DUET

سلمان مصالحة ||

DUET

كَصَوْتٍ خَفِيتٍ עָלָה مِنْ بَقَايَا
חֲלוֹם, שָמַעְתִּי كَلامًا يَقُولُ:
أَلا לֵךְ לְךָ إلـَى بَلَدٍ نَمَا
صَخْرُهُ בַּלְּבָבוֹת, تَجِدْ وَلَدًا
سَابِحًا في עָנָן, حَامِلاً
بِـ יָדָיו قَمَرًا للغُرُوب،
شَارِقًا לַזְריחָה.

וְקַח לְךָ رُقْيَةً للطَّريق،
وَرَقًا شَاحبًا שֶנָּשָר مِنْ
ثَنَايَا جِـدارٍ קָדוּם.

וְאַל تُطْلِقِ العُيُونَ אַחַר
כּוֹכַב هَوَى فِي الأُفُق.
כֵּיוָן שֶ لَيْسَ هُناكَ אֹפֶק,
وَلَيْسَ هُناكَ نُجُوم.
وَلا תִּתְפַּעֵל مِنَ السّماءِ الّتِي
اغْرَوْرَقَتْ בְּכָחֹל. إذْ هُنا،
לְכָל מָקוֹם عُيُونٌ تُضِيءُ لَهُ
مَا امَّحَى مِنْ دُرُوب.

וְאִם شِئْتَ يَوْمًا
هُطُولَ מָטָר عَلَى وَجْنَةٍ
للبِلادِ الـ שְחוּנָה، حَرِّكِ الـ
סֶלַע فِي القُلُوب، تَرَ دَمْعَها
قَدْ هَوَى نَاعِمًا בַּדְּרָכִים.
وَحِينَ تُفيقُ مِنَ الحُلمِ
بَعْدَ לֵילוֹת حَزِينَة،
תִּרְאֶה כִּי نَبَتَتْ دَمْعَةٌ
مِنْ حَرِيق.

سُنونُوةٌ تَبْكِي
عَلَى גַּגוֹת المَدِينَة.

***

عن التأنيث في اللّغة والحياة


سلمان مصالحة ||

عن التأنيث في اللّغة والحياة


(نقاش مع رجاء بن سلامة)


لقد شدّتني مقالة الأستاذة رجاء بن سلامة "في تاء التّأنيث وواو العطف" المنشورة هنا في "الأوان"، فوجدتني مضطرًّا إلى بسط هذه الملاحظات راجيًا أن يتّسع صدرها وصدر هذا الموقع لما أنا عارض على القارئ. ولكن، وقبل طرح ملاحظاتي حول الموضوع، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الموضوع الّذي طرحته الأستاذة بن سلامة ذو أهميّة بالغة وهو بحاجة إلى دراسات مستفيضة في النّواحي اللّغويّة، الثّقافيّة، الاجتماعيّة والسّياسيّة، وهي مجالات لا أدّعي علمًا وإحاطةً بها جميعًا. ولهذا فإنّ ملاحظاتي تأتي ممّن هو مهتمّ بهذه القضايا ويحاول طرح بعض التّساؤلات على الملأ ابتغاء إغناء النّقاش فيها.

لقد بدأت الأستاذة بن سلامة مقالتها بعرض حكاية المرأة الّتي تقول: "يا ترى بشكلي ده أقدر أشتغل؟"، وبحسب لهجة لغة الاقتباس، فيبدو أنّها مصريّة، وقد "ولدت في أسرة تنتظر الابن الذي لم يأت"، وأنّها عانت على ما يبدو من سمنة و"اضطرابات في الأكل"، ثمّ تحوّلت وقامت بعد ذلك و"خفّضت من وزنها، وتحكّمت في نهمها الإلزاميّ وقرّرت أن تصبح أخرى". وهكذا "تحوّلت إلى امرأة بعدما كانت "مربّعًا" حسب الدّالّ الذي تكرّر في أحلامها وتداعياتها، وقبلت أنوثتها تدريجيًّا".

إنّ هذه الحالة الموصوفة في بداية المقالة لها علاقة بمفاهيم وتصوّرات مرغوبة في الأنوثة مثلما تنعكس في مجتمعات التّسليع الاستهلاكي في عالم تجاريّ معولَم. هذه المفاهيم تقوم بفرضها وبصورة شرسة كلّ تلك الشّركات الكبرى على مستوى العالم، بما فيه العالم العربي من مشرقه إلى مغربه، وهو العالم الّذي يشكّل في الواقع سوقًا كبرى مُستهلِكَة فقط لكلّ هذه السّلع الماديّة والمفاهيميّة، ولا يُنتج هذا العالم العربي من هذه السّلع الماديّة والمفاهيميّة شيئًا يقدّمه للعالَم من حوله. إنّ ما يزيد الطّين بلهة هو وجود وكلاء ومتعاونين مع هذه الشّركات الكبرى في كلّ مكان، حيث تغزو مفاهيم التّسليع هذه العالَم العربي بأسره عبر هؤلاء الوكلاء القائمين على وسائل الإعلام العصريّة، وعلى وجه الخصوص عبر الفضائيّات التّجهيليّة العربيّة الّتي ملأت الفضاء العربيّ ضحالة وجهلاً من جهة، واستهلاكًا رخيصًا لكلّ هذه المفاهيم. تقوم وسائل التّجهيل هذه ببيع المُشاهد العربي سلعًا ومفاهيم هي أقرب ما تكون إلى الأوهام الغرائزيّة المُفَنْطَزَة وأبعد ما تكون عن مجريات حياته على أرض الواقع في المشرق والمغرب.

أمّا بخصوص ما يتعلّق بتأنيث اللّغة، فهذه قضيّة أخرى مختلفة تمامًا. وهي، وإنْ كانت نابعة بطبيعة الحال من كينونة لغويّة ثقافيّة واجتماعيّة عربيّة، غير أنّها ليست حكرًا على العرب، فهي تأتلف وتختلف في هذا الشأن مع كثير من لغات الشّعوب الأخرى.

لقد أوردت الأستاذة بن سلامة مثال اللّغة الفرنسيّة، وأشارت بإشادة إلى ما أصدره المعهد القومي للّغة الفرنسيّة وهيئات أخرى من دليل للمساعدة على تأنيث المناصب والوظائف والرّتب عندما تشغلها النّساء. وما من شكّ في أنّ هذه الإشادة لها ما يبرّرها، غير أنّ محاولة سحب هذه الحالة إلى المجتمعات العربيّة فهي محاولة للقفز الشّكلاني على واقع عربيّ لا يمكن بأيّ حال مقارنته بواقع وضع المرأة في المجتمع الفرنسي أو الأوروپي والغربي على العموم.

بداية أقول إنّي أؤمن إيمانًا عميقًا بالمساواة التّامّة بين الرجل والمرأة في جميع مناحي الحياة، كما إنّي أؤمن بأنّ هذه المساواة هي حقّ طبيعي ومطلق لا جدال فيه، ويجب أن يكون من البديهيّات الّتي لا يمكن أن تكون مثار نقاش. ولكن، ثمّة بون شاسع بين هذا الإيمان المطلق بالمساواة وبين الدّعوة إلى أمور شكليّة تتعلّق باللّغة. وفي هذا السّياق أودّ الإشارة هنا إلى قضيّة ذات مدلولات حضاريّة، وهي أنّه يكفي ما أصاب اللّغة العربيّة من خراب على يد أصحابها، فلا أجد رغبة في إضافة خرائب أخرى على خراباتها. من هنا، فإنّ تأنيث "عضو" على سبيل المثال بالقول "عضوة" هو تأنيث مرفوض، وإن كان منبع الدّعوة إلى تأنيثه وما يرمي إليه من مطالب نسويّة مفهومًا بالطّبع في السّياق العربي. غير أنّي أرى أنّ عملاً من هذا القبيل يُشكّل هدمًا آخر للّغة ينضاف على خرائب هذه اللّغة في هذا العصر. إنّ دعوات من هذا النّوع تأتي مع تسارُع عولمي أحدثته التكنولوجيا المعاصرة، وقد تؤدّي في نهاية المطاف إلى عولمة اللّغة، وإبطال الفروق بين لغات الشّعوب وهو ما يؤدّي إلى نتائج حضاريّة وخيمة تتمثّل في إفقار الشّعوب لغويًّا ومن ثمّ حضاريًّا. ولا أعتقد أنّنا نرغب في إفقار اللّغة العربيّة، بل على العكس من ذلك، نريد أن يتعرّف العربي على مكامن لغته بغية إغنائه بها وإغنائها به من خلال دفعه إلى الإبداع والتّجديد بهذه اللّغة وإضافة مداميك جديدة من لدنه كما أضاف إليها القدماء من لدنهم.

من هنا أيضًا، فإنّ مصطلح الـ"عضو"، المُستعار من الجسد لدلالات جديدة، سيبقى مذكّرًا حتّى لو استعير إلى رتبة أو منصب تشغله امرأة. كما أنّه لا ضير من تأنيث النّائب بالنّائبة، وإن كانت هذه المفردة تشير في الماضي، وكذلك في الكتابات الأدبيّة المعاصرة، إلى المصيبة، فلا أعتقد أنّ هناك من لا يفهم سياق هذه المفردات في اللّغة، بل إنّ هذه المفردة تشكّل إغناءً جديدًا للّغة. ولو سقت مثالاً للتّوضيح فإنّ مفردة "بيت" في هذا الأوان ليست هي ذات الـ"بيت" في الجاهليّة، وهناك "بيوت" كثيرة ومتعدّدة تحملها هذه المفردة على مرّ التاريخ الحضاري العربي. وغنيّ عن القول أيضًا، إنّ مفردة النّائب أصلاً، بمعنى المُنتدب المُنتخب المُذكّر، هي أيضًا دلالة جديدة ومستحدثة، إذ لم يكن ثمّة نوّاب بهذه الدّلالة لا في الجاهلية ولا في الإسلام ولا في عصور الخلافة اللاحقة.

لهذا، بودّي هنا أن أطمئن الأستاذة رجاء بن سلامة، فإنّ الرّجل العربيّ لا يستطيع حراكًا بدون التأنيث. فهو لا يسمع بدون أذنه المؤنّثة، ولا يستطيع أن يرى بدون عينه المؤنّثة، ولا يستطيع أن يعمل ويكتب بدون يده المؤنّثة، ولا يستطيع أن يمشي بدون رجله المؤنّثة، فالتأنيث يحيط به من كلّ جانب لا يستطيع بدونه حراكًا. كما أنّ الرّجل العربيّ الّذي تلتبس عليه أصلاً كلّ مفاهيم الأنوثة والذّكورة يتناسى أنّ الثّدي والصّدر والفرج هي من مذكّرات العربيّة ودلالتها للمرأة مثلما هي للرّجل في اللّغة العربيّة، فما عليه سوى التفكُّر، إذن، في هذه الجوانب اللّغويّة واستخلاص العبر منها.

ولهذا السّبب، لا بدّ من القول هنا إنّني لا أرى طائلاً ولا فائدة ترجى من دعوى التأنيث اللّغوي في هذه المرحلة، إذ لا بدّ أن تسبق هذه المرحلة مرحلة أخرى ضروريّة هي أحوج ما تكون إليها المجتمعات العربيّة. والمرحلة الأهمّ التي يجب أن تسبق كلّ هذا هي مرحلة تأنيث الحياة العربيّة ومرحلة الحدّ من ذَكْرَنَتها المزمنة في المناحي السياسية والاجتماعية والثقافية إلى آخره. وفيما يخصّ المجتمعات العربيّة فإنّي أرى أنّ السّبيل إلى دفعها لركوب قطار التقدُّم هو برفع شعار "المرأة هي الحلّ" وليس أيّ شعار آخر، وذلك في جميع مناحي الحياة العربيّة.

ومن هذا المنطلق أيضًا، فإنّي أدعو إلى تأنيث العرب ثقافيًّا، اجتماعيًّا وسياسيًّا. إنّ التأنيث الّذي أدعو إليه يعني في الحقيقة توزير المرأة، وهو يعني ترئيس المرأة للأحزاب السياسية العربية، وترئيس المرأة للحكومات العربيّة، وترئيس المرأة للدولة العربية، وصولاً إلى تمليك وتأمير المرأة في الممالك والإمارات العربيّة. وفوق كلّ ذلك، وربّما كان هذا هو الأهمّ من كلّ ما سلف، أدعو إلى تأنيث المفاهيم الدينيّة العربيّة. فمن قال أصلاً إنّ اللّه ذكرٌ وليس أنثى؟ إنّه مذكّر من الناحية اللّغويّة فقط، أمّا من ناحية الكينونة المفاهيميّة فهذا شيء آخر مختلف تمامًا. هذا هو التّحدّي الّذي تواجهه المجتمعات العربيّة، وما لم يطرأ تحوُّل في كلّ هذه المناحي فلن تقوم لهذه المجتمعات قائمة.
أليس كذلك؟
***

المقالة نُشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب




هل تعلّم الرّسول اللّغة العبريّة؟



لعلّ في العودة إلى الرّوايات التي دوّنها وحفظها لنا السّلف ما قد يُضيء بعض هذه الجوانب وقد يجلو بعض أوجه الغرابة عن هذا السؤال.

حول تعليق الأستاذ الأتاسي في "الأوان"

سلمان مصالحة

حول تعليق الأستاذ الأتاسي
في "الأوان"


لقد كتب الأستاذ أحمد نظير الأتاسي، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة لويزيانا الأميركية، تعليقًا على مقالتي المعنونة "إيلوهيم في الإسلام"، والمنشورة في منبر "الأوان". ولأسباب تقنية تتعلّق بمساحة الردّ أو أسباب تقنيّة أخرى، لم أستطع وضع ردّي على تعقيبه في موقع "الأوان" ذاته، فرأيت أن أنشر ردّي هنا، وأحيله إليه بملاحظة.

***
تعليق الأستاذ الأتاسي، كما ورد في "الأوان":

"أشارك الأستاذ قريط الرأي بأن التحليلات اللغوية مجرد إحتمالات (وأين نجد الحقائق أصلاً). رأي الأستاذ مصالحة بأن اللهم هي إلوهيم العبرية رأي معروف وشائع بين المستشرقين. وهؤلاء يرون كل أصل في العبرية. لكن ما أثار استغرابي هو اعتماده على الموروث اللغوي والأخباري العربي وهو موروث أسطوري ظهر في أواخر القرن الثاني وخلال الثالث، ويدل أن هؤلاء اللغويين والنحويين لم تكن لهم أية معرفة بحجاز محمد ولا حتى بالجزيرة العربية في زمن محمد. هل العربية لهجة قريش أم لغة تعامل رسمي مركبة من لهجات؟ هل العربية أقدم من نقش النمارة أم أحدث؟ لا نعرف. هل فرض الفاتحون العربية أم أنها كانت موجودة قبلهم؟ يجوز الوجهان وأي خليط منهما. أما هذه الصورة عن العرب المعزولين عن العالم في جزيرتهم ويتكلمون العربية منذ زمن إسماعيل، ويمر بهم رهبان وتجار ليعلموهم العبرية أو اليهودية أو المسيحية، أو يسافر بعضهم مثل أمية ليعودوا بدين جديد أو بآلهة جديدة مثل عمرو بن لحي، فهي صورة مضحكة كونها المسلمون في بغداد في مراحل متأخرة. قد تكون اللهم من أصل واحد مشترك أخذت عنه العربية والعبرية. حتى نقش النمارة أهو "عربي فصيح" حقيقةً أم آرامي أم خليط؟".

***

وعلى ذلك أقول:

الأستاذ الأتاسي، تحية.

(1)
تستطيع أن توافق مع من تشاء، بشرط أن يكون رأيك، أو رأيه، مؤسّسًا على ما يستند إليه. فلا يكفي القول: من يعرف؟ وقد يكون كذا، وقد يكون شيئًا آخر وما إلى ذلك ... التساؤلات مهمّة لكنّها لا تكفي، إذ يجدر العمل على محاولة الإجابة عليها. أنا، من جهتي، أحاول إعطاء تفسيراتي في المسائل التي أتطرّق إليها، مستندًا إلى استقراء موروثي، موروثنا، الثقافي، وداعمًا ذلك بمعارفي الأخرى. فإذا كان لديك تفسير آخر ينقض تفسيري لها، فهيّا أرشدنا، وقدّمه لنا!

الحقيقة، وأنت بلا شكّ تعرف ذلك، هي أنّ كلّ ما لدينا من موروث عن الحضارة العربيّة القديمة هو تدوين متأخّر. ولهذا السّبب فأنا أنظر إلى التاريخ العربي والإسلامي بوصفه إبداعات أدبيّة من عمل البشر، مع كلّ ما تشي به أعمال البشر الأدبيّة من خبايا، وأنا أتعامل معه على هذا النحو فقط. وعلى هذا النحو أيضًا أتعامل مع نصوص التوراة والإنجيل وكلّ النصوص التي تُعتبر مقدّسة لدى المؤمنين، فكلّها نصوص وإبداعات أدبيّة من عمل البشر يجب النّظر إليها بهذا المنظار.

ثمّ ها أنت، نفسك، تُصرّح في مدوّنتك الخاصّة عن هذه الموروثات العربية: "ولا يمكن أن نرميها كلها لأن ثمانين بالمائة منها خاطئ فالعشر الباقي يمكن أن يكون صحيحاً إلى حد ما". وعلى فكرة يا أستاذ: حساب ثمانين زائد عشرة يساوي تسعين، فأين ذهبت "عشرة" أخرى لاكتمال المائة بالمائة؟ (هذه مجرّد دعابة معترضة فقط). وها أنت أيضًا تواصل التساؤل في مدوّنتك: "فلنتصور عالمًا فيه الإسلام وليس فيه سيرة ابن اسحاق. يا لطيف! فمن أين نأتي بالنظريات التي تشرح ظهور الإسلام وما نحن فيه الآن؟"، وتساؤلك هذا هو تساؤل وجيه، بالطبع. فما عليك إلاّ محاولة الإجابة عليه.

(2)
ثمّ تشير أيضًا في تعليقك إلى استغرابك: "لكن ما أثار استغرابي هو اعتماده على الموروث اللغوي والأخباري العربي وهو موروث أسطوري ظهر في أواخر القرن الثاني وخلال الثالث...". غير أنّك، يا أستاذ، تناقض نفسك بنفسك. إذ أحيلك مرّة أخرى إلى النّظر في ما تكتبه أنت نفسك في مدوّنتك، في معرض الردّ على تساؤلات نادر قريط: "ليس التراث الإسلامي وخاصة روايات البدايات بأقل موضوعية أو اكثر تحزباً ونزوعاً إلى الإفراط والخيال من أي تاريخ قديم آخر، كلهم سواء". إذن يا أستاذ الأتاسي، قرّر ماذا تريد بشأن هذه الروايات. هل هي خرافات وأساطير لا يعتمد عليها، أم إنّّها ليست بأقلّ موضوعية من أي تاريخ آخر، كما تقول في مدونتك؟

وحتّى إذا رغبت في شطب كلّ هذه الروايات، وقررت أن تأخذ بنص القرآن فقط لا غير، فعن أن أيّ نصّ تتحدّث؟ فهنالك قراءات مختلفة. ولماذا تأخذ بقراءة دون غيرها؟ أوليس تغليب قراءة على أخرى هو أيضًا خلق جديد للقرآن من عمل البشر؟ ثمّ، هل هنالك عربيّ واحد على وجه الأرض يستطيع فهم هذا النصّ القرآني دون العودة إلى أسباب النزول وتفسيرات القدماء واللغويين؟ وكيف ستفهم، على سبيل المثال لا الحصر، دلالة المصطلح "الصّراط" في سورة الفاتحة، دون العودة إلى علماء اللّغة، والمفسّرين، واللغات الأخرى من غير العربية؟ ثمّ، لماذا لا تسأل نفسك: من أين جاء كلّ هذا الجدل القرآني مع بني إسرائيل، أهل الكتاب اليهود والنصارى؟ ولماذا سورة آل عمران، وسورة يوسف، وسورة بني إسرائيل، ولماذا موسى وعيسى ومريم، ولماذا التطرّق إلى خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية؟ ولماذا أسماء ملوك بني إسرائيل، داود، وسليمان، إلخ؟ أليست كلّ هذه الأمور من العبرية ومن التوراة؟ فإذا شطبت وألغيت كلّ هذه الأمور، فلن يبقى من القرآن والإسلام شيء، يا أستاذ الأتاسي.

(3)
وفيما يخصّ الأمور اللغويّة، فقط أذكّرك بأنّ العبريّة هي لغة التّوراة، والتوراة هي النصّ الأقدم على ما أظنّ. كما إنّ الآرامية هي لغة التلمود الأورشليمي، والآرامية والعبريّة هما لغة التلمود البابلي. والتوراة والتلمود هما في صلب اليهودية.
أمّا بخصوص اللغة العربية فأقول فقط، إنّنا نكتب اليوم بهذه اللغة العربيّة بفضل كلّ هؤلاء اللّغويين العلماء القدماء الذين أكنّ أنا لهم كلّ الاحترام لما بذلوا من جهود جبّارة لحفظ هذا الموروث اللّغوي لنا نحن. فلولا هؤلاء القدماء لما كان بوسعي أن أكتب بلغتي هذه التي أحترمها، بخلاف الكثيرين من حولي في عالم العرب.

وأخيرًا،
أنت أستاذ التاريخ الإسلامي، فما هي مراجعك المعتمدة التي تطلب من طلاّبك العودة إليها؟ وإذا كنت لا تكنّ الاحترام إلى هذه المراجع وهذا الموروث الثقافي العربي (ولا أعتقد أنّك كذلك)، فربّما من الأفضل أن تبحث لك عن مهنة أخرى.

أليس كذلك؟


"إيلوهيم" في الإسلام

سلمان مصالحة

"إيلوهيم" في الإسلام


قبل أن نمضي قدمًا في هذا المبحث دعونا نقرأ أوّلاً الرواية التالية: "أخبرنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس المدني قال: حدّثني أبي... عن عُقبة بن بشير أنّه سأل محمد بن عليّ: مَنْ أوّل من تكّلم بالعربيّة؟ قال: إسماعيل بن إبرهيم، صلّى اللّه عليهما، وهو ابن ثلاث عشرة سنة. قال، قلتُ: فما كانَ كلامُ النّاس قبل ذلك يا أبا جعفر؟ قال: العبرانيّة. قال، قلت: فما كانَ كلامُ اللّه الّذي أنْزلَ على رُسُله وعباده في ذلك الزّمان؟ قال: العبرانيّة." (الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، 50؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 5، 517؛ الرد على الجهمية للدارمي: ج 1، 181).

إذن، بحسب هذه الرواية، فقد كان كلام الله الأوّل الّذي أنزل على الرسل باللّسان العبراني. ليس هذا فحسب، بل وبحسب ما تذكره الرّوايات الإسلاميّة أيضًا، فعلى ما يبدو، فقد كانت الكتابة العبريّة هي الأكثر شيوعًا في جزيرة العرب قبل الإسلام. فها هو ورقة بن نوفل كما دوّن لنا السّلف: "كان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب." (صحيح البخاري: ج 1، 5؛ أنظر أيضًا: البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 3؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: ج 1، 15؛ أحكام القرآن لابن عربي: ج 8، 86؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 8، 561). بل ويمكننا المضيّ قدمًا في القول أكثر من ذلك، حيث ذُكر أنّ التّفسير والترجمة أيضًا من العبرانية إلى العربية قد شاعا جدًّا في جزيرة العرب في بداية ظهور الإسلام، كما روي عن أبي هريرة، حيث قال: "كان أهلُ الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسّرونها بالعربية لأهل الإسلام." (صحيح البخاري: ج 24، 425؛ أنظر أيضًا: سنن البيهقي: ج 2، 279؛ تفسير ابن كثير: ج1، 256؛ تفسير الثعالبي: ج 3، 193؛ تفسير القرطبي: ج 13، 351؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 7792؛ جامع الأحاديث للسيوطي: ج 16، 194؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 231).

غنيّ عن القول إنّ علاقة الإسلام بأهل الكتاب وباليهوديّة في جزيرة العرب هي علاقة وثيقة جدًّا، كما تشهد عليها أيضًا كثرة السّور والآيات القرآنية، بالإضافة إلى الأحاديث النبويّة التي تتطرّق إلى بني إسرائيل وأهل الكتاب بعامّة. لقد ذكر الرّواة أيضًا أنّ الرّسول ذاته قد حاول منذ بداية الدّعوة جاهدًا السّير على خطى اليهود واليهوديّة، ليس فيما يتعلّق بالإيمان التّوحيدي فحسب، بل في الطّقوس والفرائض. فمن ذلك على سبيل المثال، ما يتعلّق بصوم عاشوراء وهو يوم الكفّارة، أي الغفران، فقد أخرج البخاري في الصّحيح عن ابن عبّاس، قال: "قدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصومُ يوم عاشوراء، فقال ما هذا، قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يوم نجّى اللّه بني إسرائيل من عدوّهم، فصامَه موسى، فقال: أنا أحَقُّ بموسى منكم، فصامَه وأمرَ بصيامه". (صحيح البخاري: ج 2، 704؛ أنظر أيضًا: مسند الصحابة: ج 27، 325؛ فتح الباري لابن حجر: ج 4، 247؛ عمدة القاري للعيني: ج 17، 144؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 8، 575؛ اللؤلؤ والمرجان لعبد الباقي: ج 1، 331).

وفي هذه المقالة
أريد التوقّف عند أحد المصطلحات المركزيّة في الثّقافة الإسلاميّة. إنّه مصطلح ذو أهميّة بالغة، فقد ورد في القرآن وفي الأحاديث النّبويّة، كما إنّه شائع على ألسن المؤمنين وكثيرًا ما يُستعمل في التلبيات والأدعية والصّلوات الإسلاميّة على مرّ العصور، وأعني به مصطلح "اللّهُمّ".

في الظّاهر نرى أنّ المصطلح مركّب من الاسم "الله" وقد أضيفت إليه ميم مشدّدة في آخره، وهذه هي صيغة فريدة من نوعها واقتصرت في العربيّة على اسم الجلالة لا غير. لهذا السّبب فقد شغلت هذه الصيغة الفريدة والخاصّة بهذا الاسم بال المفسّرين واللّغويين منذ القدم. فقد أشار الطبري إلى هذه المسألة بالقول: "واختلف أهل العربية في نصب ميم (اللّهُمَّ)... وفي دخول الميم فيه، وهو في الأصل (الله) بغير ميم." (تفسير الطبري: ج 6، 295). ولو تتبّعنا أثر ما قاله الأقدمون في هذه المسألة، فإنّنا نرى أنّ ثمّة اختلافًا بيّنًا بينهم، فهنالك من قال إنّ الميم التي في آخر "اللّهمّ" هي بمنزلة "ياء" النّداء، وقد جاءت عوضًا عن هذه الياء التي طُرحت منه. وهنالك من قال إنّ معنى اللهمّ هو "يا أللّه أُمّنَا بخير"، أي أنّهم فسّروا ذلك بالقول، إنّ ميم اللّهمّ أصلها من "أُمَّ"، وبعدما أسقطت الهمزة انتقلت ضمّتها إلى الهاء في اللّه. لقد لخّص ابن منظور الكلام حول الخلاف في هذه القضيّة: "قال الفرّاء: معنى اللّهُمَّ: يا أللّه أُمَّ بخيرٍ. وقال الزّجّاج: هذا إقدام عظيم، لأنّ كلّ ما كان من هذا الهمز الّذي طُرح فأكثر الكلام الإتيان به، يُقال ويلُ أُمّه وويل امّه، والأكثر إثبات الهمز... وقال الزّجّاج: وزعم الفرّاء أنّ الضّمّةَ، الّتي هي في الهاء، ضمّةُ الهمزة الّتي كانت في أُمّ. وهذا مُحالٌ أنْ يُترَك الضّمُّ الّذي هو دليل على نداء المُفرد، وأنْ يُجعلَ في اسم اللّه ضمّةُ أُمَّ، هذا إلحاد في اسم اللّه... قال أبو إسحق، وقال الخليل وسيبويه وجميع النّحويين الموثوق بعلمهم: اللّهمّ، بمعنى يا أللّه. وإنّ الميم المُشدّدة عوضٌ من يا." (لسان العرب: ج 13، 470؛ بغية التوسّع في هذا الخلاف الدّائر حول هذا المصطلح يمكن العودة إلى: تفسير الطبري: ج 6، 295-298؛ تفسير القرطبي: ج 4، 53-54؛ تفسير الرازي: ج 4، 159-160؛ تفسير النيسابوري: ج 2، 234).

وهكذا، فنحن نقرأ ونسمع
في هذه الروايات أصداء هذا الخلاف الّذي أثاره مصطلح "اللّهم" منذ القدم. غير أنّ حقيقة المصطلح هي شيء آخر مختلف تمامًا، على ما يبدو. ومن أجل الوقوف على هذه الحقيقة، حريّ بنا أن نقتفي أوّلاً أثر انتقال هذا المصطلح إلى العربيّة. إذ أنّ هذا الاقتفاء المُتّئِد سيضع في أيدينا مفتاحًا نستطيع بواسطته فتح مغاليق هذه المسألة. وذلك، لكي يضع قولنا النّقاط على الحروف المبهمات، ويكون في نهاية المطاف قولاً فصلاً في الخلاف الذي دار منذ القدم.

من الملاحظ أنّ الرّوايات العربيّة التي تتطرّق إلى المصطلح "اللهمّ" تحيلنا إلى كونه ذا علاقة وثيقة بالشّاعر أميّة بن أبي الصّلت بالذّات، حيث رُوي: "ويُقال إنّ أميّة قدَّمَ على أهل مكّة (باسْمِكَ اللّهُمَّ) فجعلوها في أوّل كُتبهم مكانَ (باسم اللّه الرّحمن الرّحيم)." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 130؛ أنظر أيضًا: مروج الذهب للمسعودي: ج 1، 25؛ صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480). وهكذا شاع استعمال هذه الصيغة لدى قريش في الحجاز في افتتاح الرسائل، حتّى إنّ الرسول ذاته قد افتتح رسائله بها: "وبلغنا أن رسول الله - صلعم - كتب في بدء الأمر على رسم قريش: (باسمك اللهم) حتى نزلت: {وقال اركبوا فيها باسم الله} فكتب: (بسم الله)، حتى نزلت: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان}، فكتب: (بسم الله الرحمن)، حتى نزلت: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}، فكتب مثلها." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 16؛ أنظر أيضًا: صبح الأعشى للقلقشندي: ج 1، 480؛ المفصل لجواد علي: ج 1، 4889). فإذا كان أميّة بن أبي الصّلت هو الّذي أدخل هذا المصطلح إلى مكّة، على ما تفيد الرّوايات العربيّة، فمن أين استقى أميّة هذا المصطلح، وما هي مصادر ثقافته؟

وللإجابة على ذلك، نعود مرّة أخرى إلى الرّوايات العربيّة للاستعانة بها. لقد أورد الأصفهاني حكاية الإتيان بهذا المصطلح من الشّام. فقد رُوي أنّ أميّة كان قد أخذه عن دَيّار في كنيسة في طريق عودة وفد ثقيف من الشّام في حكاية المرأة اليهوديّة المتمثّلة بعظاية التي نفّرت الإبل، حيث تضيف الرواية أنّ أميّة نزل على ديّار في كنيسة واستعان به، فأشار عليه الدّيّار أن يقول: "سبع من فوق وسبع من أسفل باسمك اللهم فلن تضركم."، وهكذا كان. وبعد عودتهم إلى مكّة "ذكروا لهم هذا الحديث فكان ذلك أول ما كتب أهل مكة باسمك اللهم في كتبهم." (الأغاني للأصفهاني، ج 4، 133-134). وبغض النّظر عن هذه الخرافة الشعبيّة، إلاّ أنّ الملاحظ فيها هي ارتباط شخوصها بأميّة بن أبي الصّلت، بامرأة يهوديّة متمثّلة خرافيًّا بعظاية، وبراهب أو كاهن في كنيسة. غير أنّ الزمخشري يضيف بشأن خلفيّة أميّة الثّقافيّة، حيث يذكر: "كان داهية من دواهي ثقيف... ولذلك درسَ الكتبَ، وكان طَلاّبةً للعلم عَلاّمةً، معروفًا بالجولان في البلاد، راويةً." (ربيع الأبرار للزمخشري: ج 1، 126)، وبراوية أخرى: "وكان أمية بن أبي الصلت قد قرأ الكتبَ واتّبعَ أهلَ الكتاب." (البدء والتاريخ لابن المطهر: ج 1، 103). ليس هذا فحسب، بل إنّ أميّة هذا قد بلغ من علم أهل الكتاب مبلغًا كبيرًا: "وكان بعض العلماء يقول: لولا النبي - صلعم - لادّعت ثقيف أن أمية نبي، لأنه قد دارسَ النصارى وقرأ معهم، ودارسَ اليهودَ، وكلَّ الكتب قَرأ." (الاشتقاق لابن دريد: ج 1، 97؛ أنظر أيضًا: البدء والتاريخ لابن المظهر: ج 1، 103). بل وأكثر من ذلك، فهنالك روايات تذهب أبعد من ذلك حول الخلفيّة الدينيّة الّتي نشأ فيها أميّة بن أبي الصّلت، حيث تذكر هذه الروايات إنّه كان ينتمي إلى طائفة من اليهود الّذين تنصّروا: "وزعم الكلاباذي أنّه كان يهوديًّا." (فتح الباري لابن حجر: ج 11، 158؛ أنظر أيضًا: فيض القدير للمناوي: ج 1، 57).

وعلى ما يبدو، فقد كان هذا هو السّبب من وراء عدم احتجاج العلماء بشعر أميّة، كما روى الأصفهاني: "عن عبدالله بن مسلم، قال: كان أميّة بن أبي الصّلت قد قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل، فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفُها العربُ...، وقال ابن قتيبة: وعلماؤنا لا يحتجّون بشيء من شعره لهذه العلّة." (الأغاني للأصفهاني: ج 4، 128-129). فما معنى القول، إنّ أمية كان يأتي في شعره بأشياء لا تفهمها العرب؟ والجواب على ذلك واضح، ويمكن اختصاره في أنّه كان يأتي بمفردات ومصطلحات من أصول غير عربيّة، وعلى وجه الخصوص من الأصول التي كان قرأها في "كتاب اللّه عزّ وجلّ الأوّل"، أي من كتاب أهل الكتاب، وهو التّوراة المكتوبة باللّغة العبريّة. كما إنّ مقولة "عدم احتجاج العلماء بشعره" مردّها إلى هذا السّبب. ولهذا السّبب بالذّات فقد احتار القدماء واختلفوا بشأن مصطلح "اللهم" الّذي أدخله أمية بن أبي الصّلت إلى مكّة، فطفق أهل اللّغة يبحثون عن تعليل لهذه الصّيغة الشّائعة والفريدة.

والحقيقة هي أنّهم لو كانوا يعرفون
اللّغة العبريّة، لهان الأمر عليهم كثيرًا. ولكي لا أبقي مجالاً للشكّ في ما أرمي إليه من أنّ هذه المفردة هي مفردة عبريّة، دعونا نذهب ونقرأ ما ذكره سيبويه بشأن "اللّهمّ"، فقد أشار إليها سيبويه في كتابه: "وقال الخليل رحمه اللّه: اللّهمّ نداء والميمُ ها هنا بدلٌ من يا، فهي ها هنا فيما زعم الخليل رحمه اللّه آخر الكلمة بمنزلة يا في أوّلها. إلاّ أنّ الميم ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها." (الكتاب لسيبويه: ج2، 196-197). لقد ذكر الفرّاء أيضًا أنّ الميم في آخر الاسم قد تأتي مخفّفة بغير شدّة: "وقد كثرت اللهم فى الكلام حتى خُفّفت ميمها فى بعض اللغات." (معاني القرآن للفراء: ج 1، 184)، كما أشار ابن منظور إلى أنّ الأصل في ميم "اللهم" هو التسكين لا التّحريك: "والميمُ مفتوحةٌ لسُكُونها وسُكُون الميم قبلها." (لسان العرب: ج 13، 470).

إذن، المفتاح الّذي نفتح به مغاليق هذا المصطلح هو في هذه الإشارات إلى الميم المضافة في آخر "اللهم"، بدءًا بما ذكره سيبويه بشأنها، حيث قال: "إلاّ أنّ الميم، ها هنا في الكلمة، كما أنّ نون المسلمين في الكلمة، بُنيت عليها". فما هي نون المسلمين هذه؟ هذه النّون، كما يعلم الجميع، هي نون جمع التّسليم في العربيّة، وهي نون مبنيّة. إذن، فالميم في مصطلح "اللهم" هي ميم مبنيّة شبيهة بنون المسلمين، أي هذه النّون الّتي تفيد الجمع في العربيّة. ومثلما أنّ نون المسلمين تفيد جمع المسلم في العربية، كذا هي الحال مع هذه الميم بالذّات في "اللهم"، فهي أيضًا ما يفيد الجمع، لكن في اللّغة العبريّة بالذّات. فعلى سبيل المثال، كلمة يهودي تُجمع في العبريّة: يهوديم، وكلمة عربي تُجمع: عربيم، وسعودي تُجمع: سعوديم، وعراقي تجمع: عراقيم، وكذا هي الحال أيضًا في جمع إله في العبريّة، حيث تُجمع وتُكتب: "إلهيم" (بالحرف العبري = אלהים) وتلفظ إيلوهيم، أيضًا بتخفيف وتسكين الميم في هذا الاسم في الأصل العبراني.

من هنا نصل إلى الاستنتاج الّذي لا مفرّ منه وهو أنّه وبعد أن أدخل أميّة بن أبي الصّلت، اليهودي الأصل الّذي "قرأ كتاب الله عزّ وجلّ الأوّل" بحسب الرواية الإسلاميّة، ومن كثرة استعمال كلمة "إلهيم" العبريّة في جزيرة العرب، فقد بقي هذا الاسم العبراني على ما هو عليه، عبرانيًّا في نطقه، أي "إلهيم" بصيغة الجمع العبريّة. ثمّ تحوّل مع مرور الزّمن حتّى رسا الاسم على هذه الصّورة "اللّهم" في العربيّة، وبقيت معه ميم الجمع العبريّة شاهدةً بالتّسكين والتّخفيف، لغةً ونطقًا، على أصله العبراني.

وخلاصة القول هي أنّ تعبير "اللهم" في العربيّة هو ذاته "إلهيم" في العبريّة، بتصحيف وتحريف خفيف. لكن، ونظرًا لغرابة هذه الصيغة الفريدة المقتصرة على اسم الجلالة، فقد اختلف أهل التّفسير واللّغة فيه. وهكذا يمكننا القول، مرّة أخرى، إنّهم لو كانوا على علم باللغة العبريّة لكان أمر المصطلح "اللهم" [= إلهيم] جليًّا واضحًا، ولما كان التبس عليهم إلى هذا الحدّ.

والعقل ولي التوفيق
***

المقالة نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب

***
أنظر أيضًا:

المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام
المقالة الثانية: كيف انتقل :يهوه" إلى الإسلام؟
المقالة الثالثة: "إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي

يوسانو طيكان / في هذا البلد

يوسانو طيكان

في هذا البلد

الرّجالُ الكبارُ السنّ
أذكياء جدًّا
في هذا البلَد.

دائمًا،
الشبّان هم الّذين
يضحّون بأنفسهم.


ترجمة: سلمان مصالحة

يوسانو طيكان (Yosano Tekkan)، هو الاسم الأدبي ليوسانو هيروشي
شاعر ياپاني من مواليد كيوطو (1873-1935).

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سلمان مصالحة

"إهيه أشر إهيه" في التراث الإسلامي


سنقتفي في هذا البحث
أثر المصطلح التّوراتي الآخر الّذي ذكره "يهوه" لموسى في سفر الخروج اسمًا له، وسنرى كيف ظهر هذا المصطلح لفظًا ومعنًى في التّراث الإسلامي. وهذا المصطلح الّذي نعنيه هو المصطلح المركّب "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ" (= أكون الّذي أكون)، وهو مشتقّ أيضًا من ذات الجذر العبري الّذي يدلّ على معنى الكون، كما ويُعتبر مرادفًا للاسم الأعظم للّه في العقيدة اليهوديّة.
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!