برتولد بريخت || عن ولادة الابن

برتولد بريخت ||

عن ولادة الابن


العائلاتُ، حِينما يُولدُ لها ٱبْنٌ،
تُريدُ أن يكونَ ذَكِيًّا.
أمّا أَنا، الَّذِي هَدَمَ الذَّكاءُ 
حَياتِي، أسْتَطِيعُ فقَط التَّمَنِّي
أَنْ يَنْكَشِفَ ٱبْنِي، مع مُرور الوَقْتِ،
جاهِلًا، وَكَسُولًا.
عِنْدئِذٍ، سَيَحْظَى بِحَياةٍ هَادِئَةٍ،
كَوَزِيرٍ فِي الحُكُومةِ.
*

ترجمة: سلمان مصالحة


رباعيات

سلمان مصالحة ||

رباعيات

لَمَحْتُ بَدْرًا عَالِقًا فِي الشَّجَرْ
حَوْلَهُ لَيْلٌ قَدْ خَبَا وَٱنْتَثَرْ.
مَنْ ذَا ٱلَّذِي أَوْقَدَ نَارَ ٱلْهَوَى
فِي فِلْذَةٍ بِٱلْقَلْبِ، حَتَّى ٱسْتَعَرْ؟

أنا العود

سلمان مصالحة ||

أنا العود

أَنَذَا ٱلْعُودُ، مُلْقًى هُنَا عَلَى قَارِعَةِ 
ٱلطَّرِيقِ ٱلَّتِي تُفْضِي بِي إلَى لا 
مَكَانِي. هَدَأَ ٱللَّحْنُ فِي نِيَاطٍ 
هُجِرَتْ مُدَّةً، فَٱنْطَوَتْ تَنْثَنِي 
فِي ثَنَايَا جَنَانِي. حَوْلِيَ ٱلرِّيحُ 
تَهْمِسُ لِي نَغَمًا، قُدَّ مِنْ مَاضٍ 
قَضَى نَحْبَهُ لِٱخْتِلَالِ ٱلزَّمَانِ. 

أَنَذَا ٱلْعُودُ، نَاطِرٌ هُنَا غَيْمَةً،
تَأْتِي إِلَيَّ مَعَ ٱلْعَصْرِ، حِينَ أَعُودُ
إلَى يَقْظَتِي مِنْ سُباتٍ طَوِيلٍ
لَمْ أَحْتَسِبْهُ مَرَّةً مِنْ زَمانِي.
أَنَذَا ٱلْعُودُ، أَحِنُّ إِلَى صَفْنَةٍ،
لَفْتَةٍ مِنْ يَدٍ، دَاعَبَتْ بُرَهًا مِنْ
بَقَايَا ٱفْتِنَانِي. أَيْنَ مَنْ يُدْرِكُ
القَوْلَ إذْ يَرْتَدِي الحَرْفُ هَالَةً
حَرَّةً مِنْ لَهِيبِ بَنَانِ.

هِيَ ذِي لَحْظَةٌ، بُرْهَةٌ سَطَعَتْ.
وَسَعَتْ، كَالحُزْنِ، نُقْطَةً قَرَّةً
مِنْ كِيَانِي.


محمد علي || الرحلة اليابانية

مختارات



وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خوانًا صغيرًا؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية

محمد علي ||

الرحلة اليابانية

تقديم
”… ولكن لما كان حب الأوطان طبيعةً مفطورًا عليها الإنسان؛ وجب على العاقل أن يطوف في بلاد الله ما استطاع، ويرى كثيرًا من الأمكنة والبقاع، ويعرف ما لكل من العوائد التي يترتب عليها جزيل الفوائد، وإذا رأى أن جهة من الجهات أكثر ثروةً، وأعظم من أمته قوةً بحث في أسباب ذلك بحث المدقق الخبير، وعرفه معرفة الناقد البصير، حتى إذا عاد إلى عطنه عرف ذلك إلى أهل وطنه، وإذا رأى أمة مضمحلًّا حالها، كاسفًا بالها عرف أسباب ذلك الكساد، وما يترتب عليه من مضرات العباد، وحذر من ذلك أهل بلاده بقدر استطاعته، ومبلغ اجتهاده، ويكون إذا أخبر بشيء مخبرًا عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان؛ فيحصل بذلك على فوائد جليلة، ومزايا جزيلة، أهمها: منفعة وطنه الذي فيه رُبِي، وببحبُوحةِ فضله حُبِي، والفوز برضا الله ومزيد ثوابه بنفعه للبلاد، وخدمته للعباد...

ولما كان لا يمكن كل واحد من الناس أن يسير في الأرض، ويتجوَّل في طولها والعرض؛ لموانع تمنعه من الأسفار، وبواعث تلزمه بعدم مبارحة الديار — نصب كثير من الفضلاء أنفسهم للسير في البلاد لمقاصد جليلة، أهمها: منفعة العباد، ودوَّنوا الرحل المفيدة في الجهات العديدة، فمن طالعها فكأنما شاهد ما شهدوه من المشاهد، واطلع على ما رأوه من الآثار والمعاهد؛ ولذلك قد رأيت أن أقيد رحلتي إلى اليابان؛ ليطلع عليها كل إنسان؛ خدمة للإنسانية أؤديها، وهدية للمسترشدين من بني الأوطان أهديها، وأسأل الله دوام التوفيق، والهداية لأقوم طريق.“

في توكيو:

”وكانت الفسحة من داخل البلد جميلة جدًّا لكثرة المرور على الكباري الكبيرة الموجودة على الأنهار المتفرعة إلى فروع كثيرة، ومتجهة إلى جهات مختلفة، ورأيت أن الفقراء بهذه البلدة يحافظون على النظافة محافظة تامة.

وبعد وصولي إلى النزل أرسلت لناظر الخارجية ورقة الزيارة، وأخبرته أني كنت أريد أن أتشرف بمقابلة الميكادو مقابلة غير رسمية، وظننت أني لكوني شرقيًّا ومسلمًا ربما يكون ذلك مما يسهل تلك المقابلة، فأخبرت أنه لا يمكن مقابلته، أو الدنو منه، إلا بصفة رسمية بواسطة سفير من السفراء، فلما علمت ذلك صرفت النظر عن تلك المقابلة.

وفي هذه الليلة قد عزمنا على أن نتوجه إلى الفندق الأهلي الياباني الذي سبق الكلام عليه، فأخبرونا أن ما يدفعه الشخص الواحد من النقود قيمة أكله 2 ين ونصف، وما يدفعه عن التفرج على المرقص 25 ينًّا، فتوجهنا وقت الغروب إليه، وبمجرد وصولنا قابلنا عدة نساء من اليابانيات على بابه، وأخبرنا بأنه لا بد من خلع النعال؛ لأن المحل مفروش، ومن ضمن هؤلاء بنت صغيرة تبلغ من العمر نحو تسع سنين، ومشت أمامنا لأجل أن تدلنا على المحل الذي نجلس فيه، وهي في غاية من النظافة والخلاعة، فوصلنا إلى رحبة كبيرة حيطانها الأربع من الورق السميك، وبها كثير من الرسوم اليابانية البديعة الأشكال والألوان، فوجدنا بها وسادات على الأرض ومقاعد بسيطة ليس بها سواها، مع سعة الحجرة ونظافتها.

وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خوانًا صغيرًا؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية، ثم أحضروا لنا الأكل، فأوَّلًا قد أحضروا لنا المرقة المعروفة بالشربة، ولم يحضروا لنا ملاعق لأجلها، بل إنهم من غريب أمرهم أنهم قد استعاضوا عنها بكاسات صغيرة يشربونها بها، وبعد ذلك أحضروا لنا نوعًا من السمك حسن الصنع، وعدَّة من أنواع الخضراوات والأرز، وكان الأكل بواسطة خشبتين صغيرتين يقبضهما الإنسان ويجعلهما شبه "الماشة" ثم يأكل بهما، وكل شخص له آنية مخصوصة، والخادمات يخرجن ويدخلن معًا عند حضور أي طعام كان.

ولما انتهى الأكل ورفع من أمامنا، حيانا هؤلاء الخادمات بالسجود على الأرض — كما هي عادتهن — وبعد ذلك فتحت الحائط التي كانت أمامنا، لأن بيوتهم مبنية من حيطان من الورق؛ ولذلك ينقلونها على حسب أغراضهم واحتياجاتهم، وبعد أن فتحت هذه الحائط ابتدأ الرقص، فوجدناه بحالة لم نسر منها، والموسيقى عندهم كذلك ليست على ما ينبغي؛ لأنها عبارة عن ست بنات، كل اثنتين لهما عمل مخصوص، فاثنتان منهما تلعبان بشيء يشبه العود وبيدهما قطعة تضربان عليها، واثنتان تصفران بصفارة، واثنتان تغنيان، والجميع يفعلن ذلك بحالة محزنة كأنهن يبكين، وبعدما رأينا كل ما فعلوه، ورأينا أن الرقص كأنه حركات أخرس يريد أن يفهم الكلام إلى سواه؛ أعطيناهم المطلوب وبعض نقود على سبيل الصدقة، فسررن بذلك سرورًا كثيرًا، ثم أخبرني الترجمان أن هذا الرقص ليس هو من عادات اليابانيات، وإنما يفعلن ذلك مرضاة للسوَّاح لأجل كسبهن، وليس عندهن رقص في عوائدهن، فكلمت الترجمان أن يرجع بنا إلى الفندق؛ لأجل أن نتغدَّى هناك مرة ثانية؛ لأن الأكل الذي أكلناه لا يسدُّ رمقًا ولا يحصل منه شبع، فعدنا إلى الفندق وتغدَّينا كالعادة.

وفي يوم آخر قد توجهنا لزيارة الرياض والبساتين، وبقينا طول يومنا، وعند رجوعنا في الساعة السابعة بعد الظهر كان بالفندق وليمة كبيرة من الأميرال وضباط الأسطول الأمريكاني، الذي قد جاء زائرًا اليابان للأميرال توجو، وضباط البحرية اليابانية، وكانت الموسيقى التي تضرب لهم وقت تناول الطعام كل أفرادها عبيد أمريكانيون.

ومع كون الحالة كانت سارَّة، إلا أن الشيء الذي يؤسف عليه ويُكَرِّه الإقامةَ للغريب في هذه البلاد هو: أن اليابانيين مع ما وصلوا إليه من التقدم والحضارة يريدون أن يأخذوا من أي شخص كل شيء، ولا يطلعونه على شيء.“

محمد علي، الرحلة اليابانية
 

إليشيڤاع چرينباوم || الأول من سپتمبر

إليشيڤاع چرينباوم ||

الأول من سپتمبر


مِلْيُونُ وَلَدٍ يَذْهَبُونَ اليَوْمَ إلَى المَدْرَسَةِ
وَواحِدٌ مِنْهُمْ يُمْسِكُ بِيَدِي.

رائِحَةُ دَفاتِرَ وَشَنْطَةِ جِلْدٍ جَدِيدَةٍ تَفُوحُ مِنْهُ
انْفِعالٌ يَعْلُو مِنْ شَعْرِهِ المَغْسُولِ.

حَفِيفُ أَحْلامِ الصَّيْفِ الَّتِي انْتَهَتْ مَدْسُوسٌ
بِدَعَساتِ صَنْدَلِهِ الصَّغِيرِ.

يَدُكَ الصَّغِيرَةُ، الرَّطْبَةُ، تَضْغَطُ بِشِدَّةٍ عَلَى يَدِي،
عِنْدَما نَدْخُلُ إلَى السَّاحَةِ وَالخَوْفَ المَعْرُوفَ

لِنَبْدَأَ ثانِيَةً مِنَ البِدايَةِ، كُلَّ شَيْءٍ، نَحْنُ الاثْنَيْنِ
مُقابِلَ العالَمِ، لَحْظَةً واحِدَةً أُخْرَى

قَبْلَ أَنْ أَتْرُكَ يَدَكَ، وَتَكُونَ أَنْتَ لِوَحْدِكَ،
رَجُلًا صَغِيرًا مَقْصُوصَ الشَّعْرِ مُقابِلَ العَالَمِ

وَأَنا أُمِيحُ بِنَظَرِي، امْرَأَةً دَخَلَها كَثِيرُونَ
لٰكِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْها أَحَدٌ أبَدًا

وَأَمْضِي. 
*
ترجمة: سلمان مصالحة

من مجموعة: فجأة الأرض، منشورات كرمل يروشلايم 2006 

אלישבע גרינבאום, ״האחד בספטמבר״, לפתע פתאום האדמה, כרמל ירושלים,  2006

داليا رابيكوڤيتش || لكلّ شيء وقت

داليا رابيكوڤيتش ||

لكلّ شيء وقت


الوَلدُ مَضَى مِنْ هُنا
لَنْ يَأْتِي يَوْم السَّبْت.
النَّخْلَةُ تِنْمُو.
عَلَى أَرْبَعِ طَبَقاتِهِ يَجْثُو البَيْت،
يَرَقاتُ ضَوْءٍ تَتَحَرَّكُ بَيْنَ شُقُوقِ الشُّبَّاك
تَأْتِي وَتَخْرُجُ بِلا ضَوْضاء.
الشُّبَّاكُ مُغْلَقٌ، الفِراشُ مَنْفُوشٌ.
بَيْتِي هُو نِصْفٌ وَنِصْفٌ
نِصْفُه مُلَمَّعٌ ثابِتٌ فِي مَكانِهِ
نِصُفُهُ الآخَرُ مُحْتَرِقٌ أَضْحَى كَالفَحْمِ. 
أَشْعُرُ بِالحَمِّ وَبِالْبَرْدِ، أَشْعُرُ بِالبَرْدِ وَبِالحَمّ.
وَمَضَى الوَلَدُ إلَى مِئَةِ عَام
مِئَةُ عامٍ تَبْدَأُ فِي الحاضِرِ
رُبَّما يَعُودُ لِيَوْمٍ أَوْ ساعَةٍ
لٰكِنْ لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ هٰذا.

ترجمة: سلمان مصالحة

من مجموعة: أم مع ولد، هكيبوتس همؤحاد 1992
 
דליה רביקוביץ, לכל זמן, מתוך: אמא עם ילד, הקיבוץ המאוחד 1992


حازم صاغية || إلى الطوائف والعشائر، در!

مختارات صحفية -

حازم صاغية ||

إلى الطوائف والعشائر، در!

في 2015، حين انفجرت مشكلة النفايات في لبنان، داهمتنا حالة غريبة: كلّ اللبنانيّين، بلا أيّ استثناءٍ طائفيٍّ أو مناطقيٍّ، يعانون المشكلة. في الوقت نفسه راحت قرى وبلدات كثيرة تصرخ: لا تطمروا نفايات «الغرباء» عندنا. «الغرباء» لم يكونوا سوى أبناء قرى وبلدات ملاصقة للقرى والبلدات المُحتجّة.

اليوم، مع الانهيار الكبير، تُسمع صرخة مشابهة في محطّات البنزين: «غرباء» يملأون سيّاراتهم في محطّاتـ«نا» ومن وقود«نا».

انبعاث الولاءات الصغرى، بعد اكتمال الانحطاط الذي ضرب الدولة والسياسة وجفّف الاقتصاد، صار أوسع وأشمل وأعلى صوتاً ممّا كان في 2015. قبل شهر مثلاً، وفيما كانت تحلّ الذكرى السنويّة الأولى لتفجير مرفأ بيروت، اندلعت اشتباكات ذات خلفيّة ثأريّة بين «حزب الله» و«العشائر العربيّة» في خلدة، جنوب العاصمة. الاشتباكات سقط فيها قتلى وجرحى.

يومذاك قيل أنّ الطائفيّة كشفت وجهها المسلّح، لأنّ الطرفين المتقاتلين شيعيّ وسنّيّ. لكنّ الأيّام الأخيرة أظهرت أنّ الأمر يتعدّى الطائفيّة إلى ما بين الطائفة نفسها. في عكّار، في شمال لبنان، استُخدمت الأسلحة المتوسّطة والثقيلة بين بلدتي فنيدق وعكّار العتيقة السنّيّتين، فسقط قتيل من كلّ منهما. الاشتباكات حصلت على خلفيّة قطع حطب في منطقة متنازع عليها بين البلدتين.

حال مدينة طرابلس وصفتْه جريدة «النهار» على النحو التالي: «دخلت المدينة اليوم شوطاً من الفلتان الأمنيّ المتدحرج في سائر مناطقها، لا سيّما في متفرّعاتها الشعبيّة، حيث تخرق سماءها ليلاً قنابل يدويّة، خصوصاً في محيط نهر أبو علي، فتتحوّل أحياؤها إلى ساحات للتصفيات بالسّلاح».

الزميل يوسف بزّي كتب عن «حرب تعبئة البنزين» التي قد تغدو، في أيّة لحظة، مواجهة مسلّحة بين الكلّ والكلّ. لقد وصفها بالتالي: «الزعران سيأتون ويحاولون اختراق الطابور. فتيان الدراجات الناريّة سيقتحمون المحطّة بالتأكيد. أصحاب النفوذ بسيّاراتهم الضخمة وزجاجها الداكن، هم أيضاً سيستولون على دَورنا بحقارة علنيّة ووقاحة استعراضيّة. دوريّات الأمن التي ستنظّم وتضبط، هي أيضاً ستصحب معها سيّارات المحظيّين وتمنحهم الأولويّة، عدا الغالونات التي سيملأونها قبل سيّاراتنا...».

هذا التذرّر الاجتماعيّ ليس جديداً، وإن بلغت درجة انفجاره الحاليّ مستوى غير مسبوق. الأشياء التي كانت ترعى التذرّر وتُديمه كثيرة: سياسة تقوم على توزيع الحصص، واقتصاد خدميّ لا يدمج السكّان ولا يخفّف من تنافرهم، وقانون انتخابيّ يردّ المقترعين إلى مسقط الرأس... العلاجات الرسميّة كانت بدورها تافهة: حتّى الشهابيّة، التي حقّقت إنجازات جدّيّة، توهّمت حلّ المشكلة الطائفيّة عند المسلمين بتسليم السياسة الخارجيّة لجمال عبد الناصر ففاقمت المشكلة الطائفيّة عند المسيحيّين، خصوصاً بعدما أسقطت في الانتخابات النيابيّة بعض أبرز رموزهم. توهّمت أيضاً حلّ المشكلة العشائريّة بانتزاع العشائر من الأجهزة الأمنيّة السوريّة وربطها بالأجهزة اللبنانيّة.

على العموم، وكائنة ما كانت العلاجات، ظلّت قدرة الحرب على التهديم أكبر من قدرة الدولة على البناء. الأحقاد والمخاوف من جهة، وفرز المناطق طائفيّاً من جهة أخرى، صلّبت حالة الصفاء وأبلسة الآخر. في وقت لاحق، عزّز سلاحُ «حزب الله» إحساس أكثريّة اللبنانيّين بضرورة الحماية الذاتيّة.

لكنّ فضيحة الأفكار لم تكن أقلّ من فضيحة الدولة. فاللبنانيّون عرفوا صحوة لبنانويّة قالت لهم: كونوا لبنانيّين وتوحّدوا كأسنان المشط في لبنانيّتكم. ثمّ عرفوا صحوة عروبيّة قالت لهم: قفوا صفّاً واحداً لتحرير فلسطين، أو أقلّه لمقاتلة إسرائيل. وأخيراً، عرفوا صحوة إسلاميّة رعاها «حزب الله» قالت لهم: اتّحدوا وراء السلاح الذي يحميكم. وعلى الهامش، كانت هناك دوماً صحوة طبقيّة تقول لهم: اتّحدوا تبعاً لمصالحكم في مواجهة أعداء طبقيّين.

أصحاب هذه الصحوات، المبشّرون بوحدةٍ ما تنهي البعثرة والتشتّت، راهنوا كلّهم على قضيّة جامعة تُغري بالتوحيد: اللبنانويّون رأوا القضيّة في بناء بلد تصاغ إنجازاته فولكلوريّاً. العروبيّون والإسلاميّون رأوها في إسرائيل. اليساريّون، في البورجوازيّة الكومبرادوريّة أو الطغمة الماليّة معطوفتين على إسرائيل. لكنّهم كلّهم كانوا يطالبون قطاعاً عريضاً، إن لم يكن أكثريّاً، بنسيان أشياء عزيزة عليهم، إمّا دينيّة أو مذهبيّة أو ثقافيّة. هذه المطالبة بالنسيان بلغت ذروتها مع «حزب الله» الذي طالب السنّة والمسيحيّين والدروز أن يكفّوا عن كونهم سنّة ومسيحيّين ودروزاً وأن ينخرطوا في مشروع شيعيّ.

الصحوة الوحيدة التي كانت صريحة وواضحة هي صحوة الطوائف والعشائر حين لا يرافقها تزويق آيديولوجيّ: كانت، ولا تزال، تقول: تذكّروا أنّنا متكارهون، ولا تنسوا أنّ ما من قضيّة تجمع بيننا.

وحين تنحطّ الدولة، كما هو الحال الآن، يغدو التذكّر الطائفيّ والعشائريّ هو التذكّر الوحيد لشيء ملموس والإحراز الوحيد لعوائد ملموسة. الدولة، في المقابل، هي الجحيم، وأصحاب الصحوات المشوبة بالآيديولوجيا هم الجنّة المُتوهَّمَة.
*
الشرق الأوسط


الجوبري || كشف أسرار كذبة الرهبان

مختارات تراثية - 619 هـ/1222 م

 

الجوبري ||

كشف أسرار كذبة الرهبان


”اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم. وهم أضرّ الخلق وأحسن من غيرهم لأنّهم إذا خلوا بأنفسهم يعترفون بأنّهم على الضلالة وقد غيّروا الأحوال والأفعال والأقوال. ولهم أعمال عظيمة لا تعد ولا تحصى، وهم يأكلون الأموال بالباطل ويرتبون الكذب وزخارف القول، وهم أكذب الخلق على كل حال، فمنهم من عمل لديره عيدًا وجعل له ناموسًا من بعض النواميس يأكل به أموال النصارى.

وها أنا أثبت لك شيئًا من ذلك.
فاعلم أنّ هؤلاء القوم أعظم ناموس لهم قنديل النور في كنيسة قمامة بيت المقدس. وهو من عمل الرهبان، وقد ارتبط عليه جميع النصارى وأسباطهم وأجناسهم. وقد كان الملك المعظم ابن الملك العادل قدّس الله روحه دخل إلى القمامة يوم سبت النور، فقال للراهب: لا أبرح حتّى أبصر هذا النور كيف ينزل. فقال له الراهب: أيّما أحب إليك، هذا المال الذي يتحصّل من هذا الوجه أو اطلاعك عليه؟ فإنّك إن كشفت سرّه عدمت هذا المال، فاتركه مستورًا مصانًا واربح هذا المال العظيم. فلما سمع ذلك، علم باطن قول الراهب فتركه على حاله وخرج.

وذلك أنّ القنديل هو أعظم النواميس التي صنعتها الأوائل، وذلك أنّ له في رأس القبّة حقًّا من حديد معلّقًا بسلسلة وهو مهندس في هلال القبة، لا يطلع عليه أحد إلا الراهب. والسلسلة لها فيه خلو، فإذا كان ليلة سبت النور، صعد الراهب إلى الحق وجعل فيه مطبوخ الكبريت على مثال السنبوسكة، وجعل تحتها نارًا موقّتة إلى الساعة التي يريد أن ينزل فيها النور. ثمّ يدهن السلسلة بدهن البيلسان. فإذا جاء الوقت وأوقدت النار عطف المطبوخ على زرة السلسلة في ذلك الحق المهندس، فيستمد من تلك النطفة دهن البيلسان ويسري مع السلسلة نازلًا إلى القنديل فتعلق النار في فتيلة القنديل، وتكون مسقيّة أولاً بدهن البيلسان. فاعلم ذلك!"
*
نقلًا عن: عبد الرحيم بن عمر الدمشقي المعروف بـالجوبري، المختار في كشف الأسرار، القاهرة د. ت


بسام البدارين || ضد «الهوية الجامعة» - الأردن نموذجا

مختارات صحفية -

مقالة يمكن أن تُكتب عن كلّ مجتمع عربي في كلّ الأقطار العربية. هذه هي أحوال العربان. كذا كان وكذا يكون إلى يوم يُبعثون.

في الغرب الأوسط


سلمان مصالحة ||

في الغرب الأوسط


حِينَ قادَتْني رِجْلايَ، أَو عَلَى 
الأَصَحّ طائرةٌ مَيْمُونَةٌ، إلَى
الغَرْبِ الأوْسَط، كانَ الطَّقْسُ 
حارًّا هُنَاكَ. والنُّفُوسُ هُنَا 
كانتْ باردة.
 
لَمْ أَعْرِفْ بَعْدُ هُنا جِهاتِ 
الأَرْضِ، وَلا هِيَ عَرَفَتْنِي. 
كُنْتُ أَمْضِي فِي طَرِيقِي 
نَحْوَ الشَّرْقِ الّذِي بَدَأَ يَرْتَدِي 
ثَوْبَ اللَّيْلِ الآن هُنَاكَ. 
كُنْتُ أَرْكُلُ فِي طَرِيقِي 
وُرَيْقاتِ الشَّجَرِ المُتَساقِطَة
مِنْ صَحْراءِ حَياتِي.

كانَتْ هِيَ تَرْتدِي قُبَّعَةً مِنْ 
ثَلْجٍ، وَبَيْنَ فَيْنَةٍ وَأُخْرَى  تُذِيبُ 
مِنْهُ قَليلاً، لِدِفْء بَدَرَ مِنْها عَرَضًا، 
فَيَسِيلُ عَلَى هامِشِ الطَّرِيقِ الّتِي 
أَفْضَتْ بِهَا، مِنْ زَمانٍ بَعِيدٍ، 
إلى خَرِيفِ قَلْبِي.
*

آچي مشعول || مهرجان شعر في چوادالاخارا

آچي مشعول ||

مهرجان شعر في چوادالاخارا


كانَ ثَمَّ مَنْ لَوَّحَ بِذِراعَيْهِ وَتَوَقَّفَ
عَلَى شَفَا ٱلْهاوِيَةِ بَيْنَ بَيْتٍ
وَبَيْتٍ،
كانَ ثَمَّ مَنْ قَرَأَ سَرِيعًا كَهارِبٍ
مِنْ قَصِيدَتِهِ
وَآخَرُ أَفْلَحَ فِي ٱفْتِعَالِ
مَوْجَةِ ضَحِكٍ مِنَ ٱلْجُمْهُورِ.
كانَ ٱلْعَطَشُ مُشْتَرَكًا
لٰكِنْ، كُلُّ واحِدٍ بُحَّ بِلُغَتِهِ.
كُنَّا أَقْرِباءَ عائِلَةٍ بَعِيدِينَ
نَظْهَرُ فِي بَعْضِنا ٱلْبَعْضِ
وَنَتَعَرَّى بِٱلدَّوْرِ
عَلَى مِنَصَّةٍ
أَمامَ أُنَاسٍ غُرَباءَ.
ما ٱلَّذِي قَادَنِي إلَى هُنا؟
كانَ بِوُسْعِي ٱلسَّفَرُ فَقَطْ بِٱلْخَيالِ
وَمَعْ ذٰلِكَ طِرْتُ كُلَّ ٱلطَّرِيقِ
حَتَّى چوادالاخارا
لِإلْقاءِ ثَلاثِ قَصائِدَ
أَمْكَنَ أَنْ تَقْرَأَها مَكانِي،
دُونَ أَنْ يَشْعُرَ أَحَدٌ،
أَيْضًا شاعِرَةٌ بَدِيلَةٌ.

ترجمة: سلمان مصالحة
 

أحمد فارس الشدياق || لقد سافرت في الأرض

مختارات شعرية:

أحمد فارس الشدياق ||

لقد سافرت في الأرض


إذا كانَ رَبُّ البَيْتِ أَدْرَى بِما بِهِ
فَإنِّيَ أَدْرَى بِالَّذِي أنا كاتِبُ

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْريبُ لَمْ يَدْرِ ما ٱلْعَنَا
وَلَمْ يَصْلَ نارَ الحَرْبِ إلَّا المُحارِبُ

كاتولوس || هيا بنا ليسبيا



ترجمات شعرية -


كاتولوس ||

هيا بنا ليسبيا

هَيّا بِنا، لِيسبْيَايَ، نَحْيَا نُحِبُّ،
فَكُلُّ كَلامِ الشُّيوخِ عَنِ الأَخْلاقِ،
لَنْ يَعْنِيَ لَنا شَيْئًا عَلَى الإِطْلاقِ

شاهد عيان على هجوم الطليان

بيروت، ربيع 1912-


قصف عون الله 1912

سلمان مصالحة ||

شاهد عيان على هجوم الطليان


قبل نصف عام هزّ انفجار ضخم ميناء بيروت فاهتزّت منه المدينة بأَسْرِها وبكُلّ أُسَرِها، إذ لقي الآلاف مصيرًا من الموت والجراح، كما ضرب الهدم العمارات على امتداد مساحات واسعة. 

ولمّا كنت اعتدت منذ زمن على ترك أخبار هذا الأوان لدى سماعي خبرًا ما يهزّني في هذا العالم الواسع، وعلى وجه التحديد في هذا العالم العربي القابع في دهاليز لا يستطيع فيها رؤية بصيص من أمل، فقد ذهبت باحثًا عن أحداث من الماضي تعيدني إلى تلك الأماكن في أزمان غابرة. 

وبينما أنا غارق في أوهام وآلام الحاضر، رحت أحث النّفس على ركوب دفاتر الماضي بلغات الآخرين الذين كتبوا عن أحوال هذا الشرق. وهكذا سرعان ما وجدت نفسي قبل أكثر من قرن من الزمان، وفي فبراير من ربيع العام 1912 شاهدًا على انفجارات أخرى في ميناء بيروت، حين قصفت السفن الطليانية ميناءها وشاطئها. 

وهذه المرّة، أقرأ تفاصيل أخبار ذلك الزمان بصحيفة عبرية صادرة في تلك الأيام. ولكي تعمّ المنفعة على قرّاء لغة الضاد، فها أنذا أرويها عليكم مجدّدًا لما تحويه من أجواء تلك الأيام، وما تحويه من معلومات قد تكون مفيدة لمن ينوي الغوص في ملابسات تلك المرحلة.

لقد وردت هذه الأخبار في صحيفة ”هحيروت“ العبرية الصادرة في الأول من مارس سنة 1912. 
 

***
الخبر التي نشرناه في عددنا السابق بشأن الأحداث الأخيرة في بيروت أثار مشاعر المقدسيين لأنّ لدى الكثيرين منهم عائلات، أبناء وإخوان، أصدقاء ومعارف في بيروت، ولهذا كان القلق كبيرًا. كما نُشرت إشاعات مبالغ بها بخصوص محاولات هجوم جديدة من طرف العدوّ على سكان المدينة، وكذلك بخصوص محاولات قصف عكّا وحيفا وصيدا، وذكرت الإشاعات أنّ الجنود الطليان نزلوا إلى بيروت ، كما وصلت خمس سفن فرنسية من مرسيليا إلى بيروت، ووصلت إلى ميناء سعيد [بور سعيد] عشر سفن مدرّعة إنكليزية وهي تنتظر الأوامر من القيادة العليا... بالطبع لا نستطيع تصديق كلّ هذه الإشاعات قبل الحصول على تفاصيل رسمية من كلّ هذه الأماكن.

في هذه الأثناء، وصلتنا بالبريد الأخير أخبار لافتة من مراسلنا الخاصّ في بيروت، السيد يروشلمي [المقدسي]...


الرسالة الأولى من مراسلنا البيروتي:

(1)
”منذ يومين وصلت إلى لبنان، اليوم بعد الظهر خرجت للتنزّه مع بعض أصدقائي في السفوح الثلجية لجبال لبنان الجميلة والاستمتاع بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تكسو جبل لبنان.
فجأة، شاهدنا مجموعات من الناس تسرع في الطريق الصاعدة من بيروت إلى الجبل. ماذا جرى؟ ماذا حدث؟ لم نعرف شيئًا وفقط سمعنا الصراخ هنا وهناك والضجيج يملأ الأجواء. غذذنا الخطو وأسرعنا نحو الناس المذهولين.
”شو هادا“؟ سألت أحد العرب الذي وقف بجانب بيت-قهوة نصراني.
”حرب!، الطليان في بيروت“، أجاب.
ذُهلت، واضطرب جسدي وتصبّبت قطرات عرق باردة على جبيني. لم أصدّق ما سمعته أذناي، وفي خضمّ هذا الانفعال الذي يصعب وصفه أسرعت إلى الفندق بدل الوقوف بانتظار الهاربين من بيروت، أخذت مسدّسي وخرجت. حثثت أصدقائى للذهاب إلى الشرطة اللبنانية لمعرفة حقائق الأخبار. جئنا إلى الشرطة، وكان الشرطيّون هناك مذهولين ويتهامسون بنبرات غاضبة. تقدّمت إلى أحدهم وسألته بلطف، ماذا جرى في بيروت. نظر إليّ مُحدّقًا وقال: ”لا تخف! أسرع واجلس في بيتك لئلّا يهجم عليك الهاربون في ساعة غضبهم وانفعالهم...“. اضطررت لسماع نصيحة الشرطي وذهبت إلى الفندق بفرائص مرتعدة.  مرّت ساعتان بدتا بنظري طويلتين كما الأبد. كانت روحي مستعرة وفؤادي مضطربًا. كانت لدي رغبة بالتواجد في بيروت لأرى ما يحدث هناك بأمّ عيني... فجأة سمعت طلقات نارية... شحب وجهي وارتعد جسدي. هممت بالخروج غير أنّ أصدقائي منعوني من ذلك. وقفنا في الشرفة وشاهدنا مركبات وعربات كثيرة مليئة بالرجال والنساء والأطفال والعفش والأواني البيتية. لقد كانت وجوههم كوجوه الموتى، لقد انتحبت النساء، وشاهدتُ امرأة نصرانية يُغمى عليها في أحضان ابنتيها... أحد المسلمين، بيروتي، مرّ وكان جريحًا... بين هؤلاء اللاجئين كان يهود كثيرون، أغلبهم بيروتيون وحلبيّون. أحدهم، من معارفي، شاهدني من بعيد فصاح...
”اصعد، اصعد إلى غرفتي!“ قلت له، وأسرعت هابطًا لاستقباله. لقد كان وجهه شاحبًا كالكلس وارتعدت فرائصه خوفًا. صافحته فكانت يداه باردتين، صعدنا وبصوت مرتعد أخبرنا ما جرى في بيروت هذا الصباح.
وهذا ما رواه على مسامعنا الصديق الذي كان شاهد عيان على فظاعة الحدث في بيروت:
”... يوم السبت صباحًا كان كلّ شيء هادئًا في بيروت. في الشاطئ كانت هناك سفن تجارية وبعض السفن الأخرى التي أخبرت عن قدوم سفينتين حربيّتين من بعيد. أسرع كثير من الناس إلى الرصيف وفجأة سُمع صوت رعد هائل وانفجار أذهل المارّة االذين كانو في طريقهم لفتح أبواب حوانيتهم. لقد تعاظم الانفعال إثر الإشاعة بأنّ الطليان أطلقوا القذائف على بيروت، غير أنّ الطلقة الأولى كانت على التورپيد التركي «أنقرة» وعلى السفينة العثمانية «عون الله»، لقد دُمّر التورپيد وغرق فورًا، بينما السفينة كادت تتحطّم. في الساعة السابعة صباحًا كان الميناء فارغًا. كلّ السفن التجارية التي كانت راسية هناك هربت من العدوّ وأبحرت بطرق شتّى. في الساعة الثامنة أُغلقت كلّ الحوانيت وأسرع كثيرون إلى الرصيف، لمشاهدة السفن الحربية الطليانية التي حضرت مرّة أخرى ورست مقابل المدينة. لقد قام الوالي ورئيس المأمورين بإصدار الأوامر لإدارة الميناء لإيجاد حلول مع الأميرال الطلياني، فطلب هذا الأخير أن تُسلّم له الأسلحة. لقد رفض الوالي بالطبع هذا الطلب، إذ إنّه يتناقض مع القوانين. مع استلام الأميرال هذه الإجابة أمر بالقصف. فأطلق النيران على السفينة التركية وأُغرقت على من فيها من قوّادها وملّاحيها، كما أُطلقت النيران على مبنى الميناء الجديد، على البنك السالونيكي وعلى البنك العثماني. لقد قُتل وجرح الكثيرون. لقد عمّت الفوضى وتراكض الآلاف من الناس في الشوارع لا يعرفون إلى أين يهربون، وهم يسمعون أزيز الرصاص المتطاير فوق رؤوسهم ويصمّ الآذان. الصراخ والعويل ملأ الأجواء وكلّ يبحث عن إنقاذ نفسه وأبناء عائلته. لقد كانت المخازن مغلفة الأسواق مهجورة، وفقط في بعض الأماكن كان هناك بعض العرب البسطاء وبعض الشبّان الذين حملوا البنادق، المارتينات والسيوف؛ إذ إنّ الحكومة استجابت لطلب الشعب ووزّعت البنادق. بالإضافة إلى الحكومة فإنّ اثنين من العرب، هما عبودي وبيضون، والمعروفين في المدينة كلصّين كبيرين قد فرّقا البنادق على رجالهما، كما قاما بتحطيم أبواب الحوانيت التي تبيع البنادق وأخذوا منها البنادق. لقد أرسلت الحكومة فرقًا من الجنود إلى الشاطئ ليكونوا على أهبة الاستعداد عندما ينزل الطليان. كلّ بيت يمكث فيه أناس من الرعايا الأجانب علّق على البيت علمه القومي لكي لا يُصاب بيته بأذى. لقد هرب المئات راجلين وعلى عربات إلى جبال الدروز، وإلى سائر لبنان في عرض البحر، إذ إنّ العربات الكهربائية توقّفت عن المسير، كما إنّ العربات قلّت وكان من الصعب العثور عليها. الكثير من اليهود هربوا وجاووا إلى هنا، بينهم أحد معارفي الذي روى لي تفاصيل هذه الأحداث.
إنّه لمن الصعب وصف المخاوف التي دبّت في قلوبنا لسماعنا التفاصيل على فظاعتها. لقد اقترحت على أصدقائي أن نسافر إلى بيروت ... ”ماذا؟ هل جُننت؟“ أجابوني، ”لن نسمح لك أبدًا بالسفر إلى بيروت!...“. أمّا أنا فقد أصررت على الذهاب إلى هناك لرؤية ما جرى بأمّ عيني، ولمعرفة ما جرى لأصدقائي، غير أنّ أصدقائي حثّوني على البقاء حتّى الصباح، وهكذا بقيت حتّى اليوم التالي.
لقد قضينا الليلة والخوف يخيّم علينا، وأنا استغللت فرصة بقائى في المدينة لكتابة هذه التفاصيل لقراء ”هاحيروت“.
***
(2)
... ها أنا في بيروت. دقّات قلبي تتسارع. فرائصي ترتعد وعيناي تسرحان لمشاهد المدينة المهجورة. في البداية خفت من الذهاب، غير أنّ قوّة مجهولة دفعتني للتجوال في الشوارع. توجّهت إلى محطة الشرطة الأولى التي صدفتها في الشارع، عند المستشفى البلدي. لقد فرحت بوجود شرطي هناك، من زملائي، فسألته فورًا عن الشهداء الذين سقطوا إبّان الهجوم. لقد سلمّني قائمة الأسماء لكلّ القتلى والجرحى. لقد كانت غالبيتهم من المسلمين. المسيحيون واليهود كانوا قلّة. وها هي بعض أسماء القتلى: عمر شمالي، عبد الرحيم شعبان، الحاج سعيد مصطفى باشا، محمد أبو سليم الحملي، سليم يوسف صباغ، رؤبين بن سلومون (يهودي)، محمد شاني (شرطي)، جميل دريان (كوميسار)، يوسف واكد، إلياس أبو الماع، وغيرهم كثيرون. ستّة عشر من القتلى المجهولين أُحضروا إلى المستشفى العسكري. في البحر قُتل عشرون ملّاحًا وموظّفًا، عشرون آخرون اختفوا وعلى ما يبدو فقد غرفوا في البحر. ثمانية موظّفين قُتلوا وأربعة عشر ملّاحًا جُرحوا. من سكّان المدينة جُرح كثيرون وها هي بعض أسمائهم: خالد بن غفور آغا، نجيب متري بربور، يشعيا بن يوسف (يهودي)، رفيق بك وابنه (صيدليان)، جواد بك (طالب في كلية الطبّ)، إبراهيم أفندي (ملازم)، الحاج يوسف الحلبي، فهمي أفندي (كاتب محكمة الاستئناف)، وغيرهم كثيرون.

لقد روى لي الشرطي أيضًا أنّ الحكومة قد اتّخذت جميع الاحتياطات بغية الحفاظ على أمن الشعب، وقد قام الوالي بإرسال برقية إلى وزير الداخلية ووزير الحربية للوزارة العليّة والباب العالي وينتظر الجواب.
لقد عمّت الفوضى في المدينة أمس. عندما ذهبت السفن الطليانية بدأ المئات من أفراد االشرطة بالسير في الشوارع والأسواق للحفاظ على النظام. لقد دبّ الخوف في قلوب المواطنين من الشبّان الغوغائيين الذين حملوا المسدّسات واستخدمونها لمآربهم الدنيئة عندما شاعت الفوضى. الضحية الأولى التي سقطت كان يهوديًّا، الأدون شتاينهارد، كان واقفًا في الصباح عند باب المتجر الكبير «أوروزدي باك» حين مرّ أحد الأتراك مشهرًا مسدّسه ودون أن يشعر به السيد شتاينهارد أطلق الحقير النار عليه فسقط اليهودي المسكين مضرّجًا بالدماء. إنّه يرقد الآن في المستشفى والأطبّاء فقدوا الأمل من إنقاذه. لم يكتف الحقيرون بذلك، وحين لقوا صهر السيد شتاينهارد أطلقوا النار عليه أيضًا، لكن لحسن حظّه أُصيب بيده بجرح بسيط. أيضًا على أحد اليهود السفراديم أطلقوا النار بالخطأ، إذ كانوا يصوّبون نحو أحد العرب والذي قُتل بعد أن سقط اليهودي أرضًا. لقد أثارت هذه الأحداث مشاعر اليهود.
لدى هبوطي الآن إلى الشاطئ اقتربت من السفينة المحطّمة الغارقة في البحر. جزء من البناية الجميلة للبنك العثماني القريب من مكان رسو السفينة المحطّمة قد انهار، وتحطّم الزجاج والأبواب. مبنى بيت الجمرك الجديد الذي بني منذ سنة تحطّم كلّه تقريبًا. كما تضرّر جدًّا مبنى «بنك دي سالونيك» الذي يقع مقابل الشاطئ. فقد اخترقت قذيفة أحد الحيطان ولو أنّها اخترقت الحائط الثاني لتهدّم البيت كليًّا.
الخوف يخيّم على المدينة. ثمّة خوف من حصول تمرّد في المدينة أو حدوث مناوشات بين المسلمين والنصارى، إذ إنّ الكراهية بين الطرفين شديدة. النصارى يخشون من المسلمين لأنّ هؤلاء غاضبين جدًّا ويرغبون في ضرب كلّ من يضع قبّعة على رأسه. وهكذا جرى مع أخينا السيد بارزل إذ تقدّم نحوه هؤلاء الشبّان الغوغائيين ظانّين أنّه طلياني، وبعد أن وعدهم بالمضيّ معهم حيثما يريدون تركوه وأطلقوا سراحه. وهكذا، فإنّ غالبية الذين كانوا يعتمرون القبّعات يلبسون الآن الطرابيش. في الحيّ الرئيسي الذي يسكنه نصارى كثيرون يخافون جدًّا من المسلمين، ممّا حدا بمدير الجامعة الأميريكية بالسماح للنصارى  بالدخول وبالاختباء في الجامعة حتّى تمرّ هذه الغمامة.
لقد أثرت الأحداث بالطبع على الحركة التجارية فكانت غالبية المخازن مغلقة في اليومين الأخيرين.
***
(3)
أخينا المسكين، السيد شتاينهارد، الذي هاجمه الغوغائيون، توفي صباح اليوم في المستشفى.
من دمشق وصل جنود وفرسان. أمس وطوال الليل مرّ الـ«طرامواي» في كلّ المدينة مليئًا بالعساكر ورجال الشرطة، وهكذا حافظوا على النظام فلم يحدث شيء. كلّ المؤسسات الأجنبية كانت محاطة برجال العسكر لحراستها.
أمس وصلت برقية من وزير الحربية في القسطنطينية بإعلان حالة الحرب في بيروت. لقد فرح السكّان بهذا الأمر الذي يُهدّئ القلوب ويعزّز الحراسة جدًّا، فلن يستطيع الزعران مواصلة أفعالهم الدنيئة في الشوارع. في جميع الأسواق يتواجد الآن أفراد الشرطة بالعشرات، ووحدات من الجندرمة والپوليس تجوب الشوارع إضافة إلى الشرطيين الثابتين في مواقعهم.
لقد بعث الوالي إلى الصحافة المحلية بيانًا رسميًّا بخصوص إعلان حالة الحرب في المدينة. وفقًا لهذا البيان يُحظر حمل السلاح دون إذن من الحكومة، يُحظر الخروج في الليل بعد الساعة الثامنة مساءً، يُحظر حمل بنادق الصيد بدون إذن خاصّ، كلّ من بحوزته سلاح عليه تسليمه للحكومة؛ كلّ من يخالف هذه الأوامر سيلقى أشدّ العقاب.
حتّى هذه اللحظة نحن متأكّدون بعض الشيء من أنّ السفن الطليانية لن تعود ثانية، إذ ساعة قصف الطليان ظهيرة يوم السبت للسفينة التركية، وصلت سفينة خديويّة، وأعلمتها السفينة الطليانية أنّها تاركة المدينة وأنّ بإمكان السفينة الخديويّة أن تدخل دون خطر إلى الشاطئ. بعض الأشخاص الذين كانوا ينظرون إلى البحر بالنواظير يقولون إنّهم شاهدوا سفنًا حربية أخرى كثيرة. لقد رافقت السفينتين الحربيّتين اللتين قصفتا المدينة سفينة أخرى حملت الطعام للجنود. غير أنّ هذه لم تقترب ووقفت بعيدًا من المدينة.
هذا، إذن، مافعله الطليان بمدينتنا. باستثناء الملّاحين الذين كانوا في السفينة وأشخاص آخرين قتلوا بينما كانوا على الشاطئ لم يُقتل سوى مائة وخمسين. من اليهود قتل اثنان فقط وهما اللذين ذكرتهما في رسالتي. وبالطبع على المقدسيّين ألْا يقلقوا على أقربائهم. الطلّاب اليهود الذين يدرسون هنا كانوا واثقين من أنّ مدير الجامعة الأميركية سيتيح لهم المبيت في الجامعة.
***
(4)
أمس كان كلّ شيء هادئًا. غير أنّ حوانيت كثيرة كانت مغلقة، وتلك التي كانت مفتوحة أُغلقت في الساعة الرابعة بعد الظهر. لم تصدر الصحف يوم أمس لأنّ العمّال لم يحضروا للعمل لأنّ غالبيّتهم ذهبوا إلى جبل لبنان.  اليوم بعد الظهر صدر الصحيفة العربية المحلية ”لسان الحال“.
أمس حضر الوالي والقنصل الروسي إلى متجر ”أوروزدي بك“ وحقّقوا في مقتل اليهودي الأدون شتاينهارد الذي كان يحمل جنسية روسية.
يُقال إنّ القنصل الروسي أبرق إلى بطرسبورغ كي ترسل الحكومة الروسية سفنًا حربية بسبب مقتل المواطن الروسي وبسبب الإشاعة التي انتشرت في المدينة بأنّ الأتراك يريدون قتل نائب القنصل الروسي.
الآن، الساعة الثانية بعد الظهر، وصلت سفينة حربية فرنسية واسمها مارسيليير Marseilleuse.  
حتّى يوم أمس قاموا في الأسواق بإعلام الناس بألّا يخافوا من سماع إطلاق الرصاص لأنّ سفنًا حربيّة أجنبية من المتوقّع أن تصل إلى مدينتنا.
الوضع الآن هادئ، غير أنّ القلوب لا زالت مضطربة. غالبية أصحاب الحوانيت يغلقون حوانيتهم مبكّرًا والنساء والصبايا لا يخرجن من بيوتهن من الخوف.  الحراسة في المدينة ممتازة.
إذا حدث شيء جديد، سأسارع إلى إخبار قراء ”هحيروت“.

جريدة ”هحيروت“ 1.3.1912

***


حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني

كذا كان قبل قرن من الزمان - 


الكولونيل كيش في الوسط وشيوخ العرب

سلمان مصالحة ||

حفاوة عربية بالزعيم الصهيوني


بين فينة وأخرى أحبّ العودة إلى الصحف والمجلات العربية القديمة، إذ إنّي كثيرًا ما أعثر فيها على روايات وأخبار تُضيء أمورًا مُظلّلة في هذا الأوان. إنّها بمثابة مصباح فَتّاشٍ من الماضي يكشف لنا ما لم يفلح بصرنا في الوقوف عليه في هذه الأيام.

صفقة للتوقيع مع نتنياهو

مقالة "هآرتس" -


صفقتي مع بيبي  -

هذه هي الصفقة النهائية، التي يجب على أعضاء الكنيست العرب عرضها على بنيامين نتنياهو، أو على كل من يريد الحصول على دعمهم
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!