نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة




سـلمان مصـالحة


نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة


أنظمة العروبة المستبدّة،
على اختلاف تشكيلاتها الطائفيّة والقبليّة، تسارع إلى وسم كلّ من لم يعد يطيق وجودها رابخة رابضة مرخية على صدور البشر كلاكلها، بصنوف التعابير المشتقّة من ذهنيّة التآمر. إنّها تصف كلّ من يرفع صوته ضدّ الاستبداد ناشدًا الحريّة بالـ“مُندسّ“ والـ“متآمر“، وما إلى ذلك من مفردات هذا القاموس الجديد القديم الّذي أتت عليه الأرضة.

وعلى كلّ حال فالـ“مؤامرة“ في العربيّة ليست بهذه المعاني الرديئة التي أضفاها عليها المتآمرون الحقيقيّون في هذا الزّمان العروبي البليد. فلقد ورد في لغة العرب: ”آمَرْتُه في أَمْري مُؤامَرَةً إِذا شاورتُه... وكلُّ من فَزَعْتَ إِلى مشاورته ومُؤَامَرَته، فهو أَمِيرُكَ. ومنه حديث عمر: الرجال ثلاثةٌ - رجلٌ إِذا نزل به أَمْرٌ ائْتَمَرَ رَأْيَه أَي شاور نفسه وارْتأَى فيه قبل مُواقَعَة الأَمر. وقيل: المُؤْتَمِرُ الذي يَهُمُّ بأَمْرٍ يَفْعَلُه... ويقال لكل من فعل فعلاً من غير مشاورة: ائْتَمَرَ، كَأَنَّ نَفْسَه أَمرته بشيءِ فأْتَمَرَ، أَي أَطاعها. ومن المُؤَامَرَةِ المشاورةُ. في الحديث: آمِرُوا النساءَ في أَنْفُسِهِنَّ أَي شاوروهنّ في تزويجهنّ“، (عن لسان العرب، مادّة ”أمر“).

نعم، الانتفاضات التي أطاحت
بالطغاة، وتلك التي ستطيح بمن تبقّى منهم، هي مؤامرة. لا يجب الاستحياء من قول الحقيقة، إذ أنّها مؤامرة حميدة على كلّ حال. لقد ارتأى النّاس في هذه المؤامرة أن لا صمت بعد اليوم على جرائم كلّ هؤلاء الحكّام المتآمرين الحقيقيّين على حياة بني البشر. وأعني بهؤلاء كلّ صنف الحكّام الذي طغوا واستبدّوا. فها هم النّاس على اختلاف أطيافهم، وبعد عقود من الظّلم، لم يعد من خروج النّاس على استبداد هؤلاء بُدُّ.

ولماذا أقول هذا الكلام الآن؟
منذ أيّام لا يفارقني مشهد واحد من مشاهد الانتفاضة السّوريّة ضدّ طواغيت البعث القبليّ المتوحّش. ولكن، فحتّى استخدام نعت ”المتوحّش“ هذا ليس بوسعه أن يفي المشهد المذكور حقّه من القرف والاشمئزاز. إنّ هذا الشّريط هو المثال الأوضح لما يمكن أن يطلق عليه ”جريمة ضدّ الإنسانية“، وهو مصطلح يُلزم بتدخّل من مجلس الأمن الدّولي ويلزم باستخدام القوّة، نعم استخدام القوّة، ضدّ مرتكبي هذا النوع من الجرائم.

والشريط الذي لا يزال موجودًا
في شبكة الإنترنت هو شريط تظهر فيه دبابة سورية يقودها ”جنود“ من صنف أولئك الذين طالما أطلقوا عليهم نعت ”البواسل“ في الإعلام العربي البليد وخاصة من صنف إعلام البعث الفاشي. نعم، هؤلاء الـ“بواسل“ يدهسون بدبّابتهم مواطنًا سوريًّا. ليس هذا فحسب، بل وبعد أن دهست الدبّابة المواطن على الشارع، يقوم جنود آخرون من صنف هؤلاء الـ ”بواسل“ الموجودين في الساحة بسحب الجثّة لوضعها تحت الجنازير لتمرّ عليها الدبّابة مرّة أخرى ولتمزّقها ولتتناثر الأشلاء وتعلق بجنازير دبّابة الـ“بواسل“.

منذ أيّام لا يفارقني هذا المشهد الهمجيّ. ولن أتحدّث الآن عن العالم وعن مجلس الأمن، بل سأتحدّث عمّن ينتمون إلى هذه الـ“أمّة“ التي تسمّى نفسها عربًا. لا أدري كيف ينام من ينتمي إلى هذا الجنس العربي قرير العين إزاء هذه المشاهد المقزّزة؟ بل، كيف يمكن أصلاً أن ينام بشريّ في هذا العالم المفتوح على مصاريعه، أيًّا كان انتماؤه، قرير العين وهو يشاهد على شاشة حاسوبه هذا المنظر القادم من سورية؟

إنّ هذا المشهد الهمجيّ
يختزل في الحقيقة طبيعة هذا النّظام البعثي القبليّ الفاشي. هذه هي حقيقة هذا النّظام منذ أن ظهر على الساحة. كذا كانت حال هذا البعث في العراق وكذا هي الحال في سورية الآن. لقد وجدت نفسي في الأيّام الماضية أتفكّر وأتساءل بشأن هؤلاء ”الجنود البواسل“ الذين يرتكبون هذه الجريمة البشعة. هنالك أمر لا يمكن التهرّب منه. يجب القول على الملأ: إنّ هذا الصنف من الجنود لا يمكن أن يتّصفوا بصفة الجنديّة، لا هم ولا قياداتهم أو آمريهم من زبانية النظام. إنّ هذا الصنف من الجنود وقياداتهم وآمريهم لا يمكن أن يتّصفوا أصلاً بالآدميّة. إنّ هذا الصنف من الجنود ينتصرون فقط على النّاس العُزّل. إنّه صنف لا ينتمي إلى شعب أو إلى بشر. إنّه صنف من الجنود المهزومين في جوهرهم، لأنّهم ليسوا جنودًا وليسوا بشرًا أصلاً، لأنّ صفة البشريّة لا يمكن أن تُدنّس بأمثال هؤلاء.

أتفكّر قليلاً في الأمر، وأتساءل: لا شكّ أنّ لهؤلاء الـ“بواسل“ أهل؛ آباء وأمهات، أشقاء وشقيقات، زوجات وأبناء. فماذا يقولون لأهلهم بعد عودتهم إلى أهلهم، مدنهم وقراهم؟ كيف يتناولون وجباتهم بعد هذه الجرائم؟ كيف ينامون؟ كيف يستيقظون؟ كيف يطرحون التحيّة على جيرانهم؟ كيف يدعونهم إلى فنجان قهوة؟ عمّا يتحدّثون في الجلسات؟ وماذا يخطّطون لأبنائهم وبناتهم؟ هل يذكرون أمام كلّ هؤلاء ماذا فعلوا في ”الجنديّة“؟ هل يحدّثون عن جريمتهم - بطولتهم بنظرهم - أم يبقون ذلك سرًّا؟ وماذا يجيبهم من يسمع أحاديثهم؟ إنّها أسئلة تراودني ولا أجد إجابة عليها.

غير أنّ هنالك شيئًا آخر
لا بدّ من قوله أيضًا وعلى الملأ. إنّ هذه الأمّة الصّامتة أفعالاً والصّائتة أقوالاً هي التي ترعرع في كنفها وعلى تراثها أمثال هؤلاء. إنّ هذا المشهد في الشريط المذكور يختزل أمّة بأسرها، بتراثها وبحضارتها. فكلّ من يغوص قراءة في مصادر تراث وتاريخ هذه الأمّة العربية والإسلامية يعلم علم اليقين أنّ تراث هذه الأمّة مليء بالجرائم ضدّ الإنسانية، فالجرائم مدوّنة بتراث هذه الأمّة العربية وبلغة العرب، وفي الكثير من الأحيان بنوع من التفاخر بها.

إنّ هذا الشّريط المذكور وأشرطة كثيرة مثله، مع ما تثيره من تقزّز واشمئزاز في نفس كلّ بشريّ، تدفع المرء إلى الخجل من الانتماء إلى هذه الأمّة. إنّي أجد نفسي بعد مشاهدة هذا الشريط غيري.

ولهذا يجب أن يرفع الشعار: تعيش، تعيش مؤامرة الناس البسطاء على كلّ أصناف المستبدّين!

والعقل وليّ التوفيق!
*

رابط الشّريط في الـ“يوتيوب“: (الرجاء إبعاد الأطفال عن مشاهدة الشريط حفظًا لسلامتهم وصحّتهم النفسيّة).
***
نشر في: إيلاف“، 20 مايو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أين اختفى حسن نصر الله؟

سلمان مصالحة

أين اختفى حسن نصر الله؟

منذ مدّة غاب عن الشاشة
السيّد حسن نصر الله. لقد اختفت آثاره ولم يعد يطلّ منها على جمهوره المتلهّف لسماع خطبه وتحليلاته عن الأوضاع والمستجدّات على الساحة. والرجل معروف بحبّه الظهور على الشاشات في المناسبات المختلفة لطرح تصوّراته وما يختلج في صدره من أمور وأفكار وصيلة بشؤون "الأمّة"، أي العالم العربي والإسلامي. إنّه معروف بحبّ الظّهور والتّواصل مع الجمهور في كلّ شاردة وواردة. وهذه على كلّ حال هي عادة السّياسيّين في كلّ مكان، وليست حصرًا على سياسيّي العرب.

هكذا، عندما اندلعت المظاهرات
في مصر وخرجت الجماهير إلى ميدان التحرير، لم ينتظر نصر الله طويلاً، فقد شمّر هو الآخر عن ساعديه وخرج إلى ”شاشات التحرير“ وانضمّ بدوره إلى المتظاهرين معلنًا التّضامن مع ثورة الشباب المصري: ”في هذا اليوم نلتقي وهدفنا واضح... نحن نجتمع هنا لنعلن تضامننا ووقوفنا إلى جانب شعب مصر وشبابها، ومن قبل إلى جانب شعب تونس وشبابها...“، كما ورد في خطابه المتلفز حول الانتفاضة الشعبية المصرية.

وهكذا فعل أيضًا عندما وصلت
شرارة الانتفاضات الشعبية إلى البحرين، فقد خرج مرّة أخرى في خطاب ملتهب ناريّ أيضًا: ”كلمتي للأخوة والأخوات في البحرين، لا تتأثّروا بأصوات الطائفيين، ولا تحزنوا من إعلامهم ولا من فتاواهم... أقول لإخواننا وأخواتنا في البحرين: اصبروا وصابروا واثبتوا في الدفاع عن حقوقكم... إنّ دماءكم وجراحكم ستهزم الظالمين والطواغيت وستجبرهم على الاعتراف بحقوكم المشروعة...“.

ولكنّه، ومنذ مدّة قد اختفى
عن الشاشات المحبّبة لديه؟ طالما تحدّث عن المستضعفين في الأرض، وطالما تحدّث عن الظالمين والطواغيت، كما ذكرت مقتبسًا آنفًا من أحاديثه المتلفزة. غير أنّه في الآونة الأخيرة قد اختفى عن هذه الشاشات وعن الحديث عن المستضعفين، وعن الاستبداد والظّلم بعيدًا عن حدود لبنان. لقد اختفى لا لشيء سوى أنّه لا يدري ما يقول بشأن مستضعفين آخرين قريبين منه ومن لبنان قد خرجوا هم أيضًا ضدّ الاستبداد والظّلم. إنّهم المستضعفون السوريون الذين يذوقون الأمرّين طوال عقود من طغمة البعث القبلي، طواغيت سورية.

هكذا يصمت نصر الله
إزاء الجرائم التي يرتكبها هذا النّظام البعثي القبلي المستبدّ بحقّ المواطنين السوريين. وهكذا، يكشف عن كونه هو الآخر يكيل بمكيالين، إن لم يكن بمكاييل كثيرة. في تونس ترك زين العابدين بن علي البلد وجنّب شعبه القتل والدمار. وفي مصر لم يأمر مبارك الجيش المصري بقصف المدن المصرية وقتل الأبرياء. بينما في سورية يؤمر الجيش باحتلال المدن وقصفها على من فيها. نعم، إنّه النّظام ذاته الذي لم يطلق طلقة واحدة لتحرير الجولان، يرسل الجيش والمليشيات القبلية لقتل المواطنين السوريين الأبرياء.

ونصر الله لا يختلف في ذلك
عن صنف آخر من العرب. إنّه الصّنف الذي أطلقت عليه منذ زمن طويل مصطلح ”مراهقي العروبة“ الذين طالما تغنّوا بشعارات الممانعة من على منبر شاشة ”جزيرة“ العربان القابعة في ميدان قطر هو أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. لقد اختفى كلّ هؤلاء عن الشاشات فيما يتعلّق بالشأن السوري وبشؤون انتفاضة الشعب السوري ضدّ الطغيان البعثي القبلي، وذلك إلى أن يتمّ الإيذان لهم بالبدء بالكلام.

لا يستطيع أحد أن يتّهمني
بأنّي أقف في صفّ مؤيّدي السلفية، فطالما كتبت في الماضي وطالما ورفعت صوتي ضدّ كلّ هؤلاء ومن لفّ لفّهم وفي أكثر من منبر وأكثر من لغة. غير أنّ هذا أمرًا وما يجري على الساحة هو أمر مختلف تمامًا. فالوقوف مع المستضعفين في هذا الأوان هو وقوف مع المواطنين السوريين، على جميع مللهم ونحلهم. نعم إنّه وقوف مع كلّ هؤلاء الذين سئموا العيش في كنف نظام توريثي مستبدّ أفقدهم ليس حيواتهم فقط، بل معنى الحياة أصلاً. وها هم أيضًا يخرجون للساحات ضدّ الظّالمين والطواغيت.

إنّ اختفاء نصر الله، كما
هو اختفاء مراهقي العروبة، واستنكافهم عن نصرة الشعب السوري ومطلبه بالحرية يكشف عن عورات كلّ هؤلاء. هل تذكرون كيف تسلّل دريد لحّام وأشباهه عبر الأنفاق إلى غزّة بدعوى فكّ الحصار عن أهلها؟ أنظروا كيف اختفى هو الآخر وأشباهه الآن، فلم يجد أمثال هؤلاء متّسعًا من الوقت للتّسلّل إلى درعا، حمص أو بانياس لفكّ الحصار عن أهلهم السوريّين الذين يتعرّضون للقتل والتنكيل منذ عقود، وليس الآن فقط.

كلّ هذه الوقائع تكشف عن زيف كلّ هؤلاء وعن زيف كلّ شعاراتهم. ولهذا اقتضى التنويه.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: إيلاف، 8 مايو 2011
___________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!