أسماء اغبارية | أين الجمهور العربي؟

إن هذه المرحلة الجديدة ستقبر التعصب القومي العربي والخطاب المتطرف داخل اسرائيل، تماما كما بدأت تقبر التعصب القومي اليهودي وتحشره في الزاوية. ان التعصب والانغلاق القومي العربي لم يحقق أي انجاز بل على العكس، عزل الجماهير العربية....

أسماء اغبارية | أين الجمهور العربي؟
(دور الشباب العرب في الحراك الاجتماعي الاسرائيلي)

بنفس شعار الثورة العربية وبنفس النغمة والوتيرة ردّد 150 الف متظاهر في انحاء اسرائيل باللغة العبرية مطلبهم: "الشعب يريد عدالة اجتماعية"، وطالبوا بنيامين نتانياهو بالاستقالة. كانت هذه اكبر مظاهرة على خلفية اجتماعية اقتصادية عرفتها البلاد. وكنت بين من تزاحموا في شوارع تل ابيب في ذلك اليوم، السبت 30/7، وكانت هذه اول مرة اشعر فيها، وانا اليافية، بان هذا البحر الهادر من الجماهير يستوعبني ويقبلني بل ويردد الهتافات بعدي، وقد تلاشت فوارق القومية والدين والجنس، ولو ليوم واحد.

ليس امرا بديهيا ان تتبنى تل ابيب، نيويورك الشرق الاوسط، شعارات العالم العربي، وتستلهم ثوراته وتطرح مطالب شبيهة جدا أمام زعمائها وتصدمهم هذه الصدمة التي لا يعرفون بعد كيف يستوعبونها او يواجهونها.

بعد المظاهرة التي استمرت اربع ساعات وانتهت بعد منتصف الليل، جلست الى احد قادة الحراك الشبابي، ريجيف كونتاس، وحدثني بلغة عربية مصرية متكسرة ومع ذلك واضحة، بانهم استمدوا الإلهام من ميدان التحرير في القاهرة. وقال ايضا ان الشرق الاوسط هو بيته وليس اوروبا والولايات المتحدة. لا شك ان هذا الحراك الاحتجاجي يعبر عن تحول عميق في الوعي الاسرائيلي لدى شرائح تتزايد في الاتساع، والتي فقدت ثقتها بالديمقراطية الزائفة وبالساسة الفاسدين.

لقد تجرأت الجماهير الاسرائيلية ان تخرج للشوارع، وان تضع جانبا خوفها على "دولتها" من اعدائها العرب المتربصين بها وتتنازل عن حاجتها لإظهار "التماسك" اليهودي، الصهيوني، الاسرائيلي سمّه ما شئت، مقابل البحر العربي الذي يهدد بابتلاعها. وكان اول من كسر هذا الخوف وهذا التقليد السياسي، هو الشعوب العربية نفسها عندما وضعت هي ايضا خوفها ومفاهيمها السياسية التقليدية جانبا، وحددت ان انظمتها العربية بغض النظر إن كانت موالية لاسرائيل او معادية لها - هي عدوها الاساسي وان خطابات المقاومة جاءت لتغطي على اهداف الانظمة وهي إدامة حكمها واستعباد شعوبها ونهب ثروات البلاد. لم تعد الشعوب تشتري الشعارات التي تعتبر اسرائيل العدو الاوحد، ولا! لا اقول ان العرب صاروا يحبون اسرائيل او احتلالها البغيض او عنصريتها، ولكن اقول ان الاجندة الاجتماعية-الاقتصادية هي التي تحرك ملايين العرب وتدفعهم للموت في سبيل الحياة.

الشباب الاسرائيلي استوعب ان هناك خطابا عربيا جديدا، لا التحريض الأعمى ضدهم الذي سيطر عليه بن لادن ونصر الله وامثالهما، وكان من السهل والطبيعي ان يتعاطفوا مع مطالب العرب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية لان القاسم المشترك كبير جدا. واذكر ان احد الشعراء الشباب من تل ابيب، روعي أراد اسمه، كتب رسالة لأخبار الادب في القاهرة مباشرة بعد اندلاع ثورة 25 يناير يقول فيها: انا فخور باني مواطن الشرق الاوسط.

خرج الشباب الاسرائيلي للشوارع على قضية بعيدة من ان تكون مسألة حياة او موت: عدم قدرة الشرائح الوسطى اليهودية على استئجار شقة ناهيك عن اقتنائها، وهذا ما جعلهم ينصبون خيمهم في جادة روتشيلد بتل ابيب، اكثر شوارع الدولة تألقا. ولكن سرعان ما اتسع الاحتجاج ليشمل كافة القضايا الاجتماعية الاقتصادية التي يواجهها اليوم المجتمع الاسرائيلي بعد اكثر من 30 عاما من اتباع اقتصاد السوق الحرة والخصخصة: غلاء الأسعار، ظروف العمل، الصحة، التعليم، حقوق الاطباء، العاملين الاجتماعيين والمعلمين، وحقيقة ان اكثر الاجراء يعيشون من الحد الادنى للاجور.

في المظاهرة نفسها عُرض فيديو قصير لنتانياهو يفاخر فيه باستقرار بلاده مقارنة بالزلزال الذي يهز العالم من شرقه لغربه بسبب الازمة الاقتصادية التي تجاوزت اسرائيل، وحظي الفيديو بهتافات مناوئة من المتظاهرين الذين عادوا لترديد شعارهم "الشعب يريد عدالة اجتماعية"، وجعلوا من نتانياهو مهزلة.

وبالفعل، كان يبدو ان شيئا لا يهدد هذا الاستقرار الثقيل لحكومة بيبي اليمينية، الأكثر تطرفا على الاطلاق. لا الفلسطينيين، لا غضب المقاومة، لا وعيد ايران، لا زعل اوباما، لا العزلة الدولية، لا المقاطعة، لا بلعين ولا نعلين، لا شيء. نقطة القوة التي ضمنت للنظام البقاء رغم الجمود السياسي، كانت النمو الاقتصادي. وخلافا لاسبانيا واليونان اللتين وقفتا عند عتبة الافلاس، لا تزال اسرائيل تتمتع بنسبة نمو مرتفعة وتراجعت البطالة فيها الى 5.7%، في حين يصل معدل الاجور الى 8000 شيكل شهريا (2400 دولار تقريبا). الى ان انكشفت الحقيقة المرة امام جماهير الطبقة الوسطى الاسرائيلية، وهي ان هذا النمو لا يتغلغل الى الاسفل، بل يتركز في شريحة ضيقة من 18 عائلة غنية صادرت منهم دولتهم.

عشرات الآلاف استفاقوا بعد موت "الحلم الاسرائيلي"، الحلم بان النجاح والمال، الكثير من المال، حليف من يجد ويجتهد. ولسان حال الشباب الاسرائيلي يقول: ها نحن تركنا الضواحي وانجرفنا الى تل ابيب، ها نحن نجد ونجتهد، وها نحن تخرجنا من المعاهد العليا والجامعات، وها نحن نفني انفسنا في ساعات عمل بلا نهاية، وبعقود شخصية، وبلا حقوق اجتماعية، المهم ان نتقدم في السلم الاجتماعي، ها نحن اليهود الشكناز، اصحاب هذه الدولة ومن يخدم في جيشها ومن يبدع ثقافتها، نصحو اليوم على "خازوق" كبير، على واقع نكتشف فيه اننا مسمرون في نقطة البداية، بالكاد ننهي الشهر بمعاشنا.

احدٌ ما سرق البلاد منا، لم تعد دولة اليهود دولتنا بل دولة الاغنياء اصحاب الرساميل الكبار، 18 عائلة تحتكر الاقتصاد وتشتري الساسة وتمص دماء الفقراء وتسحق الطبقات الوسطى تحت اقدامها. لم يعد الحلم صنع الثروات، بل تقلص الى شراء بيت صغير من غرفتين، والسترة. ولكن هيهات، فهذا صار حلما صعب المنال. سمك القرش الكبير لم يترك للاسماك الصغيرة نقطة ماء تلهو فيها. راحت السكرة وجاءت الفكرة.

لا، ليس الاحتلال ما يقض مضاجع الشباب الاسرائيلي مع انه يقلقهم، ولا السياسة الخارجية مع ان العزلة تضايقهم، ولا اقول ان اغلبهم تنازل عن الفكر الصهيوني، ولكن اجزم بأن ما دفع بهم الى الشوارع هو السياسة الداخلية التي صودرت فيها حقوقهم والمضامين الحقيقية للمواطنة والديمقراطية والحرية وموارد البلد، لصالح النخبة الرأسمالية. حالهم في ذلك حال الشباب العرب في كل من مصر، تونس، سورية، اليمن، البحرين، ليبيا وغيرها من المواقع التي لم تثر بعد لفرط القمع والهمجية. الشباب العرب ايضا وضعوا جانبا السياسات الخارجية، ولهم مواقفهم منها بالتأكيد، ولكن ليس على هذا الأمر خرجت ملايينهم الغاضبة، بل في سبيل الحق بالحياة والمستقبل.

شباب الفيسبوك الاسرائيليون، غير المسيّسين، يخرجون ضد نتانياهو والحكومات السابقة، ويخلقون بذلك المناخ لبناء يسار اجتماعي جديد. انهم يكسرون معادلة "اليمين واليسار السياسي" التقليديين، والذي كان في الحالتين يمينا اقتصاديا داعما للخصخصة. وهم في ذلك يفعلون ما فعله الشباب المصري عندما كسروا المعادلة الثنائية "إما مبارك أو الاخوان المسلمين"، وكلاهما يدعم البرجوازية والرأسماليين. يسار اجتماعي جديد بطبيعته يفتح المجال لطرح القضايا العربية لان اليهود اليوم يعانون ما بدأ العرب يعانونه من قبلهم، وهو لذلك نافذة اولى من نوعها للتواصل مع العرب والفلسطينيين.

والآن، أين العرب مواطني اسرائيل من هذا الزلزال الكبير؟ وماذا يفعلوا لكي يؤثروا عليه ويطرحوا من خلاله قضاياهم ومطالبهم. ان هذا السؤال يزداد الحاحا علما ان بعض هؤلاء الشباب يتوقعون منا ان نؤثر، وقد سألني بعضهم بعد المظاهرة - كيف يمكن ان نجذب العرب لينضموا الى الحراك؟ في اليوم التالي للمظاهرة التي افتقدتُ في خطاباتها كلمة "عرب"، تحدث في برنامج (لوندون-كيرشنباوم) بالقناة العاشرة بالتلفزيون الاسرائيلي، احد قادة الحراك، اساف ليفي، وافتتح المقابلة بالاعتذار انه لم يذكر في خطابه موضوع الأخوة اليهودية العربية، وقال ان الموضوع مهم جدا بالنسبة لهم.

لقد غنت جوليا بطرس - وين الملايين؟ وها هي ملايين العرب قد خرجت، وأتساءل - وين المليون؟ اين المليون عربي في اسرائيل؟ طريف بالفعل ان يكون اول من استلهم الاحتجاج من شباب العالم العربي هم الشباب اليهود الاسرائيليون، في حين لا يزال العرب قابعين في بيوتهم، ومن غير الواضح مما هم خائفون وماذا لديهم يخسروه سوى القيود.

اول ردود الفعل من العرب جاءت مخيّبة للآمال، ولا ترتقي لاستيعاب الحدث ولا الى فهم المرحلة التاريخية الجديدة التي دخلناها، ومن ذلك مثلا الادعاء او الشكوى: ان العرب يعانون اكثر من اليهود؛ او، اين قضايانا، مثل مصادرات الاراضي والخنق المتعمد للبلدات العربية وعدم ترخيص بناء المساكن وهلم جرا من مظاهر التمييز العنصري المعروفة والمشهود لاسرائيل بها، اين كل هذا من مشاكل الطبقة الوسطى اليهودية المدلّلة؟ وطبعا لم يغب الادعاء "الكاسح"، بان الصهيونية والتمييز العنصري والاحتلال هي مشاكلنا الاولى وهذه غير مطروحة في الحراك الشبابي الاسرائيلي.

وانا أرى ان وقت الشكوى قد ولّى وانقضى، ولا معنى للمفاخرة بكوننا ضحية وباننا اكثر مظلومين من غيرنا، كما لو كان تعريفنا كضحية عماد هويتنا. حان الوقت للخروج من التقوقع العربي. ان هذه الحركة الاحتجاجية الاسرائيلية تبادر وتطرح التغيير الاجتماعي الاقتصادي، والسؤال الذي سيكون على المجتمع العربي الرد عليه هو: هل نحن مع التغيير الاجتماعي الاقتصادي ام لا؟ هل الحركة التي تطلب العدالة الاجتماعية يمكن ان تفتح نفسها على الجماهير العربية ام لا؟ هل هي يمينية فاشية ام ان اتجاهها ديمقراطي ويساري يضمن ايضا العدالة الاجتماعية للعرب؟ اذا نظرنا الى ارتعاد فرائص اليمين الاسرائيلي وزمر المستوطنين تجاه هذه الحراك وكيف يصادر منهم ومن تطرفهم الشوارع والاجندة وعناوين الصحف، ندرك ان في هذا الحراك مكان لنا ايضا، ومن يرفض الانخراط فيه انما يفوّت علينا فرصة ثمينة للتغيير الملموس ويسبب بذلك ضررا كبيرا للوسط العربي.

إن هذه المرحلة الجديدة ستقبر التعصب القومي العربي والخطاب المتطرف داخل اسرائيل، تماما كما بدأت تقبر التعصب القومي اليهودي وتحشره في الزاوية. ان التعصب والانغلاق القومي العربي لم يحقق أي انجاز بل على العكس، عزل الجماهير العربية. فالشعب يريد التغيير فعلا، يرد المسكن، يريد التعليم، يريد الصحة، يريد العمل والخبز. أليس على الرغيف والحرية خرجت الجموع العربية؟ لقد آن الأوان للاستيقاظ والبحث عن حلفاء داخل الحركة الاحتجاجية الاسرائيلية التي تعبر عن نفس العملية التي تمر بالعالم العربي واسبانيا واليونان، وتشكل لذلك حليفا قويا لقضايانا العادلة، وتستحق الدعم منا ومن كل العرب في كل مكان، فلشعوبنا العربية أسهم فيها ولا مانع في ان نفتخر بأن شعوبنا العربية صارت تؤثر.

اليوم تقود الحراك الطبقة الوسطى، تماما كما هو حال الحراك المصري، وتشارك فيها تيارات مختلفة بعضها يساري وبعضها يميني، ولكن ما سيأتي سيكون اعظم وأعمق، وذلك عندما تعصف الازمة الاقتصادية باسرائيل ايضا. طالما ان البطالة في اسرائيل لم تصل بعد الى 20% كما هي الحال في اسبانيا، ولم يضربها الركود، فالحراك سيبقى محدودا، ولكنه يمكن ان ينتشر كالنار في الهشيم ويحقق ثورة بكل معنى الكلمة عندما يتراجع الوضع الاقتصادي وهذا مجرد مسألة وقت، لان اسرائيل ليست جزيرة معزولة عن العالم.

هناك مؤشرات وقلق بالغ في صفوف النخبة الاقتصادية في اسرائيل ازاء ازمة الديون المتفاقمة في الولايات المتحدة. وقد قال ستانلي فيشر، عميد بنك اسرائيل المركزي، في مقابلة لصحيفة "يديعوت احرونوت" (31/7) بانه اذا تراجعت مكانة امريكا كقائدة للعالم سيكون للأمر انعكاسات خطيرة على اسرائيل بكل ما تعنيه الكلمة. ويؤكد هذا ما قلناه في حزب دعم في وثيقة عام 1999 (بعنوان: القضية الفلسطينية والبديل الاشتراكي) ولا نزال نقوله، بان الوضع الاقتصادي العالمي هو المفتاح لتغيير موازين القوى بما يمكن ان يخدم مصلحة الشعب الفلسطيني بالتحرر ومصلحة الشعبين العربي واليهودي بالديمقراطية الحقة والعدالة الاجتماعية، وكجزء لا يتجزأ من شرق اوسط متحرر من طغاته.

في هذه المرحلة نحن في نقابة معا وحزب دعم العمالي حسمنا خيارنا، ونصبنا خيمتنا الحمراء في جادة روتشيلد بتل ابيب، وكنا بين المبادرين لخيمة الاعتصام في الناصرة، ولنا تواجد ايضا في مخيم باقة الغربية. ساحة النشاط واسعة وهي في انتظار المزيد من المبادرات العربية لنؤثر ونغير.
*

نقلاً عن: "الصبار",
ـــــــــــــــ

أحمد أبو مطر | من الجنابي إلى سلمان مصالحة، هل هناك أمل ...؟

أحمد أبو مطر

من الجنابي إلى سلمان مصالحة،
هل هناك أمل في مُصالحة مع العقل؟

مقالة الزميل عبد القادر الجنابي المنشورة في إيلاف بتاريخ الحادي والثلاثين من يوليو 2011 بعنوان (حصاد علوي واستفزازات أخرى)، فسّر بعض مضامينها الزميل سلمان مصالحة يوم الثاني من أغسطس 2011 في مقالته بعنوان (هل هو اليأس يا عبد القادر؟). هذا السجال الجنابي المصالحي، أعطاني دفعة من تفكير للدخول في نفس النقاش لأنّه شئنا أم أبينا، أعلنا أم أخفينا، تظاهرنا أم تصارحنا، هو الموضوع الرئيسي للصراع في أكثر من قطر عربي، رغم وجود مسببات وعوامل صراع أخرى أهم، يفترض أن تجمع الجميع شعوبا و وطوائف، إلا أنّ الأنانية العربية والاصطفاف المصلحي الفردي والطائفي منذ نهاية زمن من أطلق عليهم الخلفاء الراشدون، أي أنّ كلّ من جاء بعدهم تحت مسميات (خلفاء) عباسيين أم أمويين أم عثمانيين فهم غير راشدين، وهو ما أدّى بشكل علني لتغليب الاصطفاف المصلحي الطائفي على مواجهة الأخطار الأخرى ليست الخارجية فقط، بل الداخلية الأخطر مثل الفساد وشيوع الأمية والتخلف الذي يضع أغلب الدول العربية في خانة الدول الفاشلة، أو المستهلكة فقط بمعنى لا تنتج ما يمكن تصديره لاستهلاك الدول الكبرى، ما عدا النفط في بعض الأقطار العربية، وأيضا لا فضل للعرب في اكتشافه واستخراجه وتكريره وتصديره، فكل هذه المراحل تتم بفضل العقل والتكنولوجيا الأمريكية والأوربية.

صباح زوين | لكل جمعة اسمها وموتها

صباح زوين | لكل جمعة اسمها وموتها

الجمعات تتوالى، وجمعة بعد جمعة يتواعد معارضو الأنظمة مع موت إضافي وقتل متجدد ومباح على اجسادهم العزلاء، على أرواحهم الشجاعة وعلى صدورهم العارية، عارية سوى من الجرأة العظيمة·

صحيح أننا رأينا ما رأيناه في الحروب اللبنانية من قتل وتعذيب وقنص وقصف وخطف وويلات لا تحصى، لكن ما شاهدناه الأحد الماضي، ولا نزال، على شاشاتنا، كان أكثر مما يحتمله العقل، كان هائلا ً
وفظيعًا· أذكر ولو بغموض كبير أحداث مدينة العاصي ونواعير المياه والقناطر الرومانية الرائعة، أذكر تلك الأحداث التي حرقت الأخضر واليابس وأزهقت الأرواح قبل ثلاثة عقود، اذكر فتات ما نقلته الينا اخبار شفهية عن شهود عيان من هناك، وخشيت أن يكون ما يحدث اليوم في هذه المدينة التاريخية يبشر بما سبق وحدث فيها آنذاك· الى متى هذا الصمت الخبيث من قبل العالم الغربي والعربي؟! الى متى سيتفرجون ويغسلون ضمائرهم النائمة ببضع كلمات ليست اكثر من ”واجب“ اعلامي يشبه التنديد وليس بتنديد؟! الى متى سيبقى المحتجون معزولين عن اي دعم حقيقي؟

كل جمعة تأتي بسبتها الجنائزي وأحدها الململِم جراحه وإثنينها التحضيري وثلاثائها التظاهري الليلي وأربعائها الرابط بين بقية ايام الأسبوع الخ الخ، فيسمّون جمعتهم التالية بما يرونه مناسباً للحدث والظرف وهكذا دواليك· ما لفتني، هذا التفنن في التسميات، من جمعة الى أخرى، فما من تكرار وما من جمود· تسميات تتبارى في التشكيل والتنويع، في الطرافة والتخييل، وذلك مهما صعبت الظروف ومهما كبرت المطبات وضخمت أحجام المجازر والمخاطر· من جمعة الى جمعة، تتنوع التسميات إذاً وترافقها الشعارات والأغنيات· صحيح ان الشعارات هناك اقل تدبيراً وطرافة وحنكة من التي اطلقناها سنة 2005، لكن ما يطلقونه المعارضون العرب من اليمن الى مصر وصولاً الى سوريا بشكل خاص من تسميات لجمعاتهم، يستحق التوقف عنده والتأمل فيه· انها تسميات مليئة بالحيوية وحب الإبتكار·

ولكن عودة الى الثمن الذي يدفعه كل محب للحرية المطلقة، الحرية المشروعة، الثمن هو أن يدكّ الرصاص أجساداً عارية وبريئة من أي ذنب سوى ذنب المطلب الإنساني البديهي في العيش الكريم· الثمن هو أن يُقتل مجدداً أطفال لم يروا شيئاً من هذه الدنيا سوى الطغيان والتعذيب الروحي والجسدي· وإذا مات الجمعة الماضية طفل جديد آخر من عمر حمزة الخطيب، فقبل ايام قليلة التحقت بهما طفلة مثلهما، طفلة لم تبلغ السابعة بعد، ربما لكي تلعب معهم في جنة الطفولة المفقودة، في جنة حدائق الآخرة حيث ترتاح أرواحهم من مآسي بلدانهم المزمنة·

وساحة العاصي افتقدت حنجرة الشاب قاشوش، افتقدت صوته وتهكمه وعطشه الى الحرية، الى القول الذي لم يقله لا هو ولا الشعب اجمع قبل ذلك اليوم، يوم التظاهر والإحتجاج، وكان قبل ذلك قد انعقد اللسان طويلاً، خوفاً من العبث، وأتى هو ليفك اللسان عنه وعن كل من كان حوله، بحيوية وتفاؤل، الا انه ذهب، وقد اقتلعت منه هذه الحنجرة الذهبية لتلتحق بقافلة الشهداء، ولعله يرى هو والأطفال الشهداء وكل من سبقهم من الشباب، لعلهم يروا كلهم من فوق، يوماً ما، مصيراً أفضل لبلدانهم، وقد دفعوا ثمنه غاليًا.
*
نقلاً عن: اللواء، 6 أغسطس 2011
__________________

هل هو اليأس، يا عبد القادر؟

سلمان مصالحة

هل هو اليأس، يا عبد القادر؟

الصديق عبد القادر الجنابي، وهو العراقي الذي يعيش في الغربة منذ عقود ولأسباب تتعلّق بنظام بلده الآفل والتي لا تخفى على كلّ من يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة، مشغول كما نحن مشغولون جميعًا بهاجس الحال التي آلت إليه أوضاع هذه البقعة من الأرض التي سكنتها العرب منذ قرون طويلة.

وعلى الرّغم من الأمل الذي ينتاب الفرد بين فينة وأخرى لهبوب البشر من أبناء جلدتنا العرب ضدّ الظّلم والاستبداد في هذه الأصقاع العربيّة، إلاّ أنّ هذا البصيص من الأمل سرعان ما يخبو أو يكاد يخبو لما يصل الأسماع من كلام ينمّ عن دفائن خبيثة، طائفيّة دينيّة وعرقيّة، هنا وهناك.

لقد نشر الجنابي مؤخّرًا مقالة في “إيلاف” بعنوان “حصاد علوي واستفزازات أخرى”، وسكب فيها مقولات تنمّ عن حالة من اليأس. لقد استثارتني المقالة لأنّنا جميعًا، أو على الأقلّ لأنّ كثيرين منّا، يشعرون بهكذا حالات بين فينة وأخرى. وكيف لا يشعر المرء بالاكتئاب واليأس وهو يرى هذه المجازر التي تنفّذها الأنظمة مرّة والمليشيات مرّة أخرى بحقّ النّاس البسطاء في هذا القطر العربي أو ذاك؟

يبدو أن الصديق الجنابي قد بلغ به اليأس مبلغًا لا يُستهان به، من أحوال وطنه من جهة أولى ومن أحوال هذه الأمّة من جهة أخرى. ولكن، وبقدر مبلغ هذا اليأس الذي تنضح منه المقالة التي نشرها في إيلاف، كذا هو عمق الصّدق الذي تنضح به مقالته. فقط الجهلة من القرّاء سيظنّون أنّه يدعو إلى حرب طائفيّة، وإلى سفك الدماء مثلما قد تُفَسّر كلماته حرفيًّا. وفقط الجهلة سيسارعون إلى اتّهامه بالدعوة لمثل هكذا وضع وهكذا حال.

إنّه يكتب كلّ هذا الكلام لأنّه يرى ما يجري على الساحة. والحقيقة المرّة التي يجب أن تُقال علانية وعلى رؤوس الأشهاد هي أنّ الواقع العربي ومنذ قديم الزّمان دائمًا كان، وهو لا يزال حتّى هذا الأوان مشروعًا قبليًّا طائفيًّا ملتهبًاخافيًا تحت الرّماد ينتظر فرصة هبوب ريح ليظهر على السطح ويأكل الأخضر واليابس.

ولهذا السبب، لا يمكن أن ينبع هذا الكلام الذي يدوّنه الجنابي في مقالته إلاّ من يأس آخر. إنّه ”يأس شعريّ عنيف“ من حال هذه المجموعات البشريّة التي درجت طوال قرون أن تُظهر الخير شعارًا في العلن بينما هي تبطن الشرّ في السرّاء، وفيما بطن. إنّ ما يجري على الساحة العربيّة في هذا الأوان هو خير مثال على هذه الحال النفسيّة، على هذا الفصام. أنظروا إلى ما يجري في الشّام فلكم في بلاد الشّام أسوة سيّئة.

نعم، يجب أن نقول الحقيقة مهما كانت مرّة. لقد سئمنا الشعارات التي أضحت، وطوال قرون طويلة، بمثابة كواتم عقول في رؤوس العرب. إنّ دعوة الجنابي هي دعوة للمصارحة. إنّها دعوة لقول الحقيقة المرّة لتظهر تحت ضوء الشّمس بغية المصالحة مع النّفس.

والعقل وليّ التوفيق!
*
نشرت في “إيلاف”، 2 أغسطس 2011
______________

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!