من الأرشيف (2002):
ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغنى وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة...
ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغنى وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة...
سلمان مصالحة || بين اللغة والسياسة
العقل في اللغة هو الربط، وقد ورد في المأثور: اعقل وتوكّل. والعقل من الإنسان هو هذه الميزة التي تضع الإنسان في مكانة أسمي من الحيوان، وذلك لقدرته علي الربط بين الأمور واستخلاص الوجود بكليته. أما النّطق فهو حمل هذه الأمور في الوجود وربطها ببعضها البعض حتي اخراجها من القوة إلي الفعل المجرد عبر وسيلة الروامز إليها من الكلام الذي هو اللغة أو لغات الناس علي تنوعها.
ولكن، ومهما اختلفت اللغات وتنوعت، إلا أنها في نهاية المطاف تندرج تحت هذه الغاية - الأصل. من هنا، فإن فهمنا للعالم لا يمكن أن يحصل إلا من خلال هذه الوسيلة، وكلما كانت الوسيلة أغنى وأحكم كان فهمنا للعالم أعمق. ومثلما مُنحنا إمكان التحكم في اللغة، فللغة أيضاً خاصية التحكم فينا. إذا لم نطوّعها طوعتنا، وإن لم نملكها ملكتنا، فنصير عبيداً لها لا نعرف طريقاً للخلاص، فتأتي أفعالنا مشوهة كلغتنا.
لذلك، فإن تطوير ملكة التعبير من أهم المهام الملقاة علي مسؤولي التربية، وهي قضية لا ينتبه إليها القائمون عليها في العالم العربي. والنتيجة في النهاية بروز أجيال جديدة هي أبعد ما تكون عن القدرة علي الربط بين الأمور واخراجها من القوة إلي فعل الكلام. شاهدوا مثلاً برامج تعرض مقابلاتمع أطفال أو فتيان صغار في التلفزيونات العربية، وقارنوها بمثيلاتها لدى الشعوب الأخري.
ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع. كثيراً ما أصاب بالصدمة من عمق هذه الفجوة كلما شاهدت وقارنت.
فهل هذا الواقع له تأثير علي حياة المجتمع العربي؟ بلا شك. فالإنسان لا يستطيع أن يفكر من دون وسيلة اللغة، وإذا كانت لغته فقيرة فتفكيره فقير، وبالتالي ما ينتج عن هذا التفكير يكون بحجم عمق هذه اللغة.
والحقيقة التي اريد طرحها هنا هي أن لهذه القضية أبعاداً سياسية خطيرة. ويمكن مراجعة الزعامات العربية في العقود الأخيرة لتبيان ما أرمي إليه. استطيع أن أجزم أن مدى غنى اللغة لدى الزعماء علي العموم ينعكس في سياساتهم. فكلما كانت لغة الحاكم الزعيم أغني، كانت سياساته أكثر اتزاناًوتعقلاً. ولا نقصد هنا الخطابات المكتوبة والمقروءة من قبلهم، إنما حديثهم في مقابلات صحافية علي الهواء ومن دون رقابة وما شابه ذلك.
من هنا، نستطيع ان نسأل السؤال الذي لا بد منه: هل ما جري ويجري في العراق، علي سبيل المثال، أساسه عياء لغوي وتعبيري لدى صدام؟ وهل ما جري ويجري في فلسطين مرده إلي هذا العياء اللغوي والتعبيري لدى ياسر عرفات الذي لا يستطيع أن يحكي جملة سليمة واحدة؟
أريد أن أقول إن اللغة هي التي تتحكم بفعل الشخص، وإذا كان هذا الشخص مسؤولاً، زعيماً، رئيساً، ملكاً أو وزيراً، فإن القضية تأخذ أبعاداً خطيرة، إذ أنه بلغته الفقيرة يقرر مصير العباد. اللغة الفقيرة تؤدي إلي سياسات فقيرة، وهذه الحال توصل، بالتأكيد، إلي الكوارث. ما من شك في أن ثمة علاقة وثيقة بين سلامة اللغة وسلامة السياسة، وسلامة الحياة وسلامة المجتمع بأسره.
*
نشر: ملحق تيارات - الحياة، 13 يناير 2002
***
0 تعليقات:
إرسال تعليق