‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا عربية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قضايا عربية. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 22 مايو 2025

كازينو غزة


سلمان مصالحة

كازينو غزة

 
الأفكار بتحويل غزة إلى منتجع سياحي بما يشمله من مسابح وكازينوهات ليست بالأمر الجديد. فمنذ سنوات الأربعينيات من القرن المنصرم كانت هذه الأفكار تجول بخواطر أبناء غزّة أنفسهم.  

فها نحن نقرأ في صحيفة الصراط الصادرة في 7 نيسان 1940 خبرًا يتناول هذا المشروع الذي يتمّ تداول إمكانية دفعه في غزّة. فتحت عنوان “غزّة الجديدة - إنشاء رصيف وكازينو على الشاطئ” نقرأ ما يلي من رسالة مراسل الصراط:


“علمت أنّ هناك مشروعًا ذا تأثير على مستقبل غزة الجديدة هو الآن موضع الدرس، والرغبة شديدة في إخراجه إلى حيّز الوجود. وهذا المشروع هو بناء رصيف طوله كيلومتر واحد وعرضه 20 مترًا على شاطئ البحر حيث تقوم غزة الجديدة، وإقامة كازينو وحمامات للسباحة ومنتزهات خاصة تجعل من غزة مقصدًا للمصطافين من فلسطين وغيرها من الأنحاء وتساعد على إنعاش الحالة الاقتصادية فيها”.
“ويكلّف هذا المشروع بضعة آلاف من الجنيهات، والمجلس البلدي وحضرة رئيسه يشتغلان لتحقيقه جهدهما، وقد علمت أنّ البلدية ستسعى إلى إيجاد شركة للقيام به على أن تساعدها في ذلك ما أمكنها. ويقول حضرة رئيسها إنه لو كانت واردات البلدية تساعد على أن تقوم هي به لما تردّدت عن ذلك مطلقًا، أمّا وهي مغرقة بالمشاريع الأخرى فإنه سيقوم بالمساعي اللازمة لإيجاد الشركة المطلوبة.”
“ويُرجى أن يتعاون موسرو غزة مع محبّي خير هذه المدينة العربية على إخراجه إلى حيّز الوجود.
“وشاطئ غزة الجديدة في الصيف هو من أجمل الأماكن التي يستريح المصطاف إلى […] والهواء هناك نقي وصحي للغاية”


أقرأ هذا الكلام الآن بعد مضيّ عقود طويلة على خلفية مشاهد ما يُعرض من ركام حجريّ وحطام بشريّ على مرأى ومسمع المتشدّقين بالضّاد من صنف الذين حقّ وصفهم بالأوغاد المهرولين إلى الاستنجاد بالأضداد. و”كلّهم أروغُ من ثعلبٍ - ما أشبهَ الليلةَ بالبارحَهْ”، فبئس المبدأ وبئس المعاد.

والعقل ولي التوفيق.

 

الثلاثاء، 15 أبريل 2025

التطهير العرقي ركن مركزي في الصهيونية

 

الخطاب الذي يعلو هذه الأيام عن التطهير العرقي والترانسفير ليس جديدًا بالمرّة. إذ إنّه يرافق الحركة الصهيونية منذ نشوئها، وعلى وجه التحديد منذ أيام إقامة إسرائيل من جهة والنكبة الفلسطينية من جهة أخرى.


سلمان مصالحة ||

التطهير العرقي ركن مركزي في الصهيونية

لقد ثارت في الآونة الأخيرة ثائرة المؤسسة الصهيونية الإسرائيلية الرسمية والشعبية على القائمين على إنتاج وإخراج الفيلم الوثائقي «لا توجد أرض أخرى» والذي فاز بالأوسكار عن الأفلام الوثائقية. والفيلم هو نتاج تعاون إسرائيلي فلسطيني يوثّق التنكيل المتواصل والتشريد لسكّان “مسافر يطا” في منطقة الخليل وبهدم مساكنهم وموارد معيشتهم.

لا ندري ما الذي أثار هذا الهرج، فالحقيقة هي أنّه لا جديد تحت الشمس. فمنذ بداية الصراع في هذه البقعة من العالم، وعلى وجه الخصوص منذ دخول الحركة الصهيونية على خطّ اقتطاع هذا الجزء من المشرق لإقامة وطن قومي يهودي، يدور الحديث عن أنشطة وأفعال تندرج تحت مسمّى التطهير العرقي لساكنة هذا الجزء من المشرق.

إنّ عمليّات اقتلاع السكّان من أرضهم حصلت بذرائع شتّى وعلى مرّ الزمن، وقد كانت عمليات الاقتلاع هذه معلومة وموثّقة منذ البداية. وكلّ ما يجري في المناطق الفلسطينية المحتلة في هذا الأوان هو حلقة من سلسلة صهيونية على مرّ الزمن.

هنالك الكثير من الأمثلة على هذه الممارسات. ففي وثيقة سرية تحمل العنوان «نقل سكّان عرب»، في الأيام الأولى على قيام دولة إسرائيل، نقرأ ما يل: «نقترح نقل القبائل العربية في أماكن مختلفة بمناطق الحكم العسكري بالمرج والجليل الشرقي… بهدف إفراغ المناطق التي بحوزتهم والقريبة من مواقع استيطان يهودية وطرق رئيسية». تذكر الوثيقة بالتفصيل  قوائم السكّان المزمع نقلهم وعدد النفوس في كلّ قبيلة. كما تتطرق الوثيقة إلى سكّان صفورية: «يجب إجراء نقل فوري لأهل صفورية، إذ إنّ السكّان في هذه القرية آخذين بالازدياد يوميًّا، ويمكن الافتراض أنّه إن لم يتمّ إفراغ القرية فإنّ عدد السكان سيزداد وسنجد أنفسنا أمام حقيقة قائمة على الأرض لبلدة كبرى». كما يرد في الوثيقة اقتراحات لنقل البعض إلى شفاعمرو، والبعض الآخر إلى عيلوط ، بينما “بقيّة سكّان صفورية” يُقتَرح نقلهم إلى قرية دبورية.

مثال آخر على التهجير حصل قرية الغابسية. ففي شهر نوڤمبر 1951 أصدرت المحكمة العليا قرارًا ضدّ الحاكم العسكري في الجليل الذي كان قد أمر بطرد سكّان القرية. وقد جاء في قرار المحكمة، كما يذكر المحامي چرشون تشيرنياك، وهو محامي سكّان القرية، في رسالته للمستشار القضائي للحكومة: «لم تكن للمُدّعى عليه أيّ صلاحية بطرد المُلتمسين من قرية الغابسية، ولا يُسمح له بمنعهم من دخولها، والخروج منها والسكن هناك». كما ويضيف المحامي في رسالته أنّه وبعد عدّة أيام وبينما كان في أروقة المحكمة العليا فقد التقى صدفة هناك بأحد الضباط الكبار في الحكم العسكري والذي كان على علاقة بالشأن: «حين سألته عن الموضوع قال لي: إنّ المعركة القضائية هي في بدايتها، وأنّ جيش الدفاع الإسرائيلي لن يقبل بذلك.»

كذلك أيضًا لم يقبل جيش الدفاع الإسرائيلي توصيات وزير الأقليات بيخور شطريت بإبقاء 11 عائلة عربية في المنطقة اليهودية في يافا، وطلب نقل العائلات إلى منطقة أمنية مُسيّجة. نقرأ عن ذلك في رسالة أُرسلت من قيادة منطقة تل-أبيب: «إنّ قرارك بإبقاء 11 عائلة عربية بالمنطقة اليهودية في يافا هي مخالفة لقوانين الأمن وتُثقل على الجيش في تنفيذ مهمّاته. نطلب منك إلغاء هذا القرار وإنهاء هذه القضيّة»، ينهي القائد رسالته.

لم تكن السلطات العسكرية وحدها هي التي طلبت نقل العرب من أماكنهم. إذ إنّ طلب الترانسفير لبقايا السكان العرب الذي بقوا في القدس الغربية قد جاء هذه المرّة من مصدر مدني بالذات، من مدير الخدمات الاجتماعية في وزارة الرفاه والضمان الاجتماعي. ففي رسالة موجّهة إلى لجنة الترانسفير في وزارة الأقليات يكتب مدير الخدمة الاجتماعية: «نُحيطكم علمًا بقضيّة أقليّات أورشليم ونطلب منكم بالبحث في إمكانية نقلهم». كما وتذكر الوزارة الأسباب من وراء طلبها: «نظرًا لأنّه ولأسباب أمنيّة تُحظر على الأقليات في أورشليم حريّة الحركة، فليس بوسعهم إعالة أنفسهم، وسيحتاجون إلى دعم دائم من مؤسستنا. إنّ استمرار هذا الوضع غير مرغوب فيه على جميع الأصعدة، ونطلب منكم البحث عن حلّ المسألة وفقًا لطلبنا»، يختم المدير طلبه.

على ضوء ذلك، فإنّ الخطاب الذي يعلو هذه الأيام عن التطهير العرقي والترانسفير ليس جديدًا بالمرّة. إذ إنّه يرافق الحركة الصهيونية منذ نشوئها، وعلى وجه التحديد منذ أيام إقامة إسرائيل من جهة والنكبة الفلسطينية من جهة أخرى.

ولعلّ ما يُجمل هذه الحال، ما ورد في الوثيقة التالية. ففي شهر أغسطس 1948 يبعث يوسف ڤايس، وهو من رؤوساء “كاكال” (الصندوق القومي اليهودي) برسالة إلى موشي شاريت (شرتوك) وهو أول وزير خارجية، كما شغل أيضًا منصب رئيس حكومة بعد بن غوريون: «اسمح لي بأن أذكّرك، أنّه لدى لقائنا عند بن-غوريون يوم الأحد، 25 يوليو، قلت لي أنّه منذ الآن ستكون المبادرة بموضوع الـ”ترانسفير” من مسؤوليتك، وأنّك ستدعو فورًا إلى إجراء مشاورات لأجل التنفيذ. إن لم أكن مُخطئًا، فلم تتمّ الدعوة للمشاورات بعد، ولم يتمّ ترتيب الأمور العملية… لا يمكن الاكتفاء بالتصريحات فقط، وإنما من الضروري العمل بوسائل وطرق شتّى، لأجل إنجاز الحلّ الذي نرغب فيه… باختصار، تشغيل آليّة خاصّة لهذا الغرض».  كما يُضيف يوسف ڤايس أنّه يرى في إنجاز الترانسفير “تاج انتصارنا في حرب إسرائيل، ويُفضّل الإسراع بذلك.”

لذا، وفي ضوء ما أوردنا آنفًا، نلفت انتباه قضاة محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. إذ تحتوي هذه الوثائق والشهادات على ما يكفي من المقاصد للإدانة.
  
***
For Hebrew, press here
 

الخميس، 23 مايو 2024

الثابت والمتحول

 


أرشيف - الاتحاد، 20/3/1995

سلمان مصالحة |

الثابت والمتحول


يبدو أن الأدباء العرب، على كثرتهم وقلة بركتهم، قد حوّلوا عملية الإبداع إلى سلعة تُقتنى وتُباع في مزاد علني. وهكذا أصبح التعامل مع الأدب مهنة تخضع للعرض والطلب، غير أنّ الأمر لم يقتصر على ذلك بل صارت ساحات الأدب حلبات تجتمع فيها الشلل التي لا تُعطي للأدب شيئًا، بل أصبح جلّ همّها الانضواء تحت الأسماء، رابطة هنا واتحاد هناك، ولم تعنها مرّة، وعلى ما يبدو لن تعنيها أبدًا قضية العطاء، بل التقرب من السلطات الحاكمة عنوة في البلاد العربية، للفوز ببعض المال - وهو مال حرام - من هذا الحاكم أو ذاك. وهكذا ضاع الإبداع ولم يتبق منه غير الإطار. ليس هذا فحسب، بل يطلع علينا الأدباء العرب بين الفينة والأخرى بتقليعات جديدة، من مثل الاتحاد العام للأدباء العرب الذي حول نفسه إلى محكمة تأديبية، وهكذا، كما قرأنا وسمعنا، فإنّ هذا الاتحاد قد “طرد” من بين صفوفه الأديب الشاعر أدونيس، الأمر الذي جرّ وراءه انسحاب سعد الله ونوس وآخرين.

الثابت في الإبداع في العالم العربي، كما هي الحال في كلّ مكان، يقع خارج تلك الإطارات التي لا تفي بتحقيق الوعود التي قامت من أجلها، بل جلّ اهتمامها ينصَبّ على قضية الوظائف والتلبّس بالكنى التي لا تقرّب أصحابها من الأدب والفكر، إنّما تقرّبهم من موائد السلطان. ومثل هؤلاء الصغار النفوس كمثل رجال الدين الذين يسارعون إلى استصدار الفتاوى هنا وهناك فقط لمجرّد التذكير بوجودهم. والطريقة الأمثل لوضع هؤلاء عند حدودهم هي تجاهلهم تمامًا، وهكذا يموتون موتًا بطيئًا.

هذه هي حقيقة الأمر، فالإبداع الحقيقي بحاجة إلى قرّاء رفيعي الذوق، وليس بحاجة إلى طوق أو إطارات قلّة الأدب، تلك الإطارات هي المتحوّل فيما يخصّ الأدب، لأنّها لا تثبت على حال، بل تتناقلها الرياح حيثما هبّت. ولهذا يستطيع أدونيس أن يركن إلى الطمأنينة لأنّ فصله من عضوية اتحاد الأدباء العرب إنّما هو في النهاية يندرج في مصلحته ويضيف لسمعته أكثر من وجوده داخل هذا الإطار الهشّ. ليس هذا فحسب، بل يجب أن تكون الدعوة إلى بعض المبدعين الحقيقيين الذين ما زالوا في هذا الإطار أن يتركوه فورًا، وليبق ذلك الإطار يضم من هم لائقون به ولائق هو بهم.

إذا كان ثمّ بعض الأدباء والمفكرين الذين يضعون الأدب العربي والحضارة العربية في الخانة العالمية اللائقة بهما فأدونيس هو الثابت في الإبداع أمّا هؤلاء فهم المتحوّلون عن الحقيقة والآيلون إلى الضياع.

وماذا يجري هنا على الساحة الفلسطينية؟
الأمر ليس ببعيد عما يجري في العالم العربي. ففي السنوات الأخيرة، وبسبب التشرذمات السياسية والطائفية التي كانت من نصيبنا في هذا الوطن، أخذت تظهر على الساحة الأدبية المحلية، في الداخل والخارج، فئات تصبّ جلّ همّها واهتمامها على الأطر وتعداد الأسامي التي تتحلق حولها، وذلك دون الأخذ بنظر الاعتبار أيّ همّ أدبي أو أخلاقي، وهكذا صار القاسم المشترك بينها هو امتهان الأدب والوصول به إلى حضيض ما بعده من حضيض.

ولمّا آل الوضع الأدبي في هذا الوطن إلى هذا المصير، فإنّي أجد أن السكوت على ما يجري ينصبّ في النهاية في خانة الاتآمر على الأدب وعلى ما يمثله من قضايا سامية. لقد تحولت المناصب إلى الضالّة التي ينشدها أولئك الذين بدأت تظهر عوراتهم الأدبية على الملأ. ولمّا كنّا حريصين على الأدب الحقيقي في هذه الديار، وجدنا من الضرورة بمكان وضع النقاط على الحروف المبهمات حتى لا يلتبس الأمر على ذوي البصائر، ويكون الأدب المحلي في النهاية هو الخاسر.

من هنا نود أن نؤكد على أن ليس ثمّ تنظيم أدبي يجمع أهل الأدب من العرب في هذه البلاد، كما إن كل ما يُنشر عن تنظيم هذا أو آخر ليس إلا ضحكًا على ذقون العباد.

من هذا المنطلق، أجد من الضروري التأكيد مرة أخرى على أنّ ما يُنشر في الصحف دون تدارس الوضع الأدبي من جميع جوانبه، ودون استشارة خيرة أهل الأدب في هذا الوطن، لا يعبّر إلا عما يجيش في أفئدة المتنصّبين من عفن.

ولهذا أؤكد على أنّ هذه التنظيمات لا تمثّل الأدب المحلي بأي حال من الأحوال، وهي لم تأت إلا لأغراض في أنفس اليعاقيب السوداء، ولذلك فالإبداع الحقيقي منها براء، ولهذا اقتضى التنويه الآن قبل فوات الأوان.

الاتحاد


الخميس، 29 يونيو 2023

في لبنان - التاريخ لا يعيد نفسه

 

يمكن القول، كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون. إنّ حال هذا البلد هي حال الكثير من بلدان هذا المشرق المأزوم والمهزوم في آن

سلمان مصالحة ||

في لبنان - التاريخ لا يعيد نفسه


”إنّ إيمان اللبنانيين كافّة بحقّهم الشرعي في الاستقلال لا يتزعزع، وثقتهم بكفاءتهم له لا تنال منها المحاولات التي يقصد بها أصحاب النيات المشبوهة إيهان عزائمهم، ولقد باءت بالخسران الكامل محاولتهم الجاهدة لبذر بذور الشقاق والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد. إنّ زمن التفرقة قد انقضى. واللبنانيون إرادة واحدة وعزم ثابت في سبيل الدفاع عن سيادتهم الوطنية الكاملة.“

لقد كنت أشرت في الماضي غير مرّة وفي أكثر من منبر إلى أنّنا - كأفراد، جماعات ومجتمعات، على سائر مللنا ونحلنا- ملزمون بإعادة النّظر إلى أنفسنا في المرايا وبذل مجهود، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، بمحاسبة النفس إزاء ما آلت إليه أحوال مجتمعاتنا وما نزلت عليها من رزايا بدءًا من مغارب العرب إلى مشارقهم، من سودانهم إلى بيضانهم ولبنانهم.

التّناقضات العربيّة لا أوّل لها ولا آخر. غير أنّ السؤال الكبير الّذي يقضّ مضاجع كلّ فرد عربيّ في هذه الأصقاع المترامية الأطراف، هو سؤال يتمحور حول مسألة الهويّة. إنّه السؤال الأصل: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟ وماذا يعني أن تكون مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، إلى آخر هذه الكيانات غير المحدّدة المعالم؟ نعم، هذا هو السؤال الذي تُشتقّ وتتفرّع منه كلّ الإجابات وكلّ الحلول للمشاكل الاجتماعية، الثقافية والسياسية التي تتخبّط فيها هذه المجتمعات منذ ظهورها على مسرح التاريخ، قديمًا وحديثًا.

من البدهي القول إنّ حدود البلدان في المشرق والمغرب هي حدود مصطنعة لم تخرج إلى النور بصورة طبيعية مستندة إلى جغرافيا طبيعية اجتماعية ثقافية إثنية دينية. لقد رسمت هذه الحدود لاعتبارات قوى عظمى خارج هذه الأقطار وخارج هذه الجغرافيا ولأسباب لا تمتّ للأرض بصلة.

لا شكّ أنّ الكثير من القراء على دراية بمقولة ماركس الشهيرة: ”التاريخ يعيد نفسه، أوّلًا كمأساة ثمّ كمهزلة“. إنّ الديباجة الكلامية التي استهللت بها المقالة أعلاه قد تبدو للوهلة الأولى راهنية إزاء ما آلت إليه الحال في بلد الأرز، غير أنّها ليست كذلك بالمرّة. إنّها ديباجة بيان عممته اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني اللبناني في العام 1944.

وبالعودة إلى النظر فيما ورد من كلام قبل عشرات السنين يتجلّى لنا أنّنا نقف الآن وفي هذا الأوان أمام وضع وكأنّ شيئًا ممّا ورد في البيان  المذكور عن أحوال هذا البلد لم يتغيّر قيد أنملة. ليس فقط أنّ التاريخ لم يُعِدْ نفسه، بل يمكن القول أنّ الزمن لم يتحرّك أبدًا. وهكذا يستفيض بيان المؤتمر الوطني بالقول: ”وإذا كان للمؤتمر ما يقوله في هذا المعرض فهو مناشدة الحكومة أن تقضي على العوامل التي من شأنها الحدّ من التوجيه الاستقلالي المنشود سواء كانت هذه العوامل داخلية أم خارجية. وفي طليعة ذلك معاملة العابثين بحرمة الوطنية ... بما يستحقّه الدسّ على الوضع الاستقلالي من عقاب شديد تكون فيه العبرة البالغة.“

وإذا كان حزب الله قد صادر استخدام القوة من السلطة اللبنانية واستولى عليها داخليًّا وخارجيًّا، فقد كان المؤتمر الوطني اللبناني قد نوّه إلى هذه الظاهرة في بيانه المذكور. فقد ورد في البيان بهذا السياق:

”ويلفت المؤتمر نظر الحكومة إلى الأمور بنوع خاص إلى الأمور الآتية:
1 - إنّ أول ما يتطلع إليه لبنان مسألة الجيش. إننا لا نرى وجهًا من الحق والعدل في أن تبقى قوات مجندة ومؤلفة من اللبنانيين، ومقيمة في الأراضي اللبنانية، غير تابعة للحكومة اللبنانية مباشرة.
2 - يجب تنظيم بعض المظاهر التي لها مساس بمعنى السيادة الوطنية وفي الطليعة القضاء على فوضى رفع الأعلام بحيث لا يُرفع في أراضي الجمهورية اللبنانية غير العلم اللبناني، أمّا الأعلام الأجنبية فيجب أن يُحدّد الموضع والزمن والشكل في رفعها.“

يتضح إذن، وفي ضوء هذا الكلام، وكأنّ التاريخ لم يتحرّك خطوة إلى الأمام في هذا البلد منذ تأسيسه. إنّه يتخبّط الآن في القضايا ذاتها ويبحث عن سبيل للخروج من المستنقع ذاته. 

يمكن القول، كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون. إنّ حال هذا البلد هي حال الكثير من بلدان هذا المشرق المأزوم والمهزوم في آن.
*

الأربعاء، 22 يونيو 2022

صورة العربي

من الأرشيف - 1999:

ســلمان  مصـالحة ||

صورة العربي


كثيرًا ما يتساءل العربي عن هذه الصّورة القاتمة الّتي يظهر بها في الإعلام الغربيّ.  وفي الغالب، كما درجت عليه العادة، يحاول تحميل الإمپرياليّة والصّهيونيّة العالميّة المسؤوليّة عن هذه الصّورة المشوّهة، وبذلك يُريح ضميره فيركن إلى طمأنينة إلى زمن.  ثمّ يعود وينتفض مرّة أخرى كلّما اقتضته الضّرورة لذلك بعد سماع خبر هنا، أو رؤية مشهد لا يُعجبه هناك.

الأربعاء، 18 مايو 2022

تجارة الأشلاء

أرشيف: يناير 2008

سلمان مصالحة ||

تجارة الأشلاء


لعلّ الرّواية الّتي أوردها ابن كثير هي خير ما يمثّل العنف في التّاريخ السّياسي العربي الإسلامي.

الثلاثاء، 15 مارس 2022

سمير عطا الله || احتفالات البعث

مختارات صحفية -




غاب ميشيل عفلق أميناً عاماً للحزب في بغداد، وفي جنازة رسمية، فيما كان محكوماً بالإعدام في سوريا، وممنوعاً من العودة إلى منزله في حي أبو رمانة. وغاب نائبه صلاح البيطار برصاصة صامتة في فرنسا، من أجل عدم الإزعاج...

الثلاثاء، 11 يناير 2022

منصور عباس يقف على أكتاف عمالقة

 

 "علينا ألا نتنازل وألا نراوغ وأن نطالب بمساواة مدنية تامّة. وأن نكون، كعرب، جزءًا لا يتجزأ من الديمقراطية الإسرائيلية..."

الأحد، 14 فبراير 2021

شاهد عيان على هجوم الطليان

بيروت، ربيع 1912-


قصف عون الله 1912

سلمان مصالحة ||

شاهد عيان على هجوم الطليان


قبل نصف عام هزّ انفجار ضخم ميناء بيروت فاهتزّت منه المدينة بأَسْرِها وبكُلّ أُسَرِها، إذ لقي الآلاف مصيرًا من الموت والجراح، كما ضرب الهدم العمارات على امتداد مساحات واسعة. 

ولمّا كنت اعتدت منذ زمن على ترك أخبار هذا الأوان لدى سماعي خبرًا ما يهزّني في هذا العالم الواسع، وعلى وجه التحديد في هذا العالم العربي القابع في دهاليز لا يستطيع فيها رؤية بصيص من أمل، فقد ذهبت باحثًا عن أحداث من الماضي تعيدني إلى تلك الأماكن في أزمان غابرة. 

وبينما أنا غارق في أوهام وآلام الحاضر، رحت أحث النّفس على ركوب دفاتر الماضي بلغات الآخرين الذين كتبوا عن أحوال هذا الشرق. وهكذا سرعان ما وجدت نفسي قبل أكثر من قرن من الزمان، وفي فبراير من ربيع العام 1912 شاهدًا على انفجارات أخرى في ميناء بيروت، حين قصفت السفن الطليانية ميناءها وشاطئها. 

وهذه المرّة، أقرأ تفاصيل أخبار ذلك الزمان بصحيفة عبرية صادرة في تلك الأيام. ولكي تعمّ المنفعة على قرّاء لغة الضاد، فها أنذا أرويها عليكم مجدّدًا لما تحويه من أجواء تلك الأيام، وما تحويه من معلومات قد تكون مفيدة لمن ينوي الغوص في ملابسات تلك المرحلة.

لقد وردت هذه الأخبار في صحيفة ”هحيروت“ العبرية الصادرة في الأول من مارس سنة 1912. 
 

***
الخبر التي نشرناه في عددنا السابق بشأن الأحداث الأخيرة في بيروت أثار مشاعر المقدسيين لأنّ لدى الكثيرين منهم عائلات، أبناء وإخوان، أصدقاء ومعارف في بيروت، ولهذا كان القلق كبيرًا. كما نُشرت إشاعات مبالغ بها بخصوص محاولات هجوم جديدة من طرف العدوّ على سكان المدينة، وكذلك بخصوص محاولات قصف عكّا وحيفا وصيدا، وذكرت الإشاعات أنّ الجنود الطليان نزلوا إلى بيروت ، كما وصلت خمس سفن فرنسية من مرسيليا إلى بيروت، ووصلت إلى ميناء سعيد [بور سعيد] عشر سفن مدرّعة إنكليزية وهي تنتظر الأوامر من القيادة العليا... بالطبع لا نستطيع تصديق كلّ هذه الإشاعات قبل الحصول على تفاصيل رسمية من كلّ هذه الأماكن.

في هذه الأثناء، وصلتنا بالبريد الأخير أخبار لافتة من مراسلنا الخاصّ في بيروت، السيد يروشلمي [المقدسي]...


الرسالة الأولى من مراسلنا البيروتي:

(1)
”منذ يومين وصلت إلى لبنان، اليوم بعد الظهر خرجت للتنزّه مع بعض أصدقائي في السفوح الثلجية لجبال لبنان الجميلة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تكسو جبل لبنان.
فجأة، شاهدنا مجموعات من الناس تسرع في الطريق الصاعدة من بيروت إلى الجبل. ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ لم نعرف شيئًا وفقط سمعنا الصراخ هنا وهناك والضجيج يملأ الأجواء. غذذنا الخطو وأسرعنا نحو الناس المذهولين.
”شو هادا“؟ سألت أحد العرب الذي وقف بجانب بيت-قهوة نصراني.
”حرب!، الطليان في بيروت“، أجاب.
ذُهلت، واضطرب جسدي وتصبّبت قطرات عرق باردة على جبيني. لم أصدّق ما سمعته أذناي، وفي خضمّ هذا الانفعال الذي يصعب وصفه أسرعت إلى الفندق بدل الوقوف بانتظار الهاربين من بيروت، أخذت مسدّسي وخرجت. حثثت أصدقائى للذهاب إلى الشرطة اللبنانية لمعرفة حقائق الأخبار. جئنا إلى الشرطة، وكان الشرطيّون هناك مذهولين ويتهامسون بنبرات غاضبة. تقدّمت إلى أحدهم وسألته بلطف، ماذا جرى في بيروت. نظر إليّ مُحدّقًا وقال: ”لا تخف! أسرع واجلس في بيتك لئلّا يهجم عليك الهاربون في ساعة غضبهم وانفعالهم...“. اضطررت لسماع نصيحة الشرطي وذهبت إلى الفندق بفرائص مرتعدة.  مرّت ساعتان بدتا بنظري طويلتين كما الأبد. كانت روحي مستعرة وفؤادي مضطربًا. كانت لدي رغبة بالتواجد في بيروت لأرى ما يحدث هناك بأمّ عيني... فجأة سمعت طلقات نارية... شحب وجهي وارتعد جسدي. هممت بالخروج غير أنّ أصدقائي منعوني من ذلك. وقفنا في الشرفة وشاهدنا مركبات وعربات كثيرة مليئة بالرجال والنساء والأطفال والعفش والأواني البيتية. لقد كانت وجوههم كوجوه الموتى، لقد انتحبت النساء، وشاهدتُ امرأة نصرانية يُغمى عليها في أحضان ابنتيها... أحد المسلمين، بيروتي، مرّ وكان جريحًا... بين هؤلاء اللاجئين كان يهود كثيرون، أغلبهم بيروتيون وحلبيّون. أحدهم، من معارفي، شاهدني من بعيد فصاح...
”اصعد، اصعد إلى غرفتي!“ قلت له، وأسرعت هابطًا لاستقباله. لقد كان وجهه شاحبًا كالكلس وارتعدت فرائصه خوفًا. صافحته فكانت يداه باردتين، صعدنا وبصوت مرتعد أخبرنا ما جرى في بيروت هذا الصباح.
وهذا ما رواه على مسامعنا الصديق الذي كان شاهد عيان على فظاعة الحدث في بيروت:
”... يوم السبت صباحًا كان كلّ شيء هادئًا في بيروت. في الشاطئ كانت هناك سفن تجارية وبعض السفن الأخرى التي أخبرت عن قدوم سفينتين حربيّتين من بعيد. أسرع كثير من الناس إلى الرصيف وفجأة سُمع صوت رعد هائل وانفجار أذهل المارّة االذين كانو في طريقهم لفتح أبواب حوانيتهم. لقد تعاظم الانفعال إثر الإشاعة بأنّ الطليان أطلقوا القذائف على بيروت، غير أنّ الطلقة الأولى كانت على التورپيد التركي «أنقرة» وعلى السفينة العثمانية «عون الله»، لقد دُمّر التورپيد وغرق فورًا، بينما السفينة كادت تتحطّم. في الساعة السابعة صباحًا كان الميناء فارغًا. كلّ السفن التجارية التي كانت راسية هناك هربت من العدوّ وأبحرت بطرق شتّى. في الساعة الثامنة أُغلقت كلّ الحوانيت وأسرع كثيرون إلى الرصيف، لمشاهدة السفن الحربية الطليانية التي حضرت مرّة أخرى ورست مقابل المدينة. لقد قام الوالي ورئيس المأمورين بإصدار الأوامر لإدارة الميناء لإيجاد حلول مع الأميرال الطلياني، فطلب هذا الأخير أن تُسلّم له الأسلحة. لقد رفض الوالي بالطبع هذا الطلب، إذ إنّه يتناقض مع القوانين. مع استلام الأميرال هذه الإجابة أمر بالقصف. فأطلق النيران على السفينة التركية وأُغرقت على من فيها من قوّادها وملّاحيها، كما أُطلقت النيران على مبنى الميناء الجديد، على البنك السالونيكي وعلى البنك العثماني. لقد قُتل وجرح الكثيرون. لقد عمّت الفوضى وتراكض الآلاف من الناس في الشوارع لا يعرفون إلى أين يهربون، وهم يسمعون أزيز الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم ويصمّ الآذان. الصراخ والعويل ملأ الأجواء وكلّ يبحث عن إنقاذ نفسه وأبناء عائلته. لقد كانت المخازن مغلفة الأسواق مهجورة، وفقط في بعض الأماكن كان هناك بعض العرب البسطاء وبعض الشبّان الذين حملوا البنادق، المارتينات والسيوف؛ إذ إنّ الحكومة استجابت لطلب الشعب ووزّعت البنادق. بالإضافة إلى الحكومة فإنّ اثنين من العرب، هما عبودي وبيضون، والمعروفين في المدينة كلصّين كبيرين قد فرّقا البنادق على رجالهما، كما قاما بتحطيم أبواب الحوانيت التي تبيع البنادق وأخذوا منها البنادق. لقد أرسلت الحكومة فرقًا من الجنود إلى الشاطئ ليكونوا على أهبة الاستعداد عندما ينزل الطليان. كلّ بيت يمكث فيه أناس من الرعايا الأجانب علّق على البيت علمه القومي لكي لا يُصاب بيته بأذى. لقد هرب المئات راجلين وعلى عربات إلى جبال الدروز، وإلى سائر لبنان في عرض البحر، إذ إنّ العربات الكهربائية توقّفت عن المسير، كما إنّ العربات قلّت وكان من الصعب العثور عليها. الكثير من اليهود هربوا وجاووا إلى هنا، بينهم أحد معارفي الذي روى لي تفاصيل هذه الأحداث.
إنّه لمن الصعب وصف المخاوف التي دبّت في قلوبنا لسماعنا التفاصيل على فظاعتها. لقد اقترحت على أصدقائي أن نسافر إلى بيروت ... ”ماذا؟ هل جُننت؟“ أجابوني، ”لن نسمح لك أبدًا بالسفر إلى بيروت!...“. أمّا أنا فقد أصررت على الذهاب إلى هناك لرؤية ما جرى بأمّ عيني، ولمعرفة ما جرى لأصدقائي، غير أنّ أصدقائي حثّوني على البقاء حتّى الصباح، وهكذا بقيت حتّى اليوم التالي.
لقد قضينا الليلة والخوف يخيّم علينا، وأنا استغللت فرصة بقائى في المدينة لكتابة هذه التفاصيل لقراء ”هاحيروت“.
***
(2)
... ها أنا في بيروت. دقّات قلبي تتسارع. فرائصي ترتعد وعيناي تسرحان لمشاهد المدينة المهجورة. في البداية خفت من الذهاب، غير أنّ قوّة مجهولة دفعتني للتجوال في الشوارع. توجّهت إلى محطة الشرطة الأولى التي صدفتها في الشارع، عند المستشفى البلدي. لقد فرحت بوجود شرطي هناك، من زملائي، فسألته فورًا عن الشهداء الذين سقطوا إبّان الهجوم. لقد سلمّني قائمة الأسماء لكلّ القتلى والجرحى. لقد كانت غالبيتهم من المسلمين. المسيحيون واليهود كانوا قلّة. وها هي بعض أسماء القتلى: عمر شمالي، عبد الرحيم شعبان، الحاج سعيد مصطفى باشا، محمد أبو سليم الحملي، سليم يوسف صباغ، رؤبين بن سلومون (يهودي)، محمد شاني (شرطي)، جميل دريان (كوميسار)، يوسف واكد، إلياس أبو الماع، وغيرهم كثيرون. ستّة عشر من القتلى المجهولين أُحضروا إلى المستشفى العسكري. في البحر قُتل عشرون ملّاحًا وموظّفًا، عشرون آخرون اختفوا وعلى ما يبدو فقد غرفوا في البحر. ثمانية موظّفين قُتلوا وأربعة عشر ملّاحًا جُرحوا. من سكّان المدينة جُرح كثيرون وها هي بعض أسمائهم: خالد بن غفور آغا، نجيب متري بربور، يشعيا بن يوسف (يهودي)، رفيق بك وابنه (صيدليان)، جواد بك (طالب في كلية الطبّ)، إبراهيم أفندي (ملازم)، الحاج يوسف الحلبي، فهمي أفندي (كاتب محكمة الاستئناف)، وغيرهم كثيرون.

لقد روى لي الشرطي أيضًا أنّ الحكومة قد اتّخذت جميع الاحتياطات بغية الحفاظ على أمن الشعب، وقد قام الوالي بإرسال برقية إلى وزير الداخلية ووزير الحربية للوزارة العليّة والباب العالي وينتظر الجواب.
لقد عمّت الفوضى في المدينة أمس. عندما ذهبت السفن الطليانية بدأ المئات من أفراد االشرطة بالسير في الشوارع والأسواق للحفاظ على النظام. لقد دبّ الخوف في قلوب المواطنين من الشبّان الغوغائيين الذين حملوا المسدّسات واستخدمونها لمآربهم الدنيئة عندما شاعت الفوضى. الضحية الأولى التي سقطت كان يهوديًّا، الأدون شتاينهارد، كان واقفًا في الصباح عند باب المتجر الكبير «أوروزدي باك» حين مرّ أحد الأتراك مشهرًا مسدّسه ودون أن يشعر به السيد شتاينهارد أطلق الحقير النار عليه فسقط اليهودي المسكين مضرّجًا بالدماء. إنّه يرقد الآن في المستشفى والأطبّاء فقدوا الأمل من إنقاذه. لم يكتف الحقيرون بذلك، وحين لقوا صهر السيد شتاينهارد أطلقوا النار عليه أيضًا، لكن لحسن حظّه أُصيب بيده بجرح بسيط. أيضًا على أحد اليهود السفراديم أطلقوا النار بالخطأ، إذ كانوا يصوّبون نحو أحد العرب والذي قُتل بعد أن سقط اليهودي أرضًا. لقد أثارت هذه الأحداث مشاعر اليهود.
لدى هبوطي الآن إلى الشاطئ اقتربت من السفينة المحطّمة الغارقة في البحر. جزء من البناية الجميلة للبنك العثماني القريب من مكان رسو السفينة المحطّمة قد انهار، وتحطّم الزجاج والأبواب. مبنى بيت الجمرك الجديد الذي بني منذ سنة تحطّم كلّه تقريبًا. كما تضرّر جدًّا مبنى «بنك دي سالونيك» الذي يقع مقابل الشاطئ. فقد اخترقت قذيفة أحد الحيطان ولو أنّها اخترقت الحائط الثاني لتهدّم البيت كليًّا.
الخوف يخيّم على المدينة. ثمّة خوف من حصول تمرّد في المدينة أو حدوث مناوشات بين المسلمين والنصارى، إذ إنّ الكراهية بين الطرفين شديدة. النصارى يخشون من المسلمين لأنّ هؤلاء غاضبين جدًّا ويرغبون في ضرب كلّ من يضع قبّعة على رأسه. وهكذا جرى مع أخينا السيد بارزل إذ تقدّم نحوه هؤلاء الشبّان الغوغائيين ظانّين أنّه طلياني، وبعد أن وعدهم بالمضيّ معهم حيثما يريدون تركوه وأطلقوا سراحه. وهكذا، فإنّ غالبية الذين كانوا يعتمرون القبّعات يلبسون الآن الطرابيش. في الحيّ الرئيسي الذي يسكنه نصارى كثيرون يخافون جدًّا من المسلمين، ممّا حدا بمدير الجامعة الأميريكية بالسماح للنصارى  بالدخول وبالاختباء في الجامعة حتّى تمرّ هذه الغمامة.
لقد أثرت الأحداث بالطبع على الحركة التجارية فكانت غالبية المخازن مغلقة في اليومين الأخيرين.
***
(3)
أخينا المسكين، السيد شتاينهارد، الذي هاجمه الغوغائيون، توفي صباح اليوم في المستشفى.
من دمشق وصل جنود وفرسان. أمس وطوال الليل مرّ الـ«طرامواي» في كلّ المدينة مليئًا بالعساكر ورجال الشرطة، وهكذا حافظوا على النظام فلم يحدث شيء. كلّ المؤسسات الأجنبية كانت محاطة برجال العسكر لحراستها.
أمس وصلت برقية من وزير الحربية في القسطنطينية بإعلان حالة الحرب في بيروت. لقد فرح السكّان بهذا الأمر الذي يُهدّئ القلوب ويعزّز الحراسة جدًّا، فلن يستطيع الزعران مواصلة أفعالهم الدنيئة في الشوارع. في جميع الأسواق يتواجد الآن أفراد الشرطة بالعشرات، ووحدات من الجندرمة والپوليس تجوب الشوارع إضافة إلى الشرطيين الثابتين في مواقعهم.
لقد بعث الوالي إلى الصحافة المحلية بيانًا رسميًّا بخصوص إعلان حالة الحرب في المدينة. وفقًا لهذا البيان يُحظر حمل السلاح دون إذن من الحكومة، يُحظر الخروج في الليل بعد الساعة الثامنة مساءً، يُحظر حمل بنادق الصيد بدون إذن خاصّ، كلّ من بحوزته سلاح عليه تسليمه للحكومة؛ كلّ من يخالف هذه الأوامر سيلقى أشدّ العقاب.
حتّى هذه اللحظة نحن متأكّدون بعض الشيء من أنّ السفن الطليانية لن تعود ثانية، إذ ساعة قصف الطليان ظهيرة يوم السبت للسفينة التركية، وصلت سفينة خديويّة، وأعلمتها السفينة الطليانية أنّها تاركة المدينة وأنّ بإمكان السفينة الخديويّة أن تدخل دون خطر إلى الشاطئ. بعض الأشخاص الذين كانوا ينظرون إلى البحر بالنواظير يقولون إنّهم شاهدوا سفنًا حربية أخرى كثيرة. لقد رافقت السفينتين الحربيّتين اللتين قصفتا المدينة سفينة أخرى حملت الطعام للجنود. غير أنّ هذه لم تقترب ووقفت بعيدًا من المدينة.
هذا، إذن، مافعله الطليان بمدينتنا. باستثناء الملّاحين الذين كانوا في السفينة وأشخاص آخرين قتلوا بينما كانوا على الشاطئ لم يُقتل سوى مائة وخمسين. من اليهود قتل اثنان فقط وهما اللذين ذكرتهما في رسالتي. وبالطبع على المقدسيّين ألْا يقلقوا على أقربائهم. الطلّاب اليهود الذين يدرسون هنا كانوا واثقين من أنّ مدير الجامعة الأميركية سيتيح لهم المبيت في الجامعة.
***
(4)
أمس كان كلّ شيء هادئًا. غير أنّ حوانيت كثيرة كانت مغلقة، وتلك التي كانت مفتوحة أُغلقت في الساعة الرابعة بعد الظهر. لم تصدر الصحف يوم أمس لأنّ العمّال لم يحضروا للعمل لأنّ غالبيّتهم ذهبوا إلى جبل لبنان.  اليوم بعد الظهر صدر الصحيفة العربية المحلية ”لسان الحال“.
أمس حضر الوالي والقنصل الروسي إلى متجر ”أوروزدي بك“ وحقّقوا في مقتل اليهودي الأدون شتاينهارد الذي كان يحمل جنسية روسية.
يُقال إنّ القنصل الروسي أبرق إلى بطرسبورغ كي ترسل الحكومة الروسية سفنًا حربية بسبب مقتل المواطن الروسي وبسبب الإشاعة التي انتشرت في المدينة بأنّ الأتراك يريدون قتل نائب القنصل الروسي.
الآن، الساعة الثانية بعد الظهر، وصلت سفينة حربية فرنسية واسمها مارسيليير Marseilleuse.  
حتّى يوم أمس قاموا في الأسواق بإعلام الناس بألّا يخافوا من سماع إطلاق الرصاص لأنّ سفنًا حربيّة أجنبية من المتوقّع أن تصل إلى مدينتنا.
الوضع الآن هادئ، غير أنّ القلوب لا زالت مضطربة. غالبية أصحاب الحوانيت يغلقون حوانيتهم مبكّرًا والنساء والصبايا لا يخرجن من بيوتهن من الخوف.  الحراسة في المدينة ممتازة.
إذا حدث شيء جديد، سأسارع إلى إخبار قراء ”هحيروت“.

جريدة ”هحيروت“ 1.3.1912

***


الجمعة، 5 فبراير 2021

حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني

كذا كان قبل قرن من الزمان - 


الكولونيل كيش في الوسط وشيوخ العرب

سلمان مصالحة ||

حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني


بين فينة وأخرى أحبّ العودة إلى الصحف والمجلات العربية القديمة، إذ إنّي كثيرًا ما أعثر فيها على روايات وأخبار تُضيء أمورًا مُظلّلة في هذا الأوان. إنّها بمثابة مصباح فَتّاشٍ من الماضي يكشف لنا ما لم يفلح بصرنا في الوقوف عليه في هذه الأيام.

السبت، 26 سبتمبر 2020

لماذا الترجمة، وكيف؟

من الأرشيف - عام 2005: 

 
استفتاء إيلاف - (4):

كيف يترجم الشاعرُ شاعرا؟ 

يكاد أن يُجمع جل المترجمين العرب على مقولة صلاح الصفدي، كما وردت في كشكول العاملي: "للترجمة في النقل طريقتان إحداهما أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات الأجنبية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه... الطريق الثاني: أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويُعبّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها".

الأحد، 23 أغسطس 2020

تطبيع العرب في إسرائيل



لقد آن الأوان لأن يقف العرب في البلاد على رجليهم الاثنتين في بلدهم هنا، لا أن يضعوا رجلًا هنا ورجلًا هناك، كمن هو عالق في أرض حرام بلا أفق.

الجمعة، 14 أغسطس 2020

لبنان، الفرصة الأخيرة

 
إنّ الكارثة الأخيرة التي ضربت لبنان هي فرصة ذهبية تسنح الآن أمام الجيل اللبناني الجديد، لإعادة الأمل ليس فقط إلى سكّان هذه الدولة، وإنّما للفضاء العربي بأسره.

الجمعة، 7 أغسطس 2020

كالمستجير من الجائحة بالنائحة


 علينا الاعتراف أمام أنفسنا أنّ كلّ هذه العصبيّات التي ترضع من الدين، والطائفة والقبيلة، هي الدود الذي أفسد على العرب لذّة الوجود.

الأربعاء، 27 مايو 2020

عن الوحدة العربية


من الأرشيف -


في منتصف سنوات التسعينات من القرن المنصرم كنت نشرت عمودًا صحفيًّا في جريدة ”الحياة الجديدة“ الفلسطينية، وأطلقت عليه اسم ”حبل الغسيل“. كثير من الأمور التي نشرتها آنئذ لا زالت على حالها، لقد توقّف الزمن وكأنّ شيئًا لم يتغيّر.

هاكم إحدى هذه المقالات المؤرخة بـ 5 حزيران 1995:

*

الخميس، 27 فبراير 2020

فاروق يوسف || حين تُستعمل إسرائيل وسيلة للتضليل

مختارات صحفية:

الحل يكمن في عودة العراقيين إلى عراقيتهم والسوريين إلى سوريتهم والليبيين إلى ليبيتهم واللبنانيين إلى لبنانيتهم واليمنيين إلى يمنيتهم...

الأحد، 2 فبراير 2020

ملاحظات حول صفقة القرن الدنسة


أليست خطّة ترامپ تسير على خطى اتّفاقات أوسلو وما أعقبها من تفاهمات بين الزعامات الفلسطينية الغَبِيّة والزعامات الإسرائيلية الأَبِيّة؟

الاثنين، 27 يناير 2020

طبخة القرن الشائطة


ها هي فرصة قد سنحت الآن لتحقيق هذا التهديد. إنّها الورقة الأخيرة التي ستتبقّى في أيدي قيادة فلسطينية حقّة وجديرة

الاثنين، 5 أغسطس 2019

أسرلة العرب في إسرائيل

لِزام علينا إمعان النظر بذلك الفارق الكبير بين سلوك الناخب العربي خلال الانتخابات المحلية وبين سلوكه خلال انتخابات الكنيست.

الخميس، 20 ديسمبر 2018

حروب الفلسطينيين الداخلية

أرشيف: أيّام زمان -


ها هو مثال على أجواء التناحر والاقتتال بين التيارات الفلسطينية في يافا عام 1938 كما يعرضها صحفي عبري على قرّاء صحيفته.
شارع النزهة - يافا 1940

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات