إلى الجحيم!


أرشيف (مارس 2005)

سلمان مصالحة || إلى الجحيم!


قبل مدّة
مضى سفّاح العراق البعثي إلى غير رجعة، مع أنّ فلوله ما زالت تمارس القتل، بالمفرّق وبالجملة، وهي هواية نشأت وترعرعت عليها عصابات البعث وأعوانهم. غير أنّ نهاية هذه الفلول آتية لا ريب فيها. وفي فلسطين تلاشى عرفات، وكأنّه "فصّ ملح وذاب"، كما يقال، فلا أحد يأتي على ذكره منذ أن غاب عن الأنظار، وانتخب الفلسطينيّون رئيسًا جديدًا مختلفًا وبصورة ديمقراطيّة يحاول جاهدًا الآن إصلاح ما أفسد سابقه طوال عقود. وفي إسرائيل بدأ يعي الرأي العام أنّ منطق القوّة لا يجدي نفعًا أمام إرادة الشّعوب بالتّحرّر من الاحتلال، ممّا حدا بالقيادات العسكرية والسياسيّة إلى إعادة حساباتها.

وقبل أيّام،
أعلن حسني مبارك عن نيّته في تغيير البند الدّستوري بشأن الانتخابات الرئاسيّة المصريّة، لكي يكون بالإمكان انتخاب رئيس مصري بين أكثر من مرشّح واحد. ومهما قيل في ذلك، فلا شكّ أنّ الرّياح القادمة من الغرب قد بدأت تحرّك قمم الأشجار الباسقة والّتي لم تتحرّك منذ عقود.

وبالأمس
استقالت حكومة دمى البعث الشّامي في بيروت، تحت ضغط الشّارع اللّبناني على جميع أطيافه الإثنيّة والدّينيّة. إنّها مؤشّرات على رياح جديدة تهبّ في هذه المنطقة من العالم.

من جهة، تزرع هذه التّحوّلات بعض الأمل في النّفوس الّتي أطبق عليها اليأس طوال العقود الأخيرة، إن لم نقل طوال قرون. لكن، من جهة أخرى هنالك حاجة إلى رعاية هذه النّبتات الدّيمقراطيّة الجديدة القادمة إلى هذه المنطقة من العالم. هنالك حاجة ماسّة إلى تربة خصبة وإلى أرضيّة ملائمة لتنمية هذه النّبتة وتكثيرها ثمّ توزيعها على كلّ سنتيمتر في هذا المشرق المنكوب بحضارته القبليّة والدّينيّة منذ قرون، لتتحوّل إلى حدائق غنّاء بدل هذا التّصحُّر الحضاري والأخلاقي في العالم العربي والإسلامي.

وهذا العالم،
العربي والإسلامي، لم يعرف الدّيمقراطيّة أبدًا في حياته، ولذلك فإن ما يجري في هذه الأيّام هو بمثابة تجربة جديدة وغير مسبوقة. كما يجدر النّظر إليها بحذر شديد، ويجب إحاطتها بكوابح دستوريّة مدنيّة لقطع الطّريق على كلّ من تسوّل له نفسه المساس بهذه الشّجرة الغالية الثّمن، والّتي طالما طال انتظار البشر في هذه البقعة من الأرض إلى التّمتّع بثمارها والاستراحة تحت ظلالها.

والسؤال المطروح الآن هو،
كيف تتمّ رعاية هذه الأشجار الجديدة؟ هنالك عدّة خطوات أولى يجدر اتّخاذها على هذه الطّريق الطّويلة.

أوّلاً،
يجب حلّ جامعة الدّول العربيّة، لأنّها لا تعني شيئًا سوى كونها مؤسّسة لموظّفين لا يفعلون شيئًا غير عقد اجتماعات وإصدار بيانات لا قيمة لها. هذه الجامعة هي مجرّد نادٍ لأعضاء موفدين لا يربط بين بلادهم أيّ خيط يمكن أن يشكّل قاعدة لعمل عربيّ مشترك. إذ أنّ الواقع هو أنّ كلّ دولة من دول الجامعة لها أجندة خاصّة بها. إذن، والحال هذه، فلتسيّر كلّ دولة أمورها كما تراه مناسبًا لها. ناهيك عن أنّ الوحدة العربيّة هي مجرّد فرية إعلاميّة من مخلّفات البلاغة العربيّة التّليدة والبليدة ليس إلاّ، وهدفها تخليد الأنظمة الديكتاتوريّة بشعارات الموظّفين الموفدين.

ثانيًا،
وضع دستور مدني، وعلى وجه الخصوص في كلّ دولة متعدّدة الإثنيّات والطّوائف يرتكز في الأساس على فصل الدّين عن الدّولة، لأنّ الدّين في هذه البلاد المتعدّدة الإثنيّات هو أداة فصل وتمييز عنصري، وليس أداة وصل تجمع المواطنين في الحدود الجغرافيّة للدّولة. دولة المواطنين لا يمكن أن تنشأ إلاّ بعيدًا عن الدّين، وعن الملل والنّحل في هذه الدّول. كذا في العراق وفي مصر، وفي سوريا ولبنان، وكذلك في إسرائيل وفلسطين أيضًا.

هل ستنمو
وتكبر هذه النّبتة الجديدة في المسكب اللّبناني بعد كلّ هذه الأعوام من الاقتتال الطّائفي والدّيني، ومن الاحتلال الأجنبي الإسرائيلي والسّوري فيه؟ وهل تنتقل هذه العدوى المباركة شرقًا لتطيح بالبعث الشّامي وترسله إلى جحر شبيه بجحر البعث العراقي غير المأسوف عليه؟ حتّى وإن وجد هذا البعث الشّامي، ويا للمفارقة، أذرعًا حزبيّة قومجيّة عروبيّة أقسمت يمين الولاء للكنيست الإسرائيلي، ونصّبت أنفسها في الوقت ذاته أداة إعلاميّة لهذا البعث الشّامي البغيض.

في هذه اللّحظة نرسل تحيّة للمعارضة اللّبنانيّة بجميع طوائفها وأحزابها، والحذر الحذر من المطبّات على هذه الطّريق، لأنّ هنالك من يتربّص بكم الآن، لأنّه بدأ يشتمّ نهايته.

وهل
تطول فسحة الأمل هذه؟
لا أدري.

*
نشر: “إيلاف”، 1 مارس 2005


يتسحاق لاؤور || ثلاث قصائد


  من الشعر العبري:

 

يتسحاق لاؤور || ثلاث قصائد

يتسحاق لاؤور


امرأة ميتة

وَعندئذٍ تَنْتهِي الحَرْبُ، وَنَبْقَى
كَما دَوْمًا، الأحْياءُ، لنَحْكِي
ما تُقَرّرُهُ الدّوْلة في الذاكرة سَيَبْقَى
وما يُؤْخذُ وما يَطويهُ النسيان، إذا
انْتَصَرْنا، وإذا هُزِمْنا، وفي هذا الأوان ”لا
تَمُدَّ يَدَكَ إلى الصّبِيّ“*، يقولُ
المَلاكُ لجاري، الّذي أُرْسلَ آخرُ مَنْ أنْجبَ
مِنْ أَولاد، ابنُ شَيْخُوختِهِ، لإحْضارِ كمامةِ غاز،
أوْ لأَبٍ من إيران، مِهْنتُهُ حَدّاد،
تَأَرْمَل
فِي القَصْفِ الأَوّل.

* إشارة إلى الآية من سفر التكوين، إصحاح 22


ــــــــــــ

ابنة بابل

عندما نَنْتَصرُ، طَبْعًا سيقُولونَ لَنا: شووو...؟
أَلَمْ يَكُنْ ذلكَ جديرًا؟ صَحيح، يُوجدُ قَتْلَى
لكنْ، لَدَيْهم أكْثَر، أَكْثَر بكَثير
رُبّما ليسَ بما يَكْفِي، ومع ذلك مرّةً أخرى
سَلامُنا عَلَى ما يُرام، حيٌّ قام علَى أَنْهارِ
الدّمِ في ”بابل الصّائرة إلَى الخَراب“*، إذَنْ
كَفَى عَويلاً، هَيّا عُودُوا إلى العَمَل
(كَمْ هو مُحَرِّرٌ دَمُ الآخَرين)

* إشارة إلى المزمور 137
ــــــــــــ

رهيبة

وَهاكُمْ سُلوان، لَنْ تَكونَ
أبدًا حَرْبٌ. سُدُولُ ليلٍ
هادئٍ حَلَّ عَلَينا، من بُيوتِ المدينة
تَتَعالَى هَمْهَمةُ مُكَيّفات
وفي المَقابر العَسْكريّة
تَنتظرُ، منذ سنوات، الشّواهدُ
بِهُدوءٍ للصَّرْخَة: لأَجْلِ ماذا؟
(مِنْ هُنا تَتَعالَى حَقًّا الرَّهْبَة.
رهيبة)
*

ترجمها من العبرية: سلمان مصالحة

 
نشرت بالعبرية: ملحق ”ثقافة وأدب“، هآرتس، 25 سبتمبر 2012


النّظام السوري وتأمين حدود إسرائيل


سلمان مصالحة


النّظام السوري وتأمين حدود إسرائيل


في الأمثال الشعبيّة،
يُقال: وُضع ذنب الكلب في قالب، وبعد أربعين عامًا، كُشف عنه فتبيّن أنّه ما زال أعوج. هذه هي حال ”البعث“. فطوال عقود طويلة قام زبانية هذا البعث، بشقّيه - التكريتي من جهة والقرداحي من الجهة الأخرى، عبر وسائل الإعلام المأجورة وعبر رجال الإعلام المأجورين، بإشباع مراهقي العروبة المأزومة بشعارات الحريّة والاشتراكيّة وما إلى ذلك من كلام معسول لا ينطلي إلاّ على أصحاب الذهنيّات الساذجة.

كما إنّه لا ينطلي إلاّ على البعض ممّن في قلوبهم زيغ، من صنف الّذين كلّ كيانهم كان مأجورًا للامبراطورية السوڤييتيّة فلا يرون الدنيا إلاّ بمنظور ”الشقيق الأكبر“ الذي يجلس في مكاتب الـ كي.جي.بي. ورغم أنّ هذا ”الشقيق الأكبر“ قد اندثر إلى غير رجعة، وقد انفرطت تلك ”المنظومة“ كما أحبّوا تسميتها، إلاّ أنّ فلول هؤلاء لا زالوا على غيّهم، فلم ينقّلوا هواهم وظلّت أهواؤهم تميل إلى ذلك الشقيق الإمبراطوري الأكبر، مع أنّ هوى هذا الشقيق قد تبدّل، كما وقد تبدّلت أحواله، ولكنّ هؤلاء ما بُدّلوا تبديلا.

على كلّ حال،
وكما قد أشرت أكثر من مرّة وفي أكثر من مكان، فلقد استغلّ النّظام البعثي أيديولوجية البعث ”العروبيّة“ بغية إحكام سلطته القرداحيّة القبليّة على كافّة بلاد الشّام مستعينًا بالأبواق العروبية المراهقة ومن هم على شاكلة هؤلاء. فمنذ حرب عام 1973، التي أطلق عليها البعث ذاته اسم ”حرب تشرين التحريرية“، مع أنّه لم يحرّر شبرًا واحدًا، فلا زلت هضبة الجولان محتلّة حتّى هذا الأوان، هدأت الجبهة منذ ذلك الوقت ولم يُطلق رصاصة ”تحريرية“ واحدة. غير أنّ لهجة النّظام تبدّلت بمرور الأيّام وصارت تجاري اللغة العربية المستحدثة، فقد أضحى النّظام يصف نفسه بالـ”مقاومة“ والـ”ممانعة“، وما إلى ذلك من مصطلحات تتفتّق عنها قرائح مراهقي العروبة، على اختلاف شللهم، مللهم ونحلهم.

منذ عام 1973، انكفأ النّظام إلى العمل على الاستيلاء على الموارد السورية بغية تكريس السلطة القبلية الطائفية، وفي الوقت ذاته تكريس العمل خارج الحدود السورية. إذ أنّ هذا النّظام، كما أشرت في الماضي أكثر من مرّة أيضًا، كان ولا يزال على استعداد أن يحارب إسرائيل عبر آخرين. وبكلمات أخرى، كان على استعداد أن يحارب إسرائيل حتّى آخر لبناني، أو حتّى آخر فلسطيني، بينما تبقى حدوده مع إسرائيل صامتة صمت القبور.

وهكذا كان إلى أنّ حصل توريث
السلطة من الأب للابن في مهزلة دستورية شاهدها الجميع، وكأنّ البلاد والعباد ليسوا إلاّ مزرعة هي ملك لآل الأسد. ورغم كلّ هذه المهازل، غير أنّ البعض ظنّ أنّ رئيسًا شابًّا تعلّم في الغرب قد يكون تطبّع بعض الشيء بما هو قائم في ذلك العالم من انفتاح وحرية ومؤسسات ومواطنة هي الأساس في تعامل الدولة مع البشر. غير أنّ كلّ هؤلاء المتفائلين لم يولوا اهتمامًا لمسألة أخرى، وهي أنّ الطبع يغلّب التطبّع.

مرّت عام وتلاه عام آخر. ومرّت الأيّام ولم يحدث شيء، إلى أن بدأ الانتفاضات العربية فسارع الرئيس الشابّ إلى الإعلان للصحافة الغربية أنّ سورية غير تونس وغير مصر. وبمجرّد أن كتب أولاد درعا شعارات الحريّة على الجدران سارع هذا الرئيس الذي غلبه طبعه على تطبّعه إلى إرسال جيشه لقمع البشر الذين ينشدون الحريّة. ومنذ ذلك الوقت تواصل قوّات هذا النّظام عمليّات القتل والتنكيل في بلاد الشام.

ليس هذا فحسب، بل سارع النّظام إلى التهديد بأنّ الاستقرار في سورية مرتبط بالاستقرار بالمنطقة، بما يشي طبعًا إلى إمكانية التلاعب بالهدوء القائم والاستقرار على الحدود السورية واللبنانية الإسرائيلية. ولقد صرّح رامي مخلوف، وهو الرجل القوي في دائرة الأسد، بهذا الأمر علانية في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز: ”إذا لم يكن استقرار هنا، فلن يكون استقرار في إسرائيل“. وعندما سُئل إن كانت أقواله هذه تهديدًا، أجاب: ”لم أشر إلى حرب، بل ما أقوله هو أنّه يجب عدم الضغط على الرئيس، ولا تدفعوا سورية لفعل شيء لا ترغب بفعله.“ (انظر: نيويورك تايمز، 10 مايو 2011).

تأمين الحدود مع إسرائيل:
طبعًا الكلام للإعلام شيء، وما يجري على الأرض شيء آخر مختلف تمامًا. إذ قبل شهر من هذه المقابلة كان النّظام يرسل قوّاته متخفيّة بسيّارات مدنيّة للتعاون مع الجيش الإسرائيلي الذي يحتلّ الجولان من أجل تأمين الحدود. هذا ما تكشفه لنا الوثيقة التي نورد صورة منها هنا.

لقد وُسمت الوثيقة، نموذج رقم 14 بختم سرّي للغاية - فوري. وتسهيلاً للقراءة أضع هنا تفريغًا كلاميًّا لها:

الوثيقة:

الجمهورية العربية السورية
القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة
القوى الجوية - إدارة الدفاع الجوي
المخابرات الجوية 291
المهام الخاصة

....... (أمر مهمة)

على: سهيل حسن الرتبة: عقيد الدرجة: ...
أن يذهب: من الفرع 291 في الساعة: 9 من تاريخ: 3 / 4 / 2011 م
إلى الحدود السورية الإسرائيلية مستعملاً كواسطة للنقل: سيارات مدنية
بمهمة: تأمين الحدود السورية الإسرائيلية من جهة {...} والمناطق المحيطة به، بالتعاون مع دولة إسرائيل على أن يعود في: فور إنهاء مهمته.

العميد الركن المجاز
ختم وتوقيع
*
إذن، وكما يرى القارئ،
فإنّ الشعارات الرنّانة التي تدغدغ عواطف مراهقي العروبة شيء والواقع شيء آخر. ولهذا فقد آن الأوان أن تخرج هذه الشعوب من سنّ المراهقه، آن لها أن تنتقل إلى سنّ البلوغ وأن تتعامل مع واقعها بما يليق بها. إنّ هذا النوع من الأنظمة قد انبنى على أسس لا يمكن أن تعيش إلاّ على الدجل. إذا انبنت الأنظمة على التوريث القبليّ فإنّ الأساس باطل، وما بني على باطل فهو باطل، ولا يمكن أن يكون شيئًا آخر.

هذه هي الحقيقة التي آن الأوان لمراهقي العروبة ومدمني الـ“ممانعة“ اللفظيّة مواجهتها.

*
نشر: ”إيلاف“، 24 سبتمبر 2012

ــــــــــ

قصيدة وطنيّة، ربّما

سلمان مصالحة || 

قصيدة وطنيّة، ربّما


ناحَ الحَمامُ على
فَرْعٍ، فَقُلتُ لهُ:
ماذا دَهاكَ،
خَلَطْتَ الحُزْنَ بِالغَرَدِ؟
*
قالَ: افْتَقَدْتُ هَدِيلِي،
إذْ ألَمَّ بِهِ،
فِي الشّامِ مَضْبَعَةٌ
فِي هَيْأَةِ الأُسُدِ.
*
ثُمَّ انْحَنَى، وَنِثارُ
الدّمْعِ يَسْبقُهُ.
يَبْكِي عَلى وَلَدٍ،
يَبْكِي عَلى
بَلَدِ.
*
وَاسْتَجْمَعَ الرّيحَ
فِي أطْرافِ خاصِرَةٍ
وَطارَ يَرْسِمُ آهاتٍ
عَلَى فَقَدِ.
*
حَتّى تَوارَى وَراءَ
التّلِّ مُنْطَلِقًا.
فَعُدتُ أبْحثُ
عَمّا طارَ مِنْ كَبِدِي.
*
وَجَفَّ دَمْعِي عَلَى
ما ناحَ مِنْ مِحَنٍ.
لَمْ يُبْقِ لِي كَبِدًا
يَبْكِي عَلَى أحدِ.
*
فَرُحْتُ أَسْألُ
عَنْ جارٍ يُسامِرُنِي.
حَتّى وَقَفْتُ عَلَى دارٍ
بِها وَسَدِي.
*
وَحِينَ يَغْرَقُ
قُرْصُ الشّمْسِ فِي حَمَأٍ،
تَطْفُو عَلَى اللّيْلِ
نَغْماتٌ لِمُنْفَرِدِ
*
عَزْفًا بِعُودٍ، إذا ما
رُحْتَ تَسْألُهُ،
يَسْتَنْطقُ الرُّوحَ
فِي الأَخْشابِ وَالجَمَدِ.
*
حَتّى مَزَجْتُ لَهُ راحًا عَلَى
قَلَقٍ، وَما عَلِمْتُ
بِأنَّ الرُّوحَ فِي العَدَدِ.
*
يَوْمًا يَكيلُ لِيَ الصّفْراءَ 
مِنْ عِنَبٍ.
يَوْمًا أَصُبُّ لَهُ الشّقْراءَ
مِنْ مَدَدِي.
*
حَتّى رَأيْنا نُجُومَ
الظُّهْرِ فِي حَلَكٍ،
راحٌ تَلأْلَأُ فِي كَأْسٍ
بِلا قَعَدِ.
*
لَوْ كانَ مِنْ وَطَنٍ
ما كُنتُ أتْرُكُهُ.
لكِنّنِي وَطَنٌ
قَدْ زُجَّ بِالجَسَدِ.
*

نشرت: "شفاف الشرق الأوسط"
___________________

في مديح سايكس-بيكو



يمكننا القول إنّ كلّ الشعارات الفضفاضة عن الأمّة والعروبة والثورة والاشتراكية، وما شابه ذلك من صمود وتصدّ ومقاومة وممانعة إلى آخره كانت في الواقع ذرائع في أيدي الأنظمة لمواصلة الفساد والاستبداد والاستمرار في إفقار واستعباد العباد.

سلمان مصالحة || 

في مديح سايكس-بيكو


لا شكّ أن العالم،
بأممه، شعوبه ودوله يتعامل مع بعضه البعض من منطلق المصالح. هذه هي سنّة الحياة بين الأفراد في المجتمعات، وكذا هي الحال بين الأمم. ولماذا أسوق هذا الكلام الآن وفي هذا الأوان بالذات؟ أسوق هذا الكلام الآن، إذ أنّه ومنذ هبوب نسائم ما سُمّي بـ”الربيع العربي“، وعلى وجه الخصوص منذ تعمّق الأزمة السورية وتعاظم البطش والتقتيل في سورية وحصائل المجازر اليومية التي يرتكبها النّظام البعثي الفاشي بحقّ الحجر والشجر والبشر في بلاد الشام، فقد كثرت الأحاديث وشاعت الأقاويل في الفترة الأخيرة عن ”مؤامرة غربية“ لتفتيت وإعادة تشكيل المنطقة على غرار ”سايكس بيكو“.

المصالح، إذن، هي التي تتشكّل بموجبها
العلاقات بين الشعوب والأمم. فمثلما للغرب مصالح، كذا هي الحال بالنسبة للشرق والشمال والجنوب. ومثلما لأميركا وأوروبا كذلك لروسيا والصين وما سواهما. فروسيا بوتين لا تدعم نظام البعث الفاشي لسواد عيون الأسد ولا رغبة في مصلحة الشعب السّوري. وإيران الملالي لا تدعم النّظام البعثي الفاشي، ”العلماني ظاهريًّا“، رغبة منها في تكريس العلمانية في هذه البقعة من الأرض. كما إنّ إردوغان لا يتحدّث عن غزّة وفلسطين إلاّ لغرض في نفس رجب طيب وحزبه. كذا هي حال سياسية المصالح، وكذا هي حال ألعاب القوى والميدان في العلاقات الدولية.

العالم العربي، كما يتبدّى
للنّاظر الّذي يحاول الحذر من الوقوع في شرك العواطف، هو أشبه بالرّجل المريض في هذا الأوان. فكلّ هذه العقود الطويلة من ”الاستقلالات الوطنيّة“ لم تأت بما يروي ظمأ أو يسدّ رمق هذه الشّعوب، عاربة ومستعربة، على شتّى مللها ونحلها، بطونها وأفخاذها. بل يمكننا القول إنّ كلّ الشعارات الفضفاضة عن الأمّة والعروبة والثورة والاشتراكية، وما شابه ذلك من صمود تصدّ ومقاومة وممانعة إلى آخره كانت في الواقع ذرائع في أيدي الأنظمة لمواصلة الفساد والاستبداد والاستمرار في إفقار واستعباد العباد.

فعلى سبيل المثال، فقبل أسابيع قليلة نشر تقرير سنوي عن تدريج جامعات العالم، فيتبيّن أنّه لا توجد جامعة عربية واحدة ضمن الجامعات الخمسمائة الأولى في العالم. إذن، أين هي كلّ هذه العقود من الشعارات الرنّانة. ومن ذا الّذي منع كلّ هذه الأنظمة الفاسدة من توظيف الأموال ودفع التعليم في بلادها. إنّ أسهل الطرق للتنصّل من المسؤولية عن هذه الأوضاع هي بإلقائها على عاتق عدوّ مُتوهَّم يحيك المؤامرات في الخفاء، مرّة لنهب الأموال ومرّة لتشكيل خارطة سايكس-بيكو جديدة. وكأنّ العالم بأسره، لا همّ له سوى حياكة المؤامرات ضدّ العرب بالذّات، وكأنّ العالم بأسره هو الّذي خلق هذه التشكيلة الغريبة العجيبة من الناس. لقد نسي هؤلاء أنّ هذه الملل والنحل متناحرة متنافرة فيما بينها منذ أن ظهرت على مسرح التاريخ.

سخف اليسار العربي:
رغم إنّي أقف في النقيض من التوجّهات الإسلامويّة، إلاّ أنّي أفهم هؤلاء عندما يتحدّثون عن سايكس -بيكو. إذ أنّ هؤلاء الإسلامويّين لا تعنيهم الحدود الوطنيّة، ولا الأقطار والقوميّات المشتقّة منها. لقد ذكر ذلك صراحة مرشد الإخوان المسلمين سابقًا في مصر المحروسة، عندما صرّح علانية بما معناه: ”طزّ في مصر وأبو مصر“. وعلى غرار ذلك المرشد الإخواني فإنّ لسان حال الإسلامويّين في كلّ قطر من أقطار العرب لا شكّ يقول: ”طزّ في تونس، وطزّ في العراق، وطزّ في فلسطين وطزّ في سورية، إلخ“. هذه هي رؤاهم وهم يجاهرون بها.

لكنّ اليسار العربي على العموم، والقومويّون على اختلاف تيّاراتهم، يظهرون من الجهة الأخرى متربّعين في قمّة السخف عندما يتحدّثون عن مخاطر مشروع سايكس-بيكو جديد. أقول إنّهم يظهرون بهذا القدر من السخف لأنّّهم عندما يتحدّثون عن الشعوب العربية وحقوقها في تقرير المصير، وعن التراب الوطني وحماية الحدود وما إلى ذلك فإنّما يؤكّدون بتوجّهاتهم هذه وبشعاراتهم هذه كلّ تلك الحدود التي رسمتها خارطة سايكس-بيكو.

مديح سايكس-بيكو:
فلولا خارطة ”سايكس-بيكو“ هذه ما كان بوسع الوطني اللبناني أن يتغنّى بلبنانيته، وما كان بوسع السوري أو العراقي أن يتغنّى بسوريته وعراقيته، وفوق ذلك ما كان الفلسطيني ليتغنّى بفلسطينيته ووطنيّته لولا ما أفرزته هذه الخارطة التي رسمها الاستعمار. فعندما تسأل اللبناني: ما هي لبنانيّتك وما هي حدود لبنانك؟ يسارع بالإجابة فيتبيّن لك أنّها حدود سايكس-بيكو. وعندما تسأل الفلسطيني يردّ عليك بمثل ذلك، فيتبيّن لك أنّ حدود فلسطينه هي حدود سايكس-بيكو. وعلى هذا المنوال يردّ الآخرون من مراهقي العروبة أو من شائخي الوطنيّة في الأقطار العربية التي وضع حدودها الاستعمار مع انهيار الإمبراطورية العثمانية.

والمسألة ليست سهلة، كما قد يتبادر إلى الذهن، إذ أنّ في هذه الإجابات ما يدفع المرء إلى التساؤل: إذا كانت هذه حدود الوطنيّة القطريّة، فذلك يعني أنّ الهويّة الوطنيّة القطريّة هي هويّة من مخلّفات الاستعمار، وقد رُسمت حديثًا في خارطة سايكس-بيكو، كما لا يوجد لها أيّ عمق تاريخي بأيّ حال من الأحوال.

بالإضافة إلى ذلك، إذا كان اليسار العربي حقًّا يؤمن بتقرير المصير للشعوب، فلا يمكن أن يكون مثلاً ضدّ تقرير المصير للأكراد على سبيل المثال، وإلاّ فلا معنى لشعارات تقرير المصير الرنّانة التي يتغنّى بها ليل نهار. إذ برفضه حقّ الأكراد، أو البربر في تقرير المصير فإنّما هو يُظهر بذلك الرفض كلّ زيف شعاراته، والّتي لن يشتريها منه أحد من البشر بعد هذا الرّفض.

مهما يكن من أمر،
لم أتقصّد أن أمدح سايكس-بيكو أو شيئًا من هذا القبيل في هذه المقالة. كلّ ما في الأمر هو أنّني أجد من الواجب الأخلاقي أن أعرض هذه التناقضات في الخطاب السياسي العربي، اليساري منه والقوموي على تيّاراتهما المختلفة. إذ أنّ الكلام في هذه القضايا يجب أن يقف على أرض صلبة لكي يكون مقنعًا. بل وأكثر من ذلك، على الكلام في هذه القضايا أن يكون صادقًا إلى أبعد الحدود، لأنّه بالصّدق فقط يمكن أن تدخل مضامين الكلام إلى العقول والأفئدة معًا. أمّا ما سوى ذلك، فسيظلّ الكلام المعسول ملقيًّا على عواهنه لا يلتفت إليه أحد، إذ ستكون السمة الغالبة عليه في هذه الحالة هي سمة الدّجل، ليس إلاّ.

بكلمات أخرى، ولكي لا يقع كلّ هؤلاء ”الوطنيّين“ في تناقض صارخ مع طروحاتهم الوطنيّة، فإنّهم مُلزمون بكيل المدائح للسيّدين سايكس وبيكو، إذ لولاهما لفقد هؤلاء الوطنيّون من العرب هويّاتهم الوطنيّة وحدود تلك الهويّات.

والعقل وليّ التوفيق!
***
نشر في: ”إيلاف“، 12 سبتمبر 2012

عندما فرض النصارى الجزية على المسلمين




”ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا؟ قالوا: على منبر طرسوس. فقال: لا، ولكني على منبر بيت المقدس. وهذه كانت تمنعكم عن ذلك.“


سلمان مصالحة ||

عندما فرض النصارى الجزية على المسلمين


هذا العنوان قد يثير
الكثير من القرّاء، وخاصّة أنّه من الشائع الحديث عن حالات هي العكس من ذلك تمامًا. صحيح أنّ الجزية التي تُفرض على أهل الكتاب هي جزء من العقيدة الإسلامية منذ بداية الصراع الإسلامي مع سائر المعتقدات، وصحيح أنّ التاريخ العربي والإسلامي يكشف لنا مع الكثير من التوسُّع عن هذه المعاملات مع الأقوام في البلدان التي احتلّتها الجيوش الإسلامية الغازية. كما لا يزال هنالك وإلى يومنا هذا الكثير من الإسلاميين الّذين ما زالوا يتمسّكون بهذه الأيديولوجيّة الغابرة ويعبّرون عن تمسّكهم بهذه التوجهات علانية.

غير أنّنا في هذه المقالة الآن سنتعرّض إلى حالات لا تصل إلى مسامع القارئ العربي أحيانًا. إنّها حالات معكوسة بالضبط، حيث فرض فيها النصارى بالذّات هذه الجزية على المسلمين. وعلى ما يبدو فقد كان هؤلاء النصارى يعلمون الكثير عن معاملة المسلمين السيئة لأبناء عقيدتهم، ولذا فقد قرّر هؤلاء أن يعاملوا المسلمين بمثل ما كان المسلمون يعاملونهم عندما يحتلّون بلادهم.

نعود إلى التاريخ، وإلى القرن
العاشر على وجه التحديد، لكي نقرأ ما دوّنه لنا السلف من أحداث في هذه المنطقة، وعلى وجه التحديد في المناطق الحدودية، مناطق التماس الشمالية بين الإسلام والمسيحية، أي إلى ثغور الشام الممتدّة بين أنطاكية وحلب وبلاد الرّوم. سأتطرّق في هذه المقالة إلى ما حصل في مدينة واحدة من هذه الثغور، وأعني بها مدينة طرسوس، وهي المدينة التي تقع هذه الأيّام في جنوب تركيا.

في تلك الفترة من القرن العاشر كانت الحروب متواصلة بين المسلمين والروم في هذه الأصقاع، كما في غيرها من نقاط التماس بين المسلمين وسائر الأقوام. لقد كانت هذه المدينة قد احتُلّت من قبل ووقعت تحت الحكم الإسلامي، وكان ابن الزيّات واليًا عليها في عهد سيف الدولة. وكما تذكر الروايات فقد كان المسلمون فيها ”بأحسن حال“. غير أنّ أوضاع المسلمين قد تغيّرت بمرور الوقت، فقد انشغل هؤلاء ببعضهم البعض: ”هذا وسيف الدولة حيّ يرزق بميّافارقين والملوك كلّ واحد مشغول بمحاربة جاره من المسلمين“ (ياقوت الحموي، كتاب البلدان، ج 4، ص 28)

نقفور ملك الرّوم:
لقد استمرّ وضع الثغور على تلك الحال، بل ولانشغال المسلمين ببعضهم البعض فقد تركت تلك الثغور لتواجه مصيرها بنفسها: ”وتخلى ملوك الإسلام عن أهل الرباط بها“. (أبو الفدا: تاريخ حلب، ج 1 ص 24) وهكذا، وعندما ملك نقفور الفقاس (Nikephoros II Phokas) بين السنوات 963–969 للميلاد على أرض الرّوم فقد قرّر أن يسترجع تلك البلاد التي وقعت تحت الاحتلال الإسلامي: ”إلى أن كان سنة 354 {هـ} فان نقفور ملك الروم استولى على الثغور وفتح المصيصة... ثم رحل عنها ونزل على طرسوس... وكان بها من قبل سيف الدولة رجل يقال له ابن الزّيّات ورشيق النسيمي مولاه فسلّما إليه المدينة على الأمان والصلح...“ (ياقوت: بلدان)

كيف تمّ التسليم؟
لقد دخل نقفور مدينة طرسوس في سنة 965 للميلاد، وتقدّم كما تفيد الرواية التي دوّنها أبو الفدا، ثمّ: ”نصب رمحين، جعل على أحدهما مصحفًا، وعلى الآخر صليبًا، ثم قال لهم: من اختار بلاد الإسلام فليقف تحت المصحف؛ ومن اختار بلاد النصرانية فليقف تحت الصليب.“ (أبو الفدا، تاريخ حلب، ج 1 ص 24).

بل وأكثر من ذلك، فهنالك من يروي بتفصيل أكثر خطبة ملك الروم قبل جلاء المسلمين عنها: ”وحدث أبو القاسم التنوخي قال: أخبرني جماعة ممن جلا عن ذلك الثغر أن نقفور لما فتح طرسوس نصب في ظاهرها علمين ونادى مناديه: من أراد بلاد الملك الرحيم وأحبّ العدل والنّصفة والأمن على المال والأهل والنفس والولد وأمن السبل وصحة الأحكام والإحسان في المعاملة وحفظ الفروج وكذا وكذا، وعد أشياء جميلة، فليصر تحت هذا العلم ليقفل مع الملك إلى بلاد الروم، ومن أراد الزنا واللواط والجور في الأحكام والأعمال وأخذ الضرائب وتملّك الضياع عليه وغصب الأموال، وعد أشياء من هذا النوع غير جميلة، فليحصل تحت هذا العلم إلى بلاد الإسلام.“ (ياقوت، بلدان)

شروط ملك النصارى:
لقد وضع نقفور شروطًا على المسلمين لدى تسليم المدينة. إمّا الجلاء، أو بتعابير هذا العصر - ترانسفير، وإمّا البقاء بوصفهم أهل ذمّة يدفعون الجزية، وإمّا التنصّر: ”واشترط تخريب الجامع والمساجد، وأنه من أراد المقام في البلد على الذمّة وأداء الجزية فعل، وإن تنصّر فله الحباء والكرامة وتقرّ عليه نعمته.“ (ياقوت: بلدان).

وهكذا، تفرّق أهل طرسوس، ”وخرج أكثر الناس يقصدون بلاد الإسلام وتفرّقوا فيها“، غير أنّ البعض منهم قد تنصّر ”فأقرّت نعمهم عليهم وأقام نفر يسير على الجزية،“. ثمّ طفق نقفور في تخريب المساجد وإحراق المصاحف: ”وملك نقفور البلد فأحرق المصاحف وخرّب المساجد وأخذ من خزائن السلاح ما لم يسمع بمثله، مما كان جُمع من أيّام بني أميّة إلى هذه الغاية.“ (ياقوت: بلدان)

وتفيد الروايات أنّ عدد المسلمين الذين جلوا عن طرسوس بعد تسليمها لنقفور قد بلغ مائة ألف: ”فخرج المسلمون فحُرزوا بمائة ألف ما بين رجل وامرأة وصبي“ (أبو الفدا: تاريخ حلب)

تراجيديا إنسانية:
لدى قراءة الروايات يمكن الوقوف على تلك التراجيديا الإنسانية التي حصلت مع احتلال طرسوس: ”ودخل الروم إلى طرسوس فأخذ كلّ واحد من الروم دار رجل من المسلمين بما فيها ثم يتوكل ببابها ولا يطلق لصاحبها إلا حمل الخفّ فان رآه قد تجاوز منعه حتى إذا خرج منها صاحبها دخلها النصراني فاحتوى على ما فيها.“ (ياقوت، بلدان)

ليس هذا فحسب، بل إنّ التراجيديا تزداد بسبب ما يُستشفّ من الحال والأعوام التي سبقت. إذ تشي الرواية بما جرى للنساء النصرانيّات مع احتلال المسلمين للمدينة. وكما جرت العادة في تلك الأيّام فقد سُبيت النساء النصرانيّات وتملّكهنّ رجال من المسلمين، وأنجبن منهم أولادًا.

والآن، ومع استرجاع الرّوم لطرسوس ووضع شروط التّسليم، تشير الرواية إلى تفريق الأبناء عن الآباء. إذ أنّ أولئك النسوة من السّبايا شعرن بالحرية من جديد، وانحزن إلى أهلهنّ من بلاد الرّوم. وهكذا تستمرّ الرواية في سرد الأحداث التراجيدية: ”وتقاعد بالمسلمين أمهات أولادهم لما رأين أهاليهنّ، وقالت: أنا الآن حرّة لا حاجة لي في صحبتك، فمنهنّ من رمت بولدها على أبيه، ومنهنّ من منعت الأب من ولده فنشأ نصرانيّا، فكان الإنسان يجيء إلى عسكر الروم فيودع ولدَه ويبكي ويصرخ وينصرفُ على أقبح صورة حتى بكى الروم رقّةً لهم. (ياقوت، بلدان)

الوجهة - بيت المقدس:
نقفور، ملك النصارى، كان يفكّر في مواصلة القتال للعودة والسيطرة على بيت المقدس. هذا ما يُستشفّ من مجريات الأحداث التي حفظتها لنا الرواية: ”ودخل نقفور إلى طرسوس، وصعد منبرها، وقال لمن حوله: أين أنا؟ قالوا: على منبر طرسوس. فقال: لا، ولكني على منبر بيت المقدس. وهذه كانت تمنعكم عن ذلك.“ (أبو الفدا، تاريخ حلب).

وهكذا نرى أنّ هذا الشّرق مأزوم برجاله ومعتقداته وسلوكيّاته منذ قديم الزّمان. وما أحوال هذا الشرق في هذه الأيّام سوى تكرار ورجع صدى لذلك الماضي الغابر الذي لا يستطيع منه أهل هذه المعتقدات المشرقية فكاكًا.

إنّ من يرغب في دفع هذا الشرق قدمًا، لزام عليه أن يترك كلّ الماضي للمؤرّخين فحسب، لا أن يعيش الآن ليل نهار في هذا الماضي ومآسيه. إذ، لكثرة ما في هذا المشرق من ماضٍ ومن معتقدات ومآسٍ فمن الصعب على المرء أن يرى المستقبل.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر: إيلاف
***


المقالة والتعليقات كما نشرت في إيلاف










كاريكاتير لغة أمّ

إلاّ "العروبة" أعيت من يداويها:
سلمان مصالحة || كاريكاتير لغة أمّ


ما شا اللّه! هنالك كثيرون يهتمّون بلغة الأمّ. لقد أنعمت عليهم إسرائيل بميزانية لمجامع لغة أمّهم، وذلك لكي ينشغلوا بقضايا تتعلّق بلغة أمّهم وأمّ أمّهم. هنالك كثيرون يعتقدون أنّ اللّغة هي مجرّد صفّ كلام، ليس إلاّ. بل وهنالك من يعتقد أنّه بمجرّد استخدام كلمات وتعابير فخمة فإنّه يوهم القارئ بعلمه الوفير.

أنظروا النموذج التالي على سبيل المثال لا الحصر: ”كما تتناول المحاضرة دورة ثنائية الخرائط في خلق الغربة بين الإنسان وحيزه“. ما شا اللّه! ليست أحادية أو ثلاثية، بل هي دورة ثنائية الخرائط. ليس هذا فحسب، بل ”تتناول المحاضرة دورة ثنائية الخرائط في خلق“، ليس فقط في خلق، بل ”في خلق الغربة بين الإنسان وحيزه“.

إذا كان هنالك عربيّ على وجه الأرض يفهم شيئًا من هذا الكلام، فلا شكّ أنّه سيكون من الفرقة الناجية.


وفي ذلك نقول:

لقد آن الأوان إلى فرض جمارك، ليس على الحكي فحسب، بل وعلى الكتابة والمحاضرات أيضًا.

والعقل ولي التوفيق!
*


جرائم النّظام والمعارضة



أيًّا كان مصدر هذه الجرائم البربريّة البشعة التي يشاهدها العالم بأسره في وسائل الاتّصال الحديثة، أكان مرتكبوها من شبّيحة وزبانية النّظام الفاشي أو كان مرتكبوها ممّن ينتمون إلى معارضي هذا النّظام، فإنّ من ينتمي إلى فصيلة الإنسان العاقل يقف مصدومًا أمام هول هذه الحال الإنسانيّة البرّيّة.


سلمان مصالحة || جرائم النّظام والمعارضة

أُشيعت مؤخّرًا
في الكثير من المواقع، وفي اليوتيوب خاصّة، سلسلة من الأفلام التي توثّق جرائم القتل والتمثيل بجثث أتباع النّظام البعثي الفاشي الّذين يشاركون هم بدورهم طبعًا في ماكينة القمع الوحشية للمنتفضين السوريين ضدّ هذا النّظام الإجرامي ذاته. هذه المرّة تأتي هذه الأفلام على غرار تلك الأفلام الّتي وثّقت جرائم الشبّيحة وجيش النّظام بحقّ المواطنين السوريّين.

أي أنّنا قد وجدنا أنفسنا الآن أمام حقيقة هذه الحال الّتي يشهدها هذا البلد المشرقي منذ عام ونصف. إنّ هذا النّظام الأسدي القرداحي الّذي اتّخذ من الحزب العروبي الفاشي مطيّة بلاغية ليس إلاّ، هدف في نهاية المطاف إلى تكريس سلطته القبليّة والطائفيّة. وها هو النّظام ذاته يواجه الآن هذه الأنابيت البشعة الّتي هي من مخلّفات زرعه القبليّ والطائفيّ. إذ أنّنا نقف الآن أمام الحقيقة المتلخّصة في أنّ يدَيْ هذا النّظام قد أوْكَتا كلّ هذه الجرائم الطائفيّة وفاه قد نفخَ كلّ هذا الخراب الإثني والطائفي.

إنّ ما يجري على الساحة السوريّة
ومنذ شهور طويلة هو خير دليل على هذا الخراب، وهو خير شاهد على هذا الخواء الذي تتّسم به هذه البقعة من الأرض. غير أنّ هذا الخواء، الأخلاقي في الأساس، ليس جديدًا مُستحدَثًا في هذا الزّمان. إنّه جزء من طبيعة هذه المنطقة الّتي لم تتطبّع في يوم من الأيّام بطباع المدنيّة.

لقد وقف العلاّمة ابن خلدون طاب ثراه ومثواه، ومنذ زمان طويل، على هذه الطّباع الّتي لم تقبل تطبُّع العمران في يوم الأيّام: "العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التوحّش فيهم فصار لهم خُلقًا وجبلّة، وكان عندهم ملذوذًا... هذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له... فالحَجَرُ مثلاً إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه... لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران..." (مقدّمة ابن خلدون، ص 146).

لقد تحدّث ابن خلدون عن العمران الماديّ في معرض تطرّقه إلى ما يتعلّق بالعرب، غير أنّه حريّ بنا أن نوسّع هذا المنهج الخلدوني إلى فضاء جديد والحديث عن عمران من نوع آخر، ونقصد به العمران الرّوحي. فإذا كان ابن خلدون قد تحدّث عن الحجر، فإنّنا نرغب في توسيع مقولته إلى الحديث عن البشر.

أيًّا كان مصدر هذه الجرائم
البربريّة البشعة التي يشاهدها العالم بأسره في وسائل الاتّصال الحديثة، أكان مرتكبوها من شبّيحة وزبانية النّظام الفاشي أو كان مرتكبوها ممّن ينتمون إلى معارضي هذا النّظام، فإنّ من ينتمي إلى فصيلة الإنسان العاقل يقف مصدومًا أمام هول هذه الحال الإنسانيّة البرّيّة.

عندما يتحدّث ابن خلدون عن الحجر كحاجة عربية لأثافي القدور، فإنّي استذكر تلك الحاجة العربيّة في استخدام البشر لأثافي القدور ذاتها. إذ أنّ ما يشاهده العرب والعالم من جرائم هذا الزّمان يمكن أن نحيله إلى هذا التراث الّذي تترعرع عليه الأجيال العربية.

لنقرأ، على سبيل المثال،
ما دوّنه لنا السّلف عن خالد بن الوليد، الملقّب بـ“سيف الله المسلول“، وكيف أمر بقطع رأس مالك بن نويره لكي يُستخدَم أثفية لقدر يُطبخ فيها لعسكره: "كان مالك من أكثر النّاس شَعْرًا، وأنّ العسكر أثّفوا القدور برؤوسهم، فما من رأس إلاّ وصلت النّار إلى بشرته، ما خلا مالكًا فإنّ القدر نضجت وما نضجَ رأسُه من كثرة شَعْره، ووقى الشّعرُ البشرةَ من حرّ النّار أن تبلغ منه ذلك". ليس هذا فحسب، بل إنّ التّراث يعلّمنا أنّ خالدًا بن الوليد قد فعل ذلك لأنّه رغب في امرأة مالك الّتي قيل عنها "إنّه لم يُرَ أحسنُ من ساقيها". وبالفعل، "يُقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهلُ العلم" (يمكن العودة إلى هذا الخبر في تاريخ الرسل والملوك للطبري، في البداية والنهاية لابن كثير، في كتاب الفتوح لابن أعثم، في الإصابة لابن حجر وغيرها الكثير).

ولنقرأ، على سبيل المثال أيضًا، عن مصير رأس الحسين بن عليّ. فقد دوّن لنا السّلف كيف وضع عبيد الله بن زياد رأسه في طست "وجعل ينكت فيه بقضيبه" (يمكن العودة للخبر في تاريخ الرسل والملوك للطبري، في بحار الأنوار للمجلسي، وفي الكثير من المصادر الأخرى). وهناك الكثير الكثير من هذا التراث الدّموي الذي تشبّ عليه الأجيال العربية.

إنّ ما يبرز على السّطح
في هذه الأقطار العربيّة الّتي خرجت من الرّكام العثماني، ثمّ الإمبريالي، هو الفشل الذّريع في بناء العمران الرّوحي، أي العمران البشري الّذي يشدّ بعضه بعضًا. لقد خرجت هذه الأقطار من استبداد واحد إلى استبداد آخر بعباءة ”وطنيّة“ في الظّاهر، بينما كانت قبليّة وطائفيّة في الباطن. بكلمات أخرى، لقد بدّلت هذه الأقطار الاستعمار الأجنبي باستعمار قبليّ من قِبَل هؤلاء الّذين يُطلق عليهم مصطلح ذوي القُربى.

لقد وضع الشاعر العربي القديم إصبعه على حقيقة إنسانية جوهريّة بوصفه الظّلم الجائي من ذوي القربى بأنّه ”أشدّ مضاضةً“. نعم، إنّه أشدّ مضاضة لأنّه يكشف زيف القربى ويحيل الإنسان إلى حال اليأس والاكتئاب. إنّ هذا الظّلم المتفشّي في ربوعه يحيله إلى حال عدم الثقة ببني البشر أصلاً. إنّ فقدان هذه الثقة بالبشر هو أساس الخراب، هو أسّ الخواء الأخلاقي، وهو الذي يُفضي إلى التفكّك والاندثار الرّوحي. نعم، إنّه النّقيض للعمران البشري أيضًا.

هذا هو، في الأساس، الفشل الكبير
لكلّ هذه الأنظمة المتهالكة في الأقطار ”العربية“. إذ لم تُفلح كلّ هذه الأنظمة، على اختلافها، في بناء شعوب متعاضدة كالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضًا. لقد انبنت كلّ هذه الأنظمة على الاستبداد القبليّ والدينيّ. ولمّا كان الاستبداد القبليّ والدّيني نقيضًا للحريّة ونقيضًا للرّوح الإنسانية فإنّه لا يدوم على حاله. إنّه حال مؤقّتة سرعان ما تتهاوى أمام انتفاضة نشود الحريّة البشرية. والحريّة هي طبيعة بشريّة في نهاية المطاف.

إنّ الطريق الوحيدة للخروج من هذه الدوّامة الدمويّة العربية واضحة للعيان ولا حاجة إلى اختراع العجلة من جديد. ما على الإنسان العربي إلاّ أن يلتفت إلى العالم من حوله لكي يتلمّس الطريق الواضحة. من هنا، تبرز هذه الحاجة العربيّة الملحّة إلى بناء المجتمعات على أسس تتخطّى تلك الانتماءات القبليّة، الإثنيّة والدينيّة. إنّ بناءً كهذا لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في دولة مدنيّة عابرة لكلّ هذه الانتماءات. هذا لا يعني عدم الانتماء وإنّما يضع البناء المجتمعي على أسس أقوى تنبني عليها المدنيّة الحديثة. لهذا السبب أيضًا، هنالك حاجة ملحّة لإعادة تقييم للحياة العربيّة، للحضارة العربيّة منذ أن ظهرت هذه على مسرح التاريخ.

كلّ ما يتمّ نشره من جرائم تُرتكب من قبل النّظام أو من قبل المعارضة في بلاد العرب تشير إلى أنّ ثمّة خيطًا رفيعًا، غير أنّه متين جدًّا، يربط بين هذه الجرائم الآن وتلك الجرائم المُوثّقة عربيًّا منذ قديم الزّمان والّتي أشرنا إلى أمثلة منها من قبل. لهذا، فإنّ كلّ من يرغب حقًّا بالخروج من هذه الدوّامات الدّمويّة العربيّة مُطالب إنّه مُطالب بالدّعوة إلى قطع هذا الخيط وقطع هذه الصّلة مع هذه الجرائم.

إذن، هنالك حاجة ملحّة
إلى إجراء حساب نفس عربيّ. ولكي يكون لحساب النّفس هذا تأثير على مصير العرب للأجيال القادمة فإنّه من الضروري أن يتمّ هذا الحساب علانية. من الضّروري أن يتمّ بأبعد حدود الصراحة. إنّه لمن الضروري أن يتمّ وضع كلّ شيء للمساءلة والمناقشة أمام أعين الجميع، وعدم إخفاء الأوساخ تحت البساط. إذ أنّه فقط بالمصارحة يمكن أن تتمّ المصالحة مع النّفس ومع الآخر. أمّا بانعدام هذا الحساب فما من طريق أمام هؤلاء البشر سوى طريق الخراب والخواء الأخلاقي.

والعقل وليّ التوفيق!
*
نشر: ”إيلاف“، 15 أغسطس 2012

***
For English, press here
For Polish, press here
___________________

سورية، والدواهي التي تحت السواهي


الصامت على الجريمة هو دائمًا شريك في ارتكابها. ولا أقصد هنا صمت البعض الذين يرزحون تحت سلطة تلك المافيات الإجرامية المستبدّة، بل أعني كلّ هؤلاء الذين يعيشون في بلاد أخرى ينعمون فيها برفاهية حرية التعبير عن الرأي. نعم، أعني كلّ هؤلاء الصامتين في الخارج.


قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!