الأربعاء، 22 يونيو 2022

صورة العربي

من الأرشيف - 1999:

ســلمان  مصـالحة ||

صورة العربي


كثيرًا ما يتساءل العربي عن هذه الصّورة القاتمة الّتي يظهر بها في الإعلام الغربيّ.  وفي الغالب، كما درجت عليه العادة، يحاول تحميل الإمپرياليّة والصّهيونيّة العالميّة المسؤوليّة عن هذه الصّورة المشوّهة، وبذلك يُريح ضميره فيركن إلى طمأنينة إلى زمن.  ثمّ يعود وينتفض مرّة أخرى كلّما اقتضته الضّرورة لذلك بعد سماع خبر هنا، أو رؤية مشهد لا يُعجبه هناك.  

غير أنّ هذا التّفسير هو جزء صغير من هذه الحقيقة المرّة.  فهل يُصدّق أحد من النّاس أنّ الإعلاميّين في الغرب يركّزون جلّ اهتمامهم ومهنهم كلّها بغية تشويه صورة العربي؟  أليست لديهم اهتمامات أخرى في هذا العالم غير هذه الإهتمامات؟  

إنّ أسهل الطّرق هي إلقاء اللّوم على الغير.  بذلك  نريح أنفسنا وضمائرنا من مهمّة النّظر قليلاً في المرآة لرؤية ما نحاول ستره.  صحيح أننّا بذلك نعيش في وهم جميل، لكنّنا لا نستر شيئًا عن أعين الغير، لأنّ الآخرين الآخرين يظلّون يرون ما لا نراه نحن.  ولمّا كانت هذه هي الحال على العموم، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فلماذا يدهمنا الاستغراب مرّة تلو أخرى؟  

لقد تفكّرت في هذا الأمر قليلاً في الآونة الأخيرة بعد أن شاهدتُ شبكة الـ سي.إن.إن.  فهذه الشّبكة؛ على سبيل المثال لا الحصر، تبثّ أحيانًا أشرطة دعائيّة سياحيّة من بلدان مختلفة في العالم.  هذه الأشرطة تحاول ترغيب المشاهد في زيارة أصقاع وبلدان مختلفة في أرجاء العالم الواسع الّذي صار؛ كما يُقال قرية صغيرة. ما من شكّ في أنّ هذه الأشرطة هي من عمل المؤسّسات الرّسميّة لتلك الدّول الّتي تحاول اجتذاب البشر إلى زيارتها، أو هي، على الأقلّ، من وحي ما تمليه على صانعي الشّريط الوزارات المختصّة في تلك الدّول.  لقد رأيت في الأمس شريطًا من هذا النّوع يدعو النّاس إلى زيارة مصر.  فماذا يوجد في هذا الشّريط؟  الشّريط يحكي للمشاهد أنّ مصر هي المكان الّذي نزلت فيه الوصايا العشر على موسى، ويحكي للمشاهد أنّ مصر هي المكان الّذي وجد فيه المسيح ملجأ له.  كما يحكي الشّريط عن الإسكندر، وعن الفراعنة، ولمّا كنّا نقترب من الألفيّة فالشّريط يدعو السّائح إلى المكان الّذي يحتفل بالألفيّة السّابعة.  

الشّريط جميل وكلّ ما يرويه جذّاب وصحيح بالتّمام والكمال.  لكن، ليس هذا هو السّؤال المهمّ.  فالقضيّة تختبئ وراء ما لا يرويه هذا الشّريط أو ما يحاول تغييبه عن أعين المشاهدين.  فهذا الشّريط بكلّ بساطة يحذف أربعة عشر قرنًا من الزّمان لم يجد لها ثانية واحدة، أو ومضة واحدة دعائيّة.  فالشّريط الّذي وجد مكانًا للإسكندر وموسى والمسيح والفراعنة لم يجد مكانًا لهذه القرون من تراث الإسلام فيه.   إذن، والحالُ هذه، فمن المسؤول عن هذا الشّريط؟ هل هو الإعلام الغربي مرّة أخرى؟ ومن يدفع لشبكة الـ سي.إن.إن أسعار بثّ هذا الشّريط؟  هل هي الإمپرياليّة الغربيّة أم الصّهيونيّة العالميّة؟  

ألم يجد القائمون على تمويل هذا الشّريط الدّعائي معالم ومآثر إسلاميّة عربيّة في مصر بوسعها اجتذاب السّوّاح؟  ثمّ ألا يوجد مسلمون يشاهدون الـ سي.إن.إن ويسوحون في الدنيا طولاً وعرضًا ويمكن أيضًا اجتذابهم إلى زيارة مصر؟  

الحقيقة في رأيي هي شيء آخر.  فالمشكلة تكمن في القائمين على تمويل وبثّ هذا الشّريط على شاشة الشّبكة العالميّة، وهم بلا شكّ عرب ومسلمون.  إنّهم في قرارات أنفسهم يؤمنون بأنّ التّراث العربي والإسلامي يُنفّر السّوّاح.  وهذه هي القضيّة برمّتها.  
*
القدس العربي، 15.9.1999



مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات