الخميس، 9 أكتوبر 2008

مقالة في مديح الصمت

سلمان مصالحة

مقالة في مديح الصّمت


لعلّ أكثر ما يثير

الاستغراب هو كلّ هذا الهرج والمرج اللّذين يملآن الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء. لا أرغب في إثارة الشّعور بالحنين إلى الماضي المتخيّل، لأنّ هذا الحنين إلى "أيّام زمان" كما شاع القول على لساننا العامّيّ هو أكبر تعبير عن حالة الاكتئاب الّتي تسم الرّاهن الّذي وجدنا أنفسنا فيه. وفوق كلّ ذلك، فإنّ ذلك الماضي الّذي نحنّ إليه في هذا الأوان لم يكن أيضًا مثلما نصوّره في أذهاننا الحاضرة، بل هو شيء أبدعناه من بنات خيالنا المراهقات في محاولة منّا للفرار من هذا الحاضر وانتظار ما هو آت.

ورغم كلّ ذلك،

ففي الماضي غير البعيد، عندما لم تكن الفضائيّات ووسائل الاتّصال العصريّة قد ملأت هذا الفضاء العربي قرقعة صوتيّة جوفاء، فقد كان في الماضي شيء من الصّمت الّذي نفتقده الآن. لا أدري لماذا يخشى العرب على العموم من الصّمت. وها هي الذّاكرة تعود بي الآن إلى تلك الجلسات القرويّة الّتي كانت تلتئم في مناسبة كهذه أو تلك. كان الهرج والمرج يملآن المنتدى وأطراف الحديث تمتدّ لتطال كلّ ما هبّ ودبّ من شؤون العالم في الاجتماع والسياسة والحال الّتي آلت إليها أمور البشر في هذا العصر الّذي يغذ الخطى متسارعًا لا يلوي على شيء ممّا يتأبّطون. كلّ يدلي بدلوه ويقيم والعالم ويقعده على هواه. وكما درج القول في لساننا الشّعبي "على الحكي ما فيه جمرك"، ولذلك يُصبح الكلام لمجرّد الكلام نوعًا من التّسلية لتمضية الوقت.

ولكن، حتّى الكلام

ينتهي أحيانًا، أو يبلغ مبلغًا من التّكرار والاجترار في نفوس هؤلاء حتّى يصمتون صمتًا رهيبًا وكأنّ على رؤوسهم الطّير. ينظرون في السّقف أو يداعبون خرزات مسابحهم، يتململون شمالاً أو يمينًا لا يدرون ما هم فاعلون في هذه اللّحظات العصيبة من الصّمت. لا يعرفون كيف يتعاملون مع هذا الضّيف الجديد. هذا الضّيف الّذي يُدعى الصّمت والّذي حلّ عليهم فجأة غريب بينهم. وهم ، بخلاف ما يُشيعون زورًا وبهتانًا، لا يحبّون الغرباء ولا يحبّون الأنبياء. والصّمت ليس نبيًّا فحسب، بل هو ملك الأنبياء. وبينا هم على هذه الحال من الحلّ في مراتع الصّمت يهبّ أحد المنتدين مستلاًّ من جعبة جعجعته سهمًا، ثمّ سرعان ما يصوّب نشّابه ويطلق سهمه، جملته الشّعبيّة، "مسّاكم اللّه بالخير"، تجاه الصّمت المخيّم في الفضاء، وسرعان ما يلوذ هذا الصّمت بالفرار من المنتدى. وهكذا، يعود الهرج والمرج وأتباعهما إلى سابق العهد من الكلام الّذي "لا جمرك عليه".

ولماذا أتذكّر كلّ هذا الكلام

الآن؟ أتذكّر هذا لأنّ الفضاء العربي أضحى في هذا العصر أكثر شبهًا بتلك المنتديات والمجالس القروية الّتي امتلأت جعجعة وقرقعة دون أن نرى طحينًا. لقد تحوّل الفضاء العربي المرئي والمسموع والمقروء إلى ساحة لتمضية الوقت، أي لقتل الوقت في التّسالي والجعجعة عن كلّ شيء، ولكن بشرط أن يكون الكلام موجّهًا إلى خارج الموقع الّذي يجعجع فيه. فإذا نظرنا من حولنا، نرى أنّ السّوري في سوريا يجعجع عن كلّ شيء سوى سوريا ونظامها المستبدّ. كذا هي الحال في ممالك وإمارات العربان في مشرق الأرض ومغربها والّتي تعيث في الفضاء فسادًا وجهلاً عربيًّا أضحيا ماركة عربيّة مسجّلة. والحال كذلك في مصر المحروسة، أمّ الدّنيا، على لسان أهلها الأغبياء، وكأنّهم سألوا الدّنيا إن كانت ترغب أصلاً في هذه الأمومة. أمّا عن بني فلسطين وفساد زعمائهم كابرًا عن كابر فحدّثوا ولا حرج، فقد كنّا بفلسطٍ واحدة فصرنا بفلسطَيْن.

والأنكى من كلّ ذلك،

أنّ الكتّاب العرب لم يتعلّموا بعد ما يمكن أن يغدقه عليهم الصّمت من نعمة. تراهم في كلّ وادٍ يهيمون، ينظّرون ويشرحون ويطرحون كلامًا كبيرًا، بشرط أن يكون موجّهًا إلى غيرهم في مكان بعيد. إنّهم لا يعرفون الصّمت، ولذلك فإنّ الصّمت لن يعرفهم. إنّ من لا يعرف طريقه إلى الصّمت، لن يعرف طريقه إلى الكلام الهادئ المتّزن.
وأخيرًا، فليعش ميكي ماوس، وليعش توم وجيري وصحابتهما الميامين!

أما آن لنا، نحن العرب، أن نصمت قليلاً؟

*
والعقل ولي التّوفيق



مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات