عن الكتابات الفلسطينيّة بالعبريّة

سـلمان مصـالحة 
عن الكتابات الفلسطينيّة بالعبريّة

قبل مدّة وصلني بريد إلكتروني من الزّميل نائل الطوخي ذاكرًا لي فيه إنّه يُعدّ تقريرًا شاملاً للنشر في “أخبار الأدب” القاهرية. والتقرير يدور حول كتابات بعض الفلسطينيّين من مواطني إسرائيل باللغة العبرية.

لقد سألني نائل في رسالته إن كنت مستعدًّا للإجابة على عدّة أسئلة تتعلّق بالموضوع. وقد أجبته بالإيجاب بالطبع. وبالفعل فقد أرسلت له إجاباتي على أسئلته.

وأخيرًا نُشر التقرير في “أخبار الأدب”، غير أنّي وجدت أنّ الإجابات قد حذف الكثير لكثير منها. ولا بأس في ذلك، فهذا من مسؤولية نائل أوّلاً ومن بعده المحرّر في “أخبار الأدب”.

لكن، ومن جهة أخرى، ولأنّ الموضوع مهمّ فقد رأيت أن أضع الأسئلة التي وصلتني، مرفقة بإجاباتي عليها كاملة، وذلك لتعميم الفائدة.
***
الأسئلة والإجابات كما أرسلتها:

أولا، ما الذي يدفع مبدعا عربيا للكتابة بالعبرية، ما إحساسك إزاء أزمة هويتك هنا؟

هذا السؤال مؤلّف من شقّين، ويفترض في طرحه بهذه الصّورة أنّ هنالك رابطًا بينهما. لا أعتقد أنّ ثمّة خيطًا واضحًا يصل بين شقّي السؤال. على كلّ حال، سأحاول من خلال الإجابة تبيان ما قد يلتبس في ذهن البعض في هذه القضايا.

أبدأ فأقول، إنّ الكتابة باللّغة العربيّة على العموم، من المحيط إلى الخليج ومن السودان إلى الشام، هي كتابة بلغة مُكتَسَبة في المدرسة، وليست لغة أمّ بأيّ حال من الأحوال. وبكلمات أخرى، الكاتب العربي، أينما كان، لا يكتب بلغة أمّه، لأنّ لغة أمّه هي اللّغة المحكيّة: مصريّة، مغربية، تونسية، سورية أو عراقية إلى آخر هذه القائمة، وهذه اللّهجات على تنويعاتها هي هي لغة / لغات الأمّ. أمّا هذه اللّغة التي أكتبها في هذه الإجابات فهي ليست لغة أمّ. إنّ هذه الازدواجية اللّغوية المزمنة، مضافة إلى تفشّي الأميّة، هي برأيي من بين المعوقات المركزية التي تقف حجر عثرة في طريق المجتمعات العربية بصورة عامّة. يجب أن تبقى هذه الحقيقة في البال لدى التطرّق إلى مثل هذه المسائل.

لهذا السبب أيضًا، فإنّ كلّ لغة أخرى يكتسبها الفرد، غير العربية المعيارية، وبمدى عمق هذا الاكتساب للغة، تصبح هذه اللغة الجديدة في نهاية المطاف شبيهة باللغة العربية المكتَسَبَة هي الأخرى في المدرسة.

اللغة، أيًّا كانت هذه اللّغة، هي أداة الكاتب في كلّ زمان ومكان. وفيما يخصّ الكتابة بلغة أخرى غير العربيّة، كالعبريّة مثلاً، يجدر التّفريق بين حالتين. فهنالك أشخاص لا يجيدون الكتابة بالعربيّة لأسباب كثيرة ليس هنا المجال لتفصيلها الآن، بينما هم يجيدون الكتابة بالعبريّة فقط. فهل ستطلب من هؤلاء أن يكفّوا عن الكتابة لأنّها ليست لغة أمّهم؟

أمّا فيما يتعلّق بي شخصيِّا، فأنا أشبّه اللّغة بالآلة الموسيقيّة لدى الفنّان الموسيقي. لا أعتقد أنّك كنت ستطلب من موسيقي أن يعزف على آلة واحدة فحسب إذا كان يجيد العزف على أكثر من واحدة. كما تعلم فأنا أعشق اللغة العربيّة، لغتي، ولم ولن أتنازل عنها بأيّ حال من الأحوال. وكما تعلم أيضًا فأنا أواصل الكتابة بهذه اللّغة، لغتي القومية، فلا خوف عليها من جهتي. ولكن وفي الوقت ذاته، لمّا كانت اللّغة العبريّة هي آلة موسيقيّة أخرى أجيد العزف عليها فإنّي أحاول العزف عليها أيضًا. ستسقط الحساسية عن هذا السؤال عندما نفرّق بين اللّغة كأداة تعبير وبين الأيديولوجيّات والسياسة. يجب ألاّ ننسى أنّ اللّغة العبريّة هي جزء هام من النّسيج اللّغوي السّاميّ، بل وأستطيع أن أؤكّد لك أنّك كعربيّ ومسلم لا تستطيع أن تفهم التراث الإسلامي على حقيقته دون معرفة اللّغة العبريّة، وقد أشرت إلى بعض هذه الجوانب في بعض الأبحاث التي نشرتها باللغة العربيّة.

أمّا بخصوص الشقّ الثاني من السؤال، فأنت تفترض وجود أزمة هويّة. إنّ سؤال الهويّة، على كلّ حال، هو سؤال كبير يحتاج إلى بحوث معمّقة. إنّه سؤال مطروح على مستوى العالم بأسره. الهويّة على العموم ليست أمرًا جامدًا وثابتًا، بل هي تتحرّك وتتشكّل في ظروف متغيّرة وتحت مؤثّرات متنوّعة من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلخ. فلو نظرنا إلى هذا العالم العربي من حولنا فإنّنا نرى بوضوح كلّ هذا التّخبّط الكبير في مسألة الهويّة. إنّه تخبّط لا يقتصر على قطر دون آخر بل هو يشمل كلّ هذه الأقطار بلا استثناء. ثمّ إنّ كلّ هذه الهويّات القطريّة التي تتحدّث عنها، ما هي إلاّ نتاج حدود رسمها الاستعمار في هذه المنطقة من العالم.

خلاصة القول حول هذا السؤال، كلّ من يقصر هويّته على حدود رسمها له الاستعمار الأجنبي فهذا شأنه هو وليشرح لنفسه أوّلاً هذه الهويّة الاستعماريّة التي يرتضيها لنفسه. أمّا أنا فلا يمكن أن أقصر هويّتي على ما يضعه لي الآخر من حدود استعمارية. إنّ هويّتي الثقافية الأولى هي عربيّة أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، وهي شاميّة من ناحية الفضاء الجغرافي. إنّها هويّة عربيّة ثقافيّة تفصل العروبة عن الدّين، كلّ دين. فنحن ننتمي إلى حضارة عربيّة منذ ما قبل الإسلام وما قبل اليهودية وما قبل المسيحية. هذا هو الأصل الذي ننتمي إليه، وليس أيّ شيء آخر. ومن ناحيتي أؤكّد على أنّ هذه الهويّة التي أعنيها هي هويّة لغويّة في الأساس. أقول كلّ ذلك مع التأكيد على أنّ هذه الهويّة منفتحة على العالم وليست متقوقعة ومنغلقة على ذاتها.

ثانيا: من أول أنطون شماس مرورا بك وصولا إلى سيد قشوع وأيمن سكسك، هل ترى أن هناك ملامح محددة للأدب الفلسطيني المكتوب بالعبرية؟

هنالك نوعان من هذا الأدب، ويجب الفصل بينهما. نوع واحد هو عبارة عن رواية فلسطينية بشخصيّاتها وأجوائها وأحداثها، ولكنّها مكتوبة بالعبرية من قبل كاتب فلسطيني. وثمّة نوع آخر من الكتابة وهو كتابة لكتّاب فلسطينيّين بالعبريّة تحمل في طيّاتها كلّ ذلك التوتّر القائم لدى الأجيال "الفلسطينيّة الإسرائيليّة"، إذا ما استخدمنا هذا التعبير لتوصيف حالة الفلسطينيين من مواطني إسرائيل. ولمّا كانت كلّ هذه الأجيال على العموم الآن تقرأ العبرية، فإنّها أضحت تقرأ عن ذاتها بلغة أخرى غير لغة أمّها.
من جهة أخرى، هذه الكتابات الأدبيّة، الشعرية والروائية، على القارئ العبري، الإسرائيلي اليهودي، مرآة پانوراميّة عاكسة لمساحات أوسع في الساحات الخلفيّة للفضاء الإسرائيلي. وهي مساحات ما كان ليراها هذا القارئ لولا هذا النّؤع من الكتابات.

وفي جميع الأحوال، إنّ في هذا النوع من الكتابة الأدبيّة ما يمكن أن أُطلق عليه "إصابة عصفورين بحجر واحد". فمن جهة، إنّ هذه الكتابة توسّع فضاء "الفلسطيني الإسرائيلي" من خلال تخطّي الكثير من الرقابات الاجتماعية، الدينية والثقافية التي تتّسم بها الكتابة العربية. ومن الجهة الأخرى فإنّها تفرض نفسها على القارئ العبري، شاء ذلك أم أبى. إنّها تفرض عليه الخروج من بوتقته المُغلقة وتقوم من خلال ذلك بعمليّة هدم لجزء من من الحدود الإثنية اليهوديّة للأدب العبري.

ثالثا: ماذا تفعل إزاء الاتهامات من الجانبين، الجانب العربي الذي يرى في كتابتكم بالعبرية تخليا عن الهوية الفلسطينية، والجانب الإسرائيلي الذي يقلقه وجود صوت فلسطيني يعبر عن أزمته ويتعامل معه مباشرة بلغته مما لا يوفر له فرصة لتجاهله؟

لا أعتقد أنّ هنالك من يتّهم مغاربة، جزائريين، توانسة أو لبنانيين لمجرّد أنّهم يكتبون باللغة الفرنسية على سبيل المثال. لذلك فإذا كان ثمّة من يُطلق هذا النوع من الاتهامات فيبدو أنّ اتهاماته نابعة من مكان آخر لا علاقة له بالموضوع. أمّا من جهتي، فقد ذكرت أنّي أعزف على آلتي اللّغوية العربية، وعلى آلتي العبرية المكتسبة هي الأخرى، ولو امتلكت آلة، لغة أخرى وكنت واثقًا من امتلاكي لها بعمق، لعزفت عليها أيضًا.

على كلّ حال أعتقد أنّ هنالك، فيما ذكرت من قبل، إجابات على كلّ هذه التساؤلات.

***
لقراءة التقرير كما نشر في “أخبار الأدب”، انقر هنا.
__________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!