كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


سلمان مصالحة

كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟


صيغة "يهوه" التّوراتيّة:
لقد رأينا، استنادًا إلى ما ورد في التّوراة، أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الدّيني اليهودي على أنّ المصطلحات العبريّة "إهْيِهْ"، و"إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، ثمّ الصّيغة الأكثر شيوعًا ألا وهي صيغة "يهوه"، هي الاسم الصّريح، الاسم الأعظم والأقدس للّه، ولذلك فهو لا يُلْفظ كما هو بل يُلفظ "أدوناي"، وذلك حذر الانتقاص من هذا الاسم الأعظم. وعلى ما يبدو، يستند هذا الحظر على التّلفُّظ بالاسم الصّريح "يهوه" إلى ما ورد في الكلمة الثالثة، من بين الكلمات (= الوصايا) العشر، الّتي ذكرها اللّه في التّوراة: "لا تَنْطِقِ اسْمَ يهوه إلهكَ سَوْءًا: فَلَنْ يُبَرِّئَ يهوه الَّذِي يَنْطِقُ اسْمَهُ سَوْءًا." (خروج، فصل 20: 6).

لقد لعب يهوه دورًا كبيرًا على مرّ التاريخ اليهودي، واستنادًا إلى ما ورد في التّوراة هنالك من يذهب بعيدًا في التّفسير الأسطوري فيقول إنّ الاسم "يهوه" كان منقوشًا على سيف الملك داود لدى لقائه مع جوليات: "فَقَالَ دَاوُدُ للفلِسْطِيّ: أنْتَ تَأْتِي إلَيَّ بِسَيْفٍ وَبِقَنَاةٍ وَبِرُمْحٍ، وَأَنَا آتِي إلَيْكَ بِاسْمِ يهوه صباؤوت [= الأجْناد]، إلهِ مَعَاركِ إسْرائيلَ الّذِي جَدَّفْتَهُ." (صموئيل الأول، فصل 17: 45)، أو أنّ الاسم كان منحوتًا حتّى على عصا موسى، بحسب الأسطورة.

من الجدير بالذّكر أنّ اللغة العبرية، على غرار العربيّة، تشتمل على حركات تُثبت على الحروف، وهي حركات قد تغيّر من لفظ الكلمات ودلالاتها. ولهذا السّبب لا يوجد إجماع على حركات تشكيل الاسم "يهوه" في الموروث اليهودي. هنالك من قال إنّ الاسم يُلفَظ "يِهْوِهْ"، وهنالك من قال بأنّ الاسم يُلفَظ "يِهُوَهْ"، غير أنّ الأبحاث المعاصرة تقول إنّ اللّفظ الدّقيق للاسم في الماضي كان "يَهْوِهْ"، وذلك استنادًا إلى ورود الاسم المُقدّس بصورة مختصرة "يَهْ"، والّذي يُعتَقَد بأنّه اختصارٌ للاسم الصّريح للّه. فقد ورد في المزامير على سبيل المثال: "مُبَارَكٌ يهوه إلهُ إسْرائيلَ، مُنْذُ الأَزَلِ وَإلَى الأَبَدِ -- فَقَالَ كُلُّ الشَّعْبِ: أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ." (مزامير 106: 48). يُشار هنا إلى أنّ عبارة "أَمِنْ، هَلِّلُوا يَهْ" هذه، هي أصل عبراني توراتي وتعني: آمَنْتُ [= لَبَّيْكَ]، الحَمْدُ لِلّهِ. وقد شاعت كتابتها ولفظها "آمين، هَلِّلُويَا"، كما وردت في الأصل العبري، وكذا تظهر في الترجمات العربيّة، وغير العربيّة، للتّوراة.

أمّا من ناحية الدّلالة
المعزوّة للمصطلح "يهوه" في اليهوديّة، فقد أشار راشي في تفسيره، إلى أنّ هذا الاسم فيه ما يدلّ على الجوهر الحقّ للإله. وذكر مُفسّرون آخرون أنّ هذا الاسم ينماز عن سائر الأسماء بأنّه خاصّ بالله ولا يشاركه فيه أحد، وهو بمثابة اسم شخصيّ يتفرّد به الإله، ولهذا السّبب أيضًا فقد أُطلق عليه مصطلح "الاسم الصّريح"، أو الاسم الأقدس. بالإضافة إلى ذلك، يُشار هنا أنّ الصيغة العبريّة التّوراتيّة للاسم "يهوه" هي صيغة فريدة بذاتها، وهي صيغة خاصّة بالإله الّذي لا شريك له، مثلما أنّ الصيغة أيضًا فريدة ولا شريك آخر لها في اللّغة.

إنّ هذه الصيغة للاسم "يهوه" مشتقّة من الجذر العبريّ "هاء واو هاء" وهو الجذر الّذي يحمل معنى "الكون" [= مصدر الفعل كان، يكون]. فالفعل الماضي منه في اللّغة العبرية هو: "هَيَهْ" [= كان]، والحاضر: "هُوِهْ" [= كائن]، والمستقبل: "يِهْيِهْ" [= يكون]، والمستقبل بضمير المتكلّم هو: "إهْيِهْ" [= أكون]. من هنا فإنّ التّعبير التّوراتي "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ"، والذي ورد على لسان الله لدى تكليمه موسى من جوف العوسجة المحترقة، يعني: أكُونُ الّذِي أكُونُ. وهكذا فإنّ المصطلح "يهوه"، أي الاسم الصّريح الأعظم لله الّذي يرد في التّوراة، هو صيغة عبريّة مُركّبة من الماضي والحاضر والمستقبل، وهو يشير بحسب العقيدة اليهوديّة إلى طبيعة هذا الإله، ألا وهي الكون، أي الوجود، في الماضي منذ القدم -الأزل-، والكائن في الحاضر، والّذي يكون في المستقبل إلى الأبد.

كيف انتقل هذا الاسم إلى الإسلام؟
من أجل الإجابة على هذا السؤال دعونا نعود إلى التراث الإسلامي لنستقرئ ما دوّنه لنا السّلف بهذا الخصوص. فلنبدأ ولنقرأ معًا هذا الحديث: "عن أنس بن مالك، قال: كنت جالسًا مع النبي صلعم في المسجد، ورجل يصلي فقال: اللهم إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم أسألك. فقال النبي صلعم: هل تدرون ما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى." (شرح السنّة للبغوي: ج 2، 390؛ إنظر أيضًا: صحيح أبي داود: ج 1، 279؛ الأسماء والصفات للبيهقي: ج 1، 340؛ الدعاء للطبراني: ج 1، 123؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 181).

بعد قراءة هذا الحديث يعلو السؤال: ما هو، إذن، هذا الاسم الأعظم للّه الّذي يذكره النبيّ في الحديث؟ هل هو اللّه، أم المنّان أم البديع، أم ذو الجلال والإكرام، أم الحي أم القيوم؟ إذ أنّ الحديث المذكور آنفًا يشتمل على أكثر من صفة أو اسم للّه، كما أنّه لا يُفصح عن هذا الاسم الأعظم من بين هذه الأسماء الحسنى الواردة في دعاء الرّجل.

من أجل الوصول إلى إجابة واضحة على هذا التّساؤل، نحن مضطرّون إلى مواصلة البحث واستقراء المأثورات الإسلاميّة. وها هي الرّوايات التّالية تدفع بنا قدمًا نحو الإجابة على السؤال: "عن أسماء بنت يزيد: أن النبي صلعم قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وفاتحة آل عمران {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم}." (سنن الترمذي: ج 5، 517؛ أنظر أيضًا: شرح السنة للبغوي: ج 2، 392؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 17، 417؛ أنظر أيضًا: مسند ابن حنبل: ج 6، 461؛ مصنّف ابن أبي شيبة: ج 6، 47؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2)، وفي رواية أخرى: "عن أبي إمامة عن النبي صلعم، قال : إنّ اسم الله الأعظم لفي سور من القرآن ثلاث: البقرة وآل عمران وطه." (الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ أنظر أيضًا: معارج القبول للحكمي: ج 1، 208؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ الدر المنظّم للسيوطي: ج 1، 2).

فماذا يوجد في هذه السّور الثّلاث؟ وما هي المصطلحات التي ترد فيها وتدلّ على اسم اللّه الأعظم، وليست موجودة في غيرها؟ على هذا السؤال تجيب الرّواية التي يوردها الطحاوي: "... قال أبو حفص: فنظرت في هذه السور الثلاث، فرأيتُ فيها أشياء ليس في القرآن مثلها: آية الكرسي {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي آل عمران: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}، وفي طه: {وعنت الوجوه للحي القيوم}... فثبتَ بذلك أن اسم اللّه الأعظم هو: الحيّ القيّوم." (مشكل الآثار للطحاوي: ج 1، 184؛ أنظر أيضًا: تفسير القرطبي: ج 3، 271؛ الكشف والبيان للثعلبي: ج 2، 62؛ بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 510؛ الدر المنظّم في الاسم الأعظم للسيوطي: ج 1، 2).

من أين، إذن، جاء
هذا المفهوم القائل بأنّ هذا المصطلح، "الحيّ القيّوم"، هو الاسم الأعظم للّه؟ قبل الإجابة على السؤال، من الجدير بالذكر أوّلاً أنّ تعبير الـ"قيّوم" هذا هو صيغة عربيّة إسلاميّة مُستَحدَثَة، وليست من التّراث اللّغوي العربي الجاهلي. والصّيغ المستحدَثَة ابتغاء إفادة معانٍ ودلالات جديدة في اللّغة عادة ما تأتي وتتطوّر بتأثير الاتّصال بلغات وحضارات أخرى. ومنذ القدم أثارت هذه الصيغة المُستحدَثة الكثير من التّساؤلات اللّغويّة: "قال ابن كيسان: القيّوم فَيْعُول من القيام وليس بفَعُّول، لأنه ليس في الكلام فَعُّول من ذوات الواو، ولو كان ذلك لقيل قَوُّوم. والقَيّام فَيْعَالٌ أصله القَيْوَام، وأصلُ القَيُّوم القَيْوُوم." (معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260-261؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155-159؛ التبيان في إعراب القرآن للعكبري: ج 1، 106؛ تفسير اللباب لابن عادل: ج 3، 243؛ الدر المصون للحلبي: ج 1، 932).

ولكن، وقبل المضيّ قدمًا في بيان هذا الجانب، حريّ بنا أن نذكر أنّ ثمّة قراءات أخرى مختلفة للنّصّ القرآني، فـ"القيّوم" ليست هي القراءة الوحيدة للنّصّ. فهنالك قراءة أخرى هي "قَيِّم"، وهنالك قراءة أخرى ثالثة مختلفة وهي "قَيّام" كما قرأ عمر بن الخطّاب وابن مسعود: "قرأ عمر وابن مسعود (القيّام) وقرأ علقمة (القَيِّم) وكلّها لغات بمعنى واحد." (تفسير البغوي: ج 1، 312؛ حول اختلاف القراءات، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 6، 2709؛ أنظر أيضًا: تفسير الطبري: ج 6، 155؛ الكشف والبيان للثعلبي: 2، 62؛ معاني القرآن للفراء: ج 1، 172؛ تغليق التعليق لابن حجر العسقلاني: ج 4، 4؛ فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 13، 430؛ عمدة القاري للعيني: ج 36، 117؛ الدر المصون لـلحلبي: ج 1، 932؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 19، 179؛ معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 260).

وبشأن هذه الاختلافات في قراءة النصّ القرآني فإنّي أميل إلى الاعتقاد بأنّ قراءة عمر بن الخطّاب وابن مسعود هي الأقرب إلى الصّواب على ما يبدو. فمثلما أنّ مصطلحات أخرى انتقلت من العبريّة إلى القرآن، كذا هي الحال بخصوص قراءة "الحيّ القيّام"، إذ أنّها هي الأخرى على ما يبدو منقولة من العبريّة. فهذه الصّيغة "حيّ وقيّام" هي صيغة عبريّة قديمة، وقد وردت في التلمود في أوصاف الإله، إذ نقرأ بشأن الإله: "مَلِكٌ إلهٌ حيّ وَقَيّام، جَلّ وَتَعالَى..." (التلمود البابلي، باب الاحتفال: صفحة 13 أ، چماراه)، كما نقرأ أيضًا: "مَلِكُ مُلُوكِ المُلوكِ القدُّوس المُبارَك الّذي هو حَيّ وَقَيّام إلَى الأبَد وإلَى أبَد الآبدين..." (التلمود البابلي، باب البركات: ص 28 ب، چماراه؛ ص 32 أ، چماراه؛ أنظر أيضًا: التلمود الأورشليمي: باب سنهدرين، ص 30 أ، فصل 6). وفي هذا السّياق، يُشار هنا إلى أنّ المفردة العبريّة "قيّام" الواردة في هذه النّصوص القديمة معناها: قائمٌ، كائنٌ، موجودٌ.

يمكننا العثور على تعزيز لهذا التصوّر
فيما دوّنه لنا السّلف من نصوص: "والقيّوم مبالغة من القيام، وهو الثباتُ والوجود. وهذا دليل على اتصافه بالوجود في جميع الأحوال وأنّه لا يجوز وصفه بالعدم بحال، وذلك حقيقة القدم." (التبصير في الدّين للإسفراييني: ج 1، 155). أو أنّه، بكلمات أخرى، كما يروى: "هو الحي القيوم الذي لا يموت ولا يزول أبدا. ويقال الحي الذي لا بادىء له... وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الحيّ قبل كل حيّ، والحيّ بعد كل حيّ، الدائم الذي لا يموت." (بحر العلوم للسمرقندي: ج 1، 238؛ أنظر أيضًا: معاني القرآن للنحّاس: ج 1، 259). أي أنّ صفة القيّوميّة هذه قائمة منذ الأزل وإلى الأبد: "فصفات الخالق الحي القيوم قائمة به، لائقة بجلاله، أزلية بأزليته، دائمة بديموميته، لم يزل متّصفًا بها ولا يزال كذلك، لم تُسبق بضدّ ولم تعقب به، بل له تعالى الكمالُ المطلق أوّلا وأبدًا، ليس كمثله شيء." (معارج القبول للحكمي: ج 1، 211؛ أنظر أيضًا: قوت القلوب لأبي طالب المكّي: ج 1، 492). كما تذكر الرّوايات الإسلاميّة أنّ اسم الحيّ القيّوم متضمّنٌ لجميع الصّفات الفعليّة للإله: "ولهذا ورد أنّ الحيّ القَيُّوم هو الاسم الأعظم." (التّنبيهات اللّطيفة للسعدي: 23).

وهكذا يتّضح لنا أنّ دلالة الاسم "الحيّ القيّوم"، أو "القيّام" بحسب القراءة الأخرى للنصّ القرآني، هي ذات الدّلالة لـ"يهوه" التوراتي، كما نجدها في المأثورات اليهوديّة. ليس هذا فحسب، بل يمكننا القول إنّ مصطلح "الحيّ القيّوم" هو استنساخ ونقل وترجمة إسلاميّة لمصطلحات عبريّة توراتيّة وتلموديّة تتعلّق بـ"يهوه"، الاسم الصّريح والأعظم لله في اليهوديّة، كما تتعلّق أيضًا بالمصطلح التّوراتي المركّب "إهْيِهْ أشرْ إهْيِهْ" الّذي ذكره اللّه لموسى في البريّة: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ... هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3: 10-15). وحول هذه المسألة بالذّات، ولكي تكتمل الصّورة وتتضّح بجميع جوانبها، سأفصّل الحديث في المقالة القادمة.

والعقل ولي التّوفيق.
***


***
أنظر المقالة الأولى: "يهوه" التوراتي في الإسلام.

"يهوه" التوراتي في الإسلام


سلمان مصالحة



"يهوه" التوراتي في الإسلام


بدايةً، يمكننا القول
إنّه، وعلى العموم، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال فهم الإسلام على حقيقته وبصورة عميقة دون التمكُّن من معرفة اللّغة العبريّة، لغة التّوراة، لما لهذه اللّغة وما تشتمل عليه من مفردات ومضامين كان لها أكبر الأثر في التراث الإسلامي منذ فجر الإسلام.

في هذه الدراسة سأحاول الوقوف على أحد هذه الجوانب، وهو جانب ذو دلالات كبرى فيما يتعلّق بالعلاقة بين اليهوديّة والإسلام، وأعني به كيفيّة انتقال المصطلح "يهوه" التوراتي إلى صلب الإسلام، مثلما سيتبدّى لنا من القراءة الفاحصة لهذا التّراث. ولكن، وقبل الدخول في صلب هذه المسألة، نجد لزامًا علينا أن ننظر قبلُ في المصطلح "يهوه" كما يظهر في التّوراة في أصلها العبري، ثمّ ننتقل بعد ذلك إلى ظهور هذا المصطلح في ترجمات عربيّة غير دقيقة للتّوراة العبريّة. وأخيرًا سنحاول الوقوف على كيفيّة ظهور "يهوه" في ترجمة إسلاميّة قديمة وأكثر دقّة، كما سينجلي لنا من قراءة المأثورات الإسلاميّة.

"يهوه" في التّوراة:
لو ذهبنا إلى قراءة التّوراة باللّغة العبريّة سنلاحظ أنّ المصطلح "يهوه" يظهر في التّوراة العبريّة 6828 مرّة. ولا شكّ أنّ في هذا العدد ما يدلّ على الأهميّة القصوى التي تُعزى له في هذا النّصّ المركزيّ في التراث الديني اليهودي الّذي يتأسّس على التّوراة، مرورًا بتراث المسيحيّة بعامّة، ولاحقًا في التراث الإسلامي أيضًا.

ولكن، لو أمعنّا النّظر قليلاً لرأينا أنّ "يهوه" لا يظهر في الفصل الأوّل من سفر المبدأ -التّكوين- الّذي يسرد قصّة الخلق، حيث نقرأ في سفر فاتحة التّوراة: "فِي المَبْدَأ بَرَأَ اللّهُ السَّمواتِ وَالأَرْضَ. وَكانَتِ الأَرْضُ خَلاءً وَخَواءً، وَظلامٌ عَلَى وَجْهِ العَمْقِ، وَرُوحُ اللّهِ تَحُومُ عَلَى وَجْهِ المَاءِ. فَقالَ اللّهُ لِيَكُنْ نُورٌ فَكانَ نُورٌ. وَرَأَى اللّهُ النُّورَ خَيْرًا، فَمَازَ اللّهُ بَيْنَ النُّورِ وَبَيْنَ الظَّلامِ. فَسَمَّى اللّهُ النُّورَ نَهَارًا وَالظّلامَ سَمَّاهُ لَيْلاً، فَكانَ مَسَاءٌ وَكانَ صَبَاحٌ يَوْمًا أَحَدًا." (سفر التكوين، الفصل 1: 1-5. الترجمة من الأصل العبري هنا وفيما يلي هي لي).

وهكذا نرى أنّ اللّه - إلوهيم في الأصل العبراني، وهي صيغة الجمع العبريّة للمفردة إله - هو الذي يظهر في بداية قصّة الخلق. أمّا المصطلح "يهوه" الّذي نحن بصدده فيظهر لاحقًا في الفصل الثاني، حيث نقرأ: "فَأُكْمِلَتِ السّمواتُ وَالأَرْضُ وُكُلُّ جُنْدِهَا. وَفَرَغَ اللّهُ فِي اليَوْمِ السّابِعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي صَنَعَ، فَسَبَتَ فِي اليَوْمِ السّابعِ مِنْ كُلِّ العَمَلِ الّذِي صَنَعَ. فَبَارَكَ اللّهُ اليَوْمَ السّابعَ وَقَدَّسَهُ لأَنَّهُ سَبَتَ مِنْ كُلِّ العَمَلِ الّذِى بَرَأَ اللّهُ صُنْعًا. هذِهِ مَوَالِدُ السَّمواتِ والأَرْضِ إذْ بُرِئَتْ يَوْمَ صَنَعَ يهوه اللّهُ أَرْضًا وسَمواتٍ. وَكُلُّ نَبْتِ الحَقْلِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ فِي الأَرْضِ وَكُلُّ عُشبِ الحَقْلِ بَعْدُ لَمْ يَنْمُ. لأَنّ يهوه اللّهَ لَمْ يُمْطِرْ بَعْدُ عَلَى الأرْضِ... فَخَلَقَ يهوه اللّهُ الإنْسانَ عَفَرًا مِنَ التُّرْبَةِ وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَياةٍ فَكَانَ آدَمُ نَفْسًا حَيّةً." (سفر المبدأ، فصل 2، 1-6).

إذن، كما رأينا، يبدأ ظهور "يهوه" في الفصل الثاني: "يَوْمَ صَنَعَ يهوه اللّهُ أَرْضًا وسَمواتٍ"، ثمّ تتكرّر لاحقًا هذه الصيغة "يهوه اللّه"، أو بالإضافة "يهوه إله..."، في الكثير من الفصول والأسفار التّوراتيّة. وبكلمات أخرى، تشير هذه الصيغة إلى أنّ "يهوه" هنا هو بمثابة اسم للّه الّذي صنع الأرض والسّموات. ليس هذا فحسب، بل إنّنا نرى أنّ اللّه ذاته، وكما يرد في التّوراة أيضًا هو الّذي يذكر هذا الاسم لموسى، وذلك في معرض سرد الرّواية التي تتطرّق إلى تكليم اللّه له، ثمّ أمره بالذهاب إلى فرعون لإخراج بني إسرائيل من مصر، لأنّه يعلم مدى الضّيم الّذي يلاقونه هناك، فيقول اللّه له: "وَالآنَ امْضِ فَأُرسِلُكَ إلَى فرْعَونَ وَأَخْرِجْ شَعْبِي بَنِي إسْرائيلَ مِنْ مِصْرَ... فَقَالَ مُوسَى للّهِ: هَا أَنَا آتِي إلَى بَنِي إسْرائيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إلهُ آبَائكُمْ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ، فَقَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ مَا أَقُولُ لَهُمْ؟ فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْدُ اللّهُ لِمُوسَى: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: (يهوه) إلهُ آبَائِكُمْ إلهُ إبْرَاهِيمَ إلَهُ إسْحَاقَ وَإلهُ يَعْقُوبَ، أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. هذا اسْمِي إلَى الأَبَدِ، وَهذا ذِكْرِي إلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ." (سفر الخروج، فصل 3، 10-15). ثمّ يعود اللّه مرّة أخرى في مصر ويُكلّم موسى ويذكّره باسمه: "وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أنَا يهوه..." (سفر الخروج، الفصل 6: 1-2).

إذن، بحسب النصّ التّوراتي، فإنّ اللّه نفسه هو الذي يذكر الاسم "يهوه" لموسى: "هذا اسْمِي إلَى الأبَد"، و"أَنَا يهوه". من الجدير بالذّكر هنا، أنّ الكلمات التي تظهر بين قوسين (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ) قد تركتها كما تظهر وتُلفَظ في اللّغة العبريّة، وذلك لأهميّتها الكبرى في سياق بحثنا هذا، إذ أنّنا سنعود إلى التّطرُّق إليها لاحقًا.

"يهوه" إله إسرائيل:
تجدر الإشارة أيضًا إلى أنّ المصطلح "يهوه" يظهر في التّوراة العبريّة بتركيبات مختلفة. فعلى سبيل المثال يظهر "يهوه" بوصفه إله السّموات وإله الأرض: "وأُحَلِّفُكَ بِيهوه إلَهِ السَّمَواتِ، وَإلَهِ الأَرْضِ: أَنْ لا تَأْخُذَ امْرَأَةً، لِابْنِي، مِنْ بَناتِ الكنْعَانِيِّ، الَّذِي أَنَا قَاطِنٌ بِجِوَارِه." (تكوين، فصل 24: 3)، أو كما ورد على لسان كورش ملك الفرس الّذي أعاد السبي اليهودي: "كَذَا قَالَ كُورش مَلِكُ فَارِسَ: كُلَّ مَمالِكِ الأَرْضِ أَعْطَانِيهَا يهوه إلَهُ السَّمَواتِ، وَهُوَ أَمَرَنِي أَنْ أبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، فِي أورشليمَ الّتِي فِي يِهُودَا." (أخبار الأيّام الثاني، فصل 36: 23). كما يظهر "يهوه" أيضًا بوصفه "إله سام"، كما ورد على لسان نوح: "فقال: مُبَارَكٌ يهوه إلَهُ سَامٍ؛ وَليَكُنْ كنعانُ عَبْدًا لَهُ." (سفر التكوين، الفصل 9: 26). كما ويظهر أيضًا في الأصل العبريّ بتعبير "هَـأَدُون يهوه" (= الرّبّ يهوه)، مثلما ورد في سفر الخروج: "ثَلاثَ مَرّاتٍ فِي السّنةِ، لِيُرَ كُلُّ ذُكُورِكَ أَمَامَ الرَّبِّ يهوه." (سفر الخروج، الفصل 23: 17؛ الفصل 34: 23).

غير أنّ التّعبير "يهوه" غالبًا ما يظهر في التّوراة بوصفه إله إبراهيم، إسحاق ويعقوب، إله إسرائيل وكذلك إله العبرانيّين: "وَبعْدَئذٍ جَاءَ مُوسَى وَأَهَارُونُ فَقَالاَ لِفرْعونَ: كَذَا قَالَ يهوه، إلهُ إسْرائيلَ، سَرِّحْ شَعْبِي، لِيَحُجُّوا إلَيّ فِي البَرِّيَّةِ. فَقَالَ فرعونُ مَنْ يهوه لأَسْمَعَ قَوْلَهُ فَأُسَرِّحَ إسْرائيلَ؟ لا أَعْرِفُ يهوه وَأيْضًا إسرائيلَ لَنْ أُسَرِّحَهُ. فَقَالا: إلَهُ العِبْرانِيّين قَدْ صَدَفَنَا، فَلْنَمْضِ لَنَا فِي الطَّرِيقِ ثَلاثةَ أيَّامٍ فِي البَرِّيَّةِ وَلْنَذْبَحْ ليهوه إلَهِنَا، لِئَلاّ يَضْرِبَنَا بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالسَّيْفِ." (سفر الخروج، فصل 5: 1-3).

لكن، وبحسب النّصّ التّوراتي، لم يظهر اللّه باسمه الصّريح "يهوه" لإبراهيم، إسحاق أو يعقوب، وإنّما ظهر لهؤلاء باسم آخر هو "شدّاي". تُشير التّوراة إلى أنّ ظهوره بالاسم الصّريح "يهوه" كان فقط لموسى ولشعب إسرائيل، مثلما نقرأ في سفر الخروج: "فَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أَنَا يهوه. وَتَراءَيْتُ لإبْراهيمَ ولإسْحاقَ وَلِيَعْقُوبَ بِالإلَهِ شَدَّايْ، وَبِاسْمِي يهوه لَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ." (سفر الخروج، الفصل 6: 2-3). لقد وردت هذه الإشارة أيضًا في سفر التكوين، حيث نقرأ هناك: "وَكَانَ إبْراهِيمُ ابْنَ تِسْعِينَ سَنَةً وَتِسْعِ سِنينَ. فَتَرَاءَى يهوه لإبْراهِيمَ وَقَالَ لَهُ: أَنَا (إلْ شَدَّيْ)، تَمَشَّ أَمَامِي وَكُنْ وَرِعًا." (تكوين، الفصل 17: 1. "إلْ شَدَّيْ" تُلفظ بالمدّ "إيلْ شَدَّايْ").

"يهوه" هو الاسم الصّريح للّه:
منذ القدم، واستنادًا إلى النصّ التّوراتي، تعزو اليهوديّة أهميّة كبرى لأسماء اللّه التي وردت في التّوراة، وعلى وجه الخصوص للاسم "يهوه"، حيث يُعتبر هذا المصطلح الاسْمَ الأقدسَ الأعظمَ للّه. ولذلك، ولأجل هذه القداسة الكبرى المعزوّة له فهو لا يُلفظ "يهوه" كما هو منقوش في الحروف العبريّة، بل يُلفظ "أَدُونَايْ" (= الرّبّ، رَبِّي) خلال الصّلاة أو خلال الدروس الدينيّة، أو يُلفظ "هَـشِمْ" (= الاسم) في سائر الحالات الأخرى.

بسبب هذه القداسة الكبرى ولأنّه لا يُلفظ كما هو مكتوب يُطلق عليه أيضًا "اسم الحروف الأربعة"، وهو بالإضافة إلى سائر أسماء اللّه الواردة في التّوراة يُحظرُ محوها بعد كتابتها، كما إنّ الكتابات التي ترد فيها أسماء اللّه المُقدّسة يُحظر إتلافها، بل يتمّ تحويلها إلى مكان تُحفظ فيه كلّ هذه الكتابات والمخطوطات لقداستها. لهذا السّبب أُنشئت الـ"جنيزة"، وهي مكان سَتْر وحفظ الكتابات المقدّسة في العقيدة اليهوديّة. وفي هذا السّياق بالذّات يذكر الرّمبام: "كُلّ مَنْ يُتْلِفُ اسْمًا مِنَ الأسماء المُقدّسة الطّاهرة الّتي يُدعَى بها القدُّوس المُبَارَك، يَنْتَقِصُ من التّوراة... وسبعة أسماء هي: الاسم المكتوب بالـ (ياء هاء واو هاء)، وهو الاسم الصّريح، أو المكتوب بالـ (ألف دال نون ياء)، و(إل)، و(إله)، و(إلوهيم)، و(إهيه)، و(شداي)، و(صباؤوت). كُلّ مَنْ يمحو حتّى حرفًا واحدًا من السبعة الأسماء هذه، فإنّه ينتقص." (أنظر: الرمبام، أحكام أصول التّوراة، الفصل السّادس).

إنّ أقوال الرّمبام هذه مُستنبطة بالطّبع من التّلمود، إذ أنّه يستند في حكمه إلى ما ورد هناك، حيث نقرأ في التلمود البابلي: "ثَمّ أسماء تُمحَى وَثَمَّ أسماء لا تُمحَى. هذه هي أسماء لا تُمحى، مثل: إل، إلهك، إلوهيم، إلهكم، إهيه أشر إهيه، ألف، دال. (تلمود بابلي، ورقة 35، أ، چماراه). أمّا التلمود الأورشليمي فيفصّل الشّرح في هذه المسألة: "هذه أسماء لا تُمْحى، الّذي يكتب الاسم بالحروف الأربعة، بالياء وبالهاء، بالألف وبالدال - إيل، إلوهيم، إلهك، إلهُ، إلهي، إلهنا، إلهكم، شداي، صباؤوت، إهيه أشر إهيه، فقد كتب الألف والدّال من (أدوناي)، الألف والهاء من (إهيه)، الشين والدّال من (شداي)، الصاد والباء من (صباؤوت)." (التلمود الأورشليمي، ورقة 12 ب، الفصل الأوّل، أحكام ط چماراه).

وهكذا، وممّا أسلفنا، نستطيع أن نرى كلّ تلك الأهميّة التي تعزى لهذه المصطلحات - الأسماء -المركزيّة الواردة في التّوراة لما لها من قداسة كبرى في العقيدة اليهوديّة.

الترجمات العربيّة للتّوراة:
بعد أن وقفنا على أمر هذا المصطلح - الاسم - "يهوه"، كما يرد في التّوراة، فما من شكّ أنّ القارئ العربيّ للتّوراة سيلاحظ أنّ هذه القضايا الجوهريّة الشّائكة المتعلّقة بالعقيدة اليهوديّة تتلاشى أو تختفي بالكامل خلال قراءته للتّرجمات العربيّة - النّصرانيّة بالأساس- لنصّ التّوراة. ولذلك بوسعنا القول إنّه، فقط أولئك الّذين يعرفون اللّغة العبريّة، لغة التّوراة، يستطيعون الوقوف على كلّ هذه التّفاصيل الشائكة ذات الأبعاد والدّلالات الجوهريّة.

فعلى سبيل المثال، لو نظرنا إلى تلك الترجمات العربية، نلاحظ أنّ الاسم "يهوه" يظهر مترجمًا بمصطلح "الرّبّ". وهذه هي ترجمة إشكاليّة بكلّ معنى الكلمة، وقد تكون تمّت على هذا النّحو لأنّها جاءت من لغات أخرى غير العبريّة، وربّما تمّت على هذا النّحو لإشاعتها وربطها ومن ثمّ لإحالتها في ذهن القارئ العربي، أنصرانيًّا كان القارئ أو غير نصرانيّ، إلى تعابير نصرانيّة أخرى مثل "الرّبّ يسوع" أو "المسيح الرّبّ"، وما إلى ذلك من هذه الصّيغ الشّائعة في النّصرانيّة لأسباب عقائديّة هي في صلب النصرانيّة. وهكذا، واستنادًا إلى هذا النّهج، فها هو "يهوه إله السّموات" في الأصل العبري يتحوّل في الترجمات العربيّة الشائعة إلى "الرّبّ إله السّموات". بينما عندما نقرأ النصّ العبري لسفر الخروج حيث ترد الصيغة العبريّة "هَـأَدُون يهوه" (= الرّبّ يهوه) كما هي في الأصل العبري (سفرالخروج، الفصل 23: 17؛ الفصل 34: 23)، فإنّنا نجد أنّ هذه الصيغة قد تحوّلت في الترجمات العربيّة النصرانيّة للتوراة إلى "السَّيِّدِ الرَّبّ" (ترجمة فان دايك وكتاب الحياة)، أو أنّها تصبح "الرَّبّ الإِله" (الترجمة الكاثوليكيّة). وحتّى عندما يصرّح اللّه حرفيًّا بأنّه "يهوه" فإنّ الترجمات العربيّة تتخبّط في هذه الحالات. فلو نظرنا في قصّة حلم يعقوب، نقرأ في الأصل العبراني: "فَهَا هُوَ ذَا يهوه وَاقِفٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنَا يهوه إلَهُ إبْراهِيمَ أَبِيكَ، وَإلهُ إسْحاقَ..." (تكوين، الفصل 28: 13)، بينما تأتي الترجمات العربيّة لتضع: " أنَا الرّبّ إلهُ إبراهيم...".

غير أنّ التّخبُّط يزداد ظهورًا عندما تجتمع الأسماء في النصّ التّوراتي في ذات السياق. لقد كنت أشرت سابقًا إلى النصّ الذي يكلّم فيه الله موسى ويشير فيه إلى ظهوره باسم آخر لإبراهيم: "فَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى وَقَالَ لَهُ: أَنَا (يهوه). وَتَراءَيْتُ لإبْراهيمَ ولإسْحَاقَ وَلِيَعْقُوبَ بِالإلَهِ (شَدَّايْ)، وَبِاسْمِي (يهوه) لَمْ أُعْرَفْ عِنْدَهُمْ." (سفر الأسماء - خروج -، الفصل 6: 2-3). فكيف جاءت الترجمات العربية في هذه الحالة؟ لقد تُرجمت "أنَا يهوه" كالعادة: "أنا الرّبّ". أمّا في الصيغة "الإله شدّاي"، فقد جاءت ترجمة فان دايك "الإله القادر على كلّ شيء"، وفي الترجمة الكاثوليكية وترجمة كتاب الحياة نقرأ قريبًا منها: "إلهًا قديرًا"، مع أنّ "شدّاي"، كما أسلفت من قبل هو أحد أسماء اللّه المقدّسة جدًّا في اليهوديّة. ولكن عندما نواصل القراءة ونصل إلى "اسمي يهوه"، تظهر الفروق في الترجمة، فنرى أنّ ترجمة فان دايك قد أبقت الصيغة العبرية "يهوه" كما هي في الأصل، بينما الترجمة الكاثوليكية قد وضعت: "اسمي الرّبّ".

أمّا ذروة التخبّط فنعثر عليها في القصّة التي أشرت إليها من قبل، وهي إيعاز الله لموسى بإخراج بني إسرائيل من مصر، فقد ورد في النصّ التّوراتي: "فَقَالَ اللّهُ لِمُوسَى: (إهْيِهْ أشِرْ إهْيِهْ)، وَقَالَ: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرائيلَ: (إهْيِهْ) أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ. وَقَالَ بَعْدُ اللّهُ لِمُوسَى: كَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: (يهوه) إلهُ آبَائِكُمْ... أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ...". فلو نظرنا إلى الترجمات العربيّة سنلاحظ أنّه فقط في ترجمة فان دايك قد تمّ الإبقاء على هذه المصطلحات كما هي في الأصل. أمّا في ترجمة كتاب الحياة فقد أضيف شرح للمصطلحات: "أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ (وَمَعْنَاهُ أَنَا الْكَائِنُ الدَّائِمُ)... أَهْيَهْ (أَنَا الْكَائِنُ)... إِنَّ الرَّبَّ (الكَائِنَ) إِلهَ آبَائِكُمْ... قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ.". أمّا الترجمة الكاثوليكية فقد ترجمت المصطلحات إلى شيء آخر: "فقالَ اللهُ لِموسى: (أَنا هُوَ مَنْ هُوَ). وقال: كَذا تَقولُ لِبَني إِسْرائيل: (أَنَا هُوَ) أرسَلَني إِلَيكم.... (الرَّبُّ) إِلهُ آبائِكُم...أَرسَلَني إِلَيكم". وهكذا يرى القارئ بوضوح كلّ هذا التّخبُّط والبلبلة في هذه الترجمات العربيّة.

أمّا أنا فقد فضّلت الآن أن أبقي هذه التّعابير والأسماء على أصولها ومخارج لفظها العبريّة: "إهْيِهْ أَشِرْ إهْيِهْ" و"إهْيِهْ" و"يهوه"،كما كنت أوردتها من قبل. وذلك لما لهذه المسألة من أهميّة ودلالات كبرى في كيفيّة انتقالها إلى التراث الإسلامي، مثلما سنرى لاحقًا.
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى دلالات المصطلح "يهوه"، الاسم الأقدس لله في التراث اليهودي، ثمّ سأبيّن كيف انتقل هذا المصطلح إلى الإسلام.

والعقل وليّ التوفيق.
***


***
المقالة الثانية: كيف انتقل "يهوه" إلى الإسلام؟
 

سراب

سـلمان مصـالحة

سـراب

غَـابَ بَـيْــنَ الضَّـــبَـابْ - نَـازِفًــا كَـالمَـطَــــرْ
فِـي يَـدَيْــــهِ كِــتَـــــابْ - مِــنْ زَمَـــانٍ غَـبَــــرْ
طَــلَّ لَـمْـحًــا وَغَـابْ - كَـالنَّــدَى فِي السَّـحَـرْ
رُوحُــهُ خَـلْــفَ بَـابْ ـ تَـكْـتَــــوِي بِالـسَّــمَــرْ
نِـصْـــفُ قَـلْـبِـهِ ذَابْ - نِـصْـفُـــهُ يُـعـْـتَـصَــرْ

***

لَــيْـــسَ إلاّ الـغِـيَـــابْ - يَـا لَــهُ مِــنْ خَــبَــــرْ
مَــرَّ يَـوْمًـــا وَشَــابْ - وَانْـثَـنَـى وَاسْـــتَـمَـرْ
وَاخْــتَــفَــى كَالسَّــرَابْ - فِي هَجِيــرِ الفِكَـــرْ
حَــالِــمــًــا بِـالإيَـــابْ - فِــي أَغَـــانٍ أُخَـــرْ
فِـي الهَـوَى
فِـي الـشَّـبَابْ
فِـي الثَّـرَى
فِـي الحَجَـرْ


***

نوڤمبر 2009
ـــ
For English, press here

فَسّاؤون ضَرّاطون في اليهوديّة


سلمان مصالحة


فَسّاؤون ضَرّاطون في اليهوديّة

قبل أن ندخل
في الموضوع الّذي نحن بصدده، لنبدأ بإيراد هذه الرّواية: "كان بالمدينة عطّاران يهوديان، فأسْلمَ أحدُهما ولَقِيَهُ صاحبُه بعد حين، فقال: كيفَ رَأيْتَ دينَ الإسلام؟ قال: خَيْرَ دين، إلاّ أنّهم لا يَدَعُونا نَفْسُو في الصّلاة. قال صاحبُه: وَيْلَكَ! افْسُ وَهُمْ لا يَعْلَمُون." (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

مهما يكن من أمر هذه الرّواية بوصفها تنتمي إلى الرّوايات الشّعبيّة فهي، على غرار هذا النّوع الأدبي عادة، تكشف عن بواطن المجتمعات. كما أنّها تشي بأصداء ذلك التوتّر القائم بخصوص أحكام الفساء والضّراط بين اليهوديّة والإسلام.

لكن، ورغم ما تشي به هذه الرّواية من أصداء الخلاف الفقهي في هذه الأمور، غير أنّنا يمكننا القول إنّه ولمّا أنعم الله على الإسلام باليهوديّة، فقد جاء يحذوها "حذو القذّة بالقذّة" كما يقال، مثلما كنّا وقفنا على بعض هذه الجوانب في مقالات وسياقات أخرى في الماضي.

أمّا في هذا السّياق الّذي نحن بصدده الآن، فلو ذهبنا وتتبّعنا آثار الضّارطين في اليهوديّة لوجدنا ضالّتنا المنشودة ووقفنا على مصادر أحكام الضّراط في الإسلام، ولَتبيّنَ لنا ما ينماز به حكم المُحْدِثين - الفاسين أو الضّارطين - في الصّلاة بين هؤلاء وأولئك.

الرّيح السيّئة تقطع الصّلاة:
على ما يبدو، فإنّ الشّارع في الإسلام قد حذا، في مسألة وجوب قطع الصّلاة في حال الإحداث، حذو الشّارع في اليهوديّة. وهذه المسألة في اليهودية لها علاقة أيضًا بالصّلاة، إذ أنّها تُذكر في سياق إحدى أهمّ الفرائض اليهوديّة، ألا وهي دعاء "اسمع يا إسرائيل"، وهو الدّعاء الّذي يختزل مبدأ التّوحيد اليهودي الّذي لا يُشركُ مع اللّه أحدًا، لا نبيًّا ولا رسولاً أيًّا كان. يُشار هنا إلى أنّ دعاء "اسمع يا إسرائيل" هو فرض مركزيّ في اليهودية يُلخّص الإيمان بوحدانيّة اللّه، حيث تتمّ تلاوته مرّتين في اليوم، في الفجر وفي المساء، كما يتلى أحيانًا في مناسبات هامّة أخرى أيضًا. يرد هذا المبدأ في التّوراة، وينصّ كما يلي: "اسْمَعْ يا إسْرَائيل، يهوه إلهُنَا، يهوه أَحَدٌ. وَأَحِبَّ يهوه إلهَكَ بكُلِّ قَلْبِكَ، وبكُلِّ نَفْسِكَ وبكُلِّ قُوّتكَ. ولتَكُنْ هذِهِ الأَقْوَالُ الّتي أَنَذَا آمُرُكَ بَهَا اليَوْمَ في قَلْبِكَ. فَاتْلُهَا عَلَى أبْنَائِكَ وكَلِّمْهُمْ بِهَا، جَالِسًا في بَيْتِكَ، وَماشِيًا في الطَّريق، وَهَاجِدًا وَقَاعِدًا. وَارْبُطْهَا آيَةً عَلَى يَدِكَ، وَلتَكُنْ رَبْعَةً بَيْنَ عَيْنَيْكَ. وَاكْتُبْهَا عَلَى قَوائمِ بَيْتِكَ، وَعَلَى أَبْوابِكَ." (سفر التثنية، الفصل 6، 4-8؛ الترجمة من الأصل العبري هي لي وقد آثرت الآن الإبقاء على المصطلح "يهوه" كما يظهر في الأصل العبري، إذ أنّ التّرجمات العربيّة الموجودة للتّوراة غير دقيقة بالمرّة، وربّما أعمل مستقبلاً على ترجمة جديدة وكاملة للتوراة من الأصل العبري. وسأعود في مقالة قادمة للبحث في مسألة الترجمة الإسلاميّة الدّقيقة لـهذا المصطلح "يهوه" من التّوراة العبريّة مثلما يظهر في القرآن وفي سائر المأثورات الإسلاميّة).
أمّا فيما يخصّ المسألة التي نبحث فيها، فإنّ الشّارع في اليهوديّة يقول بوجوب قطع تلاوة "اسمع يا إسرائيل" في حال وجود ريح نتنة، كما أنّ وجوب القطع هذا هو وجوب على وجه الخصوص في حال كون مُحْدِث الرّائحة - أي الفاسي أو الضّارط - هو المصلّي ذاته، وذلك حتّى تذهب هذه الرّيح. نعثر على هذا الحكم لدى الرّابي موسى بن ميمون، الشّهير باسم الرّمْبام (1138-1204م)، وهو أهمّ الفقهاء في الشّرع اليهودي والّذي يستند بالطّبع في أحكامه ومؤلّفاته إلى التّلمود، وخاصّة البابلي والّذي يسمّى أيضًا "چماراه"، وهو من القرن الثّالث للميلاد.

الرّيح ريحان:
يقسم الرّمبام هذه الرّيح التي يدور الحديث عنها إلى ريحين. الرّيح الأولى هي الرّيح المُنتنة الخارجة من جسم منتن بذاته، والرّيح الثانية هي الرّيح المُنتنة الخارجة من جسم عَرَضًا. يذكر الرّمبام في هذا السّياق ما نصّه: "رائحة نتنة بذاتها، يبتعد عنها قدر أربعة أذرع ويقرأ، في حال ذهاب الرّيح. وإنْ لم تذهبْ، يبتعد حتّى مكان ذهاب الرّيح. والّتي ليستْ بذاتها، مَثَلُ الّذي تخرجُ منه ريحٌ من أسْفَل، يبتعد مقدار ذهاب الرّيح ثمّ يقرأ." (الرمبام: أحكام تلاوة اسمع، 12). نستطيع الوقوف على أهميّة هذه التّلاوة من خلال الميز بينها وبين سائر التلاوات التوراتية فيما يتعلّق بوجود روائح منتنة بصورة عامّة، وعلى وجه الخصوص إن كانت هذه الرّوائح صادرة من أسفل، كما يذكر: "بَيْنَما هو يقرأ وَصَلَ إلى مكان مُنتن، لا يضع يدَهُ على فَمِه [وأنفه] ويَقْرأ، إنّما يتوقّف حتّى تَذْهَبَ زُهُومتُها، ثمّ يعود لقراءته؛ وكذا في سائر أمور التوراة. [أمّا بشأن] خُروج ريح من صديقه، فرغم أنّها تَقْطعُ تلاوةَ اسْمَعْ [يا إسرائيل]، فهي لا تَقْطَع سائر أمورَ التّوراة" (الرّمبام: أحكام تلاوة اسمع: 14. ما جاء بين معقوفين في النصّ هو إضافة منّي للتّوضيح). أي أنّ تلاوة "اسْمَعْ يا إسرائيل" هي التّلاوة الأعظم في اليهوديّة. كما أنّ وُجوبَ قطع هذه الصّلاة، بخلاف سائر الأمور، هو فَرْضٌ قاطعٌ في حال وجود ريح سيّئة، أكان مصدرَ هذه الرّيح جسمٌ منتن بذاته، أو كانَ مصدرَها المؤمنُ المُحْدِثُ، إنْ بفسائه أو بضراطه.
كما يذهب الرّمبام أبعد من ذلك، حيث يتطرّق أيضًا إلى العطاس والجشاء والتثاؤب في الصّلاة، رغم أنّ حكم كلّ هذه أخفّ حكمًا من الرّيح السّفلى، فيقول: "مَنْ يتجشّأ ويتثاءب ويعطُس في صلاته، إنْ كان هذا بإرادته فهو مذموم؛ وإنْ كانَ فَحَصَ جسْمَه قَبْلَ صلاته وأتاهُ هذا رغمًا عنه، فلا غرو في ذلك.... [بينما، في حال] خرجتْ منهُ ريحٌ من أسْفَل، بَيْنَما هو قائمٌ في الصّلاة، رغمًا عنه، يصمت حتّى تذهب الرّيح، ثمّ يعود لصلاته." (الرّمبام: أحكام الصّلاة 4، 11).

الاضطرار للضّراط:
غير أنّ أمور الإحداث هذه قد تخرج عن سيطرة المؤمن، إذ في بعض الأحيان، لا يستطيع المؤمن تمالك نفسه من الفساء والضّراط. وفي هذه الحال يضيف الرّمبام تلاوة خاصّة يجدر بالمؤمن أن يقولها، فيذكر بهذا السّياق: "إنْ طَلَبَ [اضْطُرَّ إلى] إخْراجَ ريحٍ من أسْفَل واغْتَمَّ كثيرًا ولا يَقْدرُ على تَمَالُكِ نَفْسه، يَخطو للوراء أربعةَ أذْرع، وينتظرُ حتّى تذهبَ الرّيح؛ ثمّ يقول: يا ربّ العالمين، خَلَقْتَنا ثُقُوبًا ثُقُوبًا، وَفراغًا فراغًا؛ جَلِيٌّ ومَعْلُومٌ لَدُنْكَ عَارُنَا وَشَنَارُنا، عَارٌ وشَنَارٌ في حَيَاتِنَا، دُودٌ وَقَتَعٌ في مَمَاتِنا. ثمّ يعود إلى مكانه، ويصلّي." (الرّمبام: أحكام الصّلاة 4، 12).

أمّا بخصوص الضّراط في النّوم،
فمثلما رأينا من قبل في المأثورات الإسلاميّة، من وجوب الوضوء لمن خلد إلى النّوم خشية إحداثه نائمًا، فسوةً أو ضرطةً، دون أن يشعر، فها نحن نعثر أيضًا على هذه الخشية من الإحداث في النّوم بالذّات لدى الشّارع في اليهوديّة، إذ يتمّ التّطرُّق لهذه المسألة في باب طقس "وضع التّفيلين"، (والـ"تّفيلين" هو عدّة خاصّة للطّقس الدّيني مصنوعة من الجلد، وهي قسمان؛ قسم يوضع على اليد وآخر على الرأس، وتُستخدم في الصّلاة)، حيث يُحْظَر الفساء أو الضّراط في هذا الطّقس. ولهذا السّبب أيضًا فقد حظرت اليهوديّة الخلود إلى النّوم مع "التّفيلين"، حتّى لو كانت هذه نَيْمُومَةً خفيفة، وذلك حذرَ أن يكون النّائم قد أحدثَ فسوةً أو ضرطةً بينما هو نائم، دون أن يدري. وكلّ هذا الحظر هو بسبب ما للإحداث من نجاسة للـ"تفيلين". وفي هذا السّياق يذكر الرّمبام: "[عدّة] التّفيلين تُوجبُ جَسَدًا نظيفًا كإليشع، فليحذرْ ألاّ تَخْرُجَ مِنْهُ ريحٌ من أسْفَل، طَالَمَا هي عليه." (الرّمبام: أحكام التّفيلين، فصل 4، 15). يستند الرّمبام في حكمه هذا بالطّبع على التلمود البابلي، المسمّى أيضًا الـ"چماراه": "قال الرّابي يناي: [عدّة] التّفيلين تُوجبُ جسدًا نظيفًا كإليشع... قال أبيي: ألاّ يُحْدِث [يفسو أو يضرط] فيها، قال [الرّابي] الكبير: ألاّ ينام مَعها." (التلمود البابلي، الورقة 49، 1).
وللضّراط أحكام ليس في الصّلاة فقط، بل يجدر الاحتشام بالضّراط على العموم. وهكذا فحتّى في حال الذّهاب لقضاء الحاجة، هنالك أحكام احتشام يجدر بتلاميذ التوراة أن يسيروا على هديها. وفي بعض الأحيان يُستخدم مصطلح آخر كناية عن الضّراط، حيث يُستخدم المصطلح "عطاس"، فعلى سبيل المثال نقرأ: "إذا ذهبَ [لقضاء الحاجة] خلْفَ جدار، يبتعد حتّى لا يستطيع صاحبُه سماعَه إذا ما عَطَسَ، وإذا ذهب [لقضاء الحاجة] في سَهْلٍ، يبتعد حتّى لا يستطيع صاحبُه رؤيةَ تشميره..." (الرّمبام: أحكام آراء، فصل 5، 6).

ضرطة تؤدّي إلى توبة صادقة:
كما يرد ذكر الضّراط أيضًا في روايات الـ"أغاداه" وهي مرويّات لا تُعدّ جزءًا من التّشريع، وإنّما هي نصوص تحتوي على قصص وأمثال تدور حول مواضيع وقضايا ومسائل مختلفة قد تُستَنتج من النّصوص التّوراتية. وهكذا نجد في الـ"أغاداه" قصّة إلعازار بن دوردايا الّذي اشتهر بخطاياه الكثيرة، فقد حُكي عنه أنّه لم يترك زانية واحدة في العالم لم يطرق بابها، وهكذا يُروى أنّه: "سمع مرّة عن وجود زانية في بلاد وراء البحار وكانت هذه تتقاضى صرّةً من الدّنانير على خدماتها. حمل صرّةً من دنانير وانطلق يطلبها، فقطع سبعة أنهر. وبينما كانت تُعدّ الفراشَ، ضَرَطَتْ، فقالت: مثلما أنّ هذه الضّرْطةَ لن تعودَ إلى مكانها، هكذا لَنْ تُقبَلَ تَوْبَةُ إلعازار بن دوردايا.
فانطلق وذهب وقعد بين الجبال والتّلال، ثمّ دعا وقال: "أيّتها الجبال والتّلال، اطلُبِي لي الرّحمة. قالت له: قبل أن نطلب لك الرّحمة، [أوْلَى بنا أنْ] نطلبَ الرّحمةَ لأنفسنا، إذ ذُكرَ: {فإنّ الجِبَالَ تَحُولُ والتِّلالَ تَزُولُ.} (أشعيا 54، 10). وهكذا، انتقل إلعازار بن دوردايا داعيًا طالبًا الرحمة من الأرض والسماء ثمّ الشمس والقمر والنّجوم، وكلّها تردّ عليه بنفس المقولة، بأنّ الأولى بها أن تطلب الرحمة لأنفسها قبل أن تطلبها له. فقال لنفسه: "ليس الأمر منوطًا إلاّ بي. ووضعَ رأسَه بين رُكْبَتَيهِ وأجْهشَ بالبكاء حتّى لفَظَ أنفاسَهُ. عندئذ جاء صوتٌ [من السّماء] يقول: رابي إلعازار بن دوردايا مدعُوّ إلى الحياة الآخرة." (التلمود البابلي: باب عبادة الأوثان، الورقة 17، 1).

لقد وردت هذه القصّة أيضًا في المشناة، وهي نصوص تشتمل على فرائض وأحكام توراتيّة كما وتشتمل على نصوص التّوراة التي انتقلت بالرواية الشّفهيّة حتّى تمّ تدوينها وتحريرها في القرن الثاني للميلاد. كما أنّ هذه القصّة تُروى في سياق التّوبة الصّادقة، وكون الفرد نفسه مسؤولاً عن أعماله، ولهذا تذكر الرّوايات أنّ الرّابي يهودا هاناسي، وهو مؤلّف المشناة، قد بكى وقال بشأنه: "هنالك من يفوز بآخرته بسنوات، وهنالك من يفوز بآخرته بساعة واحدة." (التلمود البابلي: باب عبادة الأوثان، الورقة 17، 1). بل وأكثر من ذلك، فقد أضاف مؤلّف المشناة: "ليسَ فقط أنّ التّائبين تُقبَل توبتهم، وإنّما يُكَنّون رابي". وقبل هذا لم يكن إلعازار بن دوردايا يدرس التّوراة ولم يكن يُكَنَّى رابي".

وهكذا، وعلى ما يبدو، فكلّ هذه "التّوبة الصّادقة"، الّتي كان ثوابُ صاحبها الفوزَ بالآخرة، لم تكن لتحصل لولا تلك الضّرطَة الّتي أحدثتها تلك الزانية التي قطع إلعازار بن دوردايا سبعة أنهر حاملاً معه صرّة دنانير بحثًا عنها.
***
أمّا في النصرانية
فقد وجدوا، على ما يبدو، حلاًّ فريدًا لإشكاليّات الضّراط في الكنائس والبيع والصوامع وسائر أماكن عباداتهم. لقد كانوا أكثر ذكاءً وحيلةً من اليهود والمسلمين في حلّ هذه المسألة العويصة، إذ أدخلوا البخور إلى هذه الأماكن. وهكذا احتالوا فغَلّبوا رائحةَ البخور على رائحة ضراط القساوسة والقمامصة والبطارقة والبابوات وسائر المؤمنين. أليس كذلك؟

خبر عاجل:
لقد اكتشف العلماء أخيرًا أنّ الدّروز أيضًا، من الجُهّال والعُقّال، يفسون ويضرطون أحيانًا وبسريّة تامّة. وذلك لما للإحداث من عواقب اجتماعيّة وخيمة قد تؤدّي إلى النّزوح عن البلد، كما رُوي عن أحد مُحْدِثِيهم. كما وتبيّن أيضًا من خلال بحوث مخبريّة أنّ فساءَهم وضُراطَهم لا يختلفان كثيرًا عن فساء وضراط اليهود والمسلمين والنّصارى في هذا المشرق الآسن، لأنّ تربتهم واحدة ومناخهم واحد وهواءهم واحد، فـ"كلّهم في الهوا سوا"، كما يقال. غير أنّ الخبراء بهذه العلوم الدّقيقة لم يعثروا بعد على نصوص لديهم تتطرّق إلى مسائل الضّراط، وأكّدوا على أنّهم سيواصلون البحث في هذا المضمار.
***

ولعلّ خير ما نختتم به
هذا المبحث الآن هو رواية عربيّة تتطرّق إلى ما جرى مع مُسيلمة لدى مواقعته لرفيقته سجاح. فقد دوّن لنا السّلف في هذا السّياق: "ولمّا وقعَ مُسيلمة على سجاح ضَرَطتْ، فقال: ما هذا؟ قالت: هذا من ثقل الوَحْي." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 447).

***
وهكذا، وبعد أن وقفنا على قضايا الضّراط واختلاف أحكامه، طريفها ومتلدها، نختمُ أخيرًا بهذه الأبيات نقيضةً لأبيات ابن ساعدة، لنوصد بها هذا الباب. فليتفكّرْ في الأمر أُولو الألباب:

في الضّارِطينَ الأوَّلِيــ - ـنَ، مِنَ اليَهُودِ، لَنَا مَنَابِرْ
لَمَّا رَأَيْتُ مَآثِرًا - لِلضَّرْطِ، كَيْفَ لَهَا مَصَادِرْ
وَرَأَيْتُ قَوْمِي نَحْوَهَا - يَسْعَى الأَصَاغِرُ وَالأَكَابِرْ
أَيْقَنْتُ أَنِّي، لا مَحَا - لَةَ، حَيْثُ صَارَ العَقْلُ صَائِرْ

والعقل وليّ التّوفيق.
***

***
المقالة الأولى: الضّراط في التّراث العربي
المقالة الثانية: فَسّاؤون في الجاهليّة ضَرّاطون في الإسلام

ـــــــــــــ

المقالة والتعليقات كما نشرت في الأوان






فَسّاؤون في الجاهلية ضَرّاطون في الإسلام

 

سلمان مصالحة

فَسّاؤون في الجاهلية ضَرّاطون في الإسلام


ولمّا أنعم الله
على العرب بالإسلام، فقد أضاف الإسلام إلى معارفهم بالضّراط طبقةً جديدة، وعلمًا جديدًا إلى علومهم التّليدة. إذ لم يعد الضّراط، كما رأينا في المقالة السابقة، يقتصر على الإنسان والحيوان فحسب، بل تعدّاه الآن إلى الشّيطان، كما روي عن الرسول: "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم، قال: إذا أذّنَ المُؤذّنُ أدْبَرَ الشيطانُ وله ضُراط، فإذا سكتَ أقبل. فإذا ثوّب أدبرَ وله ضُراط، فإذا سكت أقبل، يخطر بين المرء ونفسه حتى يظلّ الرجلُ لا يدري كم صَلّى، فإذا صلّى أحدُكم فوجد ذلك، فليسجُد سجدتين وهو جالس." (صحيح ابن حبان: ج 7، 322، أنظر أيضًا: صحيح البخاري: ج 1، 220؛ صحيح مسلم: ج 3، 69؛ سنن الدارقطني: ج 4، 60؛ سنن النسائي: ج 3، 70؛ سنن أبي داود: ج 2، 193؛ الجامع الكبير للسيوطي: ج 1، 1543؛ مستخرج أبي عوانة: ج 2، 370؛ سنن البيهقي: ج 2، 331؛ مسند الشاميين للطبراني: ج 7، 208؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 68؛ جامع الأصول لابن الأثير: ج 1، 3818؛ الأوسط لابن منذر: ج 4، 107؛ الترغيب للمنذري: ج 1، 110؛ المستطرف للأبشيهي: ج 1، 22).

غير أنّ هذا الشّيطان الّذي يهرب ضارطًا لسماع الأذان لا يلبث أن يعود ليندسّ بين المصلّين، إذ أنّه ليس لديه شغلٌ آخر يشغله سوى غواية المؤمن ابتغاء صرفه عن أمور دينه، كالصلاة مثلاً. كما أنّه لا يعرف طريقًا للوصول إلى هذه الغاية سوى طريق الضّراط. لكنّ ضراط الشّيطان هو ضراط صوت وليس ضراط رائحة، بخلاف ضراط المؤمنين على ما يبدو، كما رُوي عن الرسول: "عن سعيد المقبرى، قال أبو هريرة، قال رسول الله صلعم: إنّ أحدَكُم إذا كان فى الصّلاة جاءَهُ الشيطانُ فأبسَ به كما يبسُ الرجلُ بدابّته، فإذا سكنَ له أضْرَطَ بين أليتَيْه ليَفْتنَه عن صلاته. فإذا وجدَ أحدُكم شيئًا من ذلك فلا ينصرفْ حتّى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا لا يشكّ فيه." (مسند أحمد بن حنبل: ج 18، 123؛ أنظر أيضًا: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي: ج 1، 300؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 39، 224).

بالإضافة إلى ذلك، يقوم هذا الشيطان الخبيث بملاحقة المؤمنين إلى عقر دارهم. ولكن، ورغم ذلك، فهنالك وسائل لطرده من البيوت ليفرّ هاربًا ضارطًا بأقصى سرعة. فقد روي عن عبد الله بن مسعود، قال: "ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط." (سنن الدارمي: ج 10، 311؛ أنظر أيضًا: تفسير ابن كثير: ج 1، 150؛ تفسير القرطبي: ج 1، 152؛ المسند الجامع لأبي المعاطي النوري: ج 28، 165).

وعلى ما يبدو فإنّ الضّراط
هو سمة من سمات هذا الشّيطان، وهي سمة يُعرَف بها وتدلُّ عليه أيضًا، كما ورد في رواية إنقاذ العابد من بني إسرائيل من أحابيله: "حدثنا الفضيل بن عياض، عن سليمان، قال: تعبّد رجل من بني إسرائيل في غار، فبعث إبليسُ شيطانًا فدخل الغار فجعل يُصلّي معه، فقال له العابد: من أنت؟ قال: أتعبّدُ معك، ثم قال: هل أدُلّك على أفضل ممّا نحن فيه؟ قال: وما هو؟ قال: اخْرُجْ بنا نطلب قريةً فنأمُر بالمَعْروف، فأطاعه. فأقبلَ رجلٌ إليهما عند باب القرية فجعلَ الشّيطانُ حين رآه يضرطُ، فأخَذَه الرّجلُ فذبَحَهُ. فقال له العابد: ما صنعت؟ قتلتَ خيرَ النّاس. قال، فقال: إنّما هذا شيطانٌ وأنا رحمةٌ رحمَكَ بها رَبُّك." (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 2، 284).

غير أنّ ثمّة فرقًا
جوهريًّا بين ضراط الشّياطين وضراط المؤمنين. فإذا كان الشّيطان يحاول بضراطه أن يفتن المؤمن ويصرفه عن صلاته، فإنّ حدوث فساء أو ضراط من المؤمن يقطع الصّلاة وجوبًا: "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلعم قال: إنّ الرجل في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه، والملائكة تصلي عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما دام في مجلسه الذي صلّى فيه ما لم يُحْدث. فقيل له: وما يحدث؟ قال: فسوة أو ضرطة." (مسند الشاميين للطبراني: ج 6، 25؛ انظر أيضًا: جامع الأصول لابن الأثير: ج 7، 7099؛ عمدة القاري: ج 3، 53). ولذلك رُوي عنه أيضًا قوله: "لا يقطعُ الصلاةَ إلا الحَدثُ. ولا أستحييكم ممّا لم يستحي منه رسول الله صلعم. والحدثُ أن تفسُو أو تضرط." (سنن البيهقي: ج 1، 220). كما أنّ الضراط حقّ أيضًا ولا يجب الاستحياء منه. لكن، لزام على من فسا أو ضرط أن يذهب ويتوضّأ ثمّ يعود للصلاة: "إذا فسا أحدكم أو ضرط فليتوضأ، فإنّ الله لا يستحيي من الحقّ." (جامع الأحاديث للسيوطي: ج 3، 379؛ أنظر أيضًا: مصنف عبد الرازق: ج 1، 139).

بل وأكثر من ذلك،
فها هي المأثورات الّتي دوّنها لنا السّلف تفيدنا أنّ الفساء والضّراط هما من جملة العلوم التي أسبغها الله على بني البشر الجهلة بهذه العلوم الدّقيقة. هذا ما نستنتجه من رواية ابن عبّاس بهذا الشأن، فقد ذكر في تفسير الآية 31 من سورة البقرة: {وعلّم آدمَ الأسماء كلّها}، قال: "عَلّمَهُ اسْمَ كلّ شيء حتّى الهنة والهُنَيّة والفَسْوَة والضّرْطَة." (تفسير الطبري: ج 1، 484)، أو أنّه دخل حتّى في التّفاصيل الدّقيقة لهذا العلم، فقد ذكر أنّه علّمة حتّى الفرق بين الفسوة الكبيرة والفسوة الصّغيرة لكي لا تلتبس عليه هذه الأمور: "قال ابن عباس: عَلّمَه حتّى الفَسْوَة والفُسَيّة." (تفسير ابن كثير: ج 1، 223؛ أنظر أيضًا: الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 120؛ تفسير ابن أبي حاتم: ج 2، 47؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير: ج 1، 9؛ مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج 7، 94).

ولمّا كانت الضّرطةُ تعريفًا هي ريح خارجةٌ من الجوف، فقد يعلو على السّطح سؤال آخر، هل يعني ذلك أنّ كلّ ريح خارجة من الجوف تنقض الوضوء قياسًا كالضّرطة: "قد وجدنا الرّيحَ تخرجُ من الدّبر فتنقض الوضوء وليست نجاسةً، فهلاّ قستم عليها الجَشْوَة والعَطْسَة، لأنّها ريح خارجة من الجوف كذلك؟" (المحلى لابن حزم: ج 1، 452). لقد أوضح ابن قيّم الجوزيّة الفروق بين الرّيحين في إجابته على هذه المسألة: "وفرّق بين الرّيح الخارجة من الدبر وبين الجشوة فأوجب الوضوء من هذه دون هذه، فهذا أيضًا من محاسن هذه الشريعة وكمالها... والجشاء من جنس العطاس الذي هو ريح تحتبس في الدّماغ ثم تطلب لها منفذًا فتخرج من الخياشيم فيحدث العطاس. وكذلك الجشاء، ريحٌ تحتبس فوق المعدة فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحتبسُ تحت المعدة. ومن سَوّى بين الجشوة والضرطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحسّ." (إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيم الجوزيّة: ج 2، 107-108). وبكلمات أخرى، الفرق شاسع بين الجشوة أو العطسة وبين الضّرطة، وذلك رغم اشتراكهما تعريفًا بكونهما ريحًا خارجة من الجوف، على غرار الضّرطة، إذ شتّان ما بين الرّيحين.

لقد أشرنا آنفًا إلى أنّ عرب الجاهليّة
كانوا يتضاحكون إذا وقع من أحدهم ضرطة في المجلس، وأنّ هذا السّلوك المنكر هو أيضًا من سلوكيّات قوم لوط. وفي هذا السّياق فقد أشار القرآن إلى فواحش ومنكرات قوم لوط، كما ذكرت عائشة أم المؤمنين بشأن الآية 29 من سورة العنكبوت: "عن عروة بن الزبير عن عائشة، في قوله تعالى {وتأتُون في ناديكم المُنْكر}، قالت: الضّراط." (تاريخ الطبري: ج 1، 176؛ أنظر أيضًا: فتح القدير للشوكاني: ج 4، 288). وكما أسلفنا فإنّ هذه السّلوكيات كانت سلوكيّات مميّزة لقوم لوط: "فإنّهم كانوا يتضارطون في المجلس ويتضاحكون." (عمدة القاري للعيني: ج 28، 496؛ أنظر أيضًا: تاريخ الطبري: ج 1، 113؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 1، 206؛ الكامل لابن الأثير: ج 1، 38).

ولكنّ أهل الشّرع في الإسلام قد نهوا عن الضحك إذا وقع من أحدهم ضرطة في مجلس، وذلك استنادًا إلى عظة الرّسول بهذه الأمور: "عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن عبد الله بن زمعة أخبره، أنه سمع رسول الله صلعم يومًا في خطبته، ذكر الناقة والذي عقرها... ثم وعظهم من ضحكهم من الضّرطة، فقال: ما يضحك أحدكم ممّا يفعل." (المعجم الكبير للطبراني: ج 18، 483؛ أنظر أيضًا: مسند أحمد: ج 34، 454؛ شرح السنة للبغوي: ج 5، 88؛ مشكل الآثار للطحاوي: ج 9، 261؛ شعب الإيمان للبيهقي: ج 14، 278؛ صحيح ابن حبان: ج 24، 122؛ صحيح البخاري: ج 16، 360؛ رياض الصالحين للنووي: ج 1، 195). أي في حال وقوع ضرطة من أحد المؤمنين في مجلس، فإنّ الرّسول في عظته للمؤمنين، وبخلاف تضاحك أهل الجاهليّة وقوم لوط من هذه الأمور، فهو يأمر: "بالإغماض والتجاهل والإعراض عن سماع صوت الضّراط." (عمدة القاري: ج 28، 495).

غير أنّ ما يُلزم المؤمن،
في حال إحداثه فسوة أو ضرطة في الصّلاة، هو أن يقطع صلاته ويذهب ليتوضّأ ثمّ يعود. إذ أنّ الضرطة في هذه الحال تقطع الصّلاة وهي موجبة للوضوء لما فيها من النجاسة. ولهذا السّبب فإنّ النوم أيضًا يوجب الوضوء لأنّ النّائم قد يُحدث، وبكلمات أخرى قد يفسو أو يضرط، في حال نومه. وقد أشار الرّسول إلى ذلك بقوله: "العينُ وكاءُ السَّهِ فإذا نامت العينُ استطلق الوكاءُ" (سنن البيهقي: ج 1، 118؛ أنظر أيضًا: سنن الدارقطني: ج 1، 160؛ سنن الدارمي: ج 2، 353؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 9، 614؛ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وبراوية أخرى: "العينُ وكاءُ السَّهِ، فمن نام فليتوضّأ". فالعين التي تبصر، كما يقول المناوي شارحًا لهذا الحديث هي وكاءُ السَّهِ، أي هي ما تحفظه عن عن أن يخرج منه شيء. لذلك فالوجوب على من نام أن يتوضّأ. أي أنّه، كما يضيف: "جعل اليقظةَ للاسْت كالوكاء للقربة، وهو الخيط الذي يُشدّ بها." (التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي: ج 2، 309).

الصّليب بمنزلة الضّراط:
ومن موجبات الوضوء، التي تُعدّ على ما يبدو كالضّراط في الصّلاة، يمكن الإشارة إلى مسّ الصّليب لما به من نجاسة أيضًا. فقد روي في هذا السياق عن تقديم عليّ بن أبي طالب لرجل آخر في الصّلاة وذهابه ليتوضّأ لأنّه مسّ صليبًا، كما تنصّ عليه الراوية: "وأمّا مَسُّ الصليب والوثن، فإننا روينا عن عبد الرزاق...عن أبي عمرو الشيباني، أنّ علي بن أبي طالب رض استتابَ المستورد العجلي، وأنّ عليًّا مَسَّ بيده صليبًا كانت في عنق المستورد، فلمّا دخل عليّ في الصلاة قَدّمَ رجلاً وذهب. ثم أخبر الناس أنّه لم يفعل ذلك لحدثٍ أحْدَثَه، ولكنّه مَسَّ هذه الأنجاس، فأحبّ أن يُحدث منها وضوءًا." (المُحلّى بالآثار لابن حزم: ج 1، 458). وبكلمات أخرى، يقول عليّ للمؤمنين إنّه قد ذهب ليتوضّأ، ليس بسبب حَدثٍ أحدثه، أي ضرطة أو فسوة خرجت منه، وإنّما بسبب مسّه الصّليب لما به من نجاسة موجبة للوضوء، على غرار الضرطة.

ليس هذا فحسب، بل إنّ صوت نواقيس الكنائس شبيه بضراط الحمير، كما يذكر سفيان الثوري: "حدثنا ضمرة قال، قلت لسفيان الثوري: أيّ شيء أقول إذا سمعتُ صَوْتَ الناقُوس؟ قال: أي شيء تقولُ إذا ضرطَ الحمارُ؟" (حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني: ج 3، 139).

ضراط الخلفاء:
مهما يكن من أمر، ولأنّ الإسلام قد نهى عن الضحك من الضرطة، فعلى ما يبدو لم يعد حدوث الضرطة يؤدّي إلى شيء من الإحراج، فها هو عمر بن الخطّاب يعترف أمام النّاس بضراطه على المنبر إذ وقف خطيبًا فيهم: "ويروى أن عمر رضي الله عنه كان يخطب فقال: أيّها الناس إني ميّزتُ بين أنْ أخافَ الله وأخافَكُم، فرأيتُ خوفَ الله أولى، ألا وإنّي قد خَرجَتْ منّي ضَرْطةٌ، وها أنا أتوضّأ وأعود." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو الحجّاج يعترف بضراطه أيضًا: "وضرط الحجاج على المنبر فقال: ألا إنّ كلّ جوف ضروط. واستدعى بالماء فتوضأ." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)، وها هو المغيرة ينزل عن المنبر ليتوضّأ بعد أن ضرط: "صعد المغيرة المنبر فضرط فحرّك يده وضرب بها استَه وقال: كُلّ اسْتٍ ضروط، ثم نزل وتوضأ، وعاد إلى مكانه." (نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

بالإضافة إلى ذلك، فقد كان للسّياسة حظّ من الضراط. وعلى ما يبدو فقد كان للضّراط تأثير خفيّ في أمور السّياسة على مرّ العصور العربيّة. هذا ما نستنتجه من الرّواية بشأن التّوتُّر القائم بين السنّة والشّيعة، ومحاولة معاوية با أبي سفيان التّشنيع والنّيل من سمعة شيعة عليّ. فحسبما حفظ لنا السّلف من روايات، ذُكر أنّ أبا الأسود الديلي، من شيعة علي، قد: "دخل على معاوية خاليًا، فتحادثا طويلاً، فحبقَ أبو الأسود. فقال لمعاوية: إنّها فلتة، فاكتُمْها عَلَيّ، فقال معاوية: أفْعَلُ ذلك. فلمّا خرج من عنده، دخل على معاوية عمرو بن العاص فأخبرَه عن ضرطة أبي الأسود. ثم خرج عمرو فلقي أبا الأسود بالسّوق، فقال له: ما فَعَلَتْ ضَرْطتُكَ يا أبا الأسود؟ فقال أبو الأسود: كُلّ ذي جوف ضروط، ثم غدا على معاوية فقال له: إن امْرأً لم يُؤمنْ على ضرطةٍ حَقيقٌ ألاّ يُؤمن على إمرة المؤمنين." (سمط النجوم العوالي للعصامي: ج 2، 61؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 38؛ محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446).

لقد حاول الخلفاء أحيانًا التّخفيف من روع الضّارطين في مجالسهم معترفين أمامهم بأنّهم هم أنفسهم من المكثرين بالضّراط: "كلمت امرأةٌ هشام بن عبد الملك في حاجة فضرطت، فسكتت وخجلت!فقال: تكلمي ولا تستحي فما سمعتُ هذا من أحدٍ أكثرَ ممّا سمعتُه مني." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 47)، وبرواية أخرى: "وحبق كاتب لعمر بن عبد العزيز بين يديه، فرمى بقلمه واستحيا ممّا جاء به. فقال عمر: لا عليكَ، خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليذهب روعك، فما سَمعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سَمعْتُها من نفسي." (سمط اللآلي للميمني: ج 1، 119).

وها هو الصّاحب يُهدّئ، شعرًا، من خجل أحد الفقهاء الضّارطين في مجلسه: "وحضر بعضُ الفقهاء مجلس الصاحب فضرطَ، فاشتدّ خجلُهُ. فقال الصاحب: "قُلْ لابْنِ دُوشابَ لا تَخْرُجْ عَلَى خَجَلٍ - منْ ضَرْطَةٍ أشْبَهَتْ نايًا عَلَى عُودِ / فإنّها الرّيحُ لا تَسْطيعُ تَحْبسُها - إذْ أنْتَ لسْتَ سُليمانَ بْنَ داوُدِ." (محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 447). ولا غرو من تشبيه الصّاحب للضرطة بصوت النّاي الذي يرافق العود، فها هو سعيد بن جبير الكاتب: "من المعروفين بالضُّراط، وكان يضرط على عيدان القيان، ويزعم أنّ الضُّراط أحسنُ من السّماع." (نثر الدر للآبي: ج 2، 39؛ أنظر أيضًا: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج 1، 446)

لقد بلغ الأمر بالبعض أن اتّخذوا من الضّراط مهنة يتكسّبون بها، وهذا ما دفع بأبي عامر الجرجاني أن يقول شعرًا: "قد ضاقَ صَدْرِي من صُدور زَماننا - فَهُمُ جماعُ الشّرِّ بالإجْماعِ / يَتضارَطُونَ، فإنْ شَكَوتَ ضُراطَهم - شَفَعُوا سَماعَ الضّرْط بالإسْماعِ / هذا يُفَرْقعُ بالضُّراط وَذاكُمُ - يَرْمِي بمثل حِجارَةِ المِقْلاعِ / وَمِنَ البَليّةِ أنْ تُعاشرَ مَعْشَرًا - يَتَضَارَطُونَ الدّهْرَ بالإيقاعِ" (الوافي بالوفيات للصفدي: ج 7، 168؛ أنظر أيضًا: معجم الأدباء لياقوت الحموي: ج 2، 247)

الضراط في الأحلام:
لقد بلغ شغف العرب على مرّ العصور بأمور الضّراط أنّهم أضحوا يحلمون به، ولذلك فقد أفردوا له بابًا في تفسير أحلامهم أيضًا. غير أنّه، ومثلما تختلف النّظرة للضّرطة من بلد إلى بلد ومن شعب إلى شعب، كذلك هي الحال أيضًا في تفسير وقوع الضّرطة في الحلم، بين تفسيرات أهل الكفر وتفسيرات أهل الإسلام: "واعْلَمْ أنّ تربة كلّ بلد تخالفُ غيرها من البلاد لاختلاف الماء والهواء والمكان. فلذلك، يختلفُ تأويلُ كل طائفة من المُعَبِّرين من أهل الكفر والإسلام، لاختلاف الطّبائع والبلدان... والطينُ والوحلُ لأهل الهند مالٌ ولغيرهم محنة وبلية، كما أن الضّرْطةَ عندهم بشارةٌ وسرور ولغيرهم كلامٌ قبيحٌ." (تعطير الأنام في تفسير الأحلام لعبد الغني النابلسي: ج 1، 3).

وعلى كلّ حال، ولأنّ ثمّة فروقًا جليّة واضحة بين صنوف الفساء والضّراط، فبقدر هذه الفروق بين الصّنوف يأتي تفسيرها إذا وقعت في الأحلام، كما دوّن لنا السّلف، فالضّراط: "هو في المنام كلام رديء، أو نازلة تنزل بفاعلها.... ومن رأى أنّ ريحًا خرج منه وله صوت، فإنّه يتكلّم بكلمة قبيحة. ومن رأى أنّه بين قوم فخرجت منه ضرطة من غير إرادة، فإنّه يأتيه فرج من غمّ وعسر... فإن ضرط متعمّدًا وكان له صوتٌ عال ونتن، فإنه يتكلم بكلام قبيح أو يعمل عملاً قبيحًا وينال منه سوء الثناء عليه على قدر نتنه، وتشنيعًا بقدر الصوت. فإن كان له نتن من غير صوت فإنه ثناء قَبيح من غير تشنيع على قدر نتنه. فإنْ ضرط بين قوم، فإنهم إن كانوا في غمّ أو همّ فُرّج عنهم، وإن كانت تجارة ربح فيها، وإن كان في عُسر تحول يسرًا. وإن ضرطَ بجهد فإنه يؤدّي ما لا يطيق فإن ضرطَ سهلاً، فإنه يؤدي ما يطيق. وإن رأى أنه ضرطَ ضرطةً ورافقها ريح نالَ عزًّا ورفعةً في سفر، ولكن تتفرق أمورُه وتنجلي غمومُه ويرجع سالمًا. والضّراط بالفم في المنام يدلّ على الزّلل في الكلام..." (تعطير الأنام في تفسير الأحلام لعبد الغني النّابلسي: ج 2، 58)

وهكذا نرى
أنّ النّظرة للضّراط قد مرّت بتطوّرات عديدة على مدى التاريخ العربي، وقد لعب الضّراط دورًا هامًّا في الحضارة العربيّة، في النّواحي الاجتماعيّة، الدينيّة والسّياسيّة، قديمها وجديدها، طريفها وتليدها.

وأخيرًا، لعلّ خير ما نختتم به دراستنا هذه حول الضراط في التراث العربي، هو أن نستعير مقولة ابن أبي علقمة تعميمًا على العرب أجمعين، إذ يبدو أنّ العرب مخضرمون في هذا الباب، فسّاؤون في الجاهلية ضرّاطون في الإسلام. تذكر الرّواية العربيّة: "مر ابن أبي علقمة على جماعة من عبد القيس، فضرط بعض فتيانهم فقال: يا عبد القيس، فسائين في الجاهلية ضراطين في الإسلام، إن جاء دين آخر خريتم." (التذكرة الحمدونية: ج 3، 222؛ أنظر أيضًا: نثر الدرّ للآبي: ج 2، 40).

والسؤال الّذي يطرح نفسه هو، هل ستبقى أبواب الضّراط مفتوحة على مصاريعها جالبة معها تصوّرات مستجدّة وعلومًا عربيّة مستحدثة؟ هذا ما سيكشفه لنا المستقبل.

والعقل وليّ التّوفيق.
***

***
مقالات السلسلة:
المقالة الأولى: "الضراط في التراث العربي"
المقالة الثالثة: "فسّاؤون ضرّاطون في اليهوديّة"

ـــــــــــــــ 


 المقالة والتعقيبات كما نُشرت في موقع الأوان








الضراط في التراث العربي


فلو عدنا إلى قراءة التّراث الّذي حفظه لنا القدماء، سنصل إلى قناعة مفادها إنّه، وعلى ما يبدو، فإنّ العرب هم أعلمُ خلق الله بضروب الضّراط. ولذلك جرى على لسانهم وأطلقوه في أمثالهم.

سلمان مصالحة


الضراط في التراث العربي

مقالة حول حروب الطبيخ


سـلمان مصـالحة
|| مقالة حول حروب الطبيخ

قبل عدّة شهور
كان سجّل بعض الـ"حلونجيّة"، كما يقال بالعاميّة العربيّة المتأثّرة بالتركيّة، في مدينة نابلس الفلسطينيّة رقمًا قياسيًّا في كتاب چينيس بتصنيع أكبر صحن كنافة في التاريخ. وبعد ذلك بفترة وجيزة تنطّح "حلونجيّة" آخرون من مدينة الناصرة وسجّلوا أكبر صحن حلاوة في كتاب چينيس أيضًا.

تذكّرت هذين الخبرين الآن بعد أن عدتُ من أوروبا إلى ربوع الوطن فوجدتُ حربًا شعواء دائرة على الطّبيخ. لم أشأ في هذه الرحلة الأوروپيّة أن أقرأ الصحافة أو أن أشاهد الأخبار عبر الفضائيات في أوروپا عن هذه البقعة من الأرض. قلت في نفسي أنا عائد قريبًا إليها ولا شكّ أنّ أخبارها تستطيع الانتظار حتّى أعود، فلن يتغيّر شيء خلال أسبوعين من الزّمان، وإذا ما حدث شيء طارئ فلا شكّ أنّ الأصدقاء سيقومون بإخباري.

أمّا الآن، وبعد العودة
فقد قرأت أنّ حروب الطبيخ هذه قد انتقلت، وعبرت الحدود إلى لبنان، كما أفهم. إذ نقلت الصحافة العالمية والمحلية قضيّة الصّراع على صحن الحُمّص ابتغاء تسجيل أكبر صحن حمّص في كتاب چينيس للطبّاخين اللّبنانيين، حفاظًا على كرامة لبنان العالميّة المتمثّلة في صحن الحمّص، على ما يبدو. وذلك بغية انتزاع اللّقب من كتاب چينيس الذي كان مسجّلاً على اسم إسرائيل. فقد ذكرت الأنباء الواردة من لبنان عن مشاركة "نحو 250 طباخاً وتلميذ فندقية... في تحطيم الرقمين القياسيّين الإسرائيليّين المسجّلين العام الماضي لصحن الحمص... وجاء ذلك في إطار مهرجان تحت عنوان «الحمص لبناني والتبولة كمان» أقيم يومي السبت والأحد في سوق الصيفي في وسط بيروت، بمبادرة من جمعية الصناعيين اللبنانيين، ونقابة أصحاب الصناعات الغذائية والشركة الدولية للمعارض، وبرعاية وزارة الصناعة..." (عن: "الأخبار"، 26 أكتوبر، 2009).

ليس هذا فحسب، بل حسبما ذكر
أحد مؤسّسي الدفاع عن التسميات، فإنّ الصّراع ليس حول الوزن بل هو صراع حول التّراث، كما أوردت صحيفة "الأخبار" على لسانه: "وعلى الرغم من أهمية ما حقّقه مهرجان اليومين الماضيين، فإنّ الدكتور رودلف القارح، وهو أحد مؤسّسي حركة الدفاع عن التسميات الجغرافيّة اللبنانيّة منذ 1994.... وأشار إلى: أنّنا لسنا في حالة صراع مع إسرائيل حول الوزن، بل في صراع حول التراث المشرقي عموماً...".

وها أنا أقرأ الخبر والتّصريح وأنفجر ضحكًا حتّى أستلقي على قفاي، كما يقال بلغة تراثيّة مشرقيّة. فالدكتور الفصيح يقول في التّصريح، إنّ الصراع "صراع حول التراث المشرقي عمومًا"، والدكتور الفصيح، كما تذكر الصحيفة هو "أحد مؤسّسي حركة الدّفاع عن التسميات..."، هكذا حرفيًّا. لكن لاحظوا أنّ اسم هذا الدكتور الفصيح هو "رودلف القارح". فمن أيّ تراث مشرقيّ استنبط هذا الاسم "رودلف"؟ أوليس من الأحرى بالدكتور أن يبدأ بنفسه ويغيّر اسمه الشخصي أوّلاً إلى اسم عربيّ، أو باسم من التراث المشرقي قبل أن يتحدّث ببلاغة تليدة وبليدة عن هذا التراث؟ لقد كنت نوّهت في مقالة سابقة أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض إضحاكًا: "رودلف القارح"، أليس كذلك؟

لقد كنت أعتقد، لسذاجتي،
أنّ الصّراع مع إسرائيل هو لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، أو أنّ الصّراع مع إسرائيل هو حول أمور تتعلّق بدفع المجتمعات قدمًا من النواحي الاقتصادية، الثقافية، العلميّة، التكنولوجيّة، أو حول طباعة الكتب والعمل على دفع القراءة قدمًا، أو حول براءات الاختراعات التي تسجّلها إسرائيل سنويًّا أضعافًا مضاعفة من العالم العربي بأسره، أو حول جوائز نوبل في المجالات العلميّة، أو حول الحريّات الفرديّة ومكانة المرأة في المجتمع، أو الديمقراطيّة السياسيّة وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. لكن، ما لي ولهذه الأمور السّخيفة، فها أنا أكتشف الآن أنّ الصّراع مع إسرائيل هو صراع حول المطابخ والطبايخ.

ومسألة أخرى لا بدّ
من الإشارة إليها، يريد اللّبنانيّون بنوع من النّخوة العربيّة تسجيل الحمّص باسم لبنان. فلا بدّ هنا من القول للبنانيين: حذار من ذلك، فلا شكّ أنّ جارتكم من الشّرق ستستشيط غضبًا عليكم، فيكفيكم ما أنتم به من مشاكل معها. وبعدين، من قال لكم إنّ الحمّص لبناني؟ فهو سوري أيضًا، وهو أردني أيضًا، وهو فلسطيني أيضًا. كما أنّه أضحى إسرائيليًّا أيضًا من خلال تصنيعه وتسويقه للعالم. أليست إسرائيل قائمة في هذا المشرق باعتراف العالم، ومن بعده باعتراف مصري وأردني وفلسطيني، ومستقبلاً سوري أيضًا بعد الانسحاب من الجولان. وعلى فكرة، فإنّ الشركات الإسرائيليّة لا تخشى من تسويق الحمّص بالأسماء العربيّة، فهي تتنافس فيما بينها على تسويق الحمّص بأسماء عربيّة ابتغاء جني الأرباح.

وإذا كان العرب على هذه النّخوة العربيّة ذودًا عن حمى الأسماء العربيّة فالأحرى بمجامعهم اللّغويّة أن تجد أسماء عربيّة للبندورة، للباذنجان، للخيار، للبازلاّء، للفاصوليا، للوبياء، كما حريّ بها أوّلاً أن تجد أسماء بديلة للكندرة، للإبزيم وللبابوج، أو أن تجد بدائل عربيّة لأسماء مثل پاسكال، أو پيير، أو پولين (لاحظوا أنّ العرب يصرّون على اختيار أسماء بحروف يصعب عليهم نطقها أصلاً، كحرف الـ پي- "P"، مثلاً، إذ يلفظونه باءً عربيّة). وكلّ هذا، ناهيك عن أنّهم مُلزمون أوّلاً وقبل كلّ شيء أيضًا بتغيير اسم مثل اسم "رودلف"، واستبداله باسم آخر من التراث المشرقي. أليس كذلك؟

ولعلّ خير ختام لهذه المقالة، هذه الطرفة:
قبل مدّة كنت أتحدّث مع صديق غزّاوي عن تصنيع منتجات في مستوطنات إسرائيليّة، وعن حملات مقاطعة لهذه المنتجات، وأنّهم ربّما في غزّة الآن، ورغم الحصار المفروض عليهم، يحصلون على المنتجات المصريّة عبر الأنفاق. ضحك الصديق الغزّاوي من سذاجتي قائلاً، إنّهم في غزّة يفضّلون المنتجات الإسرائيلية على المصريّة، غير آبهين بكلّ ما ذكرت له، لأنّ المنتجات الإسرائيليّة هي أتقن تصنيعًا وأفضل مذاقًا من المنتجات المصرية.
لا أحد يمنع العربي من أن يتقن صناعة منتجاته ويقوم بتسويقها في العالم الواسع، فلماذا لا يفعل ذلك؟ ولماذا لا يستثمر الأموال في تسويقها للعالم الرحب؟ غير أنّ الحقيقة التي لا بد من قولها هي أنّ العرب لا يصنعون شيئًا ذا قيمة تسويقيّة للعالم من حولهم. فحتّى الحطّة والعقال وسائر ألبستهم الوطنيّة لا يقومون هم بتصنيعها، بل العالم يصدّرها ويسوّقها لديهم. وحتّى النّفط ومشتقّاته يستورده العرب من الدول الصناعية.
الحقيقة هي أنّ العرب هم أمّة مستهلكة ليس إلاّ. أليس كذلك؟

والعقل ولي التوفيق!
***
26 أكتوبر 2009
***

ڤيسار جيطي/الشّعَرات


ڤيسار جيطي

الشّعَرات



كَمْ مِنْ تِلْكَ عَلَى رُؤوسنا،
نَمْشُطُها حسبَ آخر صرعة.
نُزيّنُها،
نَنفُشُها أمامَ المِرْآة،
نَمْلؤها بالبريق والرّوائح.
لكنْ، حينما نَحْلقُ
وَتَسْقُطُ عَلَى الأرْض،
فإنّا نَكْنُسُها
كَمَا الزّبالة،
كَما الحُكّام.




ترجمة: سـلمان مصـالحة

من مجموعة: "ذاكرة الهواء" 1993.

ڤيسار جيطي: شاعر ألباني من مواليد 1952. اشتغل مدرسًا في قرى ألبانيا، وبعد أن نشر مجموعته الشعرية الأولى في العام 1980 حُكم عليه بالسجن لمدّة ثماني سنوات مع الأشغال الشاقّة.
القصيدة هذه هي خير تعبير عن مصير المستبدّين من الحكّام على سائر مللهم ونحلهم. لذلك من المهمّ وضعها هنا في ترجمة عربيّة لما لها من إسقاطات على المستبدّين من الحكّام العرب.
*
10 أكتوبر 2009
***
Visar Zhiti,"The Hairs", translated into Arabic by Salman Masalha

طريق الغور

قصّة قصيرة

سلمان مصالحة || طريق الغور


السّتارة الّتي أُسدلت على النّافذة الواسعة لم تقم بما أُنيط بها من مهمّات. كانت اليد الّتي سحبتها ببطء ليلة أمس قد وضعت على عاتقها مسؤوليّات غير عاديّة. اليد التي ارتفعت بحركة بطيئة وأمسكت بطرف منها ودّت أن تفعل هذه السّتارة أمرًا ما؛ أن لا تسمح مثلاً لضوء الشّارع ليلاً، أو ضياء الصّباح أن يدخلا أو أن يتدخّلا بما لا يعنيهما، أو على الأقلّ أن لا يسترقا لحظات تلصُّص لذيذة على ما تُخفي الغرفة من أسرار. ولكن، يبدو أنّ إرادة السّتارة قد اشتهت غير ما اشتهته اليد في ساعة متأخّرة من اللّيل. امتدّت اليد راسمة خطوطًا متعرّجة في الجسد العاري، كاشفة نتوئًا في الصّدر مدوّرة مثل كثبان رمل في صحراء داكنة ناعمة.
هل للسّتائر إرادة من ذاتها؟ سأل هلال نفسَه وهو ينظر إلى تَعرُّجات السّتارة محاولاً استخدام فراسته الطّبيعيّة، الّتي لا تُخطئ عادة في حُكْمه على بني البشر. حاول أن يختبر فراسته هذه المرّة على السّتائر. للسّتائر طباع كطباع بني البشر، همسَ لنفسه في فضاء الغرفة بصوت خفيض وقع صداه في أذنيه، فانتبه إلى أنّه قد غرق لحظة وغاب في شطحة صباحيّة طارئة.

مرّ بنظره ثانية على التواءات السّتارة التي تمايلت لعبور نسائم صباحيّة خفيفة من شقّ صغير أبقته اليد ليلة أمس. ها هو الآن في هذه العتمة يحاول أن يتذكّر لون السّتارة، نسيجها وخطوط نقوشها، يحاول جاهدًا أن يرى في هذه الأمور ما قد يكشفُ عن طبع خاصّ يميّزها عن سائر السّتائر. عندما وصل، في ساعة عصر أمس، لم ينتبه إلى كلّ هذه التّفاصيل، فرأسه كان منهمكًا بتفاصيل التواءات وتعرُّجات أخرى. نهض من السّرير، وألقى نظرة على السّاعة المتروكة على الطّاولة. السّاعة الآن هي الثّامنة صباحًا وهذه ساعة مبكّرة، على الأقلّ في هذا المكان الّذي وجد نفسه فيه.

حاولَ هلال أن يفهم لماذا يُشْغلُ بالَهُ بكلّ هذه الأمور الآن، وهل نسيَ أنّه موجودٌ في لحظة غير عاديّة ومكان غير عاديّ. هل نسي أنّه موجود في فندق، وهل نسي أنّ ستائر الفنادق لا تختلف كثيرًا عن بعضها البعض؟ كانت موظّفة الإستقبال في الفندق، وتمشّيًا مع آداب المهنة، قد رحّبت به بوجه بشوش عندما وصل عصر أمس. بعد أن فحصت جواز السّفر وتأكّدت من ترتيبات الحجز المسبقة سلّمته المفتاح فتوجّه خطوات معدودة نحو المصعد الّذي أقلّه إلى الغرفة.

فقط ما يجري وراء هذه السّتائر، أضاف بينه وبين نفسه، هو الّذي يختلف من مكان لآخر، ثمّ استدرك، أو قد لا يختلف. ستائر الفنادق، أضاف محاولاً الإفلات من براثن هذه الهواجس، أينما عُلّقت، إن كانت في پاريس أو في القدس أو في عمّان هي هي فلماذا، إذن، يشغل باله بها الآن.

ما أن قفزت كلمة عَمّان من بين شفتيه كما لو كانت حروفًا أولى يلفظها طفل يكتشفُ القدرة على الكلام، حتّى انتبه فجأةً إلى أنّه موجود في هذه المدينة الآن في هذه السّاعة من صباح أحد الأيّام من شهر آب اللّهّاب. كفَّ عن الغوص والبحث عن إجابات على كلّ هذه التّساؤلات، نظر مرّة أخرى إلى التواءات السّتارة، ورويدًا رويدًا رحلت عيناه في فضاءات الغرفة على غمامة نديّة من غباش صباحيّ خفيف، كما لو أنّه أفاق من حلم غريب لا يتذكّر الآن مجمل تفاصيله.

***
- ما الّذي تبحث عنه هنا في هذه البلاد؟ سألَه، بعد فترة من الصّمت طالت قليلاً، سائقُ التّاكسي الّذي أقلّه من الجسر، بينما كان يخرج من جيب في باب السّيّارة القريب منه علبة سچائر عارضًا عليه أن يجرّب واحدة من هذه الـ»مصنوعة محليًّا«، مُشدّدًا على هاتين الكلمتين. لم يفهم هلال من تشديده هذا إنْ كان جاء بغرض التّعبير عن روح وغَيْرة وطنيّتين أم أنّه فقط لمجرّد المزاح الشّعبي الّذي صار سمة لازمة لسائقي سيّارات الأجرة. لم يكن لدى هلال أيّ نيّة بالدخول في حديث متشعّب مع السّائق وفي هذه اللّحظة بالذّات، لأنّه كان غارقًا في هواجس وانفعالات لم يرغب في أن يلقي إليه أحدٌ، كانَ مَنْ كان، قشّة أو حبلاً من حبال الرّيح للنّجاة منها. فكم بالحريّ إذا كان هذا الأحد هو واحد من جمهرة سائقي التاكسيّات الّذين اتّخذوا من الحديث مع المسافرين مهنة أخرى لهم تنضاف إلى مهنتهم المرهقة.

عندما وقعت عينا هلال على علبة السچائر بيد السّائق، سارع فسحب من حقيبته علبة سچائره هو. كان يظنّه غير مُدخّن، ولم يشأ أن يزعجه بدخان سچائره، مع أنّه في الطّريق وَدَّ أن يتناول سيچارةً من علبته، أن يمتصّها ببطء كعادته، ثمّ ينفث معها أنفاسه المتسارعة انفعالاً ممّا تشاهد عيناه الآن، وممّا ستشاهداه عمّا قليل.

في الطّريق الّتي تقطع غور الأردن جنوبًا قبل الإلتفاف يسارًا والصّعود في ثنيّات الجبل، فكّر هلال في أمر السّيچارة قليلاً غير أنّه عدل عن الفكرة محدّثًا نفسه: حاولْ، يا رجل، أن تكبت شوقك لهذه النّار الدّاخنة، فالمسافة ليست بعيدة ويكفيك نارُ هذا الغور المُغبرّ في هذا اليوم من شهر آب. ثمّ احفظ، أضاف لنفسه، شوقَك هذا لهذه النّار، فهناك وراء هذه التّلال الجرداء، من ينتظر هو الآخر، على أَحرّ من الجمر، الإقتباسَ من هذه النّار الّتي تضطرم في أعماق نفسك.

عندما سمع هلال عرض السّائق عليه سيچارة، اعتذر عن عدم قبوله العرضَ بتناول سيچارة »وطنيّة«، معلّلاً ذلك بأنّه لا يغيّر سچائره إذ أنّ التّغيير يسبّب له قحّة »وطنيّة« معهودة. أشعل كلّ واحد منهما سيچارته وخيّم الصّمتُ من جديد على السّيّارة. فتح هلال نافذة السّيّارة قليلاً لاستنشاق هواء نقيّ قدر الإمكان في هذا المكان والزّمان من جهة، ولنفث دخان سيجارته خارجًا حتّى لا يتحوّلا هو والسّائق إلى جُثّتين مُدَخَّنتين في هذه العلبة المعدنيّة. دسّ هلال رأسه في النّافذة وواصل تفحّص هذه الطّريق ومعالمها. فقط صوتُ محرّك السّيّارة اللاّهث في هذه الطّريق الصّاعدة في السّفوح الصخريّة الجرداء ذَكّرَه الآن برحلاته المتعدّدة في الجهة الأخرى من نهر الأردن. ها هي كلّ هذه العلامات على الطّريق الّتي كان يمرّ بها في طريقه شمالا، ولكنّه الآن يراها بحجم أكبر، وعن كثب.هذه هي المرّة الأولى الّتي يسلك فيها هذه الطّريق.

طوال سنين كان يُسافر في الجهة الأخرى من الغور. كان، قبل أن يقتني سيّارة، يجلس في مقعد في الباص الخارج من القدس إلى طبريّة بجانب النّافذة، وبعد أن يقرأ الصّحيفة الّتي يقتنيها في المحطّة المركزيّة يدسّها في حقيبته ثم يُلصق عينيه بزجاج النّافذة لا يحيد نظره يمنة أو يسرى. كان ينظر إلى تلك الجبال الصّفراء عبر النّهر. كم قاحلة تلك الجبال، كان يقول في نفسه، إنّها شبيهة بالتّلال في هذا الطّرف من الغور، ولا بدّ أنّها في زمان ماضٍ بعيد أو قريب كانت متّحدة حتّى جاء زلزال وفصلهما عن بعضهما. كان الباص يشقّ طريقه في هذا الشّقّ في التواءات الطّريق الّتي تسير بحذاء النّهر من جهة الغرب قاصدًا بيسان شمالاً، ثمّ حتّى طبريّة محطّته الأخيرة. كان الباص يلتهم الطّريق ويلتوي مع التواءات الشّارع بينما كان هو يشقّ طريقه ويتلوّى في التواءات حلم لا يرى له لا أوّل ولا آخر.

في الماضي كان يسافر كثيرًا شمالاً، ولأنّ السّفرة كانت طويلة بمقاييس تلك الأيّام، كان يجعل له علامات على الطّريق. لم يضع هو تلك العلامات، بل آخرون كانوا وضعوها قبله. أحيانًا كانت تلك علامات على وجه الأرض صنعتها الطّبيعة ولم يتدخّل فيها نفر من البشر. في تلك الأيّام لم يكن ينظر إلى السّاعة فكان يعرف بالضّبط الزّمنَ الّذي تستغرقه السّفرة لكثرة ما سافر شمالاً. بدلَ أن ينظر إلى السّاعة فضّلَ أن يُلصق وجهه في زجاج نافذة الباص ويعدّ القمم في الجهة الأخرى من النّهر حينًا، وحينًا يتفرّسُ وجهَ الأرض محاولاً تَبيُّنَ قسمات جديدة أو نُدوبًا طبيعيّة تكون له علاماتٍ بارزة على الطّريق. كان يفعل ذلك كي لا يُبَرّح به الملل. لقد اختار اتّخاذ هذه الطّريقة نهجًا له بَدَلَ النّظر المملّ إلى السّاعة بين فينة وأخرى لرؤية كم تبقّى من الوقت للوصول إلى محطّة الباصات المركزيّة في طبريّة.

وها هو الآن في الجهة الأخرى من النّهر ينظرُ من شاهقٍ على طريق الغور الّتي سلكها مرّات كثيرة ذهابًا وإيابًا، وها هو الآن يتفحّصها من بعيد. كم تبدو له تلك التّلال الغربيّة الآن قريبة وبعيدة في آن معًا.

حين تقطع النّهر شرقًا وتختفي وراء القمم تشعر وكأنّك تغلغلت في أعماق الصّحراء بعيدًا عن البحر، بعيدًا عن تلك النّسائم العليلة الّتي تأتي حاملة في مساماتها تلك الرّطوبة النّظيفة والخفيفة من البحر الغربيّ، تلك النّسائم الّتي أنعشت الأغاني والحقول وكثيرًا من النّفوس. غير أنّ الصّحراء هي منبع لخيالات الرّوح، قال هلال في قرارة نفسه، بينما كان يحاول أن يمسح قطرات العرق الّتي بدأت تنبع في مساحات متّسعة من جبينه. لكنّها، أضاف لنفسه، ربّما يجب أن تبقى بعيدة، أن تبقى حلمًا يزوره في لياليه إذ عزّت الأحلامُ. الصّحراء، قال لنفسه بنبرة واثقة كما لو كانت مأخوذة من إعلان مبادئ، يجب أن تقوم هناك بين واحتين يعبرها المرءُ بين الماء والماء حتّى لا تستحوذ على العقل وتجفّف الرّوح.

*****

حينَ سأله السّائق في الطّريق عن سبب قدومه إلى هذه البلاد لم يكن السّائق يعلمُ أنّ الجواب على سؤاله لا يُمكنُ أن يُعطَى هكذا في هذه المركبة العامّة لسائق أقلّه بالصّدفة من المعبر الحدودي. كان السّائق يمكن أن يكون شخصًا آخر، فكلّ ما في الأمر أنّ رِجْلَي هلال أقلّتاه بضع أمتار إلى محطّة التّاكسيات وانتظر دوره هناك، حتّى جاء هذا السّائق. فالسّائق كان يمكن أن يكون ذلك السّائق الضّخم الجثّة الّذي سبقته إليه المرأة النّحيلة، المرتّبة الهندام برفقة ولدين كانا يبدوان أنّهما ولداها. وكان يمكن أن يكون سائقًا آخر، غير هذا وذاك، لو قبلَ عرض أحد المتسكّعين في المعبر، من أولئك الّذين جعلوا مهنة اصطياد السّائحين مهنة لهم، مرّة لنقل حقائبهم ومرّة لإحضار تاكسي لهم لقاءَ مبلغ زهيد يدفعه لهم السّائح، قد يساعدهم بالطّبع على القيام بأودهم، أو أود أولادهم وعائلاتهم.

لم يرغب هلال في الحديث مع السّائق عن أمور لم يفصح بها حتّى لأناس مقرّبين له، فزيارة هلال لهذه البلاد الآن هي زيارة سرّيّة لا يعلمُ بها أحد، فكيف بهذا السّائق الّذي جمعته به الصّدفة فقط. بعد برهة قصيرة، لم يشأ أن يخيّب أمل السّائق فأطلق في فضاء السّيّارة جملة واحدة لا تعني شيئًا، قال: إنّها مجرّد زيارة قصيرة للقاء أصدقاء، وعادا فغرقا كلّ في حال سبيله، السائق في تنفيذ المهمّة التي أنيطت به في محطّة الجسر، وهلال في مسارب وأحلام أخرى.

ها هو الجسر الّذي يمتدُّ بين ماضيه وحاضره. ها هو الجسر الّذي يعبره الآن لوحده إلى منطقة وسطى لا شيء فيها غير هذا الجسد العاري إلاّ من قطف العنب الملقى على الطّاولة، مثلما هو مُلقى الآن في هذا الفراش وجسده الآخر يتراءى له في المرآة. لا شيء في هذه المنطقة الوسطى غير هذه الرّوح الّتي تحمله بأجنحتها الواسعة الرّحبة إلى جزيرة غريبة وساحرة. قد يسأله سائل، وما هو السّحر في هذه الجزيرة؟ فكيف سيشرح لمن يسأله عن سرّ سحرها. كيف سيقول لهم إنّ سحر هذه الجزيرة هو بقوّة الجاذبيّة فيها، فهذه جزيرة ليست كسائر المواقع على وجه الأرض. إنّها جزيرة فريدة، مَنْ تطأ رجلاه فيها لا يستطيع بعد ذاك الحراك، فخطواته لاصقة بأرضها، برملها، بكثبانها، بتلالها، بعشبها الّذي تعتني به يدان غير مرئيّتين، بفروع شجرها الوارفة الظّلال، بمياهها العذبة، بنبض كثبانها الممتدّة على شاطئ الرُّوح، يستنشق الهواء، يملأ رئتيه بكلّ هذا النّقاء حتّى يَعُودَ شظايا سناء حائم في فضاء هذه الغرفة الظّلماء. في الواقع لا حاجة به للانتقال إلى أيّ مكان بعد أن وطأت رجلاه الجزيرة الآن، لأنّه عرف أخيرًا أنّه وصل إلى مكان وجد فيه كلّ شيء، إلى مكان هو المبدأ والمآل.

بدأت رحلته إلى هذه الجزيرة منذ عام تقريبًا. كان الوقتُ صيفًا، جلس هلال في شقّته الجديدة يعدّ الدّقائق مرّة أخرى. لكن ما الفائدة من عدّ الدّقائق، وعمّا قليل، بعد ساعة من الزّمن على الأكثر سيجد نفسه في مواجهة غريبة مع نفسه، مع ماضيه وربّما مع ما يخبّئ له المستقبل. كانت السّاعة السّابعة مساء أو قريبًا منها. على غير عادته، جلس في صالون بيته الجديد وصبّ لنفسه كأسًا من النّبيذ وبين رشفة من الكأس ونظرة إلى الحديقة الفاصلة بين البيت والشّارع، كان بين فينة وأخرى يختلسُ نظرات فيها شيء من الانفعال والقلق وينظر إلى عقارب السّاعة. المكان هنا لا تتغيّر تضاريسه مثلما كانت الحال في أوقات سفره بالباص شمالاً. في تلك السّفرات من الماضي كانت تتبدّل العلامات الّتي اتّخذها على الطّريق. في تلك الرّحلات كان يقيس الوقت بتبدّل العلامات، هنا قمّة غريبة، وهناك مبنى ما، هنا مغارة في التّلّ وهناك شجرة تنتصب منفردة في عرض الصّحراء وما إلى ذلك ممّا يتّخذه العقل سلوى له من ملل السّفر. أمّا هنا، في هذا البيت، فهو جديد على على هذه الحارة ولم ينتبه بعد إلى خصوصيّات البيت الصّغيرة الّتي تمكّنه من التّعرُّف على الوقت دون النّظر إلى السّاعة في يده. تمرّ الدّقائق وكأنّه أخذ على عاتقه مسؤوليّة عَدِّها. كأنّ هاجسًا ما طلب منه أن يعدّ هذه الدّقائق الّتي لا نهاية لها، هكذا بلا سبب وبلا هدف. أو كأنّ حُكمًا غريبًا بعدّ الدّقائق فرضته عليه محكمة المكوث في هذه المدينة الغريبة الأطوار.

مدينة غريبة حقًّا هي القدس، وأشدّ ما تكون غرابتها عندما يكون المرء غريبًا فيها هو أيضًا. هكذا تتراكم الغرابات هنا في هذه المدينة فوق بعضها البعض وتمتزج لتخلق حالاً من العيش على حبل رفيع شُدَّ فوق هوّة مليئة بكلّ ما هو مرعب. من جهة، يُصاب المرء بالإدمان على السّير على هذا الحبل الممدود بين قطبين، لما لهذا السّير فوق الهوّة من متعة الإنفعالات وذعر السّقوط في هوّة لا قاع لها، ومن جهة أخرى يهدّ جسده هذا الإنهاك من السّير المتواصل ذهابًا وإيابًا على الحبل بلا غاية. وما العمل وقد بدأ يرى كيف يَهِي هذا الحبلُ تحت قدميه، وكيف أخذت رجلاه ترتعدان قليلاً ولم تعودا كسابق عهدهما في ثباتهما رغم كلّ العواصف الّتي هبّت عليه في هذا المكان الغريب؟ هل يستجمع قواه ليعبر إلى أحد طرفي الحبل ليجد موطِئًا، ولو ضيّقًا، يُريح عليه مؤخّرته، ليهدأ قليلاً من هذا الإنهاك؟ أو يبقى هكذا على هذه الحال يقترب حينًا من هذا الطّرف وحينًا من ذاك فيجفل لما ترى عيناه، فيعود إلى هذه المنزلة الوسطى فوق الهوّة المُرعبة والممتعة في آن معًا؟

كلّ هذه التّساؤلات تتعالى في فضاء الغرفة مع خيوط الدّخان الصّاعدة من سيچارته المشتعلة دائمًا منذ ما ينيف على ثلاثة عقود. تتمايل الخيوط في حركات ثعبانيّة بهلوانيّة وقبل أن تصل إلى السّقف تأتي نسمة خفيفة من الشّرفة المفتوحة فتفرّقها أيدي سبأ. يشاهدُ هو هذه الخيوط المندثرة الّتي لا تُبقي أثرًا في البيت، ثمّ بحركة بطىئة يمدّ يده ويتناول كأس النّبيذ الموضوعة غير بعيد عن متناول يده. لقد اعتادَ أن يضع الكأس غير بعيد عن متناول اليد درءًا لوجوب الحراك من مقعده للوصول إليها. وصل إلى هذه الإشراقة صدفة بعد سنوات من تشتّت الأفكار الّذي لم يدر كيف كان يحصل له. ها هو قد تعلّم بعد كلّ هذه السّنوات أنّ الحراكَ في المكان يُشتّت الأفكار، وهو لا يريد لهذه الأفكار أن تتشتّت الآن. هذه اللّحظات عزيزة عليه لأنّها لحظات استغراق في بحر بعيد الغور من التأمُّل في كلّ شيء. فحتّى أصغر الأشياء شأنًا تأخذ أبعادًا غريبة وتتشكّلُ بألوان زاهية ليس في وسع المتحرّك في مكانه أن يراها. فكلّ من يرغب في الوصول إلى هذه اللّحظات، ما عليه إلاّ أن ينتحي في رُكن من أركان البيت وحيدًا، يتّخذ له مجلسًا مريحًا، كأسَ نبيذ بشرط أن تكون في متناول اليد، سيچارةً إن كان من المدخّنين وموعدًا جديدًا مع المجهول.

***
في هذه السّاعة الآن وهو لا يزال يستيقط من نومه لا يشعرُ بحاجة إلى النّظر، لا إلى عقارب السّاعة ولا إلى علامات بارزة على الطّريق، لأنّ طريقًا مُبْهِرةٌ تنبسطُ أمامَه واضحةً مُبْهَمَةً في آن. حاول جاهدًا، بما أوتي من يقظة، أن يمسك بخيوط الحلم الّتي بدأت تتشابك وتتشابك دون أن يرى لها نهاية، وبأصابعه الّتي لا يزال خَدَرٌ صباحيّ خفيف يسري فيها يحاول فكّ هذه الاشتباكات وحلّ تعقيدات هذه الخيوط، غير أنّ محاولاته الجاهدة تذهبُ أدراج رياح هذا الصّباح الوَسنان. يُجيلُ بنظره في الغرفة متفحّصًا؛ ها هي زُجاجة الويسكي لا زالت على الطّاولة في المكان الّذي تُركت فيه ليلة أمس، وها هما الكأسان الفارغتان ما زالتا بجانبها، وها هو قطفُ العنب الأحمر، الّذي نقصت منه حبّات غير كثيرة، ما زال يستلقي ثملاً من بخار الكأسين أو من بخار الشّفاه الّتي لامسته قبل ساعات معدودات، أو أنّه ثملٌ مُلقى مثله من بخار ذاته المتطايرة في كلّ اتّجاه. يتوقّف قليلاً عند هذا المشهد، ثمّ ما يلبث أن يرى نفسه مستلقيًا على التّخت عاريًا إلا من هذه الأفكار. يمرّر يده على صدره فتداعب أناملُه شعراتٍ بيضًا نبتت هناك في الوهاد والتّلال وحول الحلمتين نُزولا إلى واحة كساها العشب وتمايلت فيها نخلة نمت هناك سرًّا مثلما نَمَتْ ليلتُه سرًّا هي الأخرى على بخارِ العنب.

تتخطّى أناملُه الشّعرات البيض إلى التواءات وتعرّجات دافئة أخرى يراها في المرآة بإزاء التّخت فيحاولُ أن يفهم كيف ذا يكون له جسدٌ آخر في هذه اللّيلة. يسألُ نفسه، هل أنا هنا حقًّا؟ هل هذه الزّجاجة، الكأسان الفارغتان وقطف العنب هي أجسام حقيقيّة، أم أنّ كلّ ما تراه عيناه الآن في هذا الصّباح لا يزال فصلاً من فصول هذا الحلم الّذي لم ينتبه منه بعد. التواءات وتعرّجات السّتائر أعادت إلى مخيّلته التواءات طريق الغور الصّاعدة في المرتفعات الجرداء إلاّ من شجرة هنا أو هناك، وحيث تجمهرت شجرات قليلات رأى طريقًا ترابيّة داخلة إليها، حيث أُثبتت على جانبها لافتة تحمل اسمًا كبيرًا، له ما له في منطقة جافّة وحارّة مثل هذه. ينظر إلى اللاّفتة ويقرأ عليها كلمة »مُنتزه«، يلتفت إلى هذه الصّلعة الخضراء في الجبل، بينما السّيّارة تأخذ طريقها بلهاث صاعدة ملتوية بالتواءات الطّريق باتّجاه السّلط.غير أنّ الجسد المستلقي على السّرير تحرّك والتفت إليه، وبصوت خارج من حلم عميق سألته ليلى عن السّاعة، وحين علمت بأنّها التّاسعة صباحًا وبّختْهُ على يقظته المبكّرة، وذكّرته بأنّه ليس في القدس وما من عمل هنا ، ثمّ أشارت له أن يأتي إلى جانبها وعادت إلى سابق حلمها.

وقف هناك بجانب النافذة المطلّة على الشّارع في الطّابق الثّالث من الفندق. كان تحت في السّاحة في هذه السّاعة المتأخرة من الصّباح بعض النّزلاء الّذي يتداولون برنامج زياراتهم في هذه المدينة. قال في نفسه إنّه لم يأت إلى هنا لزيارة معالم أو أماكن بعينها، إنّما جاء لسبب لم يشأ أن يكشف عنه حتّى للسائق الّذي أقلّة بسيّارته من الجسر. أراد أن يحيط مجيئه إلى هنا بسريّة تامّة، لأنّ أحدًا لن يفهم هذه الرّحلة. أعاد السّتارة إلى مكانها، ثمّ أجال بنظره في فضاء الغرفة حتّى وقع على الجسد العاري متفحّصًا ببطء ألوانه وتعرّجاته. كان الجسدُ مستلقيًا هناك على السّرير، عينان مغمضتان كانتا تشيان بنوم هانئ عميق، حلمتان داكنتان مستريحتان في الكثبان مثل غزالتين نابضتين في ليلة مقمرة غير بعيد عن نبع الحياة الّذي تنامت على مياهه أعشاب طريّة. عند الصّدر وقع بصره على طفلة مستلقية غارقة في حلم لم يكتمل بعد لغضاضة جسدها. يد واحدة كانت تسند البطن، واليد الثّانية كانت ممدودة على السّرير في المكان الّذي استلقى فيه من قبل. كان شعر الطّفلة يكاد يُداعب حلمة هناك على الرّمل.

وقف بجانب النّافذة ناظرًا إلى هذا المشهد ثم حاول الإقتراب من السّرير غير أنّه وفي كلّ خطوة من خطواته مقتربًا كانت صورة الطّفلة يعلوها ضباب. حاول أن يفرك عينيه لإزالة غبش الصّباح لكنّه لم يُفلح في إزالة الضّباب عن الصّورة. ذُعر لهذا المشهد فعاد أدراجه إلى النّافذة محاولاً الإبقاء على تلك الطّفلة نابضة بين الحلمتين.

أزاح السّتارة قليلاً ثم ألقى نظرة إلى الساحة. لم يقع نظره على أحد هناك، لا في الساحة المفضية إلى الفندق، ولا في الحديقة الجانبيّة، حيث كان نزلاء الفندق قد خرجوا كلّ إلى طريقه، ما عدا طفلة واحدة كانت تتقافز بشقاوة في السّاحة. كان تعرّف عليها مساء أمس في الفندق. ظنّته من بعيد أباها فركضت إليه تحضنه، فلم يرغب في أن يخيّب أملها فحضنها هو الآخر حتّى نسي من هو ومن أين جاء وإلى أين هو راحلٌ من هنا. وحين يتمعّن فيها الآن في السّاحة يرى أنّها تشبه الطّفلة المستلقية بجانب الحلمتين المثبتتين في الجسد المستلقي بطمأنينة عميقة على السّرير بإزاء المرآة. مدَّ رأسه خارج النّافذة في الطّابق الثّالث، وحاول أن ينادي الطّفلة باسمها، غير أنّها لم تسمع نداءه، وسارعت إلى الدّخول واختفت في بهو الفندق. سمعت ليلى نداءه، فتململت في السّرير بعد أن استيقظت من نومها، وأشارت إليه بيديها المشرعتين أن يُسدل السّتارة ويخطو نحوها. سحب السّتارة على النّافذة فخيّم الظّلامُ مرّة أخرى في فضاء الغرفة. وما هي إلاّ هنيهة حتّى كانت ألسنة النّيران تتعالى من جسديهما في المرآة وتلقى بظلالهما المُتقلّبة على السّرير، بينما صفّارات الإطفائيّة تُولولُ بلا انقطاع خارج الفندق.

***

نشرت في مجلة مشارف.

العرب هم أكثر شعوب الأرض إضحاكًا




سلمان مصالحة


العرب هم أكثر شعوب الأرض إضحاكًا


لعلّ خير ما أستهلّ به
هذه المقالة هو أن أبدأها باللّعنات، فأقول: "لعن اللّه أبا إسرائيل، وأميركا، وبريطانيا وسائر بلاد الكفّار أجمعين، إلى يوم الدّين". ها أنذا قد وضعت النّقاط على الحروف ولعنت أبا أبيهم، خَلَفًا وسَلَفًا، وذلك لكي يرتاح بال هؤلاء النّفر من العرب، ولكي يواصلوا القراءة. طيّب، هل ارتحتم الآن؟

نوكتورن

سـلمان مصـالحة ||

نـوكـتــورن 

 
دَعْ عَنْكَ هَمِّي، فإنّ الـهَمَّ غَلاّبُ، 
وَدَاوِني بالّذِي في الحَلْقِ يَنْسَابُ. 
 
ما كَانَ مِنْ بَشَرٍ أَضْحَى بِلا أَثَرٍ، 
إلاّ الّذي حَمَلَتْهُ الرَّاحُ، تَهْتَابُ 

مدينة الزّهرة الماشية

سلمان مصالحة

مدينة الزّهرة الماشية

هنا، بين الواقع والخيال، بين الأرض والسّماء، تتهادى القدس في التّلال غير بعيد عن مفرق الرّوح. تخطو على حبل ممدود بين وادي جهنّم وبين زهرة تهيم على وجهها فوق ثرى المدينة. في خيالاتي الطّفوليّة ارتبطت القدس بخرافات سمعتُها عن أشراط السّاعة. في ذلك السّيناريو المرعب لا مجال لارتجال يقوم به الممثّلون. لقد أعدّ لهم المُخرج الأكبر المتربّع في عليائه تفاصيل الأدوار: سيهدم اليهود الحرم القدسيّ، فتبدأ عقب ذلك سلسلة من ردود الفعل، فيقوم المسلمون بهدم الكنائس المسيحيّة ردًّا على دعم الغرب المسيحي لإسرائيل. وعقب ذلك يسارع الغرب إلى هدم المقدّسات الإسلاميّة في أرض الحجاز. هكذا تبدأ الحرب الكبرى الّتي تنذر بقيام السّاعة.

"بلدٌ من كَلام"



سلمان مصالحة ||

"بلد من كلام"


هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟ وما هو المعنى الواقعي والمُتخيَّل لهذا المصطلح كما ينعكس في بعض هذه النّصوص؟

المصطلح بلد كما يعرّفه ابن منظور في لسان العرب هو "كلّ موضع أو قطعة مستحيزة عامرة كانت أو غير عامرة، وهو ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. والبلد جنس المكان كالعراق والشّام، والبلدة الجزء المخصّص منه كالبصرة ودمشق"(1). نجد دلالات شبيهة بهذه الدّلالات أيضًا في معرض تعريف ابن منظور لمصطلح وطن، حيث يقول، هو: "المنزل تُقيمُ به، وهو موطنُ الإنسان ومَحلُّه". ولذلك يُضيف: "أوطان الغنم والبقر: مَرابضُها وأماكنُها الّتي تأوي إليها"(2). أي مثلما المصطلح بلد، كذلك هي الحال مع المصطلح وطن فهو يسري على الحيوان كما يسري على الإنسان، وبكلمات أخرى، البلد والوطن سيّان، رغم أنّ التّعريف القديم للبلد، كما يظهر من كلام ابن منظور، هو أعمّ وأشمل من تعريف الوطن. في الحقيقة نستطيع القول إنّ لغتنا العصريّة قد قلبت هذه المعادلة القديمة لمعنى البلد والوطن فجعلت البلد وطنًا والوطنُ بلدًا.

في البداية نقول إنّ مسألة الوطن بالنّسبة للإنسان العربي على العموم هي مسألة معقّدة ولها أبعاد ثقافيّة حضاريّة، اجتماعيّة وسياسيّة، ومنذ القدم، لا يوجد تحديد لمعالم هذا المصطلح، ولن يتّسع المجال هنا للإحاطة بجميع جوانبه. أمّا بالنّسبة للفلسطيني فتتعقّد هذه القضيّة أكثر فأكثر منذ نشوء الحركة الصّهيونيّة وقيام دولة إسرائيل في هذه البقعة من الأرض الّتي يراها كلّ طرف من الطرفين المتصارعين وطنًا له دون الآخر.

إذن فما هو معنى هذا الوطن الفلسطيني؟
قبل وقوع النّكبة الفلسطينيّة كان هُنالك من حاول التّطرُّق إلى قضيّة الوطن وإلى ما يحمله هذا الوطن في ثناياه من معانٍ. فالشّاعر إبراهيم طوقان يشاهد ما يجري على الأرض من صراع مع الحركة الصّهيونيّة قبل قيام دولة إسرائيل، فيحاول التّنبيه إلى النّتائج الوخيمة الّتي ستنتج عن بيع الأراضي الّذي يقوم به بعض الفلسطينيّين للشّركات الصّهيونيّة، فيقول في إحدى قصائده:

"باعُوا البلادَ إلى أَعْدائِهم طَمَعًا - بالمالِ لكنَّما أوطانَهم باعُوا
تلك البلادُ إذا قلتَ اسْمُها وَطَنٌ - لا يَفْهمونَ، ودونَ الفهمِ أَطْماعُ"(3).

أيّ أنّ هذه الأرض، البلاد، الّتي يرى فيها هؤلاء التّجّار مجرّدَ أملاك منقولة، هي أكبر من مجرّد مفردة، فلها دلالات أخرى يمكن أن تُختزَل في هذه الكلمة، الاسم؛ البلاد الّتي "اسْمُها وَطَنٌ". والوطن، كما يراه، هو هذا الشّيء الّذي لا يَفهم معناه هؤلاء التّجّار، بل ويتظاهرون بعدم الفهم بسبب أطماعهم التّجاريّة. إلاّ أنّ إشارة طوقان هذه هي إشارة عابرة إلى المصطلح فقط، دون أن يفسّر لنا هذا المصطلح وما يعنيه له. فهو يريد أن يقول إنّه يعني الكثير، فيكتفي بهذا التّصريح ولا يُفصّل هذا الكثير. إنّه يتركه للقارئ أو للسّامع، ليفصّل كلّ فرد على قدر ما يحسّ وعلى قدر ما يفهم من هذا المصطلح لذاته. إنّه يدعو فقط إلى التّفكير بمكان، رقعة صغيرة، ليومه الأخير:

"فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها - واترُكْ لقبركَ أرضًا طولُها باعُ"(4).

وهكذا وبعد مرور أعوام ليست كثيرة على التّحذيرات الّتي تطرّق إليها إبراهيم طوقان، حدثت النّكبة في فلسطين، فقامت إسرائيل على جزء من الوطن، وهُجّر آلاف الفلسطينيّين من وطنهم. فقط أقليّة قليلة من الفلسطينيّين بقيت في الجزء من الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل في العام 1948. هذه الأقليّة حاولت أن تتشبّث بما بقي لها من تراب في الوطن منتظرةً الفرجَ: "وظلّت هنا في بلادي بقيّةْ / بقيّة شعب / تغرس أقدامها في التّراب / لترسخَ فيه جذورًا قويّةْ / وأجفانُها عُلّقت بالسّحاب / تلمح خيط ضياء / يشقّ غيوم العذاب"(5).

محاولة لفهم ما يعنيه مصطلح الوطن يعود للظّهور من جديد لدى هذه الأقليّة الّتي بقيت في أرض الوطن الّذي صار إسرائيل. مدينة القدس، قبل حرب حزيران 1967، كانت مشطورة شطرين. قسمها الغربي كان يقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة والقسم الشّرقي تحت سيطرة المملكة الأردنيّة. في مواسم الأعياد المسيحيّة كانت السّلطات تسمح للفلسطينيّين المسيحيّين الّذين بقوا في دولة إسرائيل بالإنتقال إلى القدس وبيت لحم لزيارة المواقع المقدّسة المسيحيّة في المملكة الأردنيّة آنذاك. كان الحجّاج يعبرون إلى الشّطر الشّرقي من مدينة القدس عبر بوابة اسمها بوّابة مندلباوم، وهي البوّابة الّتي شكّلت نقطة العبور بين شطري المدينة للحجّاج المسيحيّين وللدپلوماسيّين ولقوات الأمم المتّحدة.

الكاتب إميل حبيبي، يتطرّق إلى مسألة الوطن من خلال قصّة قصيرة بعنوان "بوّابة مَنْدِلْباوْم"، نُشرت في بداية سنوات الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد أعوام قليلة من وقوع النّكبة، وهي قصّة تتمحور حول نقطة العبور هذه بين شطري مدينة القدس. في مشهد وداع الوالدة التي ستنتقل عبر بوابة مندلباوم إلى الطرف الأردني، يكتب إميل حبيبي في قصّته عن شخصيّة الوالدة: "لقد بلغتْ الخامسة والسبعين من عمرها ولمّا تجرّبْ ذلك الشّعور الّذي يقبض على حبّة الكبد فيفتّتَها، ذلك الشّعور الّذي يُخلّفُ فراغًا روحيًّا وانقباضًا في الصّدر، كتأنيب الضّمير، شُعور الحنين إلى الوطن. ولو سُئلتْ عن معنى هذه الكلمة "الوطن" لاختلطَ الأمرُ عليها كما اختلطتْ أَحرفُ هذه الكلمة عليها حينما التقتْها في كتاب الصّلاة. أَهُوَ البيتُ، إناءُ الغسيل وجرنُ الكُبّة الّذي وَرِثَتْه عن أمّها؟... أو هو نداءُ بائعة اللّبن في الصّباح على لبنها، أو رنين ُجرس بائع الكاز، أو سُعالُ الزّوج المصدور وليالي زفاف أولادها الّذين خرجوا من هذه العتبة إلي بيت الزّوجيّة واحدًا واحدًا وتركوها لوحدها؟....ولو قيلَ لها إنّ هذا كُلَّه هو "الوطن" لما زِيدَتْ فَهْمًا"(6).

في هذه الفقرة هنالك محاولة من جانب الكاتب لتفكيك معنى هذا المصطلح. إنّها محاولة للولوج عميقًا في دهاليز هذا المصطلح المشحون، واستجلاء ما يخبّئ في طيّاته. هذه التّساؤلات الّتي يطرحها إميل حبيبي بنوع من التّفصيل هي في الحقيقة الإجابة على السؤال نفسه. إلى كلّ هذه التّفصيلات يستطيع القارئ أن يضيف من عنده أمورًا أخرى فتصبح هي هي المعنى الحقيقي لكلمة الوطن.

لكن، ليس الوطن ككلّ أوكمصطلح عام ومجرّد هو شيء ملتبس فحسب، بل كلّ نقطة عينيّة فيه. كلّ موقع ومهما كان محدّدًا يلتبسُ على النّاس، فهنالك تباين من ناحية التّوجّه إليه ومن ناحية الأسماء الّتي يُطلقها الإنسان على هذا الموقع. الأسماء الّتي تُعطى للأماكن هي قضيّة مهمّة للغاية ولها دلالات وأبعاد كثيرة لأنّها تكشف عن علاقة حميميّة بين الإنسان والمكان. هذا التّباين في أسماء المكان يظهر جليًّا في نقطة عبور أخرى، هي جسر على نهر الأردن يعبر عليه النّاس بين ضفّتي الأردن. هذا هو مريد البرغوثي الشّاعر الفلسطيني الّذي يعيش خارج الوطن يتحدّث عن هذا الجسر بعد أن عاد لزيارة الوطن بعد عقود من الزّمن: »فيروز تسمّيه جسر العودة. الأردنيّون يسمّونه جسر الملك حسين، السّلطة الفلسطينيّة تسمّيه معبر الكرامة. عامّة النّاس وسائقو الباصات والتّكسي يسمّونه جسر أللنبي. أمّي وقبلها جدّتي وأبي وامرأة عمّي أم طلال يسمّونه ببساطة: الجسر. الآن أجتازه للمرّة الأولى منذ ثلاثين صيفًا، صيف 1966 وبعده مباشرة ودون إبطاء صيف 1969"(7) .

لعلّ في هذا التّباين ما يشير إلى الأزمة الجماعيّة الوطنيّة المتعلّقة بالمكان الفلسطيني، وفي هذه التّسميات الكثيرة لموقع واحد ما يدلّ على التّحوّلات الّتي طرأت على هذا المكان على مرّ السّنين، فكلّ تسمية تُشيرُ إلى قضيّة سياسيّة، كما تكشفُ عمّا في نفوس من يُطلق هذه التّسميات. ففيروز تُعبّرُ عن حلم العودة لدى اللاّجئين، بينما تسمية الجسر باسم الملك حسين تُشير إلى السّلطة الفعليّة في المكان. أمّا مصطلح الكرامة فهو مأخوذ من اسم المعركة بين القوات االفلسطينيّة والإسرائيليّة الّتي توغّلت عبر النّهر والّتي تكبّدت خسائر كبيرة. بينما اسم أللنبي، الجنرال البريطاني، فهو يشير إلى فترة الإنتداب في فلسطين. هكذا من خلال اسم موقع واحد يمكن الحصول على تاريخ البلاد، وعلى إشكاليّة هذا التّاريخ.

الغربة عن الوطن والغربة في الوطن

أوّلاً: الغربة في الوطن
مع أنّ الكتابات الفلسطينيّة الّتي تتطرّق للوطن تعكس على العموم حالة نفسيّة من الإغتراب تجاه مصطلح الوطن، إلاّ أنّ ثمّة فروقًا بين توجّهات من بقي في وطنه يعيش فيه ويعايشه وبين من يمكثُ بعيدًا عنه. فالوطن، في نظر من بقي في أرضه في الجزء الّذي قامت عليه إسرائيل، قد تغيّرت معالمه وتغيّرت علاقته بالإنسان الفلسطيني الّذي يصل إلى هذه القناعة لأنّه يشاهده بأمّ عينه ويرى ما يستجدّ عليه يوميًّا. كلّ شيء فيه قد تغيّر: الطّيرُ، والأرضُ بنباتها وشجرها وينابيعها. والوطن يتغيّر ليس فقط من ناحية المعالِم الجغرافيّة، بل تتغيّر علاقة هذا الوطن بالإنسان صاحب هذا الوطن. فهذا هو سميح القاسم الشّاعر الّذي بقي في وطنه يعبّر عن هذه الحالة في قصيدة له بعنوان "وطن"، فيقول: "وماذا؟ / حينَ في وطني / يموتُ بجوعه الدّوريُّ / منفيًّا، بلا كفنِ ... / وماذا؟ / والحقول الصّفر / لا تُعطي لصاحبها / سوى ذكرى متاعبها... / وماذا؟ / والينابيع القديمةُ / ردّها الإسمنتْ / وأنساها مجاريها / فإن نادى مناديها / تصيحُ بوجهه: من أنت؟"(8).

إذن، الطّيور والحقول والينابيع تغيّرت جميعها وتبدّلت أحوالها، وها هي الآن لا تتعرّف على مناديها، صاحبها، فتصرخ في وجهه: »من أنت«؟ هذه الطّيور وهذه الحقول لم تعد تابعة للفلسطيني بل تمّ اقتطاعها ومصادرتها منه ومن هويّته، وهذه العصافير والحقول هي هي ذاتها الّتي أُسقطت من هويّة الفلسطينين ومن جواز سفره: "لم يعرفوني في الظّلال الّتي / تمتصّ لوني في جواز السّفر. .../ كُلّ العصافير التي لاحقت / كفّي على باب المطار البعيد / كُلّ حُقول القَمْح،/ كُلّ السجون، / كُلّ القُبور البيض / كل الحدود / كُلّ المناديل التي لوّحت / كُلّ العيون السود / كُلّ العيون / كانت معي، لكنّهم / أسقطوها من جواز السفر"(9).

وهكذا تمرّ الأعوام وتمّحي معالم الأرض الّتي كانت تدلّ على من سكنها قبل النّكبة، فتصبح هذه الأرض في نظر من بقي في الوطن، بمثابة حبيبة خائنة، بل وأبعد من ذلك فهي تتحوّل إلى مومس تمنح جسدها في الموانئ لكلّ عابر ووافد، وتتنكّر لصاحبها. هكذا يصفها شاعر آخر، هو طه محمد علي في قصيدة له بعنوان، "عنبر":
"آثارُنا دارسة / رُسُومُنا جُرِفت .../ وما من مَعْلمٍ واحد / يوحي بشيء / يدلّ على شيء / أو يومئ إلى أيّ شيء / لقد تقادمَ العهدُ... / الأرضُ خائنةٌ / الأرضُ لا تحفظُ الودّ / والأرضُ لا تؤتمن / الأرضُ مومسٌ / أخذت بيدها السّنين / تُدير مَرقصًا / على رصيف ميناء / تضحك بكلّ اللّغات / وتُلقم خَصْرها لكلّ وافد / الأرضُ تتنكّر لنا / تخوننا وتخدعنا.../ أرضُنا تُغازل البحّارة / وتتجرّد أمام الوافدين ....ولا يبدو عليها ما يربطها بنا."(10)

الشّاعر الّذي يعيش في وطنه يشعر بأنّ الأمور فيه قد انقلبت رأسًا على عقب،بل ويصل إلى الوعي بفقدان هذا الوطن: "غير العشّاق، الآن، همُ العشّاقُ، / غير القتلة فيك هم القتلة"، / يا وطناً يغرق في الرمز الصّوفيّ، وفي الدم،/ يا مفقوداً،... / يا وطن الأشياء المفقودة"، ولذلك فهو يتحوّل إلى مجرّد رمز فحسب: "الموتُ بلا موتٍ، / والصوت بلا صوتٍ،/ والوطن بلا وطنٍ."(11)

بعد كلّ هذه التّحوّلات، والإحباطات الّتي أصابت الإنسان الباقي في وطنه إزاء الّذي جرى له، لم يتبقّ لديه سبيل للخلاص سوى الإبتهال إلى مُخلّصٍ ينقذه من هذه الورطة. هذا المخلّص قد يُستحضر من رموز التّاريخ العربيّ، أي من الماضي، كما فعل كثير من الشّعراء، وعلى سبيل المثال فقط، نقتبس هذه السّطور من قصيدة طه محمد علي: "صفورية / ماذا تفعلين هنا / في هذا اللّيل المجوسي.../ ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟ / وأين وفود الظّاهر؟ / أين الجميع؟"(12). وهذا المخلّص، وبخلاف التّفاصيل المجسّدة للوطن المتغيّر، قد يأتي أيضًا من عالم المجاز، من عالم الإستعارة. إنّه يأتي من عالم الطّبيعة وبنبرة اتّكاليّة: كما يقول سميح القاسم: "تعالي يا رياحَ الشّرقِ / إنّ جذورنا حيّة."(13)

كلّ هذا الّذي جرى يدفع الإنسان إلى الإنزواء والعزلة، بل أكثر من ذلك إلى حالة نفسيّة تتّسم بالكآبة والإحساس بالغربة في هذا الوطن، فيشعر بالرُّعب ممّا جرى له. لهذا يشرح سميح القاسم وضعه المأساوي في قصيدة له من مجموعة أخرى، ويضع لها عنوان "الرّعب"، فيقول: "حين تغيب الشّمس، قالوا: أغيب / في حجرة من وطن / أُحرم، قالوا، من عناق الهموم / بيني وبين القمر/ يرعبهم، أعلم، بثّ الضّجر / بيني وبين النّجوم .../ وفي مغيب الشّمس، قالوا، أغيب / في حجرتي يا وطن / قالوا أكون الغريب / وأنت ملءُ البدن / فمن تُرَى يحملُ عبر الزّمن / في قلبه، وجهَكَ هذا الحبيب / ومن مغنّيكَ، من،/ غيري أنا... يا وطن؟"(14)

هكذا تتقّلص حدود الوطن إلى حجرة، إلى غرفة في هذا الوطن بها يتسامر مع همومه، لأنّه صار يُنظَر إليه بصفته غريبًا، فيضيق عالمه، وطنه، ويضيق هو بالعالَم والحياة. وحين يكون الكاتب قابعًا في زنزانة في السّجن فقد يتحوّل الوطن من مكان في الأرض إلى رمز للحريّة: "والشّرطي الّذي اجتذبته موجة الهجرة الأخيرة، يُعلنُ خَطوَه الثّقيل في باحة السّجن، يتوقّف أمام الزّنازين، يُراقِب من الكُوَى االضّيّقة رجالاً يرسفون في قيودهم... يزحف اللّيلُ بطيئًا، والشّرطي ينوءُ تحت وطأة الوظيفة وعبء الإنتصار والعيون الّتي تخترق الكُوى بَحثًا عن وطن."(15)

ثانيًا: الغربة عن الوطن
البعد عن الوطن يخلق وطنًا مُتخيَّلاً بعيدًا عن الواقع الحقيقي. في المنفى ينبني الوطن على أسس من الذّكريات، أو على أسس من الخيال. في المنفى يُبنى الوطن في الخيال كمكان مثاليّ كما لو كان جنّة اللّه على الأرض: "بعيدًا عن الوطن الممكن المستحيل / قريبًا من السّاعة المُفزعة / فتى ساهمٌ: / يا بلاد الحنان قسوتِ عليّ.../ وحين تمرّ البناتُ أذوبُ هوًى / ويُثقلني جبلٌ أرتقيه إليكِ / وتُثقلني قطرةٌ من ندى .../ تفتنني نبتةٌ / وتمتدّ حولَ عيوني البساتينُ خُضرًا..."(16)

هذه الصّورة المثاليّة للوطن، الجنّة، لم تُبنَ في الشّعر فحسب، بل في الحديث اليومي مع النّاس: "كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة أنّ فلسطين مغطّاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة."(17)

الحنين إلى الوطن لدى من خرج منه ولم يعد، إمّا بمحض الصّدفة وإمّا لاجئًا، يتحوّل إلى شيء آخر، ويحمل دلالة جديدة، فدلالة هذا الحنين تتّسع لتأخذ بعدًا جديدًا ومعنى جديدًا هو الشّهوة. تظهر هذه الشّهوة في قصيدة "الشّهوات"(18 مايو، 1992): "وأنا لم أعد أشتهي أيّ شيء / فأنا أشتهي كلّ شيء.... / شهوة لبلادٍ / نجوع ونشبع فيها ... / وفيها من الوقتِ وقتٌ نُخصّصُه / للخطايا الحميمة والغلط الآدميّ البسيط"(18). إنّها شهوة إلى فسحة في الزّمان، شهوة إلى بعض الوقت في المكان، البلاد، الّتي يمكن للإنسان أن يحيا فيها بأشيائه الصّغيرة، كأن يجوع وكأن يشبع. إنّها الشهوة إلى مكان يمارس فيه بعض الخطايا الصّغيرة، وبعض الهفوات الإنسانيّة البسيطة، فكلّ هذه الأمور، على بساطتها، تُصبح في المنافي ذات دلالات كبيرة. إنّ هذا الابتعاد عن فلسطين خلق أجيالاً من الفلسطينيّين لا تعرف عن فلسطين شيئًا، أجيالاً من "الفلسطينيّين الغرباء عن فلسطين" ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها ولا قصّته وأخباره، أجيالاً بوسعها أن تعرف كلّ زقاق من أزقّة المنافي البعيدة وتجهل بلادَها، أجيالاً لم تزرعْ ولم تصنعْ، ولم ترتكبْ أخطاءها الآدميّة البسيطة في بلادها..."(19)

فقط بعد سنين يحاول مريد البرغوثي أن يراجع حساباته الشّخصيّة مع الوطن، أن يراجع رؤيته لهذه الصّورة المتخيّلة عن الوطن. إنّه يفعل ذلك بعد عودته لزيارة هذا الوطن في العام 1996: "ما هذه التّلال، جيريّة، كالحة وجرداء؟ هل كنت أكذب على النّاس آنذاك؟... هل قدّمتُ صورة مثاليّة عن فلسطين بسبب ضياعها؟ قلت لنفسي عندما يأتي تميم إلى هنا سيظنّ أنني وصفتُ له بلادًا أخرى."(20)

ويستمرّ مريد البرغوثي في عرض ملاحظاته بنوع من الصّراحة والشّجاعة الأدبيّة فيعترف بأنّه كان يكذب على الآخرين ويكذب على نفسه: "الطريق إلى دير غسانة نسيتُ ملامحَهُ تمامًا. لم أعدْ أتذكّر أسماء القرى على جانبي الكيلومترات السّبعة والعشرين الّتي تفصلها عن رام اللّه. الخجل وحده علّمني الكذب. كلّما سألني حسام عن بيت أو علامة أو طريق أو واقعة سارعت بالقول إنّني "أعرف". أنا في الحقيقة لم أكن أعرف. لم أعد أعرف. كيف غنّيت لبلادي وأنا لا أعرفُها؟ هل أستحقّ الشّكر أم اللّوم على أغانيّ؟ هل كنت أكذب قليلاً؟ كثيرًا؟ على نفسي؟ على الآخرين؟ أيّ حبّ ونحن لا نعرف المحبوب؟"(21)

التّشبُّث بالوطن هذا مردُّه إلى الرّفض من قبل الآخر، ليس الإسرائيلي اليهودي فحسب، بل هنالك أيضًا رفض من طرف الآخر العربي، للفلسطيني الّذي وفد أو لجأ إليه. فبعد أن ترك محمود درويش الوطن طوعًا، وجاب العالم العربي واستقرّ في بيروت، وكتب عنها في شعره، لم يرق ذلك للّبنانيّين الّذين قالوا له: "هذه المدينة ليست لك، قالوا لي: إنّني غريب، فشعرت بأنّني مؤقّت هناك"(22). هذا الرّفض من ذوي القربى هو الّذي يدفع إلى البحث في الذّات عن مكان هذه الذّات في الزّمان والمكان. التّرحال الّذي صار حالة نفسيّة لدى درويش يدفعه إلى سؤال نفسه سؤالاً أزليًّا: من أنا، وأين أنا وإلى أين أنا، فيشعر بالضّياع: "وما زال في الدّرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟ / أنا من هنا، وأنا من هناك، ولستُ هناك ولستُ هنا"(23). من خلال هذا الضّياع يأخذ بالبحث مرّة أخرى عن وطن، عن معنى هذا الوطن، فيستنجد بالذّكريات، لأنّها الشّيء الوحيد الّذي تبقّى لديه من "هناك"، من وطنه: "أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ. وُلدتُ كما يولدُ النّاسُ. لي والدةْ / وبيتٌ كثير النّوافذ، لي أخوة أصدقاء، وسجنٌ بنافذةٍ باردةْ. ... / تعلّمتُ كلّ الكلام وفكّكْتُه كي أُرَكّبَ مفردةً واحدةْ / هي الوطن"(24). غير أنّه حينما عاد إلى الوطن، إلى غزّة على وجه التّحديد، بعد اتّفاقات أوسلو، فإنّه يكتشفُ شيئًا جديدًا في هذا الوطن: "زرتُ وطني. شعرتُ غريبًا جدًّا في غزّة"(25). أين هو هذا الوطن في نظر درويش؟ إنّه يجيب على هذا السؤال بنفسه: "سأرمي كثيرًا من الوردِ قبلَ الوصولِ إلى وردةٍ في الجليل"(26). فوطن درويش في نهاية المطاف هو إذن مكان صغير، وليس فلسطين الجغرافيّة بحدودها التّاريخيّة. إنّه وطن صغير يتمثّل في قرية في الجليل، مسقط رأسه، هي عنوان الرّوح الّتي يحبّ السّفر إليها من منفاه: "عناوين للرّوح خارج هذا المكان. أحب السّفر / إلى قريةٍ لم تُعلّق مسائي الأخيرَ، على سروها. وأحبّ الشّجر / على سطح بيتٍ رآنا نعذّبُ عصفورتين."(27)

خاتمة
إذن، الكتابة الفلسطينيّة، ومنذ بداية الهجرة والإستيطان الصّهيوني في فلسطين، مشغولة جدًّا بهاجس الوطن، وبما يعنيه هذا المصطلح. على مرّ السّنين يتبيّن من هذه الكتابات أنّ ثمّة فارقًا في التّوجّه إلى هذا الوطن. فالّذي يعيش في الغربة يبني له وطنًا في الخيال الّذي يرضع من الذّكريات، وكلّما اتّسعت المسافة الزّمانية والجغرافيّة بين المُتَخَيِّل والوطن كلّما اتّسمَ هذا بهالة جماليّة فيها نوع من الفنطازيا. أمّا من بقي في وطنه فهو يرى كلّ ما يجري من تحوّلات عليه، ويراه على حقيقته ويرى هذا التنكُّر النّاتج من المكان له. والفارق في علاقة كليهما بالوطن يمكن أن يُلخّص بهذه المعادلة: الّذي يعيش في المنفى يُفاجأ حين يعود للوطن بأنّه لا يعرف هذا الوطن، بينما الّذي بقي في وطنه، فإنّ الوطن هو الّذي لا يعرفُه ويتنكّر له. الّذي يعيش في المنفى تتحوّل فلسطين لديه مجرّد خيالات، مجرّد فكرة: "الإحتلال الطّويل استطاع أن يحوّلنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين"(28). بينما الّذي يعيش في الوطن الّذي يتنكّر إليه فيحاول البحث عن الوطن في أشياء أخرى، يحاول الخلاص من هذه الورطة أحيانًا عبر البيولوجيا، وهذا ما حدا بالشّاعر سميح القاسم أن يختار لابنه البكر اسم: "وطن". وفي كلتا الحالين سيبقى الحديث عن الوطن مستمرًّا وسيكتب الشّعراء والكتّاب الكثير من الكلام عنه، فسَفَر الفلسطيني هو سَفَر عاديّ لكنّه سفر في طريق باتّجاه واحد لا عودة منه، فيتحوّل الوطن المتخيَّل إلى مجرّد كلام، كلام فحسب: "نُسافرُ كالنّاسِ، لكنّنا لا نعودُ إلى أيّ شيء.../ لنا بلدٌ من كلامٍ ... / لنا بلدٌ من كلامٍ. تكلّمْ تكلّمْ لنعرفَ حدًّا لهذا السّفرْ"(29). غير أنّ الحديث عن الوطن لن ينتهي، لأنّ أمورًا كثيرة قد تتشابك فيه ممّا يجعل للنّظرة الذّاتيّة تجاهه موقعًا ووقعًا كبيرًا في النّفس. وقد ألمحَ إلى هذه الإشكاليّة شاعرٌ عربيّ قديم، إذ ربط معنى الوطن بالأشياء اليوميّة وبأسباب العيش الّتي قد تتخطّى حدودًا جغرافيّة بعينها لتتحوّل إلى نظرة كوسموپوليتيّة، قد يُطلق عليها الـمُحْدَثون مصطلح عولمة.

قال الشّاعر:

"الفَقْرُ في أوطاننا غُرْبَةٌ - وَالمالُ في الغُرْبَةِ أَوْطانُ
والأرضُ شَيْءٌ كُلُّها واحدٌ - والنّاسُ إخْوانٌ وَجِيرانُ."(30)

_____


(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،ج 3، ص 94.
(2) لهذا ورد في لغة العرب: "حَنَّتِ الإبِلُ، أي نزعتْ إلى أوطانِها أو أولادها"، إبن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 129. وقد ذكر الشّعراء العرب القدماء حنين الإنسان والحيوان إلى الأوطان كثيرًا: "كما حنّت إلى أوطانها النّيبُ".
(3) إبراهيم طوقان، ديوان، ص 54.
(4) إبراهيم طوقان، ديوان ص 54-55)
(5) حنا أبو حنا، نداء الجراح، ط 3، منشورات الطلائع، يافة الناصرة 1999، ص 34
(6) إميل حبيبي، "بوابة مندلباوم"، سداسيّة الأيّام السّتة، ص 208-213.
(7) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 15.
(8) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، عربسك، ص 522-523.
(9) محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها، 1977، ص 37-39.
(10) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، حيفا 1989، ص 115-122. هذه النّظرة إلى الوطن ليست جديدة بل كانت تكرّرت عند شعراء آخرين من قبل: "وطني... / يا امرأة تفتح / فخذيها للرّيح الغربيّة"، سميح القاسم، سقوط الأقنعة، ديوان ص 126.
(11) من قصيدة: جدليّة الوطن لعلي الخليلي، من مختارات: سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
(12) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، ص 19-23.
(13) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، ص 522-525.
(14) سميح القاسم، في انتـظار طائر الرّعد، ديوان سميح القاسم، منشورات عربسك، مطبعة السروجي، عكا 1979.
(15) محمود شقير، طقوس للمرأة الشّقيّة، دار القدس للنّشر، القدس 1994، ص 58.
(16) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 28-29.
(17) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص 35.
(18) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 86-90.
(19) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 74.
(20) (مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 35.
(21) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،، ص 73.
(22) حداريم 21، ص 178.
(23) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(24) درويش، ورد أقلّ، ص 13.
(25) حداريم 21، ص 172.
(26) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(27) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 15.
(28) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 75.
(29) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 21.
(30) اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، ص 316.

ــــــــــــــــــ

* هذه المحاضرة قُدّمت في غرناطة في ربيع سنة 2002 بدعوة من الصندوق الإسپاني العربي الّذي يستضيف كتّابًا وشعراء من العالم العربي بهدف التّواصل الحضاري بين إسپانيا والعالم العربي.

** نُشرت في مجلة "مشارف"، عدد 18، خريف 2002
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ














قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!