نعم، لا يوجد عالم عربي


سـلمان مصـالحة ||


نعم، لا يوجد عالم عربي

أيلول الأسود:
لا أدري لماذا أتذكّر الآن ما جرى في أيلول الذي سُمّي بالأسود سنة 1970. في ذلك الأيلول وعلى أثر الأحداث الدموية التي حصلت في المملكة الأردنية الهاشمية، وتحت ضغط الجيش الأردني قام بعض المسلّحين الفلسطينيين بعبور النّهر وتسليم أنفسهم بالذّات للجيش الإسرائيلي. نعم، لقد فرّوا من بلد عربيّ وفضّلوا تسليم أنفسهم لجيش الـ“عدو“.

أتذكّر هذه الأحداث الآن على ضوء ما يجري في سورية. فها هم العرب ينتكبون مرّة أخرى بأنظمتهم المافيوزية، ولكنّ النكبة هذه المرّة يصنعها العرب بأنفسهم ولأنفسهم. فها هم المواطنون السوريّون يفرّون باحثين عن ملجأ في تركيا خشية بطش هذا النّظام البعثي المافيوزي. نعم، إنّ المواطنين السوريين يفرّون من بلد هو بلدهم طالما ادّعى بأنه حامل لواء العروبة، وذلك بحثًا عن ملجأ في تركيا. وهي التي طالما وسمها مراهقو العروبة بأنّها أساس بلاء العرب وتخلّفهم، بسبب سيطرة العثمانيين على العرب طوال قرون.

خلاف على أسباب التخلّف:
لقد ذكرت مرّة لصديق تركيّ هذه الدعوى القوموية العربية والتي تنسب التخلّف العربي المزمن إلى تلك القرون من الحكم العثماني للمنطقة العربيّة. غير أنّ الصديق التركي انفجر ضاحكًا حتّى كاد يستلقي على قفاه. ولمّا حاولت الاستفسار عن سبب ضحكه هذا، أجاب: هنالك دعوى مشابهة في تركيا، غير أنّها معكوسة تمامًا. القومويون الأتراك يقولون إنّ سبب بقاء تركيا متخلّفة كلّ هذا الزّمان هو بسبب حكمهم العرب.

وفي هذا دلالة على أنّ القومويّين لا يختلفون عن بعضهم البعض. القومويّ يعلّق أسباب تخلّفه على الآخرين. إنّه لا يستطيع، أو أنّه لا يرغب في النظر إلى نفسه بالمرآة. إنّه يبحث عن أسهل الطرق بغية تجنّب مساءلة الذات، والوقوف على جذور وأسباب الفشل الذّاتي. لهذا السّبب أيضًا، فإنّنا نرى أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض قبولاً واستيعابًا لنظريّات المؤامرة على اختلافها وغرائبيّتها.


إنّه اليأس، يا خوري!
في مقالة بعنوان ”إنّه الأمل“ نشرها في ”القدس العربي“ في الأسبوع الفائت يصبّ الكاتب اللبناني إلياس خوري، ”المُصاب بالأسى“ بتعبيره، دلوًا من اللّوم على رأس الكاتب المغربي الطاهر بن جلون. ومناسبة هذا الدلو من اللائمة هو ما ورد من تفوّهات على لسان الطاهر بن جلون بشأن أحوال ”العالم العربي“ في لقاء حواري مع الروائي اللبناني شريف مجدلاني في بيروت. لقد ذكر أنّ بن جلون نفى وجود ”عالم عربي“ وهو ما حدا بإلياس خوري إلى التساؤل: ”ما معنى أن يقول بن جلون أن العالم العربي غير موجود؟“، ثم يُضيف: ”هل يكفي ان تكون هناك اختلافات في اللهجات والأديان كي يصير العالم العربي غير موجود؟“. ثمّ يذكر خوري من بين مسبّبات الأسى الذي دلقه عليه بن جلون في هذا اللقاء: ”لكن ما يثير الأسى هو ان يدافع المثقف عن نظام بلاده وعن مليكه، في بيروت، وعلى مبعدة مئة كيلومتر فقط من الشام، حيث تسيل الدماء.“

ولهذا السّبب يطلب الكاتب اللبناني من الكاتب المغربي أن يكون حذرًا وأكثر دقّة قائلاً: ”كان على صاحبنا المغربي أن يكون أكثر دقة. فالحوار العلني في الجامعة ليس شبيهًا بحوارات المقاهي، بل يفترض شيئًا من المسؤولية الأدبية.“

هكذا، إذن. إنّه يطلب من الكاتب المغربي أن لا يقول ما يجيش بصدره من أفكار في منصّة عامّة، بل يطلب منه أن يكون بوقًا لـ“فكرة مُتوَهَّمة“ اسمها الـ“عروبة“ أو ”العالم العربي“، وهي الفكرة التي طالما جلبت وبالاً على أصحابها. والغريب في الأمر أنّ هذه الدّعوى تأتي من كاتب لبناني، وهو على علم بحيثيّات الوضع اللبناني. ففي بلد صغير مثل لبنان، لم يستطع هذا البلد ولا زعاماته أو أهله أن يبنوا هويّة واحدة جامعة لأبنائه تتخطّى هذه الطوائف المتصارعة طوال تاريخه.

وعودًا على بدء:
نعم، لا يوجد عالم عربي. لا يوجد تكافل عربي بما تعنيه هذه الكلمة. فلو كان هنالك شيء اسمه ”عالم عربي“ لاستنفر هذا العالم نفسه لوقف المجازر التي يرتكبها البعث المافيوزي بحقّ المواطنين السوريين. يكفي المرء أن ينظر إلى صور التمثيل بجثث الأطفال السوريّين لكي يقف على طبيعة هذا النّوع من الأنظمة.

ولو كان هنالك شيء اسمه ”عروبة“ لانطلقت المظاهرات في العواصم العربية ضدّ هذا النّظام المجرم وضدّ كلّ ما يمثّله من استبداد طوال عقود من الزمان.

لكنّ الحقيقة هي أنّ بيوت العرب كلّها وكلّهم مصنوعة من زجاج. هذه هي الحقيقة المرّة التي يجب أن يواجهها كلّ عربيّ. وما لم يبدأ العربيّ بالنّظر إلى نفسه في المرآة فلن يصل إلى سواء السّبيل.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 13 يونيو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العقل في الرأس زينة

سلمان مصالحة

العقل في الرأس زينة

"الإنسانُ - كائنٌ يَبحثُ عن معنى" (أفلاطون)

أمّا بعدُ،
فقد درجَ العامّةُ لدينا، حينما لحظوا شخصًا ينفّذ عملاً يشوبه بعض الغباء، على إطلاق المقولة الشّعبيّة "العقل في الرّأس زينة". لقد قالوها تفكُّهًا على ما آل إليه صنيع ذلك الشّخص وتهكُّمًا به وبغبائه. والمقولة، على ما فيها من دعابة شعبيّة بريئة، تحمل في طيّاتها قولاً حكيمًا ينهلُ من موروث مغرق في القدم. فمثلما ذكر التّراث المشرقي القديم أنّ الإنسان هو تاج الخليقة، كذا هي الحال مع العقل في هذا التّاج، فالعقل هو درّة هذا التّاج المنصوب على رأسه، وهو، إذن، زينة هذا الرأس في نهاية المطاف.

وقد آن أوان أن ننظر قليلاً في هذه المسألة لما فيها من عون لذوي الألباب في فتح الأبواب أمامهم للوصول إلى سواء السّبيل. وما مرادي من هذا الكلام سوى شحذ الهمّة لدى بعض نفر هذه الأمّة ابتغاء الخير لها، ورفع ما ربخَ على أكتافها من غمّة.

في البدء نسألُ،
لماذا سُمّيَ هذا الجوهرُ اللّطيف، الكامن في الرأس الكثيف، عقلاً أصلاً؟ وللإجابة على السؤال حريّ بنا الذّهاب أوّلاً إلى الدّلالة اللّغويّة لهذا التّعبير. فالعقلُ، كما هي الحال مع الكثير من المصطلحات العربيّة مردّها إلى الصّحراء، وإلى البعير على وجه التّحديد، فقد قيلَ: "العقلُ مأْخوذٌ من عِقَال البعير" (عن: لسان العرب)، وَ"عقلَ البعيرَ: شَدَّ وظيفَهُ إلى ذراعه." (عن: القاموس المحيط)، وكذا هو رأي ابن الأنباري: "رَجُلٌ عاقِلٌ: وهو الجامع لأَمرِه ورَأْيه. مأْخوذٌ من عَقَلْتُ البَعيرَ، إِذا جَمَعْتَ قَوائمَهُ." (عن: محيط المحيط). أي أنّ العقل، في النّهاية "مشتقّ من العقل، بمعنى الرّبط والإحكام، كما قال بعض الحكماء." (عن: لسان العرب). فالعقل إذن هو الرّبط، أي النّظر في ما يُحدق بالإنسان من أمور شَتّى، المُجسَّدَة منها والمُجرَّدَة، ابتغاء الوصول إلى مفاهيم علميّة، ثقافيّة، اجتماعيّة وغيرها من أمور تواجه الإنسان في مسيرته على هذه الأرض وفي هذا الكون. فقد قيل إنّه: "جوهر مُجرَّد يُدرِك الغائِيَّات بالوسائِط والمحسوسات بالمشاهدة." (عن: لسان العرب).

هذا من ناحية الاشتقاق اللّغوي للتّعبير. أمّا من ناحية التّعريف، فقد قيل الكثير الكثير عنه. من بين ذلك ما ذكره الفيروزاباذي، ناقلاً عن الرّازي، أنّ العقل هو: "العِلْمُ بِصفاتِ الأَشْياءِ من حُسْنِها وقُبْحِها وكَمَالِها ونُقْصانِها." (عن: القاموس المحيط). أمّا ابن منظور فيقتبس، في معرض تعريفه للعقل، من تعريفات الجرجاني أنّ العقل هو: "جوهرٌ مُجرَّدٌ عن المادَّة في ذاتهِ، مقارنٌ لها في فعلهِ." (عن: لسان العرب).

غير أنّ الفقهاء
الّذين يعتبرون هذه الملكة نورًا روحانيًّا يقصرونها على الأمر والزّجر، أو الأوامر والنّواهي فحسب: "والمراد من العقل، ملكةٌ وحالةٌ في النّفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشّرور والمضارّ، وبها تقوى النفسُ على زجر الدّواعي الشّهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية." (عن: محمّد باقر المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول). أو كما يذكر سريّ السّقطي: "العقل: ما قامت به الحجة على مأمور ومنهي". كما أنّهم خلطوا بين النّفس والذّهن والعقل، واختلفوا في محلّ تواجد هذه الملكة: "وقيل العقلُ والنّفسُ والذّهنُ واحدة إلا أنّها سُمِّيَت عَقْلاً لكونها مُدرِكةً. وسُمِّيَت نفسًا لكونها مُتصرِّفةً وسُمِّيَت ذهنًا لكونها مستعدّة للإدراك. وقال أيضًا العقلُ ما يعقل بهِ حقائِق الأشياءِ. قيل مَحلُّهُ الرأس. وقيل محلُّهُ القلبُ." (عن: لسان العرب).

وبسبب الاشتغال بهذه المسائل، فقد ترك لنا التّراث الإسلامي أيضًا أحاديث نبويّة تتعلّق بهذا الجسم اللّطيف الّذي يُسمّى العقل. مثال على ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود: "عن عبد الله بن مسعود -رض-، قال: قال رسول الله -صلعم-: لمّا خلقَ اللهُ العقل قال له : أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، فقال له : ما خلقتُ خلقًا أحبّ إلي منك، ولا أركبك إلا في أحبّ الخلق إلي." (عن: إبن الأثير، جامع الأصول من أحاديث الرّسول). وهذا الحديث ينتقل ويتكرّر بروايات مختلفة واختلافات طفيفة في كثير من المصادر (أنظر مثلاً: إبن حنبل، كتاب الزّهد؛ الطّبراني، المعجم الكبير؛ البيهقي، شعب الإيمان؛ الغزالي، إحياء علوم الدّين؛ التّبريزي، مشكاة المصابيح؛ السّيوطي، الدّرّ المنثور، وغيرها). لقد ثار جدل بشأن صحّة هذا الحديث أصلاً، وبشأن أوّليّة خلق العقل، فقد قال الحافظ ابن حجر: "والوارد في أوّل ما خلق الله حديث أوّل ما خلق الله القلم، وهو أثبتُ من حديث العقل." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النّاس).

مهما يكن من أمر،
أكانَ الحديث موضوعًا أم لا من وجهة النّظر الإسلاميّة، فإنّه يشير إلى انشغال العلماء في فترة لاحقة من التّاريخ الإسلامي بقضايا بدأت تظهر على السّاحة مع التقاء المجتمع البدوي الخارج من جزيرة العرب بالحضارات الأخرى وظهور النّزعات الفلسفيّة عبر ترجمات من الحضارات الّتي انشغلت بالتّجريد، بخلاف الحضارة العربيّة الّتي عرفت التّجسيد ليس إلاّ. في الحقيقة، لا يمكن أن تكون الأحاديث الّتي جمعت ودوّنت بعد قرنين من الزّمان على الدّعوة إلاّ موضوعة بالقوّة وبالفعل. لكن، لسنا بصدد هذه المسألة، غير أنّ ما يلفت الانتباه هو أنّنا نسمع صدى هذا الجدل الفقهي مع الفلسفة، أي الحكماء، من خلال ما أورد الشّافعي: "إن العقول عند الحُكماء أوّل المخلوقات، وإنّ العقلَ عندهم أعظمُ الملائكة وأوّل المبدعات." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء).

في نهاية المطاف، ليس فقط أنّ العقل هو ما يفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات فحسب، بل هو الحدُّ الفردانيّ للمخلوق البشريّ الّذي يفرق بينه وبين سائر أبناء جنسه من هؤلاء البشر، أو "هو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم"، أي أنّ العقل هو الـ"أنا" على الإطلاق، كما يذكر الجرجاني بالنّسبة للعقل، فيقول: "وهي النّفسُ الناطقةُ التي يشيرُ إليها كلُّ أحدٍ بقولهِ: أنا." (عن: الجرجاني، التّعريفات).

من هذا المنطلق،
عندما ندعو إلى تفعيل العقل وإعلاء شأنه لدى أبناء جلدتنا فنحن إنّما ندعو إلى إعلاء شأن الإنسان، كلّ إنسان، في نهاية المطاف. فهذه الدّعوة هي دعوة إلى إعلاء شأن حدِّ بشريّته بوصفه كائنًا يبحث عن معنى. والبحث عن معنى، أي البحث عن معارف. والمعارف لا يمكن أن تُقتنَى بالإكراه، ومثلما ذكر أفلاطون فإنّ "المعرفة الّتي تُقْتنَى بالإكراه لا تَعلقُ بالعقل، كما أنّ المعرفة تتحوّل شرًّا إنْ لم تكن غايتُها أخلاقيّة".

لهذا السّبب، نرى على مرّ تاريخنا العربيّ أنّ الأوامر والنّواهي لا تصمد أمام الواقع. إنّها لا تصمد لأنّها تأتي بالإكراه ولذلك فهي لا تعلق بعقول البشر. وربّما خير مثال على ذلك ما يُنشر من إحصاءات في شبكة الإنترنت، فقد نشر أكثر من مرّة أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض بحثًا عن مفردة "جنس" ومشتقّاتها في الشّبكة. أليس في ذلك عبرة لذوي الألباب؟

لذلك، ليس فقط أنّ العقل في الرأس زينة، بل نواصل التّأكيد على الخير الكامن في هذه الملكة المسمّاة العقل، ففي نهاية المطاف فإنّ العقلَ وليّ التّوفيق.

وبهذه المناسبة نتمنّى للبشر أجمعين: كلّ عام وأنتم بعقل.
*
نشر في: ”إيلاف“، 22 ديسمبر 2007
________________

ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟



سـلمان مصـالحة

ما علاقة الله بعبد الله ونصر الله؟


لقد ورد في المأثور الحديث النّبوي التّالي: "عن أبي هريرة رض قال، قال النبي صلعم: كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يُهوّدانه أو يُنصّرانه أو يُمجّسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها جدعاء؟" (عن: صحيح البخاري. كذلك ورد الحديث باختلافات لفظيّة طفيفة في صحيح مسلم، ومسند أحمد، والتّرمذي وكثير غيرهم).

لن نتطرّق هنا في هذه العجالة إلى ما اختلف فيه السّلف من تفسيرات لهذا الحديث وسياقاته وأحكامه. ونكتفي بإيراد ما يلي باختصار لما يقتضيه مقصد المقالة. فقد ذكر ابن القيّم في هذا سياق الكلام عن معنى الفطرة: "سبب اختلاف العلماء في معنى الفطرة في هذا الحديث أن القدرية كانوا يحتجّون به على أن الكفر والمعصية ليسا بقضاء الله، بل ممّا ابتدأ الناس إحداثه. فحاول جماعة من العلماء مخالفتهم بتأويل الفطرة على غير معنى الإسلام. ولا حاجة لذلك، لأنّ الآثار المنقولة عن السلف تدل على أنهم لم يفهموا من لفظ الفطرة إلا الإسلام." (عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري).

ويذهب ابن القيّم إلى هذا القول بالنّظر إلى قوله تعالى فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والّذي يعقب الحديث. من هنا يستخلص ابن القيّم: "أنّ المراد بها فطرة الإسلام ولأن تشبيه المولود في ولادته عليها بالبهيمة الجمعاء، وهي الكاملة الخلق، ثم تشبيهه إذا خرج عنها بالبهيمة التي جدعها أهلها فقطعوا أذنها، دليلٌ على أنّ الفطرة هي الفطرة المستقيمة السليمة، وما يطرأ على المولود من التّهويد والتّنصير بمنزلة الجدع والتغيير في ولد البهيمة. ولأنّ الفطرة، حيث جاءت، مطلقة معرفة باللام، لا يُراد بها إلا فطرة التّوحيد والإسلام وهي الفطرة الممدوحة... وحيث جاءت الفطرة في كلام رسول الله صلعم فالمراد بها فطرة الإسلام لا غير." (عن: إبن القيّم، عون المعبود، شرح سنن أبي داود).

أمّا الحافظ العراقي فيقول أنّ معنى القول في الحديث "استُدلّ به على أنّ الولد الصغير يتبعُ أبويه في الإسلام والكفر... وقد أجمع المسلمون على ذلك. إنّما اختلفوا فيما إذا أسلمَ أحدُ أبويه فقال الشّافعي وأبو حنيفة وأحمد، والجمهور: يتبعُ أيّهما أسلم سواء كان هو الأب أو الأم، وقال مالك: يتبعُ أباه خاصّة دون أمّه، حتّى لو أسلمتْ أمّه وأبوه كافر استُمرَّ على الحكم له بالكفر." (عن: طرح التّثريب في شرح التّقريب)

ثمّ يأتي ابن تيميّة فيذهب في قوله إلى أبعد من ذلك بكثير، مضيفًا إلى ما سبق قولاً جديدًا: "وكلّ مولود يولد على الفطرة، وهي الحنيفية التي خلقهم عليها. ولكنّ أبَواهُ يُفْسدان ذلك فيُهوّدانه ويُنصّرانه ويُمجّسانه ويُشرّكانه، كذلك يُجهّمانه فيجعلانه منكرًا لما في قلبه من معرفة الرب ومحبته وتوحيده." (عن مجموع فتاوى ابن تيميّة). أي أنّ ابن تيميّة يضيف فرقة الجهميّة إلى ما ذكر السّالفون.

وإذا قبلنا بهذا المنطق الّذي ينطوي عليه الحديث، فحريّ به أن يكون منطقًا أمميًّا لكي تتمّ النّعمة على بني البشر. وبكلمات أخرى، حريّ بنا إضافة المسلم والعربيّ على العموم إلى جانب اليهودي والنصراني والمجوسي وغيرهم من البشر إلى هذا المنطق ذاته، لأنّه بغير ذلك تنتفي عن المقولة أمميّتها. بل نقول إنّه حريّ بنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول: ما من مولود إلاّ وُلدَ إنسانًا بغير غيبيّات، محبًّا لأخيه الإنسان، فأبواه يُغيّبانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالغيبيّات، ويُعصّبانه يُقبّلانه، أي يجعلانه مؤمنًا بالعصبيّة القبليّة، ويُوحّدانه ويُعنصرانه، أي يفسدانه فيجعلانه مؤمنًا بديانات سماويّة توحيديّة عنصريّة تكره ما سواها من البشر ومعتقداتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، لا يسعنا إلاّ أن نذهب إلى القول أيضًا إنّه، ما من مولود إلاّ وُلدَ بغير اسم، فأبواه يعبّدانه، أي يسميّانه عبد الله، وأبواه ينصّرانه، أي يسمّيانه نصر الله، وأبواه أيضًا يُقذّفانه، أي يسمّيانه قذّاف الدّم، كما تنتج اليابانيّات يابانيّين والكوريّات كوريّين والصّينيّات صينيّين، فهل تجدون في هؤلاء النّاس أسماء عبد الله ونصر الله وقذّاف الدّم؟. والحقيقة أنّي لم أشأ هنا في هذا السّياق استخدام كلمة بهيمة، كما وردت في الأصول العربيّة، لكي لا أُتّهم بعنصريّة بغيضة تجاه اليابانيين والكوريّين والصينيين وغيرهم من شعوب الأرض. وذلك لأنّ البشر والشّجر والوبر والحجر أجمعين من خلقه تعالى، كما يُقال في غير مقال من مقالات الجهلة من المؤمنين.

قديمًا قيل: من شبّ على شيءشاب عليه. كلّنا نعرف هذه المقولة لأنّنا شببنا عليها، وها قد شبنا ولم يطوها بعد النّسيان. والحقيقة أنّ في هذه المقولة شيء من الصحّة إذ أنّ علماء التّربية كثيرًا ما ينبّهون إلى الاهتمام بالطّفولة والسّنوات الأولى من حياة النّشء الجديد لما فيها من خطورة على مستقبل المجتمع بعامّة، لأنّ ما يرسخ في ذهن النّشء في هذه الأعوام يشكّل دخيرة لهم أو حملاً ثقيلاً على كواهلهم في مسيرة حياتهم.

ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أعتقد أنّ للأسماء تأثيرات بالغة الخطورة على حامليها. وأكاد أجزم أنّه لولا ذلك الاسم الّذي أطلقه عليه أبواه، لما كان صدّام مثلاً لينشأ مع هذه الذهنيّة العنيفة الّتي رافقته طوال حياته. لقد كتب الاسم صدّام مصير هذا الرّجل منذ الصّغر. وهكذا يمكننا أن نتساءل، هل يمكن أن يأتي الخير من رجل باسم قذّاف الدّم؟ وما الّذي فكّر به الأبوان عند منحه اسمًا كهذا؟ وأخيرًا أما يفكّر هذا بتغيير اسمه؟ أمّ أنّ قذف الدّم سيرافقه طوال حياته؟ هذه الحقيقة تعرفها حضارة قبائل اليوروبا الأفريقيّة، ففي تلك الحضارة يقيمون طقسًا يتمّ فيه منح الاسم للوليد في اليوم الثّامن لميلاده. إنّهم ينظرون ببالغ الأهميّة للاسم لأنّهم يعتقدون أنّ الاسم سيؤثّر على مصير وسلوك الشّخص مستقبلاً. إنّهم يعتقدون، على سبيل المثال، لو أطلق على الطّفل اسمُ لصّ مشهور فسيُصبح لصًّا عندما يكبر بلا أدنى شكّ، وهكذا.

ومن هذا المنطلق أيضًا،يمكننا القول إنّ ما ينفع للأشخاص ينفع في السّياسة أيضًا. فإنّ للأسماء مدلولات خطيرة يجدر الانتباه إليها. فعندما يتسمّى حزب بأسماء مثل الوطني أو القومي، فهو إنّما يُصادر صفة الوطنيّة والقوميّة من سائر النّاس وهي حيلة يستخدمها هؤلاء الّذين يدّعون الوطنيّة والقوميّة. وكذا هي الحال عندما يتسمّى حزب بأنّه الحزب المسيحي الدّيمقراطي مثلاً فهو إنّما يصادر هذه الصّفات وينزعها عن الآخرين، كما لو أنّ سائر المسيحيّين ليسوا مسيحيّين وليسوا ديمقراطيّين، وهي كذبة لا تنطلي على أحد. والحال ذاتها عندما يتسمّى حزب باسم الله، فهو إنّما يصادر الله لصالحه، جاعلاً منه شخصيّة سياسيّة لها حزب ينافح عنها، كما لو أنّ سائر الخلق ليسوا من الله ولا يمتّون إليه بصلة. وهي أيضًا حيلة مكشوفة لا تنطلي على أحد.

لهذا، فإنّ المجتمعات الّتي تنشد الخير يجب أن تصل إلى قناعة واحدة مفادها إنّه يجب حظر كلّ هذا النّوع من التّسميات وخاصّة فيما يتعلّق بالحياة العامّة في الدّولة المعاصرة. في هذه الدّولة العصريّة الّتي يطمح إليها بنو البشر على سائر مللهم ونحلهم، لا مكان لهذا النّوع من أسماء الأحزاب، ويجب حظرها دستوريًّا على جميع المذاهب والطّوائف.

وأخيرًا، لا مناص من الإقرار أنّ الطّريق الأقوم للمجتمعات المعاصرة هي طريق فصل الدّين عن الدّولة دستوريًّا. هذا هو الإجماع الوطني لكافّة الطّوائف والمعتقدات وهذا هو السّقف الوحيد الّذي يستطيع النّاس أن يحيوا تحته بطمأنينة في مجتمع المدنيّة. وأمّا ما دون ذلك فبئس المصير. أليس كذلك؟
***
نشر في: “شفاف الشرق الأوسط”، 3 يونيو 2008
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

المقامة اللُّوديڤيّة

سلمان مصالحة

المقامة اللُّوديڤيّة

حدّثني أبو نَهار المَغاري ذات صباح، عن غير نفرٍ من السّلف الصّالح دخل كلامُ بعضهم في كلام بعض، عن صاحبٍ ثقةٍ لا يهدأ له بال، ولا يقرّ على حال، قال، قال لي عائدٌ من بلاد الغال: اسمع هذه الحكاية عن رحلة التّرحال إلى ما وراء البحار، فلكلّ مقام مقال حتّى كادَ الأمر يلتبس على ذي البصيرة فَيَحار، إذْ ما فتئت اليدُ قصيرة والأكاذيب غفيرة.

قلتُ لهُ: يا صاحِ، هلْ لكَ أنْ تُسْفِرَ عَمّا بَطَنَ خلفَ ذا الوشاحِ من الكلام المسجوع، أو ما تكنّه بين الضّلوع؟ فما أنْ فرغتُ من السؤال حتّى استلَّ من فمه لسانًا صَيْرَفيًّا صارمًا ما مسَّ قطع، فأصابَ أرنبةَ أنفِه فَامْتَقَع، ثمّ نظرَ إليّ نظرَةً مِنْ خَلْفِ نَظّاراتِه ندمتُ إثرها على سُؤالِيهِ واحْتَجْتُ إلى جَلَدٍ في النّفس لِمُداراتِه. وبعدَ أنْ هدأ الغضبُ في نفسِهِ وسكنَ الهيجان، إستعاذَ من الشّيطان، وطفقَ يروي لي حكاية ذلك المهرجان، ضاحكًا باكيًا في آن.

بعد حسن الإستهلال بحمد ذي العزّة والجلال، قال: مع انعقاد دورة جديدة لأصوات المتوسّط الشّعريّة في مدينة لوديڤ في الجنوب الفرنسي، وهي أصواتٌ متنوّعة تنوّعَ الألسن والمشارب، لا بدّ من التّذكير بما يجري في المكان وبما يُكتَب عنه في صحافة (إقرأ منذ الآن: سخافة) العُربان. ففي العام الماضي شارك عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه في المهرجان وكان ما كان. لكنّني حين قرأتُ ما كُتب من مقالات أو ذُكر في مقابلات، سألتُ نفسي الأمّارة بالسّوء، هل كُنّا حقًّا معًا في نفس المكان، أم أنّ بعض الشّعراء العرب المشاركين مصابون بذلك الفصام الـمُزمن الّذي لا سبيل إلى مداواته. أم أنّ كلاًّ منهم كان حقًّا في مكانه يُغنّي على مهرجانه؟

المأساة يا صاح تكمن في أنّ البعض من الشّعراء العرب ينظرون إلى هذا الملتقى الشّعريّ، أو غيره، وكأنّه حلبة صراع ونزال، أو نزاع وقتال في بلاد الغال. وليست هذه الأقوال تُساق هُنا إلاّ عن البعض، لأنّ ثَمَّ آخرين، وليسوا نَفَرًا قليلين، لم يأبهوا بهذه التّرّهات، بل جاؤوا للشِّعر بعيدًا عن الشّبهات، وانتصروا للشِّعر في السّاحات فانتصرَ الشِّعْر بهم أمام النّاس. أمّا أولئك الّذين يوسوس في نفوسهم الوسواس، فقد جاؤوا للمهرجان قِلّة قليلة، وظلّوا سامدين في غيّهم ناشرين علانيةً هذه الخصلة العليلة.

وهكذا كان، فما أنْ عادَ هؤلاء النّفرُ من المهرجان إلى بلادِ العُربان حتّى أخذوا يُطبّلون ويزمّرون في الصّحافة الأبيّة، ويشيعونَ على الملأ بطولاتهم الڤيرطواليّة، مستنجدينَ بتعابير الصّمود والتّصدّي ممّا حمل في تضاعيفه لسان العرب، ناسينَ أو متناسين أنّ حبلَ الكذب قصير، وأنّ الحقَّ لَمْ يفتأْ لهُ في هذه الدّنيا نصير. فأينَ مقارعة الأعداء يا هؤلاء ممّا رأتْ عيناي وسمعتْ أذناي قبلَ عام، وأينَ أولئك الّذين جاؤوا يستنجدون سرًّا طالبين أمورًا لَنْ أفصحَ عنها الآن في هذا المكان، غيرَ أنّه يبدو أنّ رغبة المشاركة في المهرجان قد طغت على بعض العُربان حتّى عادوا يخلطون الحابل بالنّابل، وشعبان برمضان، ويكتبون للقرّاء في الأماكن البعيدة عن انتصاراتهم المجيدة.

وفي الختام، من رأى ومن سمع ما جرى في العام المُنصرم، ليُتابعْ ما يُكتب أو يُقال عن مهرجان هذا العام من جواهر الكلِم. فلكلّ مقامٍ مقال، أو زمرةٌ تروي الأباطيل، وخاصّة عمّنْ يأتي من إسرائيل. وهكذا، فهمتُ أخيرًا لماذا روى لي رفيقي الحكاية فضحكَ حينًا وحينًا بكى، فالطّبعُ عند البعض يغلبُ التّطبيع، رغمَ ما يُشاعُ في الصّحافة على مسامع الجميع.

وأدركَ صاحبي صباحُ العرب فقهقَهَ مليًّا حتّى انْتَحَب.
*
نشرت في: القدس العربي، 26 تموز 2000
______________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!