تقول إنّ العالم العربي في وضع متخلّف لهذه الدرجة بسبب الحكم العثماني الذي استمرّ أزيد من أربعة قرون. وما أن سمع الصديق كلامي حتّى انفجر ضاحكًا. لم أفهم سبب ضحكه، فاستفسرت عمّا وراء هذا الضحك، فقال: في تركيا يقولون شيئًا مشابهًا، إنّهم يقولون هناك إنّ تركيا متخلّفة لأنّها حكمت العرب طوال هذه القرون.

تذكرت هذه النكتة الآن بينما كنت أتابع ما يجري على الساحة العربية الآن بعيد جريمة القرصنة العسكريّة الإسرائيلية على متن سفينة "مرمرة" التركية. وهكذا، بين ليلة وضحاها، أضحى أردوغان في نظر القومويّين حامي حمى العروبة. وبين ليلة وضحاها تناسى كلّ أدعياء القومويّة العروبيّة كلّ إرثهم الشعاراتي ضدّ العثمانيين الأتراك والذي رضعوه وأرضعوه ليل نهار لسامعيهم وقرّائهم وطفقوا يهلّلون لمسيحهم الجديد السلطان العثماني القادم من أسطنبول.

إنّ وضع كلّ أصحاب الشعارات هؤلاء من أدعياء العروبة لهو أشبه بمتسوّلي قشّة في عرض بحر متلاطم الأمواج. لا شكّ أنّهم سيرفعون أصواتهم مهلّلين للسّلاطين العثمانيين الجدد من ميكروفونات "قلب العروبة النابض" في أكبر قاعدة أميركيّة في الشرق الأوسط. إنّه "القلب النّابض" لذات السّلطنة التي كانت الصحافة العالمية قد أشارت قبل أسبوعين فقط إلى أنّ أميرها طلب أكثر من مرّة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل مقابل السماح لقطر بإدخال مواد ومعونات لغزّة، ومقابل أن تقوم إسرائيل بتصريح إعلامي يشيد بدور قطر الإيجابي في المنطقة. وكالعادة، طبعًا لم تنبس ميكروفونات "قلب العروبة النابض" الجديد في استوديوهات امبراطورية قطر الشعبوية العظمى ببنت شفة حول كلّ هذه الأخبار.

هل نسي كلّ هؤلاء القوميين الجدد أنّهم طالما أشبعونا شعارات حول "لواء إسكندرون السّليب". فأين اختفى هذا اللّواء السّليب، وأين اختفت هذه الشّعارات؟ لقد بدأ اختفاء لواء الإسكندرون من الذاكرة السورية بعد حشد الأتراك الجيوش على الحدود السورية، فما كان من الرئيس الأسد الأب إلاّ أن لفلف القضيّة، وأخرج اللّواء "السّليب" من خارطة سورية، "قلب العروبة النابض"، على ما شنّفوا آذاننا به طوال عقود.

إنّ مشكلة كلّ هؤلاء ممّن يصنّفون في خانة "اليسار العربي"، إنْ كان هذا موجودًا أصلاً، ومشكلة كلّ هؤلاء القومويّين الشّعبويّين العرب هي أنّ كلّ هؤلاء جميعًا يعتاشون على ذات الطبخة التي تبدو ظاهرًا جميلة المظهر ولذيذة المذاق غير أنّها دميمة وقبيحة متخفّية خلف مساحيق الشعارات التجميلية التي تُطلى عليها، ومُقزّزة لكثرة ما أكل عليها الدهر وشرب. كلّ هؤلاء كانوا دومًا يتّسمون بالقبح. إنّه ذات القبح الذي شبّوا وشابوا عليه في تعاونهم الدائم مع أسوأ الأنظمة العربية الدكتاتورية المتعسّفة، ملكية كانت أم جمهورية.

فليتفكّر كلّ العرب قليلاً. ماذا جنى العرب من كلّ هذه الاستقلالات والحركات الوطنية بعد جلاء الاستعمار؟ لقد جنى العرب أنظمة ظالمة لشعوبها أسوأ بكثير من أنظمة الاستعمار ذاته. بل وأكثر من ذلك، فقد كان الاستعمار ذاته أرحم بكثير للمواطن العربي من كلّ هذه الأنظمة "الوطنية والقوميّة". وإذا كانت هذه هي الحال، فما الحاجة إذن إلى كلّ هذه الاستقلالات؟

كلّ الأنظمة العربية لا يعنيها شيء سوى الحفاظ على الامتيازات والبقاء القبليّ في السلطة، ولهذا فإنّ سياساتها تتبدّل من الألف إلى الياء إذا اقتضتها ضرورة البقاء. وفوق كلّ ذلك، فقد وجد المواطن العربي نفسه في آخر قائمة التخلّف على المستوى العالمي.

إنّ دعاوى العروبة الكاذبة، وإن كانت تُدغدغ عواطف المراهقين العرب، غير أنّها تبقى في سنّ المراهقة حتّى مع تقدّم أصحابها في السنّ. ما لم يطرح هؤلاء بديلاً حقيقيًّا بعيدًا عن أنظمة العسف العربية على كافّة تنويعاتها فلن تقوم لهم قائمة. كلّ شيء يتغيّر ما عدا شعارات العروبة الكاذبة، فهي تتغيّر من موقع إلى موقع، بانتظار منقذ مخلّص أو مسيح، كريشة في مهبّ الريح.

والعقل ولي التوفيق.
***
نشرت في "إيلاف"

***

أما ما ينفع الناس


سـلمان مصـالحة

أمّا ما ينفع النّاس...


في ذكرى الأديب إميل حبيبي

مُراهقًا كنتُ قبل عقود من الزّمان مرّت علينا في هذه الديار الحزينة. وكذا كانَ أوّلُ عهدي به في ديار الشّباب السّعيدة البعيدة. كان يأتي متسلّلاً خلسة إلى حقيبتي المدرسيّة، ملتفعًا بصفحات جريدة، أو متخفّيًا بين دفّتي كتاب، أو مجلّة محظورة، أو هكذا خُيّل لي ولزملائي آنئذ، في نهاية ستّينيّات القرن المنصرم.

ولأنّني كنتُ مراهقًا في سالف ذلك الأوان، فقد حسدتُه. وأغلبُ ظنّي أنّي، على ما يبدو، لا أزال على هذه الفطنة الصحراويّة الّتي هبطت عليّ، مثلما كانت هبطت عليه وعلى آلِهِ من محلٍّ أرفعَ. كنتُ إذّاك ولا زلتُ أقول في نفسي: يا له من عفريت يتمثّل لنا في صور وأسماء مختلفة! لعلّه لاجئ من أحفاد هام بن الهيم قد حَلّ بين ظهرانينا يُلقي على شفاه الصّبايا، ثمّ النّساء من بعدُ، تميمةً سحريّة يتلفّظن بها دون علمٍ منهنّ بما تفعله هذه بهنّ وبي. فهذه تهمس في أذني: إنّه إميل حبيبي، وتلك تقول على الملأ: إميل حبيبي. وأمّا أنا، مهمومًا ضائعًا بين حانا ومانا وبين هذه وتلك، كنتُ أحاول أن أتلمّس لحيتي الغضّة باحثًا عن طريق إلى إصلاح ذات البين بينهنّ أجمع، فأقولُ، وأنا مِنْهُنّ على مسمع: إميل حبيبي أنا أيضًا، فيضحكن، مِنّي وعَلَيّ، على ما آلت إليه حالي إلى حالِ مَنْ جاءَ ليُكَحّلَها فَعَماها.

مرّت سنواتُ شباب النّفس وولّيتُ وجهي صوب القدس، فشَبَبْتُ هناك أنا على الطّوْق، بينما شابَ هو في الطّوق، حتّى وجد من المُحال حَمْلَ بطّيختين بيد واحدة، فآلى على نفسه أن ينبري إلى الكتابة الّتي تَدُومُ وتُديمُ.

غير أنّ الفكرة قد جاءته مُتأخّرةً بعد سكرةٍ استطالت في الطّوْق، فلم تُمهله الفكرةُ طويلاً، فكانَت خسارتنا نحنُ أَنْ غلبَ شَيْبُهُ شَبابَهُ. ولأنّه كان مهمومًا بقضايا الإنسان إلى حدّ الإدمان، لم يُفلح في الفطام من هذه القضايا، فظلّ حاملاً بطّيختين بيد واحدة، حتّى بعد هجره المناصب السّياسيّة، وذلك من خلال لقاءات وبيانات مشتركة إسرائيليّة فلسطينيّة.

في الحقيقة، قليلون هم أولئك الّذين عشقوا اللّغة العربيّة مثلما عشقها هو وعرف كيف يداعبها مداعبة الولهان بمكنوناتها، المنقّب الأثري في طبقاتها. هنالك خيط يربط بين هذا العشق للّغة، وبين عشق إميل حبيبي للإنسان. فعاشق اللّغة هو بالقوّة عاشق لما يختبئ وراءها، والعاشق الحقيقي للّغة لا يمكن إلاّ أن يكون عاشقًا للإنسان النّاطق. ربّما كان هذا العشق العميق للّغة هو هو الأساس الّذي بُني عليه التّوجُّه الإنساني في كلّ مواقفه، مُتّخذًا من السّخرية سلاحًا مُشْهَرًا في وجه الموت، كلّ موت، مُجرَّدًا من الأطواق العرقيّة والدّينيّة والجنسيّة.

ومرّت الأيّام، ومرّت الأعوام. ثمّ جاءت أخبار أوسلو، وكان إميل حبيبي متحمّسًا، كما كان كثيرون غيره متحمّسين، لها آنئذ. وهكذا، وبعد أنّ سلّى كثيرون النّفس بأوسلو ومشتقّاتها، سرعان ما اختطف منّا الإعلام العربيّ، وحتّى الفلسطيني، مصطلح "فلسطينيّي الدّاخل" وألقاه عباءة على رعايا المناطق الموسومة بالحروف الإفرنجيّة: "إي"، "بي" و"سي".

إذن، والحال هذه التي ألفينا أنفسنا فيها، ماذا تبقّى لنا نحنُ هنا من زمرة الـ"باقين في حيفا"؟ أعرف ماذا كان لسان حاله سيقول: إذا كانت الحال على هذا المنوال، فهذا يعني أنّنا أصبحنا "داخل الدّاخل". وكنتُ أنا سأُضيفُ مستعيرًا من المأثور: فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكثُ في حيفا.

فماذا أحدّثك الآن بعد مرور هذه الأعوام؟
لا أتذكّر الآن من ذا الّذي أطلق تلك المقولة الشهيرة لدى أبناء العمومة، أهو هرتسل أم بن غوريون، أم إنّه واحد آخر من صنف "البناغرة"، كما كنت أسلفتَ في ماضيك الأدبي الحاضر فينا دومًا. عندما سئل ذاك: متى تقوم دولة اليهود؟ أجاب: عندما يتمّ القبض على أوّل لصّ يهوديّ، أو عندما تخرج إلى الشارع أوّل عاهرة يهوديّة فمعنى ذلك أنّ الدّولة اليهوديّة قد قامت وهي تسير على قدم وساق. أو لنقل نحن ربّما على أقدام وسيقان.

وها نحنُ الآن، طاب ثراك، نسيرُ حثيثًا وقد قطعنا أكثر من عقود ستّة، واللّصوصُ من المولّدين هنا كُثرٌ. أمّا العاهراتُ، أراحكَ اللّه من شرّهنّ، فمستورداتٌ ممّا تبقّى من بلاد "المنظومة الاشتراكيّة"، كما اصطلحَ عليها رفاق دربك القدامى الّذين تقادمَ عهدُهم وتفرّقوا أيدي سبأ بعدما انفرطتْ منظومتهم أدراج الرياح فهاموا على وجوههم بعد أن كانَ الّذي كانَ.

وبخلاف أبناء العمومة، فها هم أبناء الأمومة الآن، ولشدّة وكثرة ما أخطؤوا ويخطئون في ترجماتهم عنهم، فقد برّح بهم الجهل ونسوا من أين تؤكل الكتف، فكانَ أنْ قلبوا الآيةَ رأسًا على عقب، فبدؤوا بالعُهْر والفساد ونسوا الدّولة.

أمّا بخصوصنا نحن الّذين بقينا، بُعيد النّكبة، هنا في الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل بفضل بني قومنا الذين ما فتئوا يقيمون مطاياهم ويقعدونها طوال هذه العقود المنصرمة، فلعلّ لسانَ حالك يقول: كيف حالُكم وما جرى بأحوالِكم يا معشرَ المتشائلين؟

ولأنّك كنت شديد الوَلَه تنقيبًا في كتب التّراث، فما بالُك إنْ أنا حدّثتُك هذه اللّيلة ببعضٍ ممّا انتشلتُ منه؟ ولأنّ عهدي بك شديدَ الفطنة سريعَ البديهة، فلن يلتبسَ عليك ما أنا ساردٌ الآن من مسألةٍ مستعصية قد حارَ في أمرها السّلفُ. لقد عُرضت هذه المسألة على شريح القاضي الذي اشتغل بالقضاء لدى الخلفاء الأوّلين، بدءًا من عُمر وانتهاء بمعاوية. وبعد القال والقيل والعنعنة المتسلسلة يروي لنا السّلف في باب حكم الخنثى المُشكل الّذي لم يتبيّن أمره بالعلامات المذكورة:

"عن ميسرة بن شُريح قال، تقدّمتْ إلى شُريح امرأةٌ فقالت: إنّي جئتُك مخاصمةً، فقال: وأينَ خصمُك؟ فقالت: أنتَ خصمي. فأخْلَى لها المجلسَ، فقال لها: تكلّمي.
فقالت: إنّي امرأةٌ لِي إحْليلٌ ولي فَرْجٌ.
فقال: قد كان لأمير المؤمنين عليه السّلام في هذا قضيّة. وَرّثَ من حيثُ جاء البَوْلُ.
قالت: إنّه يجيء منهما جميعًا.
فقال لها: من أين يسبقُ البَوْل؟
قالت: ليس منهما شيءٌ يسبق، يجيئان في وقت واحد وينقطعان في وقت واحد.
فقال لها: إنّكِ لتُخبرين بعجب.
فقالت: أُخبرُك بما هو أعجبُ من هذا: تَزَوَّجَني ابنُ عمٍّ لي، وأخدمني خادمًا، فوطئتُها فأولدتُها، وإنّما جئتُكَ لما وُلِدَ لي لتُفرّقَ بيني وبين زوجي.
فقامَ من مجلس القضاء، فدخلَ على عليّ عليه السّلام، فأخبره بما قالت المرأة، فأمرَ بها فأُدْخلتْ، وسألها عمّا قال القاضي، فقالت: هو الّذي أخْبركَ.
قال، فأحضرَ زوجَها ابنَ عمِّها، فقال له عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام: هذه امرأتُك وابنةُ عمّكَ؟
قال: نعم.
قال: قدْ علمتَ ما كان؟
قال: نعم، قد أخدمتُها خادمًا فَوَطِئَتْها، فَأوْلَدَتْها.
قال: ثمّ وَطِئْتها، بعد ذلك؟
قال: نعم.
قال له عليّ عليه السّلام: لأنْتَ أجرأُ من خاصي الأسد.
ثمّ أشار عليّ إلى قنبر مولاه قائلاً: يا قنبر، أدْخِلْها بيتًا مع امرأة تعدّ أضلاعها.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، لا آمَنُ عليها رجلاً، ولا أئتمن عليها امرأة.
فقال عليّ: عليَّ بدينار الخصيّ. وكان من صالحي أهل الكوفة، وكان يثقُ به، فقال له: يا دينار أدخلها بيتًا، وعَرّها من ثيابها، ومُرْها أن تشدَّ مئزرًا وعُدّ أضلاعها. ففعل دينار ذلك، فكانَ أضلاعُها سبعةَ عشر: تسعة في اليمين وثمانية في اليسار.
فألبسها عليّ عليه السّلام ثياب الرّجال والقلنسوة والنّعلين، وألقى عليه الرّداء، وألحقه بالرّجال.
فقال زوجُها: يا أمير المؤمنين، ابنة عمّي وقد وَلَدتْ منّي، تُلْحقها بالرّجال؟
فقال: إنّي حكمتُ عليها بحكم اللّه. إنّ اللّه تبارك وتعالى خلقَ حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصر، وأضلاعُ الرّجال تنقص وأضلاع النّساء تمامٌ."

***

فها نحنُ، كما ترى، طاب مثواك، قد أضحينا هُنا كحالِ ابنة العمّ تلك، لا يؤتمن علينا، لا من رجل ولا من امرأة. فلا أبناء العمومة يأمنوننا إن نحنُ التقينا بالأشقّاء، ولا أبناء الأمومة يأمنُون إن نحنُ انفردنا بهؤلاء النّاس. إذ أنّ الوسواس الخنّاس، أو قل الخنّاث، لا يني يوسوس، ليس في نفوسنا نحنُ، بل في نفوس هؤلاء أجمعين.

إذن، والحالُ هذه، فلم يبقَ لنا سوى أن ننفجر ضحكًا حتّى تنهمر من عيوننا الدّموع، أو حتّى نستلقي على أقفيتنا، أو قُلْ قوافينا، مفترشين الفلاة ملتحفين السّماء، وما من مُنادٍ وما من حياة أو حياء.
***

ملاحظة: هذا النصّ قُدّم في أمسية لذكرى الأديب الراحل إميل حبيبي.

***
***

مارتين نيمولر - جاؤوا أولا

سـلمان مصـالحة

صرخة ضدّ اللاّمبالاة

هنالك صيغ متعدّدة لنصّ مارتين نيمولر (Martin Niemöller). لقد كتب النصّ، الصرخة، ضدّ النازية بعد إحكام سيطرتها على ألمانيا، وهو من بين النصوص الأشهر التي تُقتَبس ضدّ لامبالاة الأفراد، وضدّ الركون إلى الصمت في حال الظّلم والحكم المتعسّف. إنّه نصّ نافع لكلّ زمان ومكان، وحيثما حلّ ظلم وعسف في هذا العالم.

مارتين نيمولر

جاؤوا أوّلاً


جاؤُوا أوّلاً إلى الشّيُوعيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ شُيوعيًّا.
ثُمّ جاؤُوا إلى الاشتراكيّين،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ اشتراكيًّا.
ثمّ جاؤُوا إلى أعْضاء النّقابات،
وَلَمْ أرفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ نقابيًّا.
ثمّ جاؤُوا إلى اليَهُود،
فَلَمْ أرْفَعْ صَوْتِي،
لأنّي لَمْ أكُنْ يهوديًّا.
بَعْدَئذٍ جاؤُوا إليَّ،
فَلَمْ يَتَبَقَّ أحَدٌ
لِيَرْفَعَ صَوْتَهُ لأجْلِي.

ترجمة: سلمان مصالحة

For English, press here

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!