أسرار الطفلة من غزة

من مجموعة ”ريش البحر“، منشورات زمان، القدس 1999
 
 

سلمان مصالحة

أسرار الطفلة من غزة
أصداء اعتراف إلٰه الجنود
بندى برتقال القصيدة

 

(1) أسرار

تَمُرُّ الطّريقُ إلى غَزّةٍ
عَبْرَ عَيْنَيْ صَدِيقَة.
وَعَبْرَ النَّدَى في ٱلحَدِيقَة.
هُنا النّسْوةُ اللاتِي يُحِكْنَ
ثِيابَ الرّجالِ، وَينظُمْنَ
في الثّوْبِ خَيْطًا مُطَلْسَمْ.
هُنا، في الرِّمالِ،
تُفِيقُ النّساءُ عَلَى رِسْلِها،
في صَباحٍ مُغَبَّرْ،
بغيرِ رِجالٍ.  لأنّ الخَيالَ
ٱحْتَمَى في الزَّوايا، نَما
في الغُبارِ المُلَعْثَمْ.
هَلُمُّوا إلى البَحْرِ.  
في البَحْرِ لَيْلٌ تَعَثَّرْ.
وَهُبُّوا ٱزْرَعُوا في يَدَيْهِ
قَناديلَ زَيْتٍ، تَغَطّتْ
فُرُوعُ الدَّوالي قُطُوفًا،
فَلَيْلُكَ أَخْضَرْ.
هُنا، في الدُّروبِ اللّواتي
ٱرْتَعَشْنَ كَخافِقِ طفْلَهْ،
تَخافُ الصّبايا مِنَ القابِلَهْ،
فلا تَعْرفُ النّسْوةُ اللاّتي
ٱنْتَظَرنَ اللّيالي فُنُونَ النّياحَهْ
على شارعٍ مُنْتَحِرْ.
فَيا أيُّها الدِّيكُ يُعْلِي صياحَهْ،
لَيُلُكَ شَمَّرْ،
وَلَيْلُ النّساءِ دَعا
ثُمَّ كَبَّر.

 

(2) الطفلة من غزّة

 

الطّفلةُ مِنْ غَزّة
تَبني أَعْشاشًا
مِنْ رِيشِ البَحْر.
وَالواقفُ خَلْفَ السُّورِ
يُخَبّئُ فِي عَينيهِ قِلادَة
مِنْ وَرَقِ التّذكارْ.
بعدَ مُرورِ الشّارِعِ
تَحْتَ الخُطُواتِ البَرّيَّة،
تَفْقِسُ في الأعْشاشِ حَكايا،
يَتَراكَضُ أطْفالٌ
داخلَ لَوْنِ العَصْر.
يَلْتقِطُونَ الصَّوْتَ الخافِتَ
مِنْ رَمْلِ الصّحْراء.  
عِنْدَ مَساء،
يَنْفَرطُ العِقْدُ من العَيْنينِ،
يُبلّلُ دَرْبَ البَحْر.
البَسْمَةُ يُرْسلُها اللّيْلُ
إلى المَنْفَى.  
الشّاعِرُ
يَلفُظُ أنفاسَهْ.

 

(3) أصداء

 

على الأُغنية،
نَما العُشْبُ،
ذابَ الصّدَى في اللّسان.
وفي الأرْضِِ بَعْضُ كَلامٍ
تَفَرّقَ بَيْنَ الغُبارِ وصَوْتِي.
ولا شَيْءَ فِي البالِ
غيرُ ٱنْتِظارِ الأغَاني.  
وفي الأغْنيَة،
خَطا القَلْبُ،
دَرْبُ الرّجوعِ تَلَوَّى،
ٱعْتَرِفْ يا حَبيبي.
وذِي النّفْسُ انّتَهَتْ مِنْ زَمان.
فلا البَيْتُ فِي الشِّعْرِ، لا لا
ولا البَيْتُ فِي الرّمْلِ لا لا
 وما البَيْتُ في الذّاكِرَهْ.
ولا بالَ للوَرْدِ.
هاتِ النّجومَ وخُذْنِي.
ٱنْطَلِقْ بي، نَوَيْتُ الرَّحيلَ.
ولا ماءَ لِي، لا تَشُدَّ وِثاقِي
عَلَيَّ. فلا دَرْبَ لي في
حَبيبي. ٱحْتَذِرْ مِنْ رُجوعِي
إلَيَّ.

 

(4) اعتراف

 

هي الأُغنيَة،
حَبَتْ فِي لِساني إلى
مَنْ نَما فِي اللّيالي
هِلالاً هِلالا.
لَثَغْتُ بِحَرْفٍ أتَى مِنْ عُيوني
فمالَ إلَيَّ السُّنونو بلا مَوْعِدٍ
للقائيِ، وَمادَتْ سَمائي.
فَلَمْ أعْتَرِفْ بالمَحارِ ولَمْ أعْتَرِفْ
بالجِبالِ الرّواسِي،
وَلَمْ أعْتَرِفْ
بالبِحارِ.
 فَغَطّتْ رُموشي الجَداوِلْ،
وَفَوْقِي سَماءٌ بلا عاصِفَهْ.
فَلا تَتْرُكِي فِي الرّمالِ
خُطاكِ، هِيَ اللّحْظَةُ النّازِفَهْ،
وَقَلْبِيَ قائفْ.
يُرَدِّدُ فِي القاعِ رَجْعَ
صَداكِ. أنا فِي الجُنونِ
أباتُ، وَأحْلُمُ ليْلاً، وأحلُمُ
يَوْمًا، وأحْلُمُ أنِّي ٱحْتَرَقْتُ
فَراشًا، وأحلُمُ أنِّي افْتَرَشْتُ
الجَناحَ. فَمِنْ أيْنَ أبْدأُ هذا
الصّباحَ. وَدَدْتُ لَوَ ٱنَّ الزّمانَ
رَماني إلَى الذّاكِرَهْ.
وَرَدّدَ صَوْتِي الصّدى،
وَٱسْتَراحَ.

 

(5) إله الجنود

 

طَريقِيَ تَخْطو إلى غزّةٍ
تَمُرّ بِخوذَةِ جُنْدِي.
إلٰهَ الجُنودِ الّذي يَمْتَطِي
صَهْوةَ الرّيحِ، هَلِ البَحْرُ
يَعْرقُ لَمّا تَمُدَّ يَدَيك إلَيْهِ؟
هَلِ النّجْمُ فِي اللّيْلِ يَعْرِفُ
كَيْفَ الوُصولُ إلَى وَكْرِهِ؟
أَضِئْ لِي الطّريقَ إلَى الغَيْبِ،
خُذْ مِنْ سمائِيَ شَمْعَهْ.
إلٰهَ الجُنودِ، نَما الحُزنُ فِي
الشّرُفاتِ وَأوْرَقَ مِنْهُ الصّدَى،
لَمْ يَعُدْ بَعْدُ. سُدًى ذِكْرَياتي.
أتَذْكُرُ كَيْفَ مَشَيْنا مَعًا فِي
الجبالِ؟ أتَذْكُرُ كَيْفَ احْتَبَسْنا
الهِلالَ لأوّلِ حَرْفٍ هَوَى
في اللّيالي على شَفَتَيْكَ
لِبَسْمَةِ طفْلَهْ.
أتَذْكُرُ سِرْبَ السُّنونو
الّذي مَضَى مِنْ عُيونِي،
فَحَلّقَ فِي أعيُنِ العاشِقاتِ؟
وَعادَ لِيَجْبلَ قَلْبي بِطِينِ.
وَيَبْنِيَ فِي الرّيحِ بُرْجًا مُعَلَّقْ.
فَرَفْرَفَ قَلْبِي دُوَيْنَ الّربابِ
"نَعامًا تَعَلّقَ بالأرْجُلِ".
وَلَمْ يَبْقَ لِي غَيْرُ خَطْوِي
وَرائي تَسَمَّرَ فِي الرّمْلِ، لا
رِيحَ فِي الأرضِ أوْ عاصِفَهْ.
أنا فِي عُيونِي ٱخْتبأْتُ
وَدَحْرَجْتُ فَوْقِي ثَرًى
من زَمان.

 

(6) ندى برتقال

 

تِشْرينُ حَيْرانُ.
يخطُو على الدّربِ،
منْ عَسْقلانَ إلى البَحْرِ،
يَرْكُلُ ظِلَّهْ.  
ويرْحَلُ بينَ التّرابِ المُغنّي،
ويذكُرُ أهلَهْ.  
هنا صارَ حُزْنُهُ طفْلَهْ،
تَعَمْشَقُ كالرّيحِِ،
تَطْفُو على النّعْلِ بينَ السّماءِ
وظِلِّي.  تلاشَى بَيَ الدّرْبُ
على الطُّرقِ المُتربة.  
وفي الدّرْبِ دَرْبٌ ودَمْعَةُ دُمْيَهْ،
وخلفَ الرّجالِ صَبايا
نَمَتْ كَالرُّخامِ.  شَواهدُ
خُطّتْ عليها الحُروفُ
بماءٍ تَساقطَ من أعْينٍ
في سَماءٍ سَحيقة.
إلى غزّةٍ تَصُبّ الطّريقُ
بِعَيْنَيَّ حينًا فَراشًا،
وحينًا تَصُبّ
نَدََى بُرْتُقال.

 

(7) القصيدة

 

خُذُوا من البَحْرِ أسْماكَهُ
أَعِيدُوا الغُيومَ إلى النّهْرِ،
ٱرْفَعُوا عَن لَمَى الطّفْلِ
حِمْلَ النّساءِ الحَواملْ.
فُروعُ الأسَى وارفة،
وَالحَكايا شُجونٌ
مَرَتْها نُهودُ الأراملْ.
إذا ٱرْتَحلَ الأنبياءُ،
فَلا تَحْزنُوا للفَقِيدةْ.
ولا، لا تَقُولُوا
بأَنّ الرّجَا
فِي
القَصِيدَةْ.

*

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان

 

سلمان مصالحة ||

بيروت ودمشق قبل قرن من الزمان


هوغو برغمان (1883-1975) فيلسوف إسرائيلي، من مواليد براغ. درس الفلسفة في جامعة براغ وفي برلين وفي العام 1920 هاجر إلى فلسطين، حيث عُيّن مديرًا للمكتبة الوطنية. لاحقًا أشغل منصب رئيس الجامعة العبرية في القدس.

قبل قرن من الزمان بالضبط، في شهر آب 1925، قام برحلة إلى لبنان ودمشق بغية التعرّف على أحوال هذه المنطقة. لقد نشر هذه الرسالة التي تكشف لنا أجواء المناطق التي زارها، كما يعرض مقارنة بأحوال بيروت والشام من جهة وبين أحوال فلسطين في ذلك الأوان.

يتّضح من كلامه أنّه كان منبهرًا ممّا شاهده في لبنان إذ يُصرّح بأنّ لبنان في ذلك الأوان كان متقدّمًا على أرض-إسرائيل - فلسطين بقرن من الزمان.

وها نحن الآن بعد مضيّ قرن على رحلته تلك، ولا يسعنا سوى القول بأنّ الآية قد انقلبت الآن إذا ما أجرينا مقارنة بين حال إسرائيل وحال لبنان والشام.

نقدّم هذه الرسالة-الرحلة للقارئ العربي لما تتضمّنه من اهتمامات شخصيات صهيونية بالمنطقة وما تكشفه من أجواء زمان مضى وانقضى.
 





هوغو برغمان | إلى دمشق

(رسالة رحلة)


”إنّه لأمر غريب، كم هي ضئيلة معارفنا بالبلدان المجاورة لأرض إسرائيل. فمصر رأتها غالبيّتنا فقط بطريق الصدفة. سورية مجهولة لنا تقريبًا، لكن من الجدير أن نراها. لست خبيرًا بقضايا الاقتصاد والسوق لكي أصدر حكمًا إن كان بإمكان أرض إسرائيل أن تكون في يوم من الأيام كما هي حال لبنان في هذا الأوان. فهذان البلدان، على ما يبدو، لا يختلفان عن بعضهما البعض، وعلى الرغم من ذلك هما كذلك. إذ يبدو وكأنّ لبنان قد سبقنا بقرن من الزمان.

حين تسافر إلى هنا عبر حيفا تسحرك بيروت: طوال ساعة يسير الموبيل بين غابات التوت، ترى لبنان قرية بجانب أخرى. كلّ القرى مبنية بالقرميد بطراز أوروبي، سطوح بيضاء، وحمراء وثمة انطباع وكأنّك موجود في سويسرا وليس في الشرق. كم هي نظيفة هذه القرى، مستجمّات صيفية هي حقًّا. في الكثير منها توجد كهرباء. حين تسافر بعد الظهر بالموبيل أو بقطار الجبال إلى إحدى تلك القرى وتشاهد غروب الشمس على ميناء بيروت، تشاهد أيضًا سلسلة طويلة من أنوار الموبيلات التي تتقاطر خلف بعضها البعض من بيروت. 
 

انصبّ جلّ اهتمامي على جامعتي بيروت. الأولى پروتستانتية أنشأها أميركيون سنة 1866، والثانية كاثوليكية فرنسية أنشأها اليسوعيّون. لم أجدهما في أوان عملهما، إذ كان ذلك في نهاية آب، وهو أوان العطلة. على الرغم من ذلك، كان بالإمكان مشاهدة شيء ما: المساحة الواسعة للجامعة الأميركية بمبانيها الصغيرة والكثيرة والتي تتحلّق حول بيت المحاضرات. الطلّاب يأكلون ويعيشون هنا. في الأسفل مقابل الشاطئ - ملعب كبير للتنس محاط كلّه بالحدائق الجميلة. المكتبة على ما فيها من 20 ألف كتاب ليست مهمّة جدًّا؛ فمكتبتنا في أورشليم تبزّها بما لا يقاس، غير أنّها مرتّبة وغنية وفيها قاعة جميلة للمطالعة. 
 


ولكن الجامعة اليسوعية تُظهر تلك التقاليد العريقة لحكماء أوروبا التي أُحضرت إلى هذه البقعة البعيدة على أيدي اليسوعيين. المكتبة ليست كبيرة من ناحية كمية الكتب، ولكنها مكتبة مثالية. فبوسعك العثور هنا على كلّ دور النشر الكبرى للكتب الكلاسيكية بجميع المجالات العلمية، وهي التي تنقصنا في أورشليم لقلّة الموارد لاقتنائها، السلاسل الكاملة للدوريات العلمية، الموسوعات الكبرى والباهظة الثمن؛ والقسم الفلسطيني غنيّ جدًّا.

هنالك غرفة خاصة تحتوي على كلّ الكتب التي طُبعت في المطبعة العربية التابعة للجامعة. هنا أيضًا تصدر مجلتان تابعتان للجامعة: “المشرق” بالعربية و “Mélanges” بالفرنسية.

المجلة الفرنسية تشكّل أنبوبًا يمرّ عبره كلّ ما يظهر من جديد في مجال الاستشراق، إذ إنّ كلّ ما يُنشر من جديد بهذا المجال يجد طريقه إلى هذه المجلة. عميد المكتبة، العلّامة العربي الكبير، لويس شيخو، يستعرض أمامي كلّ كنوزها. توجد هنا مئات المخطوطات العربية التي اقتناها شيخو خلال خمسين سنة من جميع أنحاء العالم العربي. يعمل الآن على نشر قائمة بالمخطوطات بمجلته الفرنسية.

النشاط الذي يقوم به اليسوعيون هنا في بيروت ليس مجرّد سياسة تبشيرية، وإنّما هو نشاط ثقافي عربي كبير.

لقد وصل إلى أسماعهم هنا أمر اقتنائنا لمكتبة چولدتسيهر لصالح مكتبتنا المقدسية، وعمّا قريب سيأتي إلينا أحد الپروفيسوريين من هناك للعمل لدينا هنا.

الرحلة بقطار الجبال في ربوع لبنان والبقاع هي رحلة ساحرة. فالحجرات نظيفة وصغيرة في هذا القطار بخلاف “القاعات” في القطار الفلسطيني التي يُزجُّ فيها بالمسافرين قُطعانًا قُطعانًا. وفي منتصف الطريق بين بيروت ودمشق تقع رياق. وهناك أنشأ الفرنسيون معسكر الطيّارين، قاعدة رياق الجويّة.

في الثامن عشر من آب وصلنا إلى دمشق. الأوضاع في المدينة مستقرّة. فقط كثرة الجنود الفرنسيين، وللعلم فإنّ غالبيّتهم من ”فيلق المجنّدين الأجانب“، يُذكّرون بالحرب. الفنادق ممتلئة بالزائرين والسوّاح الصائفين من مصر. كم تبدو المدينة جميلة بإشرافك عليها من مقبرة الصالحية، إنّه جمال لا يُصَدّق؛ خضرة، خضرة تكسو كلّ شيء، واحة في الصحراء بكلّ معنى الكلمة.

جئنا نحن من القدس، هناك الفقر والفاقة وبالكاد تحصل على مياه الشرب، وهنا الماء يتدفّق في كل زاوية. لقد قام الألمان ببحث القيمة الفنية للمدينة في فترة الحرب بصورة جذرية. نذكر بهذا الصدد الكتاب: “دمشق المدينة الإسلامية” من تأليف كارل وولتسينغر وكارل واتسينغر، الذي أصدرته الجمعية الألمانية التركية للحفاظ على التراث (برلين، والتر غرويتر، 1924). إنّ التعرّف على هذا الكتاب في غاية الأهمية وهو زاد لكلّ مسافر.

القادم من فلسطين لا تثير اهتمامه تقاليد مداولات البيع والشراء الشرقية في أسواق المدينة، مع أنّها أكبر وأوسع حجمًا. 


 
المسجد الأموي يثير الانتباه أوّلا وقبل كل شيء لردهاته الكبرى ولكونها لا تستخدم فقط للصلوات، وإنّما لكونها تقوم بوظائف اجتماعية. ففي زاوية يقع نظرنا على خمسة مواقع وبها مجموعات من المصلين، ولكن نرى هنا وهناك مجموعات أخرى واقفة أو مستلقية على السجاجيد وغارقة في محادثة بينها.

العمارة الفريدة بنوعها في دمشق تنعكس بالأبنية المُقَبّبة التي لا صلة لها بالدين وبالمباني المتعدّدة الشقق. كما تشدّ أنظارك مشاهد المخازن الكبيرة التي تعجّ بالسلع، والخان بقبابه المتعددة، شاهد على السلطان والعظمة، وإضافة إلى ذلك هنالك المباني الوظيفية التي أنشئت لتقوم بوظيفتها العملية وتفي بغرض ما. إنّها تذكّرنا بالمتاجر الأوروبية، غير أنّها ينقصها الناس. إنّها تحتوي على السلع فقط: توابل، معادن، سجاجيد - مكدّسة في تلك المخازن الكبيرة، أو يمكن القول “المساجد”  لكثرة قبابها… الخانات تتجه دائمًا نحو الداخل، ومن الخارج يمكن بصعوبة رؤيتها، كذلك من الصعب العثور عليها.

هذا الميل بالتوجّه نحو الداخل هو أيضًا ما يميّز البيوت الخاصّة. فالبيت يفخر بساحته الرحبة وبحوض الماء. هذا الحوض يُطلق عليه العرب اسم “بحر”، كما هي الحال في اسم الحوض بهيكل سليمان. وعلى أطراف الساحة - ثلاثة أروقة مسقوفة درءًا لأشعة الشمس في موسم الصيف. وبهذه الأروقة تتصل كافة الغرف، لكلّ منها أدراج تنقسم إلى أقسام داخلية مرصوفة تكسوها السجاجيد. الجدران مغطاة بخشب ورسومات جميلة، نُقشت فيها أمثال عربية، أو عبرية - في بيوت اليهود من علية القوم - تملأ فضاء الغرفة. أمّا أجمل البيوت في دمشق فقد اقتنته الحكومة الفرنسية وحوّلته إلى متحف أثريّ.

ننتقل إلى حارة اليهود. يقوم فتى بإرشادنا. إنّه يتكلّم عبريّة مُكَسَّرة وفرنسية بليغة. إنّ وضع اليهود مُزرٍ، فهم يعيشون بين طرفين متصارعين، المسيحيين والمسلمين.

لا يوجد هنا من يأخذ على عاتقه تنظيم الشبيبة. كثيرون منهم يهاجرون إلى أميركا، والبعض منهم إلى أرض إسرائيل. حينما كانت هنا المدرسة الكبيرة التي أنشأها الصهيونيون كان الوضع أفضل بكثير، ولأنّهم تعلّموا العبرية فكانت أرض إسرائيل أقرب إليهم. في هذا الأوان لم تعد هذه المدرسة قائمة.

المدرسة العبرية التي أسستها لجنة التربية أُغلقت قبل مدّة نظرًا لقلّة الموارد. فقط حينما تمكث هنا فإنّك ترى بأمّ عينيك قصر النظر بهذه الخطوة. هؤلاء الشبّان الذين يترعرعون في بيئة عربية، هم أفراد من أهل البيت في الشرق، وكان بوسعهم تثقيف جمهرة من الناشطين الصهيونيين، وكانوا سيبنون جسرًا إلى اليهود الشرقيين والعرب. لقد فضّلت الإدارة الصهيونية أن تُخلي المكان للـ"أليانس". من السهل تقدير ما هي الروح التي تقوم فيها الأليانس بتربية أجيال شبيبتنا في هذا البلد الذي يحتلّه الفرنسيون.“

18 سبتمبر 1925


في لبنان - التاريخ لا يعيد نفسه

 

يمكن القول، كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون. إنّ حال هذا البلد هي حال الكثير من بلدان هذا المشرق المأزوم والمهزوم في آن

سلمان مصالحة ||

في لبنان - التاريخ لا يعيد نفسه


”إنّ إيمان اللبنانيين كافّة بحقّهم الشرعي في الاستقلال لا يتزعزع، وثقتهم بكفاءتهم له لا تنال منها المحاولات التي يقصد بها أصحاب النيات المشبوهة إيهان عزائمهم، ولقد باءت بالخسران الكامل محاولتهم الجاهدة لبذر بذور الشقاق والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد. إنّ زمن التفرقة قد انقضى. واللبنانيون إرادة واحدة وعزم ثابت في سبيل الدفاع عن سيادتهم الوطنية الكاملة.“

لقد كنت أشرت في الماضي غير مرّة وفي أكثر من منبر إلى أنّنا - كأفراد، جماعات ومجتمعات، على سائر مللنا ونحلنا- ملزمون بإعادة النّظر إلى أنفسنا في المرايا وبذل مجهود، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، بمحاسبة النفس إزاء ما آلت إليه أحوال مجتمعاتنا وما نزلت عليها من رزايا بدءًا من مغارب العرب إلى مشارقهم، من سودانهم إلى بيضانهم ولبنانهم.

التّناقضات العربيّة لا أوّل لها ولا آخر. غير أنّ السؤال الكبير الّذي يقضّ مضاجع كلّ فرد عربيّ في هذه الأصقاع المترامية الأطراف، هو سؤال يتمحور حول مسألة الهويّة. إنّه السؤال الأصل: ماذا يعني أن تكون عربيًّا في هذا الأوان؟ وماذا يعني أن تكون مصريًّا، مغربيًّا، سوريًّا، عراقيًّا، لبنانيًّا أو فلسطينيًّا، إلى آخر هذه الكيانات غير المحدّدة المعالم؟ نعم، هذا هو السؤال الذي تُشتقّ وتتفرّع منه كلّ الإجابات وكلّ الحلول للمشاكل الاجتماعية، الثقافية والسياسية التي تتخبّط فيها هذه المجتمعات منذ ظهورها على مسرح التاريخ، قديمًا وحديثًا.

من البدهي القول إنّ حدود البلدان في المشرق والمغرب هي حدود مصطنعة لم تخرج إلى النور بصورة طبيعية مستندة إلى جغرافيا طبيعية اجتماعية ثقافية إثنية دينية. لقد رسمت هذه الحدود لاعتبارات قوى عظمى خارج هذه الأقطار وخارج هذه الجغرافيا ولأسباب لا تمتّ للأرض بصلة.

لا شكّ أنّ الكثير من القراء على دراية بمقولة ماركس الشهيرة: ”التاريخ يعيد نفسه، أوّلًا كمأساة ثمّ كمهزلة“. إنّ الديباجة الكلامية التي استهللت بها المقالة أعلاه قد تبدو للوهلة الأولى راهنية إزاء ما آلت إليه الحال في بلد الأرز، غير أنّها ليست كذلك بالمرّة. إنّها ديباجة بيان عممته اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني اللبناني في العام 1944.

وبالعودة إلى النظر فيما ورد من كلام قبل عشرات السنين يتجلّى لنا أنّنا نقف الآن وفي هذا الأوان أمام وضع وكأنّ شيئًا ممّا ورد في البيان  المذكور عن أحوال هذا البلد لم يتغيّر قيد أنملة. ليس فقط أنّ التاريخ لم يُعِدْ نفسه، بل يمكن القول أنّ الزمن لم يتحرّك أبدًا. وهكذا يستفيض بيان المؤتمر الوطني بالقول: ”وإذا كان للمؤتمر ما يقوله في هذا المعرض فهو مناشدة الحكومة أن تقضي على العوامل التي من شأنها الحدّ من التوجيه الاستقلالي المنشود سواء كانت هذه العوامل داخلية أم خارجية. وفي طليعة ذلك معاملة العابثين بحرمة الوطنية ... بما يستحقّه الدسّ على الوضع الاستقلالي من عقاب شديد تكون فيه العبرة البالغة.“

وإذا كان حزب الله قد صادر استخدام القوة من السلطة اللبنانية واستولى عليها داخليًّا وخارجيًّا، فقد كان المؤتمر الوطني اللبناني قد نوّه إلى هذه الظاهرة في بيانه المذكور. فقد ورد في البيان بهذا السياق:

”ويلفت المؤتمر نظر الحكومة إلى الأمور بنوع خاص إلى الأمور الآتية:
1 - إنّ أول ما يتطلع إليه لبنان مسألة الجيش. إننا لا نرى وجهًا من الحق والعدل في أن تبقى قوات مجندة ومؤلفة من اللبنانيين، ومقيمة في الأراضي اللبنانية، غير تابعة للحكومة اللبنانية مباشرة.
2 - يجب تنظيم بعض المظاهر التي لها مساس بمعنى السيادة الوطنية وفي الطليعة القضاء على فوضى رفع الأعلام بحيث لا يُرفع في أراضي الجمهورية اللبنانية غير العلم اللبناني، أمّا الأعلام الأجنبية فيجب أن يُحدّد الموضع والزمن والشكل في رفعها.“

يتضح إذن، وفي ضوء هذا الكلام، وكأنّ التاريخ لم يتحرّك خطوة إلى الأمام في هذا البلد منذ تأسيسه. إنّه يتخبّط الآن في القضايا ذاتها ويبحث عن سبيل للخروج من المستنقع ذاته. 

يمكن القول، كذا كان وكذا يكون إلى يوم يبعثون. إنّ حال هذا البلد هي حال الكثير من بلدان هذا المشرق المأزوم والمهزوم في آن.
*

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!