القصيدة الشاميّة


ولأنّ للعواطف مكانًا في هذا الفضاء العربي الدّامي، فقد آن أوانُ هذا القريض الذي يسير على خطى القصيد العربيّ...

 

سلمان مصالحة||

القصيدة الشاميّة


أحيانًا، هنالك لحظات يبتعد فيها المرء عن الخوض في تحليل الأحداث التي تجري على الساحة، ويبتعد فيها عن اللغة التقريرية التي يتطلّبها مقال سيّار من هذا النّوع. أحيانًا، هنالك لحظات يكون فيها للعاطفة دور غالب. فما بالكم، ونحن نرى كلّ هذا التّقتيل اليومي للبشر في منطقتنا؟

لقد كان ذكر قديمًا، طرفة بن العبد، شاعرٌ عربيّ حكيم من السّلف الصّالح أنّ ”ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً“. وها هو ذلك الظّلم، وها هم ذوو القربى، وها هي تلك المضاضة من ذلك الماضي تظهر جميعًا الآن على الملأ وبجلاء، بفضل وسائل الاتّصال الحديثة. إنّها بارزة بكلّ قتامتها أمام أعين من لا يزال يمتلك ذرّة من بصر أو بصيرة.

ولأنّ للعواطف مكانًا في هذا الفضاء العربي الدّامي، فقد آن أوانُ هذا القريض الذي يسير على خطى القصيد العربيّ:


سلمان مصالحة

القصيدة الشاميّة


نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ

فَالظّالِمُونَ تَمَادَوْا فِي مَظَالِمِهِمْ
لا يَأْبَهُونَ بِطِفْلٍ قَامَ يَخْتارُ

عَيْشًا كَرِيمًا وَحُلْمًا فِي مَرابِعِهِ،
حُرِّيَّةً نُقِشَتْ فِي النَّفْسِ، فَاحْتارُوا

إنْ أَخْمَدُوا وَلَدًا شَبَّتْ مَلائِكَةٌ
لا يَعْرِفُونَ بِأَنَّ الجَمْرَ سَعَّارُ

لَنْ يُطْفِئُوا أَمَلاً فِي نَفْسِ مَنْ نَبَتَتْ
فِيهِ حَمِيَّةُ أَبْرارٍ، بِهِ نَارُ

لِلظّالِمِينَ دِيَارٌ عِنْدَ مِزْبلَةٍ
كَيْ يَخْلُدُوا مَثَلاً فِيها وَيَعْتَارُوا

لا يَفْقَهُونَ أُصُولَ الحُلْمِ مُذْ دُحِيَتْ
أَرْضٌ لِعَيْشٍ، بِأَنَّ الدَّهْرَ دَوَّارُ

مَهْمَا تَغابَى سَراةُ الضَّيْمِ فِي بَلَدٍ
وَاسْتَأْسَدُوا عَمَهًا فَالشَّعْبُ صَبَّارُ

وَإنْ تَأَخَّرَ بَلْجُ الصُّبْحِ عَنْ مَهَلٍ
لا بُدَّ تَعْقُبَهُ فِي التّوِّ أَنْوارُ

***

نَدًى بِعَيْنِكَ أَمْ كَلْمٌ يُؤَرِّقُها
غَداةَ طَلَّ عَلَى الشّاشاتِ أَحْرارُ

هَبُّوا فَرَادَى فَهَبَّ النّاسُ خَلْفَهُمُو
حَتَّى أَتاهُمْ إلَى المَيْدانِ غَدَّارُ

فَاسْتَلَّ مِنْ جُعْبَةِ الشَّيْطانِ عُدَّتَهُ
يَغْتالُ فِي شَغَفٍ أَحْفادَ مَنْ سَارُوا

وَراءَ حُلْمٍ تَنامَى بَعْدَمَا انْعَتَقَتْ
فِي النّاسِ أُغْنِيَةٌ تَعْلُو وَأَنْظارُ

إنَّ الغَمامَ الّذِي يُرْخِي ضَفائِرَهُ
ناحَتْ بَوَارِقُهُ مِنْ فِتْيَةٍ ثَارُوا

فَاسْتَقْبَلُوا حِمَمًا مِنْ نَارِ غاصِبِهِمْ
لَمْ يَنْجُ مِنْ لُؤْمِها الأَهْلُونَ وَالجارُ

***

نَدًى بِعَيْنِكَ أَمْ دَمْعٌ تُكَفْكِفْهُ
لَيْلاً عَلَى نَفَرٍ فِي النّهْرِ قَدْ صَارُوا

لَوْلا الهَوانُ الّذي أَخْنَى عَلَى عَرَبٍ
لاسْتَنْفَرَتْ رَبْعَهَا فِي الشَّرْقِ أَخْيارُ

لكِنَّنَا هَمَجٌ مِنْ أُمَّةٍ دَثَرَتْ
لا يَنْفَعُ القَوْلُ فِي مَنْ زَيْتُهُ قَارُ

يَا سَامِعَ الصَّوْتِ لا تَبْخَلْ عَلَى وَلَدٍ
مِنْ بَعْضِ ما حَمَلَتْ فِي اللَّيْلِ أَذْكَارُ

وَارْحَمْ بِعَطْفِكَ طِفْلاً غَابَ فِي عَفَرٍ
أَلْغَتْ جَوارِحَهِ الأَحْقَادُ وَالعارُ

عارٌ عَلَى عَرَبٍ مِنْ أُمَّةٍ حُسِبَتْ
فِي قَوْلِهَا نَسَبٌ، وَالفِعْلُ أَغْيَارُ

عارٌ عَلَى حَجَرٍ، عارٌ عَلَى شَجَرٍ
عارٌ عَلَى بَشَرٍ فِي الشّامِ بَشّارُ

*

كانون الثاني 2012
***
نشرت في: ”إيلاف“، 12 يناير 2012


هل حقًّا ”الشعب السوري ما بينذلّ“؟

يجب أن لا يغيب عن الذّهن أيضًا أنّ الدّعوة إلى إسقاط هذا النّظام يجب أن تترافق مع دعوة لصيقة بها وهي دعوة إسقاط كلّ هذه التّوجّهات العنصريّة الدينيّة الأخرى الّتي لا تقلّ خطرًا عن الاستبداد البعثي.

سلمان مصالحة

هل حقًّا ”الشعب السوري ما بينذلّ“؟


هكذا، وبعد أن شاهد الناس
كيف بدأت ماكينة القمع البعثيّة عملها قتلاً وسحلاً ودوسًا على رؤوس الأطفال والكبار، ناهيك عن استئصال الأعضاء البشرية، انطلق ذلك الشّعار العفوي على ألسنة النّاس: ”الشعب السوري ما بينذلّ“. لقد انطلقت هذه الصرخة من قحف الرأس السوري الذي داسته طغمة البعث التي استبدّت بالبشر والحجر والشّجر طوال عقود طويلة. لقد انطلقت الصرخة من أعماق ذلك الذلّ الذي فرضته هذه الطغمة الرابخة على صدور هذا الشعب سنوات طوال.

إنّ هذا الشعار يعني
بين ما يعنيه، أنْ كفى ذلاًّ دام عقودًا. إنّه يعني أنْ، كفى ضحكًا على النّاس بشعارات الدّجل البعثي التليدة والبليدة، عن الأمّة الواحدة والرسالة الخالدة. كفى دجلاً بشعارات الصمود والتصدّي وما إلى ذلك من بلاغات الماضي، التي استُبدلت في المرحلة الجديدة بشعارات لا تقلّ بلادة عن ذلك الماضي، من مثل شعار ”الممانعة“، وشبيهاتها. فها هي هذه الـ”ممانعة“ البعثية تنكشف حقًّا على الملأ. العالم بأسره يشاهد ما تفعله ماكينة القمع الـ”ممانعة“ في محاولة منها لـ”منع“ البشر من التعبير عن رفضهم لبقاء هذا النّظام جاثمًا على صدور العباد.

في الواقع، لقد انذلّ الشّعب السوري
طويلاً، مثلما انذلّ الشّعب العراقي طويلاً من قبل. إنّ الحقيقة المرّة التي لا مناص من مواجهتها هي أنّ أيديولوجيّة البعث الكاذبة هذه، في بلاد الرافدين وفي الشام، قد أذلّت الناس على مختلف أطيافهم وطوائفهم. لقد رفعت شعارات طنّانة تدغدغ بها عواطف العامّة بغية إحكام القبضة الحديديّة القبليّة على البشر، لتنتهي بهم إلى توريث الحكم كما لو كانت البلاد مزرعة قبليّة وطائفيّة.

إنّ ماكينة القتل البعثية هذه
هي خير مثال على هذا الحضيض العربي. إنّها خير مثال على كلّ هذا الدّجل العروبي الذي طالما تغنّت به هذه الأيديولوجيّة. إنّ ماكينة القتل هذه تكشف على الملأ هشاشة هذه الهويّة، بل هشاشة هذه الهويّات العربيّة التي تعيش في الشّعار ليس إلاّ، بينما هي الواقع خلاف ذلك تمامًا. صحيح أنّ هنالك شعارًا آخر يُرفع بين حين وآخر، وهو: واحد، واحد، واحد. الشعب السوري واحد“. غير أنّه هو الآخر، إنّما يُرفع تمنّيًّا، بينما الوضع في الواقع هو خلاف ذلك. لأنّ هذا ”الشّعب المتوهّم“ هو خليط من الملل والنّحل والقبائل الّتي تُضمرُ الكراهيةً للآخر، في الوقت الّذي تتغنّى فيه بالوحدة شعارًا فقط.

يكفي النّظر إلى أيّ بقعة صغيرة،
إلى قرية أو بلدة أو مدينة في هذا المشرق، يعيش فيها عرب من طوائف مختلفة، لمعرفة حقيقة الدّجل بخصوص هذه الهويّة العربيّة المتوهّمة. إنّ حال البلدة الصغيرة هي حال البلد الكبير، فـ”هذه العصا من تلك العصيّا“، كما يقال في لغة الأعراب. فالبلدان، والحارات مفروزة طائفيًّا وقبليًّا وهذه الطوائف والقبائل لا تتداخل فيما بينها إلاّ فيما ندر. إنّ الاستثناء يشهد على عمق هذه القاعدة في نهاية المطاف. وعندما أؤكّد على هذه الحقيقة، فإنّي لا أستثني أحدًا من كلّ هذه الملل والنّحل ومن كلّ أصحاب هذه النّعرات.

إنّ الخروج ضدّ الطائفيّة والقبليّة
يجب أن يكون خروجًا جذريًّا، وعلى جميع تشكيلات وتنويعات هذه النّعرات الدينية والإثنية. إنّ هذه النّعرات هي التي تقف حاجزًا يصعب تخطّيه في الطّريق إلى خلق مجتمع عصري ودولة مدنية يتساوى فيها الأفراد، من ذكر وأنثى، على اختلاف خلفيّاتهم.

يجب أن لا يغيب عن الذّهن أيضًا أنّ الدّعوة إلى إسقاط هذا النّظام يجب أن تترافق مع دعوة لصيقة بها وهي دعوة إسقاط كلّ هذه التّوجّهات العنصريّة الدينيّة الأخرى الّتي لا تقلّ خطرًا عن الاستبداد البعثي. إنّ شعار ”الشعب يريد إسقاط النّظام“ يجب أن يكون شعارًا أكثر عمقًا، أي بمعنى إسقاط كلّ هذه المنظومات الذهنية التي تعشّش في مخّه وتنخر في جسد هذا ”الشعب“.

إنّ هذه الطغمة القبليّة
الّتي استولت على الحكم واستبدّت بالعباد عقودًا طويلة ستزول عاجلاً. وإذا اقتضت الحال بالاستعانة بقوى خارجية، فليكن كذلك. لقد كنت كتبت قبل زمن طويل إنّ الاستعمار كان أرحم بالعباد في هذه البلاد مقارنة بكلّ هذه الأنظمة اللقيطة التي نبتت وراءه.

لا يغترّنّ أحد بهذه الجيوش التي تقتل شعبًا يُفترض أنّه شعبها. فبقدر ما تُظهره هذه الجيوش أمام النّاس العُزّل من جبروت وقوّة، فإنّ انهيارها المدوّي سيكون أسرع وأكثر مدعاة للسخرية من هذه الجبروت الزّائفة، لدى أوّل تدخّل خارجيّ.

ورُبّ سائل يسأل،
وكيف تعرف ذلك، يا أخا العرب؟ والإجابة على التّساؤل هي في غاية البساطة. إنّ هذا النّوع من الجيوش ليس من النّوع الّذي يُطلَق عليه مصطلح ”جيش الشعب“. لأنّ جيش الشعب الحقيقي لا يُطلق النّار على شعبه الأعزل أصلاً، ولا يدكّ مدنه وقراه بالقذائف وبالبوارج البحرية. إنّ الجيش الّذي يفتك بمن يُفترض أنّهم شعبه، كما يفعل جيش النّظام السّوري، إنّما هو جيش من مرتزقة النّظام القبلي ليس إلاّ. لذلك، فعندما يحسّ هؤلاء بأنّ النّظام القبلي آيل للسّقوط فإنّهم سيسارعون إلى نزع بزّاتهم العسكرية وإلى إلقاء أسلحتهم وسيهرول كلّ منهم إلى قبيلته وعشيرته ومنطقته للاحتماء بتلك الانتماءات المتجذّرة.

أليس هذا هو ما حصل في العراق مع جيش صدّام العرمرم؟ لذلك، فما من شكّ في أنّ هذا السيناريو هو بالضبط ما سيحدث في الشّام. إذ أنّ ”الحسن أخو الحسين“، كما يقال في عاميّتنا.

وإنّ غدًا لناظره قريبُ.
*
نشرت في: ”إيلاف“، 4 يناير 2012
___________________

ودارت الأيّام ومرّت الأوهام

سلمان مصالحة | ودارت الأيّام ومرّت الأوهام

مع اقتراب نهاية السنة،
ستسارع الصحافة، على اختلاف لغاتها ومشاربها، إلى إجراء جردة حساب حول أحداث السنة الفائتة. ولا شكّ أنّ الصحافة العربية ستدلي بدلوها في هذا الموضوع، فالعالم مُعَولَم هذه الأيّام كما يعلم الجميع، والموضة أيضًا عابرة للحدود واللغات والقارات.

ما من شكّ في أنّ الحدث الأبرز في السّنة المنصرمة هو هذا ”الرّبيع“ الذي امتدّ شهورًا طويلة قاطعًا حواجز الصيف والخريف، حتّى دلف أخيرًا بخطوات حثيثة إلى الشّتاء الذي يطرق الأبواب. ولكن، ولمّا كان المرء مدعوًّا إلى التبصّر والنّظر بإمعان إلى ما يدور حوله، فإنّه مع ذلك مدعوّ أيضًا إلى عدم إطلاق العنان للخيال أكثر من اللّزوم خشية السقوط من أعالي الأوهام إلى قيعان الواقع الصّادم.

سنترك كتّاب العالم الآخرين
الذين يتحدّثون عن ”الربيع العربي“، ويصولون ويجولون بشتّى لغاتهم لوكًا وعلكًا في وصف وتقصّي الأحداث العربية. إنّهم ينظرون إلينا بمناظيرهم هم، وهو أمر طبيعيّ. وعلى كلّ حال، فهذا هو شأنهم ولا غرارة في ذلك. غير أنّنا، نحن العرب، مُلزمون بأن ننظر إلى ما يحصل لدينا بمناظيرنا نحن، لا بمناظير الآخرين. وبكلمات أخرى فإنّنا نحن الذين يجب أن نجد الوسائل والطريق إلى تقليع أشواكنا بأيدينا.

لقد تفاءل الجميع خيرًا
منذ أن بدأت بشائر هذا ”الربيع العربي“ تظهر في تونس. وعندما أقول الجميع، فإنّما أعني تلك الشّرائح الشابّة التي تعيش في عالم اليوم الذي قلّصت التكنولوجيا الحديثة مسافاته الجغرافية والثقافية. ولعلّ هذه البشائر لم تأت من هناك صدفة، فطالما وُسمت تونس بالخضراء في الغناء العربي.

ولكن، ها هو العام العربيّ المنتفض على أهبة الرحيل إلى عام جديد. غير أنّ هذا الرّبيع لم تتفتّح أزهاره بعد. قد تبدو الأمور مختلفة بعض الشيء في تونس عن سائر الأقطار العربية، إذ لم يشهد هذا البلد ما شهدته، ولا زالت تشهده، الأقطار الأخرى من قلاقل.

فما السرّ في ذلك؟
إنّه سؤال يجب أن يُطرح لأنّه وضع صارخ أمام أعيننا. ولأنّنا شاهدنا جميعنا كيف انتهى الوضع في ليبيا، ولأنّنا نشاهد ما يجري في مصر، وفوق كلّ ذلك نشاهد ما هو حاصل يوميًّا ومنذ شهور طويلة في اليمن، ونشاهد ما يجري على وجه الخصوص في سورية التي يرسل فيها النّظام جيشه وعصاباته لقصف وارتكاب الجرائم بحقّ من يُفتَرَض أنّهم ينتمون إلى ذات الشّعب وذات الوطن.

وللإجابة على هذا السؤال، حريّ بنا أن نذكر هنا أمورًا عادة ما تتفادى التطرّق إليها الكتابات العربية. فهنالك عوامل كثيرة جعلت الانتقال السّلمي تقريبًا يحصل في تونس ويتأخّر في الأقطار الأخرى. ويمكن اختزال هذه العوامل في عاملين جوهريين اثنين، وهما: التجانس المجتمعي، دينيًّا وإثنيًّا، والتّراث العلماني البورقيبي الذي تمّ ترسيخه بصورة أو بأخرى في تونس.

هذان العاملان الجوهريّان
لا ينوجدان بهذا الترسيخ في سائر البلدان. فلقد رأينا التمايز القبلي في ليبيا، وهو يلعب دورًا في شتّى المناحي، بل وحتّى في أسر رموز النّظام البائد. أمّا في مصر التي يصرّ أهلها على التشبّث باسم "أم الدنيا"، ورغم التجانس المجتمعي في الهوية المصرية القوية بلا شكّ، إلاّ أنّ الشّرخ الديني يطفو دائمًا على السّطح. وعلى ما يبدو لم يترسّخ في مصر منذ عبد الناصر سوى مؤسسة واحدة هي المؤسسة العسكرية التي أضحت مؤسسة اقتصادية كبرى.

من الواضح أنّ الوضع المصري ذاهب إلى "ستّين داهية"، كما يقال باللهجة المصرية. إذ أنّ صعود الإخوان والسلفيّيين سيأتي بالضربة القاضية على أهمّ الموارد في الاقتصاد المصري، ونعني به: السياحة. فهل هنالك من يعتقد بسذاجة أنّ سيطرة الاسلاميين ستجلب السياح إلى هذا البلد؟ لا حاجة إلى التذكير بأنّ السياحة في هذا العالم الواسع تذهب إلى البلاد المستقرّة والمنفتحة على الحريّات، ولا أظنّ أنّ "أم الدنيا" بسيطرة الإسلاميين ستكون كذلك. وعلى سبيل المثال، يمكن النّظر إلى إيران أو السّودان، فلا أعتقد أنّ هذين البلدين يعجّان بالسيّاح من أركان الأرض.

هذه العوامل أيضًا لا تنوجد
في سورية، مثلما لم تنوجد من قبل أيضًا في العراق. إنّ هذا النوع من البلاد، على تشكيلاتها الدينية والإثنية، والتي كان بوسعها أن تثري البلد وتكون له نعمة، إلاّ أنّها بدل ذلك فقد تحوّلت إلى نقمة بسبب هذا الإرث القبلي الاستبدادي المتجذّر في الذهنيّة.

لقد تظاهر البعث الاستبدادي، من قبل في العراق، والآن في سورية بالقومية، مستخدمًا أيديولوجيّة حزبيّة، لكي يخفي وراءها كلّ ما هو قبليّ مافيوزي. وهذا ه السّبب لما نراه الآن من كلّ صنوف هذا القتل والسحل والجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان بحقّ المواطنين السوريّين.

في الواقع، لقد سقط هذا النّظام منذ أن بدأت ماكينته الإجراميّة تحصد الأبرياء، من جميع أطياف الشعب السوري. لقد شاهد العالم هذه الجرائم، فلم يعد بالإمكان إخفاء الأمور كما حدث في الماضي. وكلّنا أمل الآن أن لا يأتي النّظام القادم شبيهًا بهذا الزّائل عاجلاً أم آجلاً، وألاّ يأتي أيضًا شبيهًا بالقرضاوي ومن هم على شاكلته.

فهل يأتي العام القادم بهذا الجديد، أي دولة المواطنين وفصل الدين عن الدولة وهما أساس الدولة العصرية. هذا ما يصبو إليه من يبتغي الخير لهذه البقعة المأزومة. ورغم القراءة المتشائمة بعض الشيّء، مع ذلك سأترك بصيصًا للأمل، فلعلّ وعسى...

والعقل ولي التوفيق!
*
نشرت في: "إيلاف"، 30 ديسمبر 2011
______________________

رسالة إلى الرئيس الأسد

سلمان مصالحة | رسالة إلى الرئيس الأسد

(وإلى أدونيس أيضًا)
سيّدي الرئيس،
من الصعب أن أتوجّه إليك بهذا اللّقب، ولكن ولأنّك لا زلت حتّى هذه اللّحظة، من الناحية الرسميّة على الأقلّ، تحمل اللّقب وتجلس في المنصب فإنّ الأصول والرسميّات توجب التوجّه إليك بهذه الصفة. ولذا، أبدأ فأقول:

سيّدي الرئيس،
منذ أن اندلعت ألسنة النّيران في تونس، في جسد البوعزيزي، وتطاير شررها في أنحاء مختلفة من الأقطار العربيّة لم تفهم أنت، أو أنّ من أوصلك إلى الحكم بمسرحيّة دستوريّة لم يرد لك أن تفهم، أنّ هذا الجمر العربي الكامن تحت الرّماد والرّمال العربية طوال هذه العقود الطويلة من الاستبداد سيلتهب في بيتك أنت أيضًا.

لقد صرّحت أنت وفي أكثر من مناسبة، للصحافة الأجنبيّة طبعًا، أنّ سورية تختلف عن تونس وتختلف عن ليبيا وتختلف عن مصر. نعم، هكذا وبجرّة لسان في مقابلات صحفيّة ظهرت الحقيقة على السّطح، فأطاحت بكلّ هذه الأيديولوجيّة البعثيّة الكاذبة القائلة بـ ”أمّة واحدة ورسالة خالدة“.

إذن، مع نشوب النّار فيما لدى العرب من أقطار، تهاوى سريعًا ذلك الشّعار. إنّ هذا السّقوط المدوّي للشّعار، كما جاء على لسانك أنت، يكشف على الملأ كلّ ذلك الدّجل القوميّ الّذي أشاعه البعث طوال عقود طوال. طالما دغدغت هذه الشعارات البرّاقة، ولا زالت تدغدغ للأسف، عواطف مراهقي العروبة.

خلف هذه الشّعارات البعثيّة، قامت هذه الأيديولوجيّة الكاذبة، في العراق وفي سورية التي لا زلت فيها رئيسًا بصفة رسميّة، بإخفاء غياهب السّجون التي زُجّ فيها بكلّ من بحث عن حريّة، ثقافيّة أو سياسيّة من أبناء هذه الأصقاع العربيّة.

نعم، لم يكن هذا البعث سوى
أيديولوجيّة عنصريّة عربيّة. ولأنّه كذلك في الجوهر، فقد تحوّل سريعًا إلى أيديولوجيّة قبليّة. نعم، كذا كانت الحال في بلد الرافدين في عراق صدّام وكذا هي الحال الآن في بلاد الشّام. لقد تفاءل البعض من السّاذجين عندما أضحيت رئيسًا لكونك درست في الغرب وتعرّفت على حضارة الغرب، وتعرف استعمال الإنترنت والفيسبوك وما إلى ذلك من وسائل الاتّصال المعاصرة. لقد تفاءل البعض سذاجةً منهم ظانّين أنّك ربّما قد علقت بك رائحة من روائح الحريّة والانفتاح في العالم الغربي.

فيا لهم من ساذجين!
نعم، لقد كان كلّ هؤلاء ساذجين لأنّهم لم يعرفوا أنّك لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا. كلّ تلك السّنوات التي مرّت عليك في الغرب ذهبت أدراج الرّياح. إنّ أشدّ ما يثير الاكتئاب في النّفس هو هذه السّرعة التي تتلاشى فيها الشّعارات البرّاقة مع هبوب أوّل نسمة حريّة. لقد قالوا أيضًا عن ابن آخر قد وقع في الأسر أخيرًا إنّه تعلّم في الغرب وإنّه منفتح بخلاف والده. لكن، ما إن نشبت الانتفاضة في ليبيا حتّى رأينا كيف عاد سيف الإسلام القذّافي إلى طبعه الذي غلب على تطبّعه في الغرب. فبين ليلة وضحاها تحول النّاس المنتفضون إلى جرذان.

وهكذا أنت يا سيادة الرئيس.
نعم، لم تكن في يوم من الأيّام حرًّا، بل أنت ابن أبيك. إذ، لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت رفضت ما قام به أبوك من عمليّة توريث للسّلطة بمهزلة دستوريّة. لو كنت حرًّا بحقّ وحقيق لكنت أصررت على مواصلة عملك كطبيب عيون. لكنت أصررت على مواصلة تقديم العون للنّاس ليروا النّور على يديك. لكنّك لست كذلك. لم تنفع معك الدّراسة في الغرب المتحضّر، ولم يعلق بك أيّ شيء من حضارة الحريّة هذه.

لقد عدت إلى الطبع القبليّ
العربيّ الّذي لا يعلق به التطبُّع. هكذا أضحت ”سورية ليست تونس، وسورية ليست مصر...“ علامة على العودة إلى هذه الأصول القبليّة العربيّة. إنّ هذه الأصول هي أساس بلاء العرب. إنّ هذه الأصول هي التي تشدّ هذه المجموعات البشريّة إلى القيعان كلّما حاول البعض من أبناء هذه الأمّة الخروج منها.

نعم، سيّدي الرئيس،
إنّ هذه النّعرات القبليّة البدائيّة هي التي تقف سدًّا منيعًا أمام قيام دولة عصريّة. إنّ هذه النّعرات هي التي تمنع تكوّن شعب، بما يعنيه هذا المصطلح.

سيّدي الرئيس، كم هو مؤلم أن أقول لك: هذه هي حقيقتك. في الواقع، هذه هي حقيقتنا جميعًا.

والآن، وبعد كلّ هذه الجرائم
التي يرتكبها النّظام الّذي تقف أنت على رأسه، لا يمكن للحياة في الشّام أن تعود إلى سابق العهد. لا يمكن أن تهدأ الأمور والخواطر وكأنّ شيئًا لم يحصل. سيّدي الرئيس، لقد آن الأوان أن تفهم هذه الحقيقة المرّة، ولذا لم يعد بدّ من أن تحزم الحقائب. لم يعد بدّ من أن تترك النّاس لشأنهم.

إنّ الحنجرة التي استأصلها شبّيحتك تصرخ من تحت التّراب: ”ياللّه، ارحل يا بشّار!“

والعقل وليّ التّوفيق!
*
مقالة نشرت في: ”إيلاف“، 27 ديسمبر 2011

إقرأ أيضًا: "تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته"
***
For Hebrew, press here
***

تشارلز بوكوڤسكي | جوابي



 

تشارلز بوكوڤسكي ||


جوابي 




”ما الدّاعي لديه لاستعمال كلمات مثل هذه
في كتاباته؟“


”كلمات مثل ماذا، يا أمّاه؟“


”حسنًا، مثل - motherfucker .“

”هنالك مَنْ يتكلّم هكذا، يا أمّاه.“

”أُناسٌ يعرفُهم؟“

”نعم.“

”لكن، لماذا يُصادق
أُناسًا كهؤلاء؟“

”لأنّه، يا أمّ امرأتي، لو صادقتُ فقط
ناسًا مثلكِ،
لن يكون ثَمّ شيء أكتب عنه،
شيء يرغبُ الـ motherfuckers بقراءتِهِ“.
*
من مجموعة: The Continual Condition 2009

ترجمة: سلمان مصالحة

For Hebrew, press here
ــــــ

مافيات دعاة العروبة


إنّ التّذاكي البعثي في التساؤل حول معنى ״الشبيحة״ هو جزء من هذه الطبيعة المافيوزية....

سلمان مصالحة || 

مافيات دعاة العروبة

لنبدأ أوّلاً برواية هذه النكتة
البعثية غير المضحكة: لقد تحرّكت من سباتها تلك المؤسسة الصورية المسمّاة الجامعة العربية، المأزومة والمهزومة أصلاً، على خلفية الجرائم التي يرتكتبها النّظام السّوري بعد مضيّ شهور طويلة على نشوب الانتفاضة الشعبية السورية ضدّ الاستبداد البعثي. وقد تناقلت وسائل الإعلام عن أزلام هذه الطغمة البعثية الحاكمة في سورية ردّهم على ما ورد في قرار الجامعة. وبين ما جاء في الردّ سؤال يوجّهه هؤلاء للجامعة: ״ماذا تقصدون بالشبّيحة״؟

هكذا، وبنوع من التّذاكي البعثي المفضوح، يحاول هؤلاء تجاهل ما تعرضه وسائل الإعلام منذ شهور عن دور ״الشبّيحة״ في الجرائم البشعة التي تُرتكب بحقّ المواطنين السوريّين المنتفضين ضدّ طغمتهم المستبدّة. إنّها نكتة غير مضحكة حقًّا، وهي تشير إلى عمق هذا الدّرك الذي وصلت إليه طغمة البعث، وإلى عمق هذا الوحل الذي تتخبّط فيه. لا بأس، سنشرح لهؤلاء لاحقًا مصدر هذا المصطلح.

ولكن، وقبل ذلك، دعونا
نتفكّر قليلاً في هذه الحال العربية الفريدة من نوعها. في التاريخ العربي المعاصر، حكم حزب البعث العربي الاشتراكي في بلدين عربيّين، في العراق وسورية. ولكن، ورغم شعارات ״الأمّة العربية الواحدة״ و״الرسالة الخالدة״ ودعاوى ״الوحدة״ الكاذبة، فقد كان هذان النّظامان ״العربيّان״ أشدّ عداوة أحدهما للآخر منهما لأيّ بلد آخر على وجه الأرض. لقد بلغت هذه العداوة أوجها، عندما انضمّت سورية المحكومة بديكتاتورية حزب البعث القبلي، إبّان حكم الأسد الأب، إلى حلف بوش الأب لضرب العراق المحكوم بديكتاتورية حزب شقيق، هو حزب البعث القبلي الصدّامي. وهكذا ذهبت، بين ليلة وضحاها، شعارات البعث حول الأمّة ״الواحدة״ أدراج الرياح.

فماذا تعني هذه الحال؟
إنّها تعني شيئًا واحدًا وهو، إنّ الشعارات البعثية البلاغية شيء والحقيقة على الأرض شيء آخر مختلف تمامًا. وعلى كلّ حال، فكذا هي حال العربان، ليس الآن، بل ومنذ قديم الزّمان. فدائمًا كانت شعارات البلاغة العربية التليدة والبليدة لا تعني شيئًا. إنّها تُرفع في سماء العرب المتبلّدة والمتلبّدة فقط لدغدغة عواطف العامّة هنا وهناك، مخفية عقيدة التّسلّط القبليّ الذي يحكم ذهنيّة العرب منذ القدم.

من المهمّ، في هذه العجالة، التّذكير أيضًا بكيفية وصول هذه الأحزاب وأشباهها إلى الحكم. لقد جاءت كلّها مع جلاء الاستعمار وفي حقبة الحرب الباردة عبر انقلابات عسكريّة. لقد كانت هذه الانقلابات بمثابة اغتصاب للسّلطة في هذه البلدان. وهذا الاغتصاب قد أدخل هذه البلدان في حملٍ أنجبت إثره أنظمة عربيّة لقيطة. فلا هي نظام ملكي، ولا هي نظام أميري ولا هي سلطنات، بل أضحت أنظمة استبداد مشوّهة، شوّهت لسنوات طوال الحجر والشجر والبشر. بل يمكن القول إنّها أسوأ وأظلم أصلاً من كلّ ما كان قبلئذ. بل وأكثر من ذلك هي أسوأ حتّى من الاستعمار الأجنبي الذي جلا عن هذه البلاد.

إنّها أنظمة مافيوزية
بكلّ ما تحمله هذه الكلمة من معنى. كذا كانت الحال مع نظام البعث الصدّامي الّذي قتل وسحل في بلاد الرافدين لسنين طوال محاطًا برجال قبيلته من الأبناء والأعمام والأخوال والأصهار وأبناء الأخوال والأعمام، ومن ورائهم ثلّة من أصناف المنتفعين من بعض قبائل العربان. كذا هي الحال الآن مع نظام البعث الشّامي الّذي هو صورة طبق الأصل عن ذاك الشقيق العراقي سيّء الصيت. فها هو البعث الشامي يسير على ذات النهج القبلي. فقد تمّ توريث المزرعة السورية من الأب للابن بمهزلة دستورية وسط تصفيق ما يسمّى زورًا وبهتانًا ״مجلس الشعب״، وها هو يسير أيضًا على ذات النهج في القتل والسحل، محاطًا طبعًا بالأشقّاء والأعمام والأخوال ومن والاهم من إصناف قبائل العربان الشامية. ألا تكفي هذه الحقائق المعروفة طوال عقود لفهم جوهر هذا النّوع من الأنظمة المافيوزية؟ وعلى هذا المنوال، قس طبعًا الحال في سائر الأقطار العربية التي ترفع شعارات شعبوية فارغة.

ماذا يعني المصطلح ״الشبّيحة״؟
إنّ التّذاكي البعثي في التساؤل حول معنى ״الشبيحة״ هو جزء من هذه الطبيعة المافيوزية. السوريّون يعرفون حقيقة هذه العصابات التي ترتكب الجرائم بحقّ المواطنين. كذلك العالم بأسره يعرف حقيقة هذه العصابات، عبر تسريبات الأخبار والأفلام لشبكة الإنترنت. بفضل تكنولوجيا الاتّصال الجديدة، والتي هي طبعًا من اختراعات ״الكفّار״، لم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق. مهما حاول النّظام الفاشي التستّر على جرائمه، فبفضل هذه التكنولوجيا يستطيع العالم بأسره الوقوف على ما يجري.

وهكذا، ولمّا كان السوريّون عربًا فإنّهم يعرفون لغتهم العربية ويعرفون بلهجتهم الشاميّة استخدامات الفعل ״شبح״ في العربية. وإذا شاء دعاة العروبة الكاذبة في أروقة النّظام البعثي معرفة معنى هذا المصطلح في العربية، فها أنذا أحيلهم إلى ما يورده ابن منظور في اللّسان: ״والشَّبْحُ مَدُّك الشيءَ بين أَوتاد، أَو الرجلَ بين شيئين، والمضروبُ يُشْبَحُ إِذا مُدَّ للجَلْدِ. وشَبَحَه يَشْبَحُه: مَدَّه ليجلدَه. وشَبَحَه: مَدَّه كالمصلوب... وفي حديث الدجال: خذوه فاشْبَحُوه... وشَبَح رأْسَه شَبْحًا: شَقَّه.״ (انظر: لسان العرب، شبح). فهل يعرف الآن هؤلاء المتذاكون ماذا يعني، ومن أين اشتُقّ مصطلح ״الشبّيحة״؟

وخلاصة القول:
لقد آن الأوان إلى قلب آية النّظام البعثي رأسًا على عقب. ولمّا كان فكر البعث العربي مبنيًّا أصلاً على الكذب والدجل، فقد آن الأوان إلى شَبْحِهِ واستئصاله، بل إلى شبح واستئصال كلّ أنواع الفكر الفاشي والعنصري من الذهنية العربية، أكان هذا الفكر قبليًّا، أو طائفيًّا، أو قوميًّا أو دينيًّا على اختلاف تشعّبات وانتماءات هذه الكتلة البشرية. إذ، بغير ذلك لن يصل العرب إلى سواء السّبيل.

والعقل وليّ والتوفيق!
*
نشر: ״إيلاف״، 25 نوڤمبر 2011
***

نكتة الربيع العربي



الخروج من السّبات لا يأتي بالعودة إلى تعدّد الزوجات، بل بتحديد النّسل وبتزاوج العرب مع المدنية المعاصرة...

سلمان مصالحة


نكتة الربيع العربي


سارع الكتاب والمحلّلون العرب،
مثلما هي الحال دائمًا، إلى تبنّي مصطلح الربيع العربي الذي أشاعته الصحافة الأجنبيّة بخصوص الانتفاضات التي ضربت بعض الأقطار العربية، دون سواها. والحال هذه ليست جديدة، فكثيرًا ما تقع عين المرء حتّى على ترجمات للجغرافيا العربية والتاريخ العربي والأسماء العربية من اللغات الأجنبية منشورة مشوّهة بالأخطاء في الصحافة العربية على طول العالم العربي وعرضه. فالكتّاب والمحرّرون لا يكلّفون أنفسهم عناء الفحص والتدقيق فيما يكتبون وينشرون وهكذا يختلط حابلهم ونابلهم بحابل ونابل القرّاء الذين يمرّون على كلّ هذه الأخطاء مرّ الكرام.

هذه هي أيضًا حال هذا
”الرّبيع العربي“، كما يسمّونه، والذي ملأ الشّاشات، أجنبية وعربية، دون أن يتفكّر أحد فيما هو جارٍ في الحقيقة على الأرض. مرّة أخرى يترجم العرب توصيف أحوالهم دون أن يكلّفوا هم أنفسهم النّظر إلى ما هو جارٍ في ساحاتهم. إنّها حال مضحكة مبكية حقًّا. إذ كيف يتبنّى مثلاً كلّ هؤلاء الطائفيّين في بلدهم الحديث عن ربيع عربيّ بينما هم غارقون حتّى أخمص قدميهم في وحل الطائفيّة، كما هي حال لبنان، على سبيل المثال لا الحصر؟ بل وأكثر من ذلك، كيف يتحدّث كلّ هؤلاء عن ”ربيع عربي“، في الوقت الذي تتحوّل فيه هذه الانتفاضات إلى حرق للكنائس، كما حصل في مصر؟ وكيف يمكن الحديث عن ”ربيع عربيّ“ عندما يخرج عبد الجليل في ليبيا وبعد مقتل العقيد بتصريح أوّل يكشف أنّ كلّ همّه هو إعادة العمل بالشريعة وبتعدّد الزّوجات؟

ولكي لا يُفهَم من كلامي
كما لو أنّي أقلّل من أهميّة هذه الانتفاضات، أقول إنّ جميع أنظمة الاستبداد العربيّة، على شتّى تنويعاتها الملكية والجمهورية، يجب أن تذهب إلى الجحيم. كما أودّ التأكيد على أنّ الخروج ضدّ الاستبداد، كلّ استبداد مهما كان منبعه، هو بلا شكّ خروج مبارك. إنّه مبارك على وجه الخصوص في الحال العربية التي لم تعرف في يوم الأيّام عيشًا خارج الاستبداد. لكن، يبقى السؤال الذي لا مناص من طرحه حول ما يجري في هذا العالم العربي التي تذرو فيه الرّياح الغربيّة كثبان هذه الشّعوب العربيّة فتتحرّك هذه الكثبان في هذه البقعة الشاسعة من الأرض دون أن يعرف أحد أين ستحطّ الرّحال.

فهل هذا هو الرّبيع العربيّ؟
من الملاحظ أنّ هذه الانتفاضات قد نشبت بالذّات في البلاد التي تتّبع أنظمة حكم ”جمهوريّة“. وهي جمهورية شكليّة طبعًا لم تنبن على أيّ أسس جمهورية أصلاً. بل وأكثر من ذلك، لقد ضربت هذه الانتفاضات تلك الأنظمة التي أشبعت النّاس شعارات كاذبة حول العروبة والوحدة والاشتراكية والصمود والتصدّي والمقاومة والممانعة وما إلى ذلك من بلاغة بليدة تدغدغ عواطف العامّة من النّاس، في الوقت الذي كان ينصبّ فيه جلّ اهتمامها على تخليد السلطة القبلية والطائفية حاكمة مستبدّة بالحديد والنّار.

بكلمات أخرى، يمكننا القول إنّ هذه الانتفاضات هي في الحقيقة ضدّ هذه العروبة الزّائفة التي لم تزرع شجرًا، لم تبنِ حجرًا ولم تخلق بشرًا أحرارًا. لقد وضعت هذه الأنظمة نصب أعينها وطرًا واحدًا هو تلقُّف الحكم والاستفراد به إلى أبد الآبدين. إنّها تسير في ذلك على هدي السّلف السالح، منذ أن ظهر هذا السّلف على مسرح التاريخ. يكفي العودة إلى هذا التاريخ العربي لمعرفة ما آلت إليه حال هؤلاء الخلفاء، إذ أنّ الغالبيّة العظمى من هؤلاء الخلفاء قد لقوا مصيرًا كمصير القذّافي من القتل والسحل والتمثيل بجثثهم.

يكفي هنا أن نورد هذه الرواية
عن خطبة أبي سفيان لبني أميّة، مشبّهًا السّلطة بالكرة، إبّان خلافة عثمان بن عفّان: ”يا بني أميّة! تلقّفوها تلقُّف الكرة. فوالّذي يحلف به أبو سفيان: ما من عذاب ولا حساب، ولا جنّة ولا نار، ولا بعث ولاقيامة“. هذه هي حقيقة الصّراع على السّلطة في هذا التاريخ العربي والإسلامي. وهو التاريخ الذي يتبجّح به الإسلامويون على اختلاف مشاربهم في محاولة لدغدغة عواطف العامّة. يعرف الجميع ماذا كان مصير عثمان في نهاية المطاف. إنّه مصير شبيه بمصير القذّافي بعد قرابة ألفية ونصف من السنين.

حتّى هذه اللّحظة، لا نرى
بشائر حقيقية لربيع عربيّ. لا نرى برامج وخططًا تهدف إلى إخراج هذه الأمّة من سباتها. الخروج من السّبات لا يأتي بالعودة إلى تعدّد الزوجات، بل بتحديد النّسل وبتزاوج العرب مع المدنية المعاصرة. يجب التأكيد على أنّه لن يحصل تزاوج عربي مع المدنية دون تطليق الماضي العربي بالثّلاثة.

لقد كنت ذكرت في الماضي إنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض احتياجًا إلى ثورة أتاتوركية تفصل الدين عن الدولة. إذ أنّه فيما يخصّ العرب، فليس أبو سفيان وأمثاله، بل إنّ أتاتورك بالذّات هو الحلّ.
***
نشرت:
”إيلاف“، 21 نوڤمبر 2011
_________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!