سورية غير مصر



طوال عقود طويلة أطعم هذا النّظام مراهقي العروبة الكثير الكثير من الجوز الفارغ عن الصمود والتصدي وصولاً إلى ”الممانعة“، وهو المصطلح العربي المبتكر الجديد. طالما تلقّف مراهقو العروبة هؤلاء، ولا يزال البعض منهم حتّى يومنا هذا، يبتلعون هذه الأكاذيب البعثيّة، كما لو أنّها كانت كلامًا مُنزلاً لا يدخله الباطل.

سلمان مصالحة || سورية غير مصر

بعد أن اندلعت
الانتفاضات الشعبيّة في غير بلد من بلدان العرب التي شاع تسميتها بـ ”الجمهورية“ وبـ”الثورية“ وما إلى ذلك من تسميات كاذبة، سارع بشّار الأسد إلى التصريح في وسائل الإعلام الغربية بأنّ ”سورية ليست تونس وليست مصر“. لقد كان الأسد يعرف ماذا يقول لأنّه كان يعني ما يقول ويعلم ما يدور حوله في بنية وتركيبة المجتمع السّوري ويعرف ما يدور في أروقة النّظام القبلي الفاشي.

وها هي الانتفاضة السورية ضدّ حكم الاستبداد القبلي الذي طال أمده لا زالت مستمرّة، ومن الجهة الأخرى لا زال النّظام يرسل عسكره ودبّاباته وطائراته لزرع الموت والدّمار في أرجاء سورية. وهكذا نرى أنّ سورية حقًّا ليست تونس وهي ليست مصر. فالجيش التونسي لم يدكّ المدن التونسية ولم يعث فيها قتلاً ولم يزرع فيها دمارًا، كما إنّ الجيش المصري لم يهدم المدن المصرية على رؤوس ساكنيها أو يشرّد أهلها إلى دول الجوار.

نعم، سورية ليست مصر.
لكي نفهم ما يجري في هذه الأصقاع العربية، يجدر بنا الابتعاد عن الرؤى الرومانسية والانعتاق من اللغة البلاغية التي شكّلت طوال عقود طويلة كواتم عقول على رؤوس الأجيال العربيّة. إذا ما أردنا بصدق أن نستشرف علامات الطريق إلى غد أفضل، فحريّ بنا أوّلاً أن ننظر في أحوالنا بعيدًا عن سلطة العاطفة. صحيح أنّ الابتعاد عن العاطفة ليس بالأمر السهل، إذ أنّنا بشر والعاطفة جزء هامّ من بشريّتنا، غير أنّه لزامًا علينا وضع العاطفة جانبًا بغية رؤية الواقع المجرّد من الضبابيّة التي تأتي بها العواطف.

وهكذا، يمكننا القول حقًّا
إنّ سورية غير مصر، وذلك لطبيعة التركيبة البشرية المختلفة. فإذا ما وضعنا جانبًا المسألة القبطيّة في مصر، فإنّ التركيبة الاجتماعية المصريّة هي أبعد ما تكون عن المثال السّوري. لهذا السبب، فإنّ تركيبة الجيش المصري هي تركيبة مختلفة، وكذا هي تركيبة قيادة الجيش المصري. فالجيش المصري لا يتألّف من قبائل وطوائف بل هو جيش مصريّ بحقّ وحقيق، ولذلك لم يخرج هذا الجيش ضدّ شعبه، فهو منه وإليه.

بينما لو نظرنا في التركيبة السورية فإنّنا نرى رأي العين هذا الفارق الكبير بين الجيشين. لقد حوّلت قيادة حزب البعث العربي الفاشي سورية، ومنذ عقود إلى مملكة قبليّة طائفيّة تتخفّى وراء شعارات البلاغة العربية البليدة. فعندما تتحوّل القيادات العليا في الجيش والمخابرات والأمن رضافة إلى الاقتصاد إلى محميّات قبليّة وطائفيّة للأبناء وللأخوال والأعمام وللمقرّبين من المنتفعين، فلا يمكن أن يكون النّظام في حال كهذه إلاّ نظام مافيا، ينصبّ جلّ اهتمامه على مواصلة الإمساك بزمام الأمور مهما بلغ ثمن ذلك.

وهذا بالضبط ما هو حاصل
منذ نشوب الانتفاضة السورية ضدّ الاستبداد المافيوزي لهذا النّظام الإجرامي. طوال عقود طويلة أطعم هذا النّظام مراهقي العروبة الكثير الكثير من الجوز الفارغ عن الصمود والتصدي وصولاً إلى ”الممانعة“، وهو المصطلح العربي المبتكر الجديد. طالما تلقّف مراهقو العروبة هؤلاء، ولا يزال البعض منهم حتّى يومنا هذا، يبتلعون هذه الأكاذيب البعثيّة، كما لو أنّها كانت كلامًا مُنزلاً لا يدخله الباطل.

لقد قُضي أمر هذه المافيا
وهي إلى زوال محتوم. فمنذ البداية بنى هذا النّظام استراتيجيته مع الانتفاضة السورية على الذهاب في مواجهتها حتّى النهاية، لأنّ هذه هي طبيعة المافيا أصلاً، والنّظام بلا شكّ أعلم بهذه الحقيقة من غيره. لم تعد هنالك طريق رجعة، فكلّ هذه الدماء السورية المسفوكة لا تبقي طريق رجعة وكأنّ شيئًا لم يكن، وكأنّ ”اللّي فات مات“. لكنّ السؤال الآن هو كم من الدّماء السورية ستسفك في طريق هذه المافيا إلى الاندثار؟

ولأنّ سورية غير مصر، ولأنّ تركيبتها المجتمعيّة هي خليط من الطوائف والإثنيات والقبائل المتمركزة في مساحات جغرافية معيّنة غير متداخلة أحيانًا، فإنّ الخطر الذي يهدّد سورية في هذا الأوان هو خطر التفتّت والتفكّك إلى أقاليم طائفيّة. إذ أنّ هذه الطوائف ستكفئ على نفسها في حرب دفاع عن وجودها أمام هذا الدّمار الحاصل في الكيان السياسي. هذا الدّمار هو من صنع النّظام المافيوزي ذاته الذي أوصل البلد إلى هذه الحال من التشرذم، ومن تعميق الأحقاد الطائفيّة.

هذه هي حال هذه الأصقاع
العربية التي تمّ اغتصاب السلطة فيها وتمّ اغتصاب الحجر والشجر والبشر فيها أيضًا. عندما لا تنبني البلاد على هويّة مدنيّة فإنّها تسير بخطى ثابتة على طريق الاستبداد، ولمّا كان الاستبداد مصيره إلى زوال فإنّ مصير البلاد يصبح رهينة لنزوات القبائل والطوائف المتناحرة، فيشقّ بذلك الطريق إلى حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس.

يكفي النّظر إلى ما جرى وما هو جار في العراق، وإلى ما جرى وما هو جارٍ في لبنان، وإلى ما جرى وما هو جار في سائر بلاد العربان من تناحر قبلي وطائفي مقيت، ومن تقتيل طائفي وتمزيق وتقطيع لكلّ الخيوط، الواهية أصلاً، التي كانت تربط البشر في هذه الأصقاع، فلكم في كلّ ذلك أسوة سيئة. ولهذا اقتضى التنويه الآن، وقبل اندثار هذا النّظام، وذلك لتدارك المآسي القادمة قبل فوات الأوان.

أليس كذلك؟
*
نشر: ”إيلاف“، 27 يوليو 2012

***

عروس عروبتكم


من الأرشيف (1995): "عروس عروبتكم"

هذه المقالة نشرت في منتصف التسعينات. وعلى ما يبدو فهي لا زالت صالحة لهذا الأوان...

بين اللغة والسياسة

من الأرشيف (2002):
ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغنى وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة...

سلمان مصالحة || بين اللغة والسياسة

العقل في اللغة هو الربط، وقد ورد في المأثور: اعقل وتوكّل. والعقل من الإنسان هو هذه الميزة التي تضع الإنسان في مكانة أسمي من الحيوان، وذلك لقدرته علي الربط بين الأمور واستخلاص الوجود بكليته. أما النّطق فهو حمل هذه الأمور في الوجود وربطها ببعضها البعض حتي اخراجها من القوة إلي الفعل المجرد عبر وسيلة الروامز إليها من الكلام الذي هو اللغة أو لغات الناس علي تنوعها.

ولكن، ومهما اختلفت اللغات وتنوعت، إلا أنها في نهاية المطاف تندرج تحت هذه الغاية - الأصل. من هنا، فإن فهمنا للعالم لا يمكن أن يحصل إلا من خلال هذه الوسيلة، وكلما كانت الوسيلة أغنى وأحكم كان فهمنا للعالم أعمق. ومثلما مُنحنا إمكان التحكم في اللغة، فللغة أيضاً خاصية التحكم فينا. إذا لم نطوّعها طوعتنا، وإن لم نملكها ملكتنا، فنصير عبيداً لها لا نعرف طريقاً للخلاص، فتأتي أفعالنا مشوهة كلغتنا.

لذلك، فإن تطوير ملكة التعبير من أهم المهام الملقاة علي مسؤولي التربية، وهي قضية لا ينتبه إليها القائمون عليها في العالم العربي. والنتيجة في النهاية بروز أجيال جديدة هي أبعد ما تكون عن القدرة علي الربط بين الأمور واخراجها من القوة إلي فعل الكلام. شاهدوا مثلاً برامج تعرض مقابلاتمع أطفال أو فتيان صغار في التلفزيونات العربية، وقارنوها بمثيلاتها لدى الشعوب الأخري.

ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع. كثيراً ما أصاب بالصدمة من عمق هذه الفجوة كلما شاهدت وقارنت.

فهل هذا الواقع له تأثير علي حياة المجتمع العربي؟ بلا شك. فالإنسان لا يستطيع أن يفكر من دون وسيلة اللغة، وإذا كانت لغته فقيرة فتفكيره فقير، وبالتالي ما ينتج عن هذا التفكير يكون بحجم عمق هذه اللغة.

والحقيقة التي اريد طرحها هنا هي أن لهذه القضية أبعاداً سياسية خطيرة. ويمكن مراجعة الزعامات العربية في العقود الأخيرة لتبيان ما أرمي إليه. استطيع أن أجزم أن مدى غنى اللغة لدى الزعماء علي العموم ينعكس في سياساتهم. فكلما كانت لغة الحاكم الزعيم أغني، كانت سياساته أكثر اتزاناًوتعقلاً. ولا نقصد هنا الخطابات المكتوبة والمقروءة من قبلهم، إنما حديثهم في مقابلات صحافية علي الهواء ومن دون رقابة وما شابه ذلك.

من هنا، نستطيع ان نسأل السؤال الذي لا بد منه: هل ما جري ويجري في العراق، علي سبيل المثال، أساسه عياء لغوي وتعبيري لدى صدام؟ وهل ما جري ويجري في فلسطين مرده إلي هذا العياء اللغوي والتعبيري لدى ياسر عرفات الذي لا يستطيع أن يحكي جملة سليمة واحدة؟

أريد أن أقول إن اللغة هي التي تتحكم بفعل الشخص، وإذا كان هذا الشخص مسؤولاً، زعيماً، رئيساً، ملكاً أو وزيراً، فإن القضية تأخذ أبعاداً خطيرة، إذ أنه بلغته الفقيرة يقرر مصير العباد. اللغة الفقيرة تؤدي إلي سياسات فقيرة، وهذه الحال توصل، بالتأكيد، إلي الكوارث. ما من شك في أن ثمة علاقة وثيقة بين سلامة اللغة وسلامة السياسة، وسلامة الحياة وسلامة المجتمع بأسره.
*
نشر: ملحق تيارات - الحياة، 13 يناير 2002

***

نريد مؤتمر قمّة عاجلاً


ولمّا كان رمضان على الأبواب في هذا الصيف الحارّ، ولمّا كُنّا نتصبّب عرقًا غير مكحول خشية السّكر، فإنّنا نهيب بأصحاب القامة من القادة النشاما أن يلتئم جمعهم في حلقة جديدة من المؤتمرات لكي يخفّفوا عنّا ويزيلوا ما ارتسم على أوجهنا من جهامة...


سلمان مصالحة || نريد مؤتمر قمّة عاجلاً

أريد أن أكشف
عليكم سرًّا. الحقيقة أنّي اشتقت للاستماع ولمشاهدة مؤتمرات القمّة العربيّة التي تنظّمها جامعة الدول المسمّاة عربيّة أيضًا. آمل، ربّما مثل كثيرين غيري، أن لا تطول هذه الغيبة. إذ نحن جميعًا قد برّح بنا الانتظار للعودة السالمة الغانمة إلى أجواء الوحدة العربية التي تمثّلت في تلك المؤتمرات المتنقّلة بين عواصم وحواضر العرب. هل هو الحنين إلى الماضي هذا الذي يخيّم عليّ، علينا، الآن وفي هذا الأوان؟

كم كانت حياتنا العربيّة جميلة في تلك الأيّام السّالفة. نعم، كم كنّا ننتظر المداولات التي تسبق التئام تلك المؤتمرات. يبدأ التحضير لهذه القمم، فيطير ما يسمّى الأمين العام بين هذه العاصمة أو تلك، يجتمع بوزير خارجيّة هنا وهناك، ثمّ يصدر بيانًا هنا وبيانًا هناك، وسرعان ما تتلقّفها الصحافة العربيّة وسائر وسائل الإعلام المرئيّة. حقًّا، كانت أيّامنا جميلة، وقد أضحت أكثر جمالاً بسبب التطوّر التكنولوجي، وعصر الفضائيّات التي أوصلت كلّ هذا الزّخم الكلامي البلاغي العربي، بالصوت والصورة والكلمة إلى بيوت كافّة العرب من المحيط إلى الخليج.

ولمّا كانت عامّة العرب
تمرّ هذه الأيّام في أوقات عصيبة (وعلى فكرة: أيّام العرب دائمًا كانت عصيبة عجيبة)، فإنّنا نُطالب الجامعة العربيّة، وأصحاب الجلالة والفخامة والسموّ بأن يجنحوا سريعًا إلى عقد تلك المؤتمرات من جديد. فنحن، والحقّ يقال، بحاجة ماسّة إلى مثل هذه المؤتمرات، فقد كانت نوعًا من البلسم المصبوب على قلوب السامعين والمشاهدين، لكثرة ما كانت تتفتّق عن مداولات ومناوشات تشرح الصّدر لما تحتويه من فكاهة نحتاجها للتّرويح عن أنفسنا.

لا أدري إن كنت أعبّر عن رأي كثيرين، غير أنّي أصرّح هنا علنًا بأنّي أرغب جدًّا في أن ينعقد مؤتمر قمّة عربيّ جديد، وعلى جناح السرعة. فالنّفس توّاقة إلى تلك الفسحة الكوميديّة، وعلى وجه الخصوص في هذه الأيّام الصيفية الحارّة.

صحيح أنّ بعض الّذين
كانوا يدخلون روح الفكاهة للمؤتمرات قد غابوا عن الأنظار، غير أنّ أمّتنا لا ينقصها رجال مثل هؤلاء من صنف الذين يقفون بالدور لتسلّم هذه المسؤولية. ولا شكّ أنّهم سيقومون بها على أحسن وجه. صحيح أيضًا أنّ التاريخ على العموم لا يعيد نفسه، غير أنّ تاريخنا العربيّ يختلف عن سائر التواريخ، فهو يدور في حلقة مفرغة يُكرّر ذات الأساليب وذات المناحرات منذ أن ظهرنا على مسرح الأمم. إذن، فهيّا بأصحاب الجلالة والفخامة والسموّ إلى المؤتمرات. وهيّا بنا نتسمّر أمام الشاشات لنشاهد حلقة جديدة من هذا المسلسل الهزليّ.

ولمّا كان رمضان على
الأبواب في هذا الصيف الحارّ، ولمّا كُنّا نتصبّب عرقًا غير مكحول خشية السّكر، فإنّنا نهيب بأصحاب القامة من القادة النشاما أن يلتئم جمعهم في حلقة جديدة من المؤتمرات لكي يخفّفوا عنّا ويزيلوا ما ارتسم على أوجهنا من جهامة.

كما نهيب بهم هذه المرّة ألاّ يقطعوا عنّا البثّ المباشر، فيما لو خطر على بال أحد القادة خاطر، أو أراد أحد ما من أصحاب الجلالة أن يتهجّى خطابًا مكتوبًا بلغة عربية لم يسعفه علمه بفكّ حروفها أمام الكاميرات وفوق المنابر. فيا أيّها القادة، أصحاب الكرسي والتخت والوسادة! لا تخيّبوا آمالنا في هذا الموسم ولا تُطيلوا الغيبة عن مؤتمرات القمّة، فالأمّة كلّها في حال من الغمّة.

فيا إلهي،
الحاكم الفرد الصمد الأحد الجبّار، كم نحن بالانتظار لعودتكم المظفّرة إلى تلك المشاهد المصوّرة! إنّنا ننتظر على أحرّ من الجمر وعلى أمزّ من الخمر عودتكم الموقّرة للائتمار والتآمر، كما إنّنا ننشد الوصول إلى فرج بعد شدّة، وعودة ظافرة بوجبة موقّرة من الفكاهة للترويح عن النّفس بعد غياب مدّة.

أليس كذلك؟
***
نشر في: ”إيلاف“، 18 أغسطس 2012

زبغنييف هربرت | مقهى

زبغنييف هربرت || مقهى

فجأةً تنتبهُ إلى أنّ الفنجان فارغٌ. أنّك ترفعُ إلى الفمِ هاويةً.
طاولات الرّخام تُبحرُ كجلائد الثّلج الطافية. فقط المرايا
تتغنّج، واحدة إزاء الأخرى، هي فقط تؤمن باللانهاية.
حان الوقتُ للانصراف دون انتظار قفزة العنكبوت القاتلة.
في الليل يمكنُ المجيءُ ثانيةً لإلقاء نظرات متمعّنة عبر
القضبان المُغلقة في المجزرة المُرعبة للأثاث.
المقاعد التي قُتلتْ بوَحْشيّة والطاولات مُلقاة على ظهرها
وأرجلها ممدودة إلى سماءٍ من الكِلْس.

ترجمة: سلمان مصالحة

* زبغنييف هربرت - شاعر بولندي
ــــــــ

هل سيتمّ نبش قبر عرفات؟

الغموض الذي لفّ رحيل عرفات بهذه الصورة يجب أن يكون مسألة يبحثها المؤرّخون، والصحافة المسؤولة، إن وُجد أصلاً مثل هؤلاء المؤرخين ومثل هذه الصحافة.

سلمان مصالحة


هل سيتمّ نبش قبر عرفات؟



العالم العربي الذي انفتحت أبوابه
على مصاريعها في عصر عولمة المعلومات يشهد منذ عقدين تقريبًا سباقًا محمومًا على استقطاب قلوب وأعين المشاهدين العرب. يمكن القول بالطبع إنّ لهذا السباق جوانب إيجابية مثلما له أيضًا جوانب سلبيّة. الإيجاب في هذا السّباق هو بروز وفرة كبيرة في وسائل الاتّصال والإعلام تعمل إلى جانب وسائل الإعلام الرسميّة التي لم يثق المشاهد العربي بها أصلاً ولا بما تقدّمه له ليل نهار من وجبات دعائية سلطويّة. غير أنّ الجانب السّلبي له حضور بارز أيضًا في هذه الوفرة، إذ مع اللهاث وراء شدّ المشاهد تجنح هذه المحطّات أكثر فأكثر إلى البحث عن القاسم المشترك الأدنى فتهبط بالمستوى إلى حدود الإثارة والغرائزية الهابطة، بدل أن ترفع المشاهد إلى مستوى يكون فيه مسؤولاً عمّا يُشاهد، وتدفعه إلى موقع المشاركة في بناء العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه.

لا شكّ أنّ المبادرين إلى إطلاق محطّة الجزيرة كانوا سبّاقين إلى فهم هذه المرحلة المستجدّة في عالم الإعلام بصورة عامّة، وخاصّة ذلك المتعلّق بالعالم العربي. لقد درج هؤلاء على خطى محطّة الـ سي. إن. إن. التي ذاع صيتها مع حرب الخليج الأولى بعد الغزو الصدّامي للكويت.

مهما يكن من أمر،
يلاحظ المشاهد ذلك الفارق الكبير بين الجزيرة الإنكليزية وبين شقيقتها العربية، أكان ذلك في نشرات الأخبار أو في البرامج الأخرى. وقد يقول قائل ما إنّ المحطة الإنكليزية موجّهة للعالم الآخر، ولعلمها باختلاف ذهنية المشاهد الآخر فهي تأتي أكثر رصانة من العربية. وهكذا، بالضّبط في هذه المقولة تُختزل القصّة بأكملها. أي أنّ التوجّه للآخر هو توجّه للعقل، بينما التوجّه للعربي هو بواسطة العواطف والغرائز. هذه هي بالضّبط النّظرة التي لا تحترم المشاهد العربيّ على العموم. وهي نظرة متجذّرة في الإعلام على جميع فروعه، مثلما هي متجذّرة أيضًا في السياسة ولدى كلّ أصناف الحكّام العرب.

من حقّ، بل من واجب، الجزيرة
أن تتطرّق إلى قضيّة موت ياسر عرفات، فهي قضيّة تثير الكثير من الأسئلة ويلفّها الكثير من الغموض. لكن، من جهة أخرى، وبعد مرور سنوات على رحيل عرفات، يجب ألاّ تتحوّل هذه القضيّة إلى قضيّة مركزيّة تشغل بال الفلسطينيّين وتدخلهم في متاهات تؤدّي إلى زيادة التشقُّق في الصفوف الفلسطينية المتشقّقة أصلاً في السنوات الأخيرة. بعد مضيّ سنوات على رحيل عرفات يجب ألاّ تتحوّل هذه القضيّة إلى الشغل الشاغل لدى الفلسطينيين، ويجب ألاّ تحرف وجهة الصراع الفلسطيني ضدّ الاحتلال لتحوّله إلى مسار صراع داخليّ لا يستفيد منه أحد غير الاحتلال الإسرائيلي.

الغموض الذي لفّ رحيل عرفات بهذه الصورة يجب أن يكون مسألة يبحثها المؤرّخون، والصحافة المسؤولة، إن وُجد أصلاً مثل هؤلاء المؤرخين ومثل هذه الصحافة. كما يجب أن يُفسح المجال لهؤلاء بالاطّلاع على كلّ جوانب الملفّ المتعلّق بهذه القضيّة. وعلى أيّ حال، فإنّ تحقيقات مثل هذه تستغرق، إذا ما أريد لها أن تكون موثوقة، سنوات طويلة من البحث والتقصّي. أمّا تحويل المسألة، وفي هذه الظروف الفلسطينية بالذات، إلى منازعات فلسطينية داخلية فهو يصبّ في صالح الاحتلال الإسرائيلي. وقد يكون هذا هو الهدف الخفيّ من وراء إثارة المسألة بهذه الصورة الآن.

إنّ الدعوة إلى نبش قبر عرفات
من أجل مواصلة التحقيق في هذه المسألة، بعد سنوات على رحيله، لا تندرج ضمن حدود الاحترام الذي يجب أن يتمّ التعامل به معه. على القيادة الفلسطينية من كافّة التيّارات أن تضع هذه المسألة نُصب أعينها قبل الإقدام على خطوة من هذا النوع. عليها أن تُفكّر في أبعاد القيام بخطوة كهذه على مشاعر وأفكار الناس، وأن تفكّر في مدى تأثيرها على مُجمل الحال الفلسطينية المأزومة أصلاً.

وكلمة أخيرة
موجّهة إلى السيدة سهى عرفات، وإلى من هم على مثالها. لو كانت السيدة عرفات تحترم زوجها الراحل، لما تركت البلاد، الوطن، وراحت لتعيش برفاهية البلاد الغربية. لو كانت تحترم زوجها وما يمثّله في وجدان الفلسطينيين لما تركت البلاد، ولكانت بقيت هنا تعيش مع ابنتها بين أبناء شعبها وفي بلدها، وتعمل هنا كمواطنة مثل بقية المواطنين ضدّ الاحتلال ومن أجل رفاهية أبناء شعبها ودفع قضيّتهم.

وهذا الكلام نافع أيضًا لكلّ دعاة الشعارات من المسؤولين الفلسطينيّين، ومن شرائح واسعة أخرى. يساورني شكّ في أنّ الكثيرين من هذا الصنف سيتركون فلسطين إذا لم يتمّ انتخابهم في المستقبل، وإذا لم يتمّ تعيينهم في وظائف عليا. على هؤلاء أن يثبتوا على أرض الواقع أنّ كلامهم عن فلسطين ليس مجرّد شعارات سرعان ما تتلاشى مع فقدانهم لمراكزهم السلطوية، فيتلاشون إثر ذلك عن الساحة الفلسطينية ويهاجرون إلى بلاد أخرى يواصلون إطلاق الشعارات الكاذبة، من فضائيّات كاذبة، من قريب أو بعيد.

إنّ من يدّعي الانتماء إلى القضيّة الفلسطينية، عليه أن يثبت ذلك على أرض الواقع في السرّاء كما في الضرّاء أيضًا.
أليس كذلك؟
*
نشر في: ”إيلاف“


ـــــــ



هل سيُرسي مُرسي الديمقراطية المصرية؟





الآن، ومع انتخاب مرسي والإخوان، لم تعد هنالك ذرائع لدى هؤلاء. عليهم الآن إيجاد أماكن عمل لملايين المصريين، وإطعام الجائعين. هم المسؤولون الآن عن الأوضاع المصرية.

سلمان مصالحة

هل سيُرسي مُرسي الديمقراطية المصرية؟

مهما قيل في الماضي،
أو يقال الآن عقب الانتخابات المصرية، إلاّ أنّ هنالك أمرًا واحدًا لا يمكن أن يختفي عن الأنظار. لقد دخلت مصر مرحلة جديدة لا يمكن بعد اليوم أن تعود للوراء ولحكم الحزب الواحد والشخص الواحد الذي لا يتنازل عن السلطة. لقد ذهبت إلى غير رجعة، هكذا نأمل على كلّ حال، تجربة الاستفتاء ونسبة الـ %99 للرئيس. إنّ نسبة كهذه هي تعبير عن أحد أمرين، إمّا أنّ الشعب بأسره قطيع من الأغنام، وإمّا أنّ المشكلة هي مع فساد وطغيان النّظام. كلّ من يمتلك ذرّة من بصر وبصيرة يعرف أن الحقيقة هي الشقّ الثاني من التوصيف، أي أنّ المشكلة مع النّظام.

إنّ الانتفاضة المصرية، التي بدأت منذ أكثر من عام وأدّت في نهاية المطاف إلى الإطاحة بالنّظام، هي في الأساس ثورة ضدّ حكم العسكر الذي اغتصب السلطة من العام 1952. هذه هي حقيقة ما جرى في مصر. وهذه هي حقيقة ما يُسمّى بـ”الربيع العربيّ“ الذي ضرب تلك الدول ذات الأنظمة العسكرية المشابهة. فليس صدفة أنّ هذا الربيع لم يصل إلى العراق مثلاً. إنّه لم يصل إلى العراق لأنّ نظام السفّاح صدّام حسين قد أطيح به قبل نشوب انتفاضات هذا الربيع. ولو كان لا يزال موجودًا لكانت انتفاضات هذا الربيع بالتأكيد قد وصلت إلى العراق أيضًا، مثلما هو حاصل في سورية التي تنزف دمًا منذ عام ونيف.

إنّ التجربة المصرية الجديدة
هي تجربة جنينية، ولذلك يجب رعايتها لكي لا يُخذل الناس بهذا التحوُّل الديمقراطي. نتيجة الانتخابات جاءت معبّرة عن وضع طبيعي وعن حقيقة الحال المصريّة. ورغم ما قيل عن فلول وما إلى ذلك إلاّ أنّ نصف الناخبين المصريين تقريبًا قد صوّتوا لصالح أحمد شفيق. ومن الجهة لأخرى صوّت النصف الآخر لصالح محمد مرسي مرشّح الإخوان. ليس هذا فحسب، بل إنّ كثيرين من المنتمين إلى قوى معارضة النّظام السابق من العلمانيين ودعاة الدولة المدنية قد صوّتوا لمرسي، وذلك كتصويت احتجاجي على مخلّفات النّظام السابق، ليس إلاّ. بكلمات أخرى، على الرئيس المنتخب الجديد أن يعي هذه الحقيقة، لكي لا يدخل في أوهام مفادها أنّ كلّ هؤلاء من أتباع تيّاره.

ولهذا السبب أيضًا،
وبهدف تحصين هذه التجربة المصرية الجديدة، فإنّ مهمّة الذين ينكبّون على صياغة الدستور المصري الجديد أن يلتفتوا إلى عدّة مبادئ يجب التركيز عليها في هذا الدستور المُزمع صياغته.

المبدأ الأوّل: يجب أن يحمل عنصر تداول السلطة بالانتخاب الديمقراطي وعنصر المساواة بين المصريين في هذا الانتخاب. وبكلمات أخرى، كلّ مصري، أرجلاً كان أم امرأة، دون فرق بين الخلفية الدينية يحقّ له أن يَنتخب ويُنتخب لكلّ المناصب. هذا مبدأ أصل للمساواة بين المواطنين، إذ بدون ذلك لا يمكن الانتقال إلى مرحلة من الدولة المتقدّمة.

المبدأ الثاني: يجب عدم التنازل عن أنّ الانتخابات البرلمانية والرئاسية تتمّ كلّ أربع سنوات، وأنّ الرئيس المنتخب تنتهي ولايته بعد دورتين انتخابيتين، أي بعد ثماني سنوات في حال انتخابه لدورة ثانية. بعد هاتين الدورتين يُحال إلى التقاعد. فقط بالالتزام بهذا المبدأ يتمّ ضخّ دماء جديدة في السلطة، إذ بدون ذلك تتكلّس الشرايين ويعمّ الفساد والطغيان.

المبدأ الثالث: وهو مبدأ مركزيّ في الدولة المدنية. إنّه مبدأ فصل الدين، كلّ دين، عن الدولة. إنّ فصل الدين عن الدولة لا يعني إلقاء الدين عرض الحائط، وإنّما هو لصالح الدين في الأساس. فإذا دخل الدين في السياسة فسد هذا الدين وأفسد السياسة معه أيضًا. لهذا فإنّ الإبقاء على الدّين في خانة الفرد هو ما يُبقي الاحترام له ولصاحبه. أمّا السياسة فهي للدولة، لبناء الدولة وللعلاقات الدولية، وهي للبناء والعمران المادّي والبشري على جوانبه المختلفة والمتشعّبة.

فقط إذا تمّ الحفاظ على هذه المبادئ الكبرى بحذافيرها بوسعنا القول إنّ مصر بدأت تخطو في الاتّجاه السليم. إنّ الإصرار على هذه المبادئ والحفاظ عليها هي من مهمّة التيّارات المعارضة، بمن فيهم هؤلاء الذين صوّتوا احتجاجًا للرئيس المنتخب الجديد. إمّا بغير الحفاظ على هذه المبادئ، فإنّ مصر والمصريين سيواصلون التخبّط إلى أجل غير مُسمّى.

الآن، ومع انتخاب مرسي والإخوان، لم تعد هنالك ذرائع لدى هؤلاء. عليهم الآن إيجاد أماكن عمل لملايين المصريين، وإطعام الجائعين. هم المسؤولون الآن عن الأوضاع المصرية. فإذا لم يقدّموا ذلك للشعب المصري، فإنّ الشعب بانتظارهم، فالانتخابات الديمقراطية بعد أربع سنوات من أمامهم وميدان التحرير من ورائهم.

أليس كذلك؟
*
نشر في: ”إيلاف“، 26 يونيو 2012
******

جامعة فلسطينية تفضّل الجهل على المعرفة



هل تريد أسرة الجامعة المتخاذلة في هذه المسألة تذكير الجامعة، وإلغاء تاء التأنيث منها لتضحي جامعًا فقط؟


سلمان مصالحة

جامعة فلسطينية تفضّل الجهل على المعرفة

منذ شهر أو أكثر
يتعالى الجدل في الساحات الافتراضية الفلسطينية، وخلف الستار، حول قضيّة الأستاذ موسى البديري وجامعة بير زيت الفلسطينية. على ما يبدو هنالك من يخشى في وسائل الإعلام الفلسطينية، رسمية وغير رسمية، من الولوج في صلب هذه القضايا. وكأنّ لسان حالهم يقول: لأيش وجع الرأس؟

غير أنّ وجع الرأس هذا هو بالذّات ما يُفتَرض من الصحافة المسؤولة أن تتعامل معه، وأن تضعه على طاولة الحوار الشعبي. كما إنّ وجع الرأس هذا، أي إثارة حبّ الاستطلاع، والشكّ في كلّ المسلّمات، والتساؤل حول كلّ شيء هو ما يٌفترض أن تقوم به الجامعات التي تطمح إلى المعرفة، وإلى البحث والتقصّي في كافة المجالات. إنّ وجع الرأس هذا هو ما يُفترض أن يشيعه الكتّاب والمثقّفون وأن لا يركنوا إلى راحة الانضمام إلى جريان الرّيح بما لا تشتهيه سفن المعرفة. لأنّهم، إن لم يقفوا بوجه هذه التيارات فإنّهم يخونون المسؤولية التي من المفروض أن تكون ملقاة على عاتقهم.

كيف بدأت الحكاية؟
الدكتور موسى البديري يعمل في قسم الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت الفلسطينية. لقد علّق الدكتور البديري منذ عام أو أكثر رسومات ساذجة على باب غرفته. والرسومات، على كلّ حال، مأخوذة من مصدر عربيّ أصلاً، ”أعدّه مواطن إماراتي حول مغامرات سوبرمان، وهي موجودة على موقع إلكتروني سعودي.“ كما يقول الأستاذ البديري.

ربّما رغب الأستاذ البديري أن تثير جمهور الطلبة في الجامعة طرح تساؤلات بشأن كثير من القضايا الاجتماعية المُحدقة بالجميع في هذا الأوان. غير أنّ ظنّ البديري قد خاب، إذ أنّ تلك الرسومات لم تثر أحدًا طوال عام وأكثر. وفي الحقيقة، ليس في هذه الرسومات ما يثير، إذ أنّها رسومات ساذجة. مثلاً: رسم لسوبرمان بجانبه امرأة تسأله: ”هل تتزوّجني؟“، فيجيبها: ”ما أقدر، الشريعة في كوكب كريبتون ما تسمح لي آخذ الخامسة“. وقد يكون هذا الرسم ترجمة للكثير من النكات الشائعة على ألسنة الكثيرين في هذا العالم العربي.

غير أنّ بعض الإسلاميين،
من صنف أولئك الذين قد عيّنوا أنفسهم حماة للإسلام ومتحدّثين باسم الإسلام دون غيرهم من سائر البشر من المسلمين، قد وجدوا على ما يبدو في ذلك فرصة مؤاتية للاصطياد في مياه فلسطين العكرة. وهي حقًّا عكرة. وهكذا فقد شنّوا حملة تحريضيّة ضدّ الأستاذ البديري يتّهمونه بالإساءة للإسلام، ويطالبون إدارة الجامعة بإقالته. هذا ناهيك عن التهديدات التي تصل الأستاذ البديري من بعض الأطراف وممّن هم على شاكلة تلك الأطراف.

غير أنّ إدارة جامعة بير زيت، وبدلاً من أن تقف سدًّا منيعًا أمام حملات التحريض هذه ضدّ الأستاذ البديري، فإنّها تتخاذل في القيام بواجبها، بل والأسوأ من ذلك أنّ هنالك ”أساتذة“ في الجامعة لا يخجلون من الانضمام إلى حملات التنديد بالأستاذ البديري. فهل هؤلاء حقًّا أساتذة جامعة؟ وما هي الأجواء المعرفية التي يريدون إشاعتها في أروقة الجامعة؟

لقد دفعت هذه الأجواء الأستاذ البديري إلى
تحرير رسالة شديدة موجّهة إلى أسرة الجامعة، وقد جاء فيها: ”إن تلكؤ إدارة الجامعة -حتى تاريخ كتابة هذه السطور - في اتخاذ إجراءات تأديبية ضد هذه المجموعة من الجسم الطلابي الذين قاموا بهذه الحملة التحريضية داخل الجامعة وخارجها، والذين نصَّبوا أنفسهم متحدِّثين رسميين باسم الإسلام، أدَّى إلى إدامة هذا المناخ التحريضي مترافقاً مع اتهامات غير معقولة تدَّعي أنها تعرف الأفكار والنوايا الحقيقية“. وقد أنهى الأستاذ البديري رسالته بـ: ”كلّي أمل أن تكون الجامعة ساحة يمارس فيها روادها السجال الفكري بروح النقد وقبول الفكر المغاير والشعور بالغنى الناجم عن التعدد بدلا من القلق من الاختلاف.“

في هذه الأثناء تجدر الإشارة إلى أنّ مجلس مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية قد أصدر بيانًا يعبّر فيه عن: ”قلقه من لغة الخطاب التكفيري والتحريضي الذي شهدته ساحة جامعة بيرزيت مؤخرًا“. وقد أكّد البيان على أنّ: ”استخدام الدين عبر شعارات تحريضية وتشهيرية لقمع الرأي الآخر يشكل تعديًا خطيرًا على الممارسة الديمقراطية والإنسانية“.

وإلى جانب الإشادة ببيان
مؤسسات حقوق الإنسان الفلسطينية، لا بدّ من الإشارة إلى تخاذُل الآخرين إزاء هذه القضيّة. فالصحافة الفلسطينية تدسّ رأسها في الرّمال كما تفعل النعامات، وفي الوقت ذاته يهرب المثقّفون وأساتذة الجامعات إلى جحورهم ولا ينبسون ببنت شفة تنديدًا بهذه الحملات التكفيرية والتحريضية ضدّ أحد الأساتذة الفلسطينيين المتنوّرين.

فأيّ مجتمع فلسطيني يريد كلّ هؤلاء المتخاذلين؟ هل يريدون مجتمعًا يجري كالقطيع دون أن يكون فيه أفراد يشغّلون تلك الملكة الذهنية التي مُنحوها؟ وأيّ مؤسسة جامعية هي تلك التي لا تجعل الشكّ، والبحث والتقصي والسؤال في مقدّمة العناوين الكبرى التي تشتغل بها، وتحاول تجذيرها في المجتمع؟

هل تريد أسرة الجامعة المتخاذلة في هذه المسألة تذكير الجامعة، وإلغاء تاء التأنيث منها لتضحي جامعًا فقط؟ إنّ هذا التخاذل إزاء هذه الحملة التحريضية ضدّ الأستاذ البديري سيضع هذه الجامعة الفلسطينية في عداد الكتاتيب الإسلامية، ليس إلاّ. والكتاتيب لا تصنع علمًا، كما هو معلوم للقاصي والداني. ولهذا وجب التنويه.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 20 يونيو 2012

أيضًا في: "جدلية"
______

ميكروكوسموس

من الأرشيف (1994):



وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة، حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية.

سلمان مصالحة || 

ميكروكوسموس


في بحر هذا العام
تطرّقت في أكثر من مناسبة إلى إشكاليّات الهويّة الّتي هي من نصيبنا نحن العرب في هذا المشرق. وقد ذكرت في مقالة سابقة حدّيْن اثنين هما من مميّزات الشّعب الواحد. الحدّ الأوّل هو حدّ الحياة، والحدّ الثّاني هو حدّ الممات.

أي أنّه حينما لا يقبل أبناء ما يُسمّى لدينا بـ”الشّعب الواحد لا الشّعبين“ بحدّ الحياة المشتركة بين أفراده من رجال ونساء، وإنّما تبقى هذه القضيّة منحصرة في أبناء الطّائفة الواحدة فلا يمكننا إلاّ أن نبدأ بالتّشكيك في هذه المقولات. حيث أنّ حدّ الحياة المشتركة يقتصر على أبناء الطائفة الواحدة على أساس دينيّ مذهبيّ. وإذا كُنّا نشهد في بعض الأحيان خروجًا على هذه القواعد فإنّ هذا الخروج ما زال هو الشّاذّ الّذي يؤكّد على القاعدة.

أمّا الحدّ الثاني، حدّ الممات، فهو أيضًا لا يختلفُ عن الحدّ الأوّل، بل ربّما هو مغلق بصورة أكثر إحكامًا وليس عنه خروج بأيّ حال من الأحوال. فهل يمكننا أن نتحدّث عن شعب واحد إذا كُنّا نفصل بين أفراد »الشّعب الواحد« بعد أن يقضوا نحبهم. هل هنالك مقبرة واحدة تجمع أبناء الشّعب الواحد دون النّظر إلى الخلفيّة الدينيّة الّتي ينتمي إليها الفقيد. الجواب معروف لديكم. كُنتُ قد أثرت هذه القضيّة في الماضي، ولكنّها لم تلاق أيّ ردود فعل، لأنّي أعتقد أنّ القائمين على اتّخاذ خطوات عمليّة لذلك يخشون حتّى من إدراج هذه المسألة على بساط البحث.

ولكنّ القضيّة أعمق
حتّى من ذلك بكثير. وفي الحقيقة، فإنّ الهويّة القوميّة العربيّة بحاجة إلى بحث مستفيض يعرض أمام القرّاء حقائقها كاملة غير منقوصة، حتى وإن كانت هذه الحقائق مؤلمة للغاية. وفي الكثير من الإحيان يتّضح أنّ التّعريفات المعهودة لا تنطبق على الشّعوب العربيّة، وهنالك حاجة إلى إعادة النّظر في كلّ هذه الطّروحات الّتي لم تفِ بما غاءت إليه. بل في الكثير من الأحيان نقرأ ونسمع عن أمور تقلب جميع هذه المفاهيم رأسًا على عقب. فهل نواجه هذه الحقائق بكلّ ما نملك من صراحة أم سنستمرّ في دسّ رؤوسنا في الرّمال؟ والمثال الّذي سأورده هنا هو الاستطلاع الّذي جرى في كفر برا قد جاء ليؤكّد كلّ ما أرمي إليه من طروحات.

فماذا جرى في كفر برا؟
نشرت صحيفة كلّ العرب في الأسبوع الفائت خبرًا مفاده أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد أجرى مؤخّرًا استفتاء لاستطلاع الرأي حول السّماح للسيّد عصام أبو حجلة، وهو من سكّان جلجوليّة ومتزوّج من امرأة من سكّان كفر برا، بالسّكن في قرية كفر برا على قطعة أرض كانت السيّدة المذكورة قد ورثتها من أهلها. لقد اشتمل الاستفتاء على الأسئلة التّالية الّتي سأعيد ذكرها هنا لأهميّة ما تنطوي عليه: فالسؤال الأوّل: هل توافق على دخول الغرباء لقرية كفر برا؟ والسؤال الثاني: هل توافق على عودة نساء كفر برا المتزوّجات خارج القرية مع أزواجهنّ؟ والسّؤال الثالث: هل يشمل هذا عصام أبو حجلة؟

أمّا النتائج فكانت كالتّالي: 188 صوتًا ضدّ السّماح له بالسكن في كفر برا، بينما صوّت تسعة أشخاص فقط لصالحه، وامتنع ثلاثة عن الادلاء برأيهم.

هل يمكننا أن نمرّ على كلّ هذا مرّ الكرام؟ أم أنّ واجبنا رفض جميع هذه الظّواهر واقتلاعها من جذورها. بنظرة أولى، يبدو أنّ المجلس المحلّي في كفر برا قد خرق القانون في تصرّفه هذا وما على السيّد عصام أبو حجله إلاّ أن يقدّم شكوى ويقاضي مجلس كفر برا أمام القانون.

ولكنّ القضيّة ليست قضيّة قانونيّة فحسب. وإنّما القضيّة الجوهريّة هي قضيّة الهويّة القوميّة بشكل عام. ولو كانت القضيّة محليّة لما تطرّقنا إلىها، ولكنّى أعتقد أنّ هذه المسألة هي مسألة جوهريّة تستقي من جذور عميقة ضاربة في التّاريخ العربيّ.

لذلك، فكفر برا في هذه القضيّة هي ميكروكوسموس يمكننا من خلاله النّظر بجديّة إلى هذه القضيّة وأبعادها العامّة الّتي تمكّننا من التّعرف على حقائق مزمنة في المشرق والمغرب العربيين. يتّضح ممّا جرى في كفر برا أنّه حتّى الخلفيّة الدّينيّة لا تكفي للهويّة، فلا شكّ أنّ السيّد عصام أبو حجلة مسلم دينًا، كما أنّه على ما أعلم فإنّ كفر برا هي قرية إسلاميّة كذلك، بل وأكثر من ذلك فإنّ رئيس مجلسها هو من الحركة الإسلاميّة على ما أظنّ.

ولكن وعلى الرّغم من ذلك،
لم تكفِ هذه الحقيقة لكي يتشكّل جمهور واحد، بل برزت إلى السّطح تلك النّعرات القبليّة المتحكّمة في الذّهن العربيّ والّتي لم يُفلح بعد منها فكاكًا. فإذا كانت هذه هي الحقيقة بين أفراد طائفة واحدة، فكم بالحريّ لو أنّ السيّد عصام أبو حجلة كان مسيحيّا أو درزيًّا. أنتم تعرفون الإجابة.

في الأسئلة الّتي طُرحت على سكّان كفر برا تكمن الإجابة على جميع ما أرمي إليه. فالهويّة الأكثر تجذّرًا في الذّهن العربيّ هي الهويّة القبليّة الّتي لم تقو المبادئ الدينيّة حتّى على اقتلاعها. فمصطلح »الغرباء« الّذي اشتمل عليه الاستطلاع في كفر برا ينسحب على كلّ من ليس مواطنًا من القبائل الّتي تتألّف منها قرية كفر برا بالولادة، حتى وإن كان من أبناء نفس الشّعب ونفس المعتقد الديني. والوجه الآخر لهذه العملة المهترئة هو أنّ جمهور النّساء بعد الزّواج يخرج خارج حدود القبيلة وبذلك يفقد حقّه في الانضواء تحت راية الشّعب الواحد والبلد الواحد. هكذا تتحوّل المرأة إلى قبيلة أخرى تفقد حقّها حتّى في العيش في مسقط رأسها مع زوجها وأولادها.

إزاء كلّ هذه الحقائق الآنفة الذّكر،
هل يمكننا أن نستمرّ في التّصريح بوحدة الشّعب. الحقيقة هي كما ترون. وكفر برا لا تختلف عن سائر القرى والمواقع في هذا المشرق العربيّ. بعد ما جرى في كفر برا فإنّ الحديث عن هويّة واحدة لشعب عربيّ واحد سيكون مجرّد هراء في هراء.

أمّا إن كان لديكم تفسير آخر فهاتوه.
*

نشرت المقالة في أسبوعية: كلّ العرب، الناصرة، 1994
***
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!