ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟



سـلمان مصـالحة

ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟


لقد ورد في المأثور الحديث النّبوي التّالي: "عن أبي هريرة رض قال، قال النبي صلعم: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟" (عن: صحيح البخاري. كذلك ورد الحديث باختلافات لفظيّة طفيفة في صحيح مسلم، ومسند أحمد، والتّرمذي وكثير غيرهم).

لن نتطرّق هنا في هذه العجالة إلى ما اختلف فيه السّلف من تفسيرات لهذا الحديث وسياقاته وأحكامه. ونكتفي بإيراد ما يلي باختصار لما يقتضيه مقصد المقالة. فقد ذكر ابن القيّم في هذا سياق الكلام عن معنى الفطرة: "سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجّون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل ممّا ابتدأ الناس إحداثه. فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام. ولا حاجة لذلك، لأنّ الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام." (عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري).

ويذهب ابن القيّم إلى هذا القول بالنّظر إلى قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والّذي يعقب الحديث. من هنا يستخلص ابن القيّم: "أنّ المراد بها فطرة الإسلام ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء، وهي الكاملة الخلق، ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا أذنها، دليلٌ على أنّ الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التّهويد والتّنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة. ولأنّ الفطرة، حيث جاءت، مطلقة معرفة باللام، لا يُراد بها إلا فطرة التّوحيد والإسلام وهي الفطرة الممدوحة... وحيث جاءت الفطرة في كلام رسول الله صلعم فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير." (عن: إبن القيّم، عون المعبود، شرح سنن أبي داود).

أمّا الحافظ العراقي فيقول أنّ معنى القول في الحديث "استُدلّ به على أنّ الولد الصغير يتبعُ أبويه في الإسلام والكفر... وقد أجمع المسلمون على ذلك. إنّما اختلفوا فيما إذا أسلمَ أحدُ أبويه فقال الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد، والجمهور: يتبعُ أيّهما أسلم سواء كان هو الأب أو الأم، وقال مالك: يتبعُ أباه خاصّة دون أمّه، حتّى لو أسلمتْ أمّه وأبوه كافر استُمرَّ على الحكم له بالكفر." (عن: طرح التّثريب في شرح التّقريب)

ثمّ يأتي ابن تيميّة فيذهب في قوله إلى أبعد من ذلك بكثير، مضيفًا إلى ما سبق قولاً جديدًا: "وكلّ مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكنّ أبَواهُ يُفْسدان ذلك فيُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه ويُشرّكانه، كذلك يُجهّمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده." (عن مجموع فتاوى ابن تيميّة). أي أنّ ابن تيميّة يضيف فرقة الجهميّة إلى ما ذكر السّالفون.

وإذا قبلنا بهذا المنطق الّذي ينطوي عليه الحديث، فحريّ به أن يكون منطقًا أمميًّا لكي تتمّ النّعمة على بني البشر. وبكلمات أخرى، حريّ بنا إضافة المسلم والعربيّ على العموم إلى جانب اليهودي والنصراني والمجوسي وغيرهم من البشر إلى هذا المنطق ذاته، لأنّه بغير ذلك تنتفي عن المقولة أمميّتها. بل نقول إنّه حريّ بنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: ما من مولود إلاّ وُلدَ إنسانًا بغير غيبيّات، محبًّا لأخيه الإنسان، فأبواه يُغيّبانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالغيبيّات، ويُعصّبانه يُقبّلانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالعصبيّة القبليّة، ويُوحّدانه ويُعنصرانه، أي يفسدانه فيجعلانه مؤمنًا بديانات سماويّة توحيديّة عنصريّة تكره ما سواها من البشر ومعتقداتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، لا يسعنا إلاّ أن نذهب إلى القول أيضًا إنّه، ما من مولود إلاّ وُلدَ بغير اسم، فأبواه يعبّدانه، أي يسميّانه عبد الله، وأبواه ينصّرانه، أي يسمّيانه نصر الله، وأبواه أيضًا يُقذّفانه، أي يسمّيانه قذّاف الدّم، كما تنتج اليابانيّات يابانيّين والكوريّات كوريّين والصّينيّات صينيّين، فهل تجدون في هؤلاء النّاس أسماء عبد الله ونصر الله وقذّاف الدّم؟. والحقيقة أنّي لم أشأ هنا في هذا السّياق استخدام كلمة بهيمة، كما وردت في الأصول العربيّة، لكي لا أُتّهم بعنصريّة بغيضة تجاه اليابانيين والكوريّين والصينيين وغيرهم من شعوب الأرض. وذلك لأنّ البشر والشّجر والوبر والحجر أجمعين من خلقه تعالى، كما يُقال في غير مقال من مقالات الجهلة من المؤمنين.

قديمًا قيل: من شبّ على شيءشاب عليه. كلّنا نعرف هذه المقولة لأنّنا شببنا عليها، وها قد شبنا ولم يطوها بعد النّسيان. والحقيقة أنّ في هذه المقولة شيء من الصحّة إذ أنّ علماء التّربية كثيرًا ما ينبّهون إلى الاهتمام بالطّفولة والسّنوات الأولى من حياة النّشء الجديد لما فيها من خطورة على مستقبل المجتمع بعامّة، لأنّ ما يرسخ في ذهن النّشء في هذه الأعوام يشكّل دخيرة لهم أو حملاً ثقيلاً على كواهلهم في مسيرة حياتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أعتقد أنّ للأسماء تأثيرات بالغة الخطورة على حامليها. وأكاد أجزم أنّه لولا ذلك الاسم الّذي أطلقه عليه أبواه، لما كان صدّام مثلاً لينشأ مع هذه الذهنيّة العنيفة الّتي رافقته طوال حياته. لقد كتب الاسم صدّام مصير هذا الرّجل منذ الصّغر. وهكذا يمكننا أن نتساءل، هل يمكن أن يأتي الخير من رجل باسم قذّاف الدّم؟ وما الّذي فكّر به الأبوان عند منحه اسمًا كهذا؟ وأخيرًا أما يفكّر هذا بتغيير اسمه؟ أمّ أنّ قذف الدّم سيرافقه طوال حياته؟ هذه الحقيقة تعرفها حضارة قبائل اليوروبا الأفريقيّة، ففي تلك الحضارة يقيمون طقسًا يتمّ فيه منح الاسم للوليد في اليوم الثّامن لميلاده. إنّهم ينظرون ببالغ الأهميّة للاسم لأنّهم يعتقدون أنّ الاسم سيؤثّر على مصير وسلوك الشّخص مستقبلاً. إنّهم يعتقدون، على سبيل المثال، لو أطلق على الطّفل اسمُ لصّ مشهور فسيُصبح لصًّا عندما يكبر بلا أدنى شكّ، وهكذا.

ومن هذا المنطلق أيضًا،يمكننا القول إنّ ما ينفع للأشخاص ينفع في السّياسة أيضًا. فإنّ للأسماء مدلولات خطيرة يجدر الانتباه إليها. فعندما يتسمّى حزب بأسماء مثل الوطني أو القومي، فهو إنّما يُصادر صفة الوطنيّة والقوميّة من سائر النّاس وهي حيلة يستخدمها هؤلاء الّذين يدّعون الوطنيّة والقوميّة. وكذا هي الحال عندما يتسمّى حزب بأنّه الحزب المسيحي الدّيمقراطي مثلاً فهو إنّما يصادر هذه الصّفات وينزعها عن الآخرين، كما لو أنّ سائر المسيحيّين ليسوا مسيحيّين وليسوا ديمقراطيّين، وهي كذبة لا تنطلي على أحد. والحال ذاتها عندما يتسمّى حزب باسم الله، فهو إنّما يصادر الله لصالحه، جاعلاً منه شخصيّة سياسيّة لها حزب ينافح عنها، كما لو أنّ سائر الخلق ليسوا من الله ولا يمتّون إليه بصلة. وهي أيضًا حيلة مكشوفة لا تنطلي على أحد.

لهذا، فإنّ المجتمعات الّتي تنشد الخير يجب أن تصل إلى قناعة واحدة مفادها إنّه يجب حظر كلّ هذا النّوع من التّسميات وخاصّة فيما يتعلّق بالحياة العامّة في الدّولة المعاصرة. في هذه الدّولة العصريّة الّتي يطمح إليها بنو البشر على سائر مللهم ونحلهم، لا مكان لهذا النّوع من أسماء الأحزاب، ويجب حظرها دستوريًّا على جميع المذاهب والطّوائف.

وأخيرًا، لا مناص من الإقرار أنّ الطّريق الأقوم للمجتمعات المعاصرة هي طريق فصل الدّين عن الدّولة دستوريًّا. هذا هو الإجماع الوطني لكافّة الطّوائف والمعتقدات وهذا هو السّقف الوحيد الّذي يستطيع النّاس أن يحيوا تحته بطمأنينة في مجتمع المدنيّة. وأمّا ما دون ذلك فبئس المصير. أليس كذلك؟
***
نشر في: “شفاف الشرق الأوسط”، 3 يونيو 2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقامة اللُّوديڤيّة

سلمان مصالحة

المقامة اللُّوديڤيّة

حدّثني أبو نَهار المَغاري ذات صباح، عن غير نفرٍ من السّلف الصّالح دخل كلامُ بعضهم في كلام بعض، عن صاحبٍ ثقةٍ لا يهدأ له بال، ولا يقرّ على حال، قال، قال لي عائدٌ من بلاد الغال: اسمع هذه الحكاية عن رحلة التّرحال إلى ما وراء البحار، فلكلّ مقام مقال حتّى كادَ الأمر يلتبس على ذي البصيرة فَيَحار، إذْ ما فتئت اليدُ قصيرة والأكاذيب غفيرة.

قلتُ لهُ: يا صاحِ، هلْ لكَ أنْ تُسْفِرَ عَمّا بَطَنَ خلفَ ذا الوشاحِ من الكلام المسجوع، أو ما تكنّه بين الضّلوع؟ فما أنْ فرغتُ من السؤال حتّى استلَّ من فمه لسانًا صَيْرَفيًّا صارمًا ما مسَّ قطع، فأصابَ أرنبةَ أنفِه فَامْتَقَع، ثمّ نظرَ إليّ نظرَةً مِنْ خَلْفِ نَظّاراتِه ندمتُ إثرها على سُؤالِيهِ واحْتَجْتُ إلى جَلَدٍ في النّفس لِمُداراتِه. وبعدَ أنْ هدأ الغضبُ في نفسِهِ وسكنَ الهيجان، إستعاذَ من الشّيطان، وطفقَ يروي لي حكاية ذلك المهرجان، ضاحكًا باكيًا في آن.

بعد حسن الإستهلال بحمد ذي العزّة والجلال، قال: مع انعقاد دورة جديدة لأصوات المتوسّط الشّعريّة في مدينة لوديڤ في الجنوب الفرنسي، وهي أصواتٌ متنوّعة تنوّعَ الألسن والمشارب، لا بدّ من التّذكير بما يجري في المكان وبما يُكتَب عنه في صحافة (إقرأ منذ الآن: سخافة) العُربان. ففي العام الماضي شارك عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه في المهرجان وكان ما كان. لكنّني حين قرأتُ ما كُتب من مقالات أو ذُكر في مقابلات، سألتُ نفسي الأمّارة بالسّوء، هل كُنّا حقًّا معًا في نفس المكان، أم أنّ بعض الشّعراء العرب المشاركين مصابون بذلك الفصام الـمُزمن الّذي لا سبيل إلى مداواته. أم أنّ كلاًّ منهم كان حقًّا في مكانه يُغنّي على مهرجانه؟

المأساة يا صاح تكمن في أنّ البعض من الشّعراء العرب ينظرون إلى هذا الملتقى الشّعريّ، أو غيره، وكأنّه حلبة صراع ونزال، أو نزاع وقتال في بلاد الغال. وليست هذه الأقوال تُساق هُنا إلاّ عن البعض، لأنّ ثَمَّ آخرين، وليسوا نَفَرًا قليلين، لم يأبهوا بهذه التّرّهات، بل جاؤوا للشِّعر بعيدًا عن الشّبهات، وانتصروا للشِّعر في السّاحات فانتصرَ الشِّعْر بهم أمام النّاس. أمّا أولئك الّذين يوسوس في نفوسهم الوسواس، فقد جاؤوا للمهرجان قِلّة قليلة، وظلّوا سامدين في غيّهم ناشرين علانيةً هذه الخصلة العليلة.

وهكذا كان، فما أنْ عادَ هؤلاء النّفرُ من المهرجان إلى بلادِ العُربان حتّى أخذوا يُطبّلون ويزمّرون في الصّحافة الأبيّة، ويشيعونَ على الملأ بطولاتهم الڤيرطواليّة، مستنجدينَ بتعابير الصّمود والتّصدّي ممّا حمل في تضاعيفه لسان العرب، ناسينَ أو متناسين أنّ حبلَ الكذب قصير، وأنّ الحقَّ لَمْ يفتأْ لهُ في هذه الدّنيا نصير. فأينَ مقارعة الأعداء يا هؤلاء ممّا رأتْ عيناي وسمعتْ أذناي قبلَ عام، وأينَ أولئك الّذين جاؤوا يستنجدون سرًّا طالبين أمورًا لَنْ أفصحَ عنها الآن في هذا المكان، غيرَ أنّه يبدو أنّ رغبة المشاركة في المهرجان قد طغت على بعض العُربان حتّى عادوا يخلطون الحابل بالنّابل، وشعبان برمضان، ويكتبون للقرّاء في الأماكن البعيدة عن انتصاراتهم المجيدة.

وفي الختام، من رأى ومن سمع ما جرى في العام المُنصرم، ليُتابعْ ما يُكتب أو يُقال عن مهرجان هذا العام من جواهر الكلِم. فلكلّ مقامٍ مقال، أو زمرةٌ تروي الأباطيل، وخاصّة عمّنْ يأتي من إسرائيل. وهكذا، فهمتُ أخيرًا لماذا روى لي رفيقي الحكاية فضحكَ حينًا وحينًا بكى، فالطّبعُ عند البعض يغلبُ التّطبيع، رغمَ ما يُشاعُ في الصّحافة على مسامع الجميع.

وأدركَ صاحبي صباحُ العرب فقهقَهَ مليًّا حتّى انْتَحَب.
*
نشرت في: القدس العربي، 26 تموز 2000
______________

من شبّ على شيء


سلمان مصالحة ||

من شبّ على شيء

اللغة، كلّ لغة، هي الوعاء
الذي يحفظ فهم الناس للكون من حولهم. إنّها تجريد صوتي مُجمَع على مدلولاته بين البشر. فدونما إجماع كهذا لا وجود للّغة ولا وجود لذلك الخيط الّذي ينتظم فيه المجموع ككيان لغويّ حضاريّ. ولهذا فإنّ في اختلاف الإجماع اللّغوي على مدلولات الأصوات اختلافًا وتباينًا بين الإرث الحضاري للمجموعات البشريّة.

من هذا المنطلق، فإنّ فهم الأسس التي تنبني عليها المصطلحات في اللّغة يزوّدنا بمفاتيح لإدراك تطوّر المفاهيم البشريّة التي جُرّدت وسُكبت في هذه الأوعية اللغوية.

فعلى سبيل المثال،
إنّ مفهوم المصطلح ”شعب“ يختلف بين مجموعة بشريّة لغويّة، وبين مجموعات أخرى أجمعت على مدلولات أخرى للأصوات. وفقط لمجرّد إلقاء نظرة عابرة يمكن العودة مثلاً إلى مادّة ”شعب“ (people) في قاموس أوكسفورد الإيتيمولوجي بغية الوقوف على مدلولات المصطلح وتطوّر مفهومه عبر القرون. كذا يمكن أيضًا العودة إلى مادّة ”شعب“ في المعاجم العربيّة للتعرّف على مدلولاته في الذهنيّة العربيّة. وكذا يمكن النّظر في مصطلحات مثل ”أمّة“ أو ”وطن“.

ما هو معنى الـ“دولة“؟
يمكننا الوقوف على الفرق الشاسع بين أصل وتطوّر الحقول الدلالية للمصطلح “state“ في اللغات اللاتينية وبين تلك التي للمصطلح ”دولة“ في اللغة العربية. فالمصطلح “دولة“ في العربيّة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بذهنيّة الصّراع القبلي على السّلطة. فها هو الجوهري في الصحاح يسرد لنا معنى المصطلح: ”الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ... وأَدالَنا الله من عدوّنا من الدَوْلَةِ....“. وفي لسان العرب أيضًا نجد: ”إِنما الدَّولة للجيشين يهزِم هذا هذا ثم يُهْزَم الهازم، فتقول: قد رَجَعَت الدَّوْلة على هؤلاء...“.

نلاحظ، إذن، الفرق في مفهوم الدولة كما هو متجذّر في الذهنيّة العربيّة، مقارنة بلغات ومفاهيم الشعوب الأخرى.

على العموم، وفي سياقنا نحن فإنّ الأمثال العربية تختزل تجارب هذه الأمّة المسمّاة ”عربيّة“ على مرّ قرون من الزّمن. ولهذا يمكننا القول إنّه ومثلما علّمتنا الأمثال العربيّة فـ“من شبّ على شيء شاب عليه“. أوليست هذه هي حال الأصقاع العربيّة التي يُطلق عليها مصطلح ”دول“؟ إنّ الشّعوب العربيّة ومنذ القدم، أي منذ ظهورها على مسرح التاريخ لم تتبدّل لديها هذه المفاهيم.

ولو نظرنا إلى ما هو حاصل
في هذه الأصقاع العربيّة في الشّهور الأخيرة فإنّنا نجد أنفسنا أمام ذات الذهنيّة التي لم يطرأ عليها تغيير. فها هو النّظام السّوري الإجرامي الاستبدادي يثبت كلّ يوم من جديد أنّ سورية ليست كيانًا سياسيًّا يمكن أن يُطلق عليه مصطلح ”state“، وإنّما هو ”دولة“ بالمعنى العربيّ للمصطلح، أي مزرعة قبليّة تُحمى بالحديد النّار، ولا معنى للدولة ولا للشعب بأيّ حال من الأحوال. وفي الحقيقة كذا هي الحال في سائر أقطار العربان، من مشرق العرب إلى مغاربهم. فلا دولة بمعنى الدولة ولا شعب بمعنى الشعب وإنّما هي شراذم قبائل متصارعة لم تخرج بعد من الطبّع البَرِّي، ولم ينتقل أفرادها أو لم يتطوّروا إلى الطبع البِرِّي.

هذه هي التربة الصحراوية التي نبت العرب وزعماؤهم - أكباشهم بلغة العرب القديمة - فيها، يعيشون في ربوعها وينقلونها معهم أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا.

ولمّا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فإنّ الاستعمار أفضل للبشر من كلّ هذه الذّهنيّات العربيّة المتصحّرة.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 28 مايو 2011
______________________

سعيد عقل في الكنيست


سـلمان مصالحة ||

سعيد عقل في الكنيست


كيف عمل سعيد عقل جاهدًا على إقناع الإسرائيليّين بأهميّة إفساح المجال له أن يُلقي خطابًا، على غرار السّادات، من على منصّة الكنيست الإسرائيليّة؟

قد يكون وقع هذا السّؤال غريبًا بعض الشّيء على مسامع القارئ العربيّ. غير أنّ الإجابة على السؤال يمكن العثور عليها ليس في الوثائق السّريّة الّتي تقبع في الأرشيفات الّتي يغطّيها الغبار، إنّما في مكان آخر أبعد ما قد يتوقّع المرء أن يكون مصدرًا لمعلومات من هذا النّوع. هذه المعلومة، إضافة إلى معلومات أخرى تخصّ السّاحة اللّبنانيّة والعربيّة، كما والإسرائيليّة، يمكن العثور عليها في الكتابات الأدبيّة، وفي الشّعر على وجه الخصوص.

قد يتساءل المرء،، هل يشكّل الشّعر وثيقة يمكن الإعتماد عليها في محاولة فهم تيّارات وأحداث سياسيّة واجتماعيّة؟ الإجابة على ذلك بسيطة، فممّا لا شكّ فيه أنّ الموروث الشّعري، لدينا نحن العرب، كان ولا يزال أحد أهمّ المصادر التّاريخيّة، إذ أنّه دوّن أحداثًا وعقائد وروحًا عربيّة على مرّ العصور، ولا يستطيع الباحث في تاريخ الحضارة العربيّة تجاهله.

لقد تبادرت إلى ذهني هذه التّساؤلات إثر قراءة مجموعة شعريّة عبريّة صادرة حديثًا هذا العام. فمن شأن القارئ لهذا النّصّ أن يقف على حقائق ومعلومات قد تكون لم تصل بعد إلى من يشتغل بالتّاريخ العربيّ الحديث، وخاصة فيما يتعلّق ببعض الجوانب المستترة من الحرب الإسرائيليّة في لبنان في العام 1982. المجموعة الشّعريّة الّتي نحنُ بصددها هي بعنوان “هستننوت”، أي تسلُّل بالعربيّة، للكاتب العبريّ أهارون أمير.

ولكن، وقبل التّطرُّق إلى الوقائع الواردة فيها، يجدر التّنويه أوّلاً بالمؤلّف وهو شاعر وكاتب، مترجم ومحرّر، من مواليد 1923، وقد درس الأدب العربي في الجامعة العبريّة في القدس. طوال فترة طويلة كان، ولا يزال، من دعاة الحركة “الكنعانيّة” في إسرائيل. أي على غرار تيّارات مثيلة، مثل الدّعوى الفرعونيّة في مصر، والفينيقيّة في لبنان، وكلّ تلك التّيّارات الّتي حاولت أن تبحث عن فرادة حضاريّة وبناء هويّة إقليميّة، ذات حضارة علمانيّة، في ظلّ الإخفاقات الّتي كانت من نصيب العروبويّة والإسلامويّة. وأهارون أمير “الكنعانيّ” النّزعة طمح إلى تأسيس الحضارة العبريّة والإسرائيليّة على أساس جغرافي إقليمي بعيدًا عن النّزعة الدينيّة اليهوديّة. ومثلما صارت إليه الحال في سائر الأماكن، مصر أو لبنان، فلم تفلح الدّعوى الكنعانيّة أيضًا في اجتذاب سواد المجتمع الإسرائيلي. ولكن، وعلى الرّغم ذلك، فقد كان لها تأثير ثقافي بيّن فيما مضى. كما لا تزال هنالك بعض الأصوات القليلة الّتي تردّد أصداء تلك الدّعاوى.

كيف تعرّف أهارون أمير على الشّاعر سعيد عقل؟ يذكر أمير أنّ بداية المعرفة كانت عبر الكتب، فهو يتذكر أنّه عندما كان يافعًا كان معجبًا بالكتب، فوقع بين يديه كتاب هو بمثابة دائرة معارف في مجلّد واحد كان صدر في العام 1935. وفي المجلّد عثر على مادّة: “عقل، سعيد”، حيث ذكر فيها أنّه شاعر عربيّ نشر في العام 1932 مسرحيّة توراتيّة بعنوان “بنت يفتاح”. ويتذكّر أهارون أمير وقائع تاريخيّة مثل، كيف عبّرت الكنيسة المارونيّة في العام 1947 عن دعمها لقيام دولة عبريّة تكون شقيقة للبنان، ويشير في كتابه هذا إلى الشّراكة بين سعيد عقل وأنطون سعادة في الحزب الّذي دعا إلى قيام “سوريا الكبرى”، وكيف أنّ أنطون سعادة رأى في مسرحيّة “بنت يفتاح” خدمة للصهيونيّة وقام بفصل سعيد عقل عن الحزب.

بعد عشرات السّنوات كان اللّقاء بين أهارون أمير وسعيد عقل، حيث تمّ ذلك إثر حرب لبنان في العام 1982. كان سعيد عقل واحدًا من بين شخصيّات لبنانيّة أجرى معها إيهود يعاري مراسل التّلفزيون الإسرائيلي مقابلات في بيروت. سعيد عقل أرسل إلى أهارون أمير، مع إيهود يعاري، تحيّات مرفقة بمجموعاته الشّعريّة الموقَّعة. غير أنّ المحادثات بين أمير وعقل أخذت تتطوّر، حيث يذكر أمير: “في محادثاتنا الّتي أخذت تتواتر، كان الحماس مُلتهبًا في جوانحه. لقد رأى في ظهور إسرائيل على أرض لبنان أمرًا ذا مغزى تحريري... وتوقّع قيام عهد قريب بين بلاده وبلادي، يُبشّرُ بالخيرات الجمّة للمنطقة بأسرها” (ص. 16). يضيف أهارون أمير أنّه سمع أثناء لقاءاته في بيروت أمورًا كثيرة تتمشّى مع هذه الرّوح من أفرادٍ ينتمون إلى سائر الطّوائف اللّبنانيّة، مسيحيّة، سنيّة، شيعيّة ودرزيّة.

غير أنّ سعيد عقل، كما يروي أهارون أمير، أراد أن يدخل التّاريخ، بل أكثر من ذلك أراد أن يصنع التّاريخ، وفي القدس بالذّات، ثمّ يضيف: كان سعيد عقل يؤمن أنّ شاعرًا مثله، ذائع الصّيت بين قرّاء العربيّة، سيكون لكلامه وقع على السّامعين. لذلك اعتقد أنّ على حكومة إسرائيل أن تدعوه إلى إلقاء كلمة في الكنيست. سيكون هذا بلا شكّ خطابًا فاتح عهد جديد، على غرار خطاب السّادات، ولذلك حريّ به أن يُسمَع هناك بالذّات... لقد استصعب سعيد عقل سماع أنّ خطابًا في هذا المكان هو أمر محفوظ لرؤساء الدّول فحسب. في نظره كانت هذه الحجّة مستلّة من حُجج الموظّفين الصّغار مقابل حجّته هو، حجّة الشّاعر النبيّ... لكن حينما اقتُرحَ عليه أن يلقي خطابه على الجبل، كما فعل اللّورد بلفور في افتتاح الجامعة العبريّة، رأى في ذلك بديلاً لائقًا لرجل في مثل مكانته... ولأجل هذا الحدث أفردت الجامعة العبريّة قاعة احتفاليّة مع دعوات خاصّة لثلاثمائة شخص إضافة إلى ممثّلي وسائل الإعلام..” (ص 19-20).

“بعد انتخاب بشير الجميّل في الـ 23 من شهر آب رئيسًا للبنان بدأ سعيد عقل يُعدّ العدّة لخطابه الموعود الّذي كان من المفروض أن يلقيه في الموعد الّذي اتفقنا عليه، وهو بداية أكتوبر” (ص 21). أمّا الرّوح الّتي كانت ستحملها كلمة سعيد عقل إلى السّامعين في القدس فهي: “صورة الماضي العريق تُشعّ، حاضرٌ ينبعث من جديد، مُستقبلٌ باهر يُبارك صانعيه بالسّلام، كما في عهد سليمان وحيرام” (ص 21). لقد عمل سعيد عقل أيّامًا وليالي على كتابة الخطاب الموعود، وفي الأسبوع الأوّل من أيلول كانت المسوّدة الرّابعة عشرة حاضرة بصيغتها النّهائيّة، بالفرنسيّة وبالعربيّة، بفضل مساعدته الأرمنيّة.

في الثّالث عشر من أيلول، يكتب أهارون أمير، كان من المفروض أن أصل إلى بيروت، وفي صبيحة اليوم التّالي سأكون في مكتبه الواقع في سنّ الفيل، للوقوف على الصّيغة النّهائيّة لخطابه الّذي كان من المفروض أن أترجمه إلى العبريّة.

“حين اقتربت سيّارتنا من مداخل بيروت في الموعد المحدّد، كان كان الظّلام مخيّمًا والإزدحام شديدًا. أدرنا مؤشّر الرّاديو إلى أذاعة الجيش الإسرائيلي لسماع آخر الأخبار، فإذا بنا نسمع خبر انفجار سيّارة مفخّخة في الأشرفيّة. في البداية ذُكر أنّ الرّئيس نجا من الإنفجار ولذلك أطلقت عيارات الفرح في الشّوارع. “فقط ساعةً واحدةً قبل انتصاف اللّيل، في مقرّ قيادة "أبو أرز" اتّصل شخص وأكّد خبر مقتل الرّئيس... أمور كثيرة دُفنت في الحُطام، من بينها الخطاب التّاريخي لشاعر كبير غزا الشيبُ مفرقَه، عالي الهمّة، رجل الأحلام والرّؤيا، واسمه سعيد عقل” (ص 22).

القران الّذي عمل سعيد عقل جاهدًا على عقده بين الفينيقيّة والكنعانيّة، بين لبنان وإسرائيل، قد دُفن في لحظة واحدة تحت حطام المقرّ في الأشرفيّة، بالضّبط مثلما دُفن حلم قران سعيد عقل وشابّة درزيّة متمرّدة من الفرع الجنبلاطي، وهذه أيضًا معلومة أخرى في هذه المجموعة الشّعريّة العبريّة الّتي تروي الأخبار على غرار أيّام العرب في الجاهليّة.
*
نشرت في ملحق تيارات، “الحياة”، 1 تموز، 2001



ثلاثة مشاهد سوريا-ليّة

مقال من عام 2007 - 


سلمان مصالحة


ثلاثة مشاهد سوريا-ليّة


أوّلاً: الملك الأسد الثّاني

قبل مدّة جرت "انتخابات" لمجلس "الشّعب" في سورية. وكما أفادت الأنباء فإنّ قلّة قليلة فقط من المواطنين ذهبت لتدلي بأصواتها. والحقيقة أنّ المواطنين أكثر ذكاءً ممّا قد يتصوّر البعض، إذ ما الفائدة من انتخابات صوريّة نتائجها معروفة قبل أن تجري؟ وهكذا، وبعد أن تمّ عرض تلك المسرحيّة على الشّاشات، شاهدنا مثلما شاهد الجميع، كيف يقف مَنْ يُطلَق عليهم أعضاء مجلس الشّعب ويهتفون بصوت واحد "بالرّوح بالدّم نفديك يا...". لقد وقف هؤلاء وأمثالهم من قبلُ عندما تمّ توريث الرئاسة من الملك الأسد الأوّل إلى الابن الأسد الثّاني، فلا جديد في الأمر. شيء واحد يمكن قوله عن هؤلاء، عندما يقفون وقفة رجل واحد ويصرخون بهتاف واحد، فلا يمكن أن يكون هؤلاء ولا هتافهم سوى مرآة لهذه الحال المأزومة في ثقافة العربان السّياسيّة. وعلى كلّ حال يكفي أن نشير إلى أنّ مصطلح "السّياسة" بالعربيّة قد استُعير من عالم الحيوان، فقد قال العرب قديمًا: ساسَ الخيلَ يسوسُها، والفاعل هو سائسُ الخيل، أي مروّضها.

وها هي النسبة القريبة من المئة بالمئة، نتائج الاستفتاء على ولاية ثانية لبشّار ابن أبيه الأسد الثّاني الّذي ورّث السّلطة على غرار خلفاء بني أميّة. ومرّة أخرى يتبادر إلى ذهن من يملك ذرّة من عقل، ما الحاجة إلى استفتاءات كهذه، بينما نتائجها معروفة خلفًا عن سلف. إنّها مجرّد لعبة مفضوحة على الملأ. غير أنّ هكذا أنظمة مولعة دائمًا باللّعب. لقد نسي هؤلاء أنّ العالم الّذي يلعب لعبة الدّيمقراطيّة هو العالم الّذي أوجد هذه اللّعبة وقوانينها، ولذلك فهو يعرف قواعدها وقوانين لعبها، بينما نحن، العربان، لا نعرف من اللّعبة غير الشّكل، وحتّى هذا الشّكل عندما نرسمه فهو يأتي مشوّهًا على شاكلتنا. لذلك تظهر لعبتنا الدّيمقراطيّة هذه مجرّد كاريكاتير مقارنة بحقيقة اللّعبة وجوهرها.


ثانيًا: "إضعاف الشّعور القومي"

وفي حالة "سوريا-ليّة" من هذا النّوع، ليس من المُستغرَب أن يتمّ تقديم من ينتمون إلى خيرة أبناء الشّعب السّوري إلى محاكمات صوريّة، وبذرائع لا يوجد شبيه لها في أيّ بلد من بلدان هذا العالم. هكذا، في بلد "الأمّة الواحدة ذات الرّسالة الخالدة"، يتمّ إصدار أحكام ضدّ ميشال كيلو ومحمود عيسى على سبيل المثال بالسّجن لسنوات بتهمة هي أغرب ممّا قد يتصوّر من يملك ذرّة من عقل، أي بتهمة "إضعاف الشّعور القومي". إنّ بلدًا تضمّ قوانينه تهمة من هذا النّوع لا يمكن أن يكون بلدًا طبيعيًّا. إنّه بلدٌ هو أقرب إلى البلادة منه إلى أيّ تعريف آخر.

وفي ذات البلد أيضًا تحكم المحكمة على الحقوقي أنور البني بتهمة: "نشر أنباء من شأنها أن "توهن نفسيّة الأمّة". هكذا، إذن. لو كان الأمر مضحكًا لضحكنا، غير أنّ الأمور في هذا البلد ليست مضحكة، بل هي أبعد ما تكون عن الإضحاك. إنّها المأساة بأعمق معانيها. فأيّ نفسيّة، وأيّ أمّة هي هذه الّتي توهن نفسيّتها الأنباء؟ نستطيع أن نجزم فنقول إنّه على العكس من ذلك تمامًا. إنّ نظامًا قبليًّا قمعيًّا من هذا النّوع هو هو بالذّات الّذي يضعف الشّعور القومي، لأنّ نظامًا قبليًّا كنظام البعث العائلي هو ما يُشظّي القوميّة ويفقدها مصداقيّتها، وهو ما يفتّتُ لحمة أبناء الشّعب الواحد. إذا كان لا بدّ من محاكمات فإنّ هذا النّظام هو الّذي يجب تقديمه للمحاكمة بتهمة "إضعاف الشّعور القومي"، رغم كلّ شعاراته البرّاقة والرنّانة الّتي طالما "شنّف" بها آذاننا، بينما هي لا تستند إلى أيّ قاعدة أو ركيزة خارج الرّكائز القبليّة.


ثالثًا: غياب أدونيس

إزاء كلّ ما ذكرنا، فإنّه لممّا يحزّ في النّفس أن نرى غياب أصوات كان من المفروض أن تكون في مقدّمة المندّدين بهذه الحالة السّوريا-ليّة. ولمّا كان أحد تلك الأصوات الغائبة عن السّاحة ناقدًا تراثيًّا ومفكّكًا لغويًّا إضافة إلى كونه شاعرًا لا بأس به، فهو مطالب الآن وعلى الملأ بأن يشرح لمواطنيه السّوريّين المغلوب على أمرهم معنى مصطلح "إضعاف الشّعور القومي"، أو معنى كلام الاتّهام الّذي يقول: "نشر أنباء... من شأنها أن توهن نفسيّة الأمّة". فما هو هذا الشّعور القومي؟ وما هي الأمور الّتي توهن نفسيّة الأمّة؟ فأيّ أمّة هي هذه! وهل هناك شخص على وجه الأرض يستطيع أن يُفسّر لنا هذا الكلام الفضفاض الّذي لا معنى له سوى أنّات المعتقلين في أقبية مخابرات الأنظمة القبليّة الفاسدة المفسدة في الأرض.

إنّ صمت أدونيس، وأمثاله، إزاء هذه المهازل، وإزاء جرائم الزّجّ بالمفكّرين والمثقّفين السّوريّين في سجون النّظام الفاشي، يشكّل إدانة له ولأمثاله على تخاذلهم الأخلاقي. ولن يفيد أدونيس كونه مرشّحًا أزليًّا لجائزة نوبل. إنّ صمته إزاء الجرائم الّتي يرتكبها النّظام القبلي القمعي في وطنه الأمّ كافٍ لكي يتمّ شطب اسمه من قائمة المرشّحين لهذه الجائزة أصلاً. إذ أنّه، وبصمته الصّارخ هذا، يندرج في عداد جوقة الهاربين من المواجهات الأخلاقيّة، ويندرج في عداد المندسّين في بطانات المطبّلين المزمّرين للسّلاطين.

هذه هي المأساة الحقيقيّة. إنّها حقًّا مشاهد "سوريا-ليّة"، أليس كذلك؟
*
نشرت في: "إيلاف"، يونيو 2007
***

انظر: ردّ شخص اسمه نضال نعيسة في موقع الحوار المتمدن. وهو، كعادة العربان، لا يعرف الفرق بين سلمان وسليمان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة




سـلمان مصـالحة


نعم، إنّها مؤامرة - ولكنّها حميدة


أنظمة العروبة المستبدّة،
على اختلاف تشكيلاتها الطائفيّة والقبليّة، تسارع إلى وسم كلّ من لم يعد يطيق وجودها رابخة رابضة مرخية على صدور البشر كلاكلها، بصنوف التعابير المشتقّة من ذهنيّة التآمر. إنّها تصف كلّ من يرفع صوته ضدّ الاستبداد ناشدًا الحريّة بالـ“مُندسّ“ والـ“متآمر“، وما إلى ذلك من مفردات هذا القاموس الجديد القديم الّذي أتت عليه الأرضة.

وعلى كلّ حال فالـ“مؤامرة“ في العربيّة ليست بهذه المعاني الرديئة التي أضفاها عليها المتآمرون الحقيقيّون في هذا الزّمان العروبي البليد. فلقد ورد في لغة العرب: ”آمَرْتُه في أَمْري مُؤامَرَةً إِذا شاورتُه... وكلُّ من فَزَعْتَ إِلى مشاورته ومُؤَامَرَته، فهو أَمِيرُكَ. ومنه حديث عمر: الرجال ثلاثةٌ - رجلٌ إِذا نزل به أَمْرٌ ائْتَمَرَ رَأْيَه أَي شاور نفسه وارْتأَى فيه قبل مُواقَعَة الأَمر. وقيل: المُؤْتَمِرُ الذي يَهُمُّ بأَمْرٍ يَفْعَلُه... ويقال لكل من فعل فعلاً من غير مشاورة: ائْتَمَرَ، كَأَنَّ نَفْسَه أَمرته بشيءِ فأْتَمَرَ، أَي أَطاعها. ومن المُؤَامَرَةِ المشاورةُ. في الحديث: آمِرُوا النساءَ في أَنْفُسِهِنَّ أَي شاوروهنّ في تزويجهنّ“، (عن لسان العرب، مادّة ”أمر“).

نعم، الانتفاضات التي أطاحت
بالطغاة، وتلك التي ستطيح بمن تبقّى منهم، هي مؤامرة. لا يجب الاستحياء من قول الحقيقة، إذ أنّها مؤامرة حميدة على كلّ حال. لقد ارتأى النّاس في هذه المؤامرة أن لا صمت بعد اليوم على جرائم كلّ هؤلاء الحكّام المتآمرين الحقيقيّين على حياة بني البشر. وأعني بهؤلاء كلّ صنف الحكّام الذي طغوا واستبدّوا. فها هم النّاس على اختلاف أطيافهم، وبعد عقود من الظّلم، لم يعد من خروج النّاس على استبداد هؤلاء بُدُّ.

ولماذا أقول هذا الكلام الآن؟
منذ أيّام لا يفارقني مشهد واحد من مشاهد الانتفاضة السّوريّة ضدّ طواغيت البعث القبليّ المتوحّش. ولكن، فحتّى استخدام نعت ”المتوحّش“ هذا ليس بوسعه أن يفي المشهد المذكور حقّه من القرف والاشمئزاز. إنّ هذا الشّريط هو المثال الأوضح لما يمكن أن يطلق عليه ”جريمة ضدّ الإنسانية“، وهو مصطلح يُلزم بتدخّل من مجلس الأمن الدّولي ويلزم باستخدام القوّة، نعم استخدام القوّة، ضدّ مرتكبي هذا النوع من الجرائم.

والشريط الذي لا يزال موجودًا
في شبكة الإنترنت هو شريط تظهر فيه دبابة سورية يقودها ”جنود“ من صنف أولئك الذين طالما أطلقوا عليهم نعت ”البواسل“ في الإعلام العربي البليد وخاصة من صنف إعلام البعث الفاشي. نعم، هؤلاء الـ“بواسل“ يدهسون بدبّابتهم مواطنًا سوريًّا. ليس هذا فحسب، بل وبعد أن دهست الدبّابة المواطن على الشارع، يقوم جنود آخرون من صنف هؤلاء الـ ”بواسل“ الموجودين في الساحة بسحب الجثّة لوضعها تحت الجنازير لتمرّ عليها الدبّابة مرّة أخرى ولتمزّقها ولتتناثر الأشلاء وتعلق بجنازير دبّابة الـ“بواسل“.

منذ أيّام لا يفارقني هذا المشهد الهمجيّ. ولن أتحدّث الآن عن العالم وعن مجلس الأمن، بل سأتحدّث عمّن ينتمون إلى هذه الـ“أمّة“ التي تسمّى نفسها عربًا. لا أدري كيف ينام من ينتمي إلى هذا الجنس العربي قرير العين إزاء هذه المشاهد المقزّزة؟ بل، كيف يمكن أصلاً أن ينام بشريّ في هذا العالم المفتوح على مصاريعه، أيًّا كان انتماؤه، قرير العين وهو يشاهد على شاشة حاسوبه هذا المنظر القادم من سورية؟

إنّ هذا المشهد الهمجيّ
يختزل في الحقيقة طبيعة هذا النّظام البعثي القبليّ الفاشي. هذه هي حقيقة هذا النّظام منذ أن ظهر على الساحة. كذا كانت حال هذا البعث في العراق وكذا هي الحال في سورية الآن. لقد وجدت نفسي في الأيّام الماضية أتفكّر وأتساءل بشأن هؤلاء ”الجنود البواسل“ الذين يرتكبون هذه الجريمة البشعة. هنالك أمر لا يمكن التهرّب منه. يجب القول على الملأ: إنّ هذا الصنف من الجنود لا يمكن أن يتّصفوا بصفة الجنديّة، لا هم ولا قياداتهم أو آمريهم من زبانية النظام. إنّ هذا الصنف من الجنود وقياداتهم وآمريهم لا يمكن أن يتّصفوا أصلاً بالآدميّة. إنّ هذا الصنف من الجنود ينتصرون فقط على النّاس العُزّل. إنّه صنف لا ينتمي إلى شعب أو إلى بشر. إنّه صنف من الجنود المهزومين في جوهرهم، لأنّهم ليسوا جنودًا وليسوا بشرًا أصلاً، لأنّ صفة البشريّة لا يمكن أن تُدنّس بأمثال هؤلاء.

أتفكّر قليلاً في الأمر، وأتساءل: لا شكّ أنّ لهؤلاء الـ“بواسل“ أهل؛ آباء وأمهات، أشقاء وشقيقات، زوجات وأبناء. فماذا يقولون لأهلهم بعد عودتهم إلى أهلهم، مدنهم وقراهم؟ كيف يتناولون وجباتهم بعد هذه الجرائم؟ كيف ينامون؟ كيف يستيقظون؟ كيف يطرحون التحيّة على جيرانهم؟ كيف يدعونهم إلى فنجان قهوة؟ عمّا يتحدّثون في الجلسات؟ وماذا يخطّطون لأبنائهم وبناتهم؟ هل يذكرون أمام كلّ هؤلاء ماذا فعلوا في ”الجنديّة“؟ هل يحدّثون عن جريمتهم - بطولتهم بنظرهم - أم يبقون ذلك سرًّا؟ وماذا يجيبهم من يسمع أحاديثهم؟ إنّها أسئلة تراودني ولا أجد إجابة عليها.

غير أنّ هنالك شيئًا آخر
لا بدّ من قوله أيضًا وعلى الملأ. إنّ هذه الأمّة الصّامتة أفعالاً والصّائتة أقوالاً هي التي ترعرع في كنفها وعلى تراثها أمثال هؤلاء. إنّ هذا المشهد في الشريط المذكور يختزل أمّة بأسرها، بتراثها وبحضارتها. فكلّ من يغوص قراءة في مصادر تراث وتاريخ هذه الأمّة العربية والإسلامية يعلم علم اليقين أنّ تراث هذه الأمّة مليء بالجرائم ضدّ الإنسانية، فالجرائم مدوّنة بتراث هذه الأمّة العربية وبلغة العرب، وفي الكثير من الأحيان بنوع من التفاخر بها.

إنّ هذا الشّريط المذكور وأشرطة كثيرة مثله، مع ما تثيره من تقزّز واشمئزاز في نفس كلّ بشريّ، تدفع المرء إلى الخجل من الانتماء إلى هذه الأمّة. إنّي أجد نفسي بعد مشاهدة هذا الشريط غيري.

ولهذا يجب أن يرفع الشعار: تعيش، تعيش مؤامرة الناس البسطاء على كلّ أصناف المستبدّين!

والعقل وليّ التوفيق!
*

رابط الشّريط في الـ“يوتيوب“: (الرجاء إبعاد الأطفال عن مشاهدة الشريط حفظًا لسلامتهم وصحّتهم النفسيّة).
***
نشر في: إيلاف“، 20 مايو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أين اختفى حسن نصر الله؟

سلمان مصالحة

أين اختفى حسن نصر الله؟

منذ مدّة غاب عن الشاشة
السيّد حسن نصر الله. لقد اختفت آثاره ولم يعد يطلّ منها على جمهوره المتلهّف لسماع خطبه وتحليلاته عن الأوضاع والمستجدّات على الساحة. والرجل معروف بحبّه الظهور على الشاشات في المناسبات المختلفة لطرح تصوّراته وما يختلج في صدره من أمور وأفكار وصيلة بشؤون "الأمّة"، أي العالم العربي والإسلامي. إنّه معروف بحبّ الظّهور والتّواصل مع الجمهور في كلّ شاردة وواردة. وهذه على كلّ حال هي عادة السّياسيّين في كلّ مكان، وليست حصرًا على سياسيّي العرب.

هكذا، عندما اندلعت المظاهرات
في مصر وخرجت الجماهير إلى ميدان التحرير، لم ينتظر نصر الله طويلاً، فقد شمّر هو الآخر عن ساعديه وخرج إلى ”شاشات التحرير“ وانضمّ بدوره إلى المتظاهرين معلنًا التّضامن مع ثورة الشباب المصري: ”في هذا اليوم نلتقي وهدفنا واضح... نحن نجتمع هنا لنعلن تضامننا ووقوفنا إلى جانب شعب مصر وشبابها، ومن قبل إلى جانب شعب تونس وشبابها...“، كما ورد في خطابه المتلفز حول الانتفاضة الشعبية المصرية.

وهكذا فعل أيضًا عندما وصلت
شرارة الانتفاضات الشعبية إلى البحرين، فقد خرج مرّة أخرى في خطاب ملتهب ناريّ أيضًا: ”كلمتي للأخوة والأخوات في البحرين، لا تتأثّروا بأصوات الطائفيين، ولا تحزنوا من إعلامهم ولا من فتاواهم... أقول لإخواننا وأخواتنا في البحرين: اصبروا وصابروا واثبتوا في الدفاع عن حقوقكم... إنّ دماءكم وجراحكم ستهزم الظالمين والطواغيت وستجبرهم على الاعتراف بحقوكم المشروعة...“.

ولكنّه، ومنذ مدّة قد اختفى
عن الشاشات المحبّبة لديه؟ طالما تحدّث عن المستضعفين في الأرض، وطالما تحدّث عن الظالمين والطواغيت، كما ذكرت مقتبسًا آنفًا من أحاديثه المتلفزة. غير أنّه في الآونة الأخيرة قد اختفى عن هذه الشاشات وعن الحديث عن المستضعفين، وعن الاستبداد والظّلم بعيدًا عن حدود لبنان. لقد اختفى لا لشيء سوى أنّه لا يدري ما يقول بشأن مستضعفين آخرين قريبين منه ومن لبنان قد خرجوا هم أيضًا ضدّ الاستبداد والظّلم. إنّهم المستضعفون السوريون الذين يذوقون الأمرّين طوال عقود من طغمة البعث القبلي، طواغيت سورية.

هكذا يصمت نصر الله
إزاء الجرائم التي يرتكبها هذا النّظام البعثي القبلي المستبدّ بحقّ المواطنين السوريين. وهكذا، يكشف عن كونه هو الآخر يكيل بمكيالين، إن لم يكن بمكاييل كثيرة. في تونس ترك زين العابدين بن علي البلد وجنّب شعبه القتل والدمار. وفي مصر لم يأمر مبارك الجيش المصري بقصف المدن المصرية وقتل الأبرياء. بينما في سورية يؤمر الجيش باحتلال المدن وقصفها على من فيها. نعم، إنّه النّظام ذاته الذي لم يطلق طلقة واحدة لتحرير الجولان، يرسل الجيش والمليشيات القبلية لقتل المواطنين السوريين الأبرياء.

ونصر الله لا يختلف في ذلك
عن صنف آخر من العرب. إنّه الصّنف الذي أطلقت عليه منذ زمن طويل مصطلح ”مراهقي العروبة“ الذين طالما تغنّوا بشعارات الممانعة من على منبر شاشة ”جزيرة“ العربان القابعة في ميدان قطر هو أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط. لقد اختفى كلّ هؤلاء عن الشاشات فيما يتعلّق بالشأن السوري وبشؤون انتفاضة الشعب السوري ضدّ الطغيان البعثي القبلي، وذلك إلى أن يتمّ الإيذان لهم بالبدء بالكلام.

لا يستطيع أحد أن يتّهمني
بأنّي أقف في صفّ مؤيّدي السلفية، فطالما كتبت في الماضي وطالما ورفعت صوتي ضدّ كلّ هؤلاء ومن لفّ لفّهم وفي أكثر من منبر وأكثر من لغة. غير أنّ هذا أمرًا وما يجري على الساحة هو أمر مختلف تمامًا. فالوقوف مع المستضعفين في هذا الأوان هو وقوف مع المواطنين السوريين، على جميع مللهم ونحلهم. نعم إنّه وقوف مع كلّ هؤلاء الذين سئموا العيش في كنف نظام توريثي مستبدّ أفقدهم ليس حيواتهم فقط، بل معنى الحياة أصلاً. وها هم أيضًا يخرجون للساحات ضدّ الظّالمين والطواغيت.

إنّ اختفاء نصر الله، كما
هو اختفاء مراهقي العروبة، واستنكافهم عن نصرة الشعب السوري ومطلبه بالحرية يكشف عن عورات كلّ هؤلاء. هل تذكرون كيف تسلّل دريد لحّام وأشباهه عبر الأنفاق إلى غزّة بدعوى فكّ الحصار عن أهلها؟ أنظروا كيف اختفى هو الآخر وأشباهه الآن، فلم يجد أمثال هؤلاء متّسعًا من الوقت للتّسلّل إلى درعا، حمص أو بانياس لفكّ الحصار عن أهلهم السوريّين الذين يتعرّضون للقتل والتنكيل منذ عقود، وليس الآن فقط.

كلّ هذه الوقائع تكشف عن زيف كلّ هؤلاء وعن زيف كلّ شعاراتهم. ولهذا اقتضى التنويه.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: إيلاف، 8 مايو 2011
___________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!