الخميس، 30 أكتوبر 2014
الأربعاء، 22 أكتوبر 2014
لغة أُم، أَمْ لغة ابن عمّ؟
يتّضح أنّ اللغة العربية الفصحى مختلفة جدًّا لدى الأطفال العرب عن لغة الأم المحكية، لدرجة أنّ الجهاز الدماغي الذي يتعامل مع استيعاب اللغة ينظر إلى اللغة العربيّة الفصحى كلغة ثانية، وليس كلغة أولى، كلغة أمّ...
سلمان مصالحة ||
لغة أُم، أَمْ لغة ابن عمّ؟
في العقود الأخيرة اتّسعت رقعة الأبحاث البسيكو-لغويّة التي تتطرّق إلى اللغة العربية ومقارنتها مع لغات شعوب أخرى. ويبدو أنّ المقولة الشعبية العربيّة التي تقول: ”فلان بيعرف يفكّ الحرف“، لها ما تستند إليه في الدماغ. فقبل سنوات أُجري بحث مقارن بين القراءة باللغة العربية وبين القراءة باللغة الفرنسية، حيث تمّ فحص حركات عيون القرّاء المشاركين في البحث خلال قراءة نصّ معيّن. لقد كان النصّ هو ذاته من ناحية المضمون، لكنّه مكتوب باللغتين، العربية والفرنسية. أمّا من ناحية عدد الكلمات فقد كان النصّ المكتوب باللغة العربية أقصر من النصّ المكتوب بالفرنسية بسبب الطبيعة المورفولوجيّة للغة العربيّة. اكتشف الباحثون أنّه، وعلى الرغم من قصر النصّ العربيّ، فإنّ الزّمن الذي استغرقته قراءة النصّ بالعربيّة كان مشابهًا لزمن قراءة النصّ بالفرنسية. لقد تبيّن للباحثين أن السبب من وراء ذلك هو أنّ زمن مكوث بصر القارئ العربي على الكلمات في اللغة العربية كان أطول من مكوثه على الكلمات في اللغة الفرنسية.
يُشار إلى أنّ عمليّة القراءة تمرّ بعدّة مراحل لاستنباط المعلومات وفهم النصّ. المرحلة الأولى هي عملية استيعاب الرموز، وهي رسوم وأشكال الحروف، ثمّ مرحلة استخراج أصوات تلك الرموز في القراءة الصائتة، أي منطوقها. أمّا الكلمات فتتشكّل من تلك الأشكال والأصوات المجتمعة التي تنتظم معًا في جملة تفيد مقولة بالاستناد إلى قواعد ونحو اللغة. عندما تسير هذه العملية في الدماغ بسلاسة، أكانت هذه قراءة صائتة أو صامتة، تتحقّق القراءة الناجعة دون بذل مجهود كبير.
على ما يبدو، فإنّ السبب لمكوث البصر زمنًا أطول على الكلمات في العربية منه عليها في الفرنسية يعود إلى طبيعة اللغة العربية، أي إلى طبيعة الحروف التي تُكتب بها العربية. فالحروف العربية يتّصل بعضها ببعض من جهة، ويختلف رسمها استنادًا إلى موقعها، في بداية، أو وسط أو آخر الكلمة. وفوق كلّ ذلك، فإنّ حروفًا عربيّة كثيرة لا تختلف من ناحية الرسم بشيء تقريبًا. إذ، هنالك فقط نقاط تميّز بعضها عن بعض، مثال الباء والتاء والثاء، أو الجيم والحاء والخاء وغيرها. لذلك، فلدى عملية القراءة تتركّز العين في محاولات لـ”فكّ الحروف“، فتبحث عمّا يميزها عن بعضها فلا تعثر إلاّ على نقطة صغيرة هنا وهناك فوق أو تحت الحرف مثلاً. لا شكّ أنّ هذه الخاصيّة للغة تدفع بالقارئ إلى بذل مجهود بصريّ أكبر ممّا هو قائم في لغات أخرى غير متّصلة الحروف والتي تنماز أشكال حروفها عن بعضها بوضوح أكبر بكثير.
إنّ بحثًا سابقًا كان قد أجري على أطفال في الصفّ الأوّل الابتدائي من متكلّمي العربية من جهة، ومن متكلّمي اللغتين الروسية والعبريّة من جهة أخرى، قد كشف أنّ القدرات اللغوية للأطفال العرب في اللغة العربية الفصحى مشابهة لقدرات الأطفال اليهود ثنائيي اللغة، متكلّمي الروسيّة كلغة أم والعبريّة كلغة ثانية. ويتّضح من ذلك أنّ اللغة العربية الفصحى مختلفة جدًّا لدى الأطفال العرب عن لغة الأم المحكية، لدرجة أنّ الجهاز الدماغي الذي يتعامل مع استيعاب اللغة ينظر إلى اللغة العربيّة الفصحى كلغة ثانية، وليس كلغة أولى، كلغة أمّ.
مؤخّرًا أجري بحث جديد في إسرائيل من قبل جامعة حيفا والمركز القطري للامتحانات، شارك فيه هذه المرّة طلاب جامعيون، عربًا ويهودًا. ويتبيّن من هذا البحث أنّ ثمّة فروقًا واضحة، فيما يتعلّق بنجاعة قراءة النصوص بلغة الأم، بين متكلّمي العبرية ومتكلّمي العربية في الأجيال المتقدّمة. فلدى قراءة نصّ مكوّن من 200 كلمة - واحد بالعبرية وآخر بالعربية - استغرقت القراءة العربية من متكلّمي العربية وقتًا أطول من قراءة النصّ بالعبرية لدى متكلّمي العبرية. هذا المكتشف يتماشى مع مكتشفات البحث المشار إليه مسبقًا عن فروق زمن قراءة العربية والفرنسية.
يتّضح من الأبحاث الأخيرة في هذه المسألة أنّ ثمّة فروقًا جوهرية بين متكلّمي اللغتين في مسألة نجاعة القراءة، فقرّاء العبرية يقرؤون بصورة أسرع وأكثر دقّة من متكلّمي العربية. يجدر التأكيد هنا على أنّ هذه الفروق بين المشاركين في البحث لا علاقة لها بالقدرات الإدراكيّة للطلاب، وإنّما مردّها لأسباب أخرى.
بالطبع، يمكن عزو هذه الفروق أوّلاً وقبل أيّ شيء آخر إلى حالة الفصام اللغوي لدى الطالب العربي على العموم، وهي حالة فصام لغوي قائمة على طول وعرض العالم العربي بأسره. أيّ إنّ الطالب العربيّ ومنذ سني الدراسة الابتدائية ينتقل من لغة أمّه المحكيّة في البيت إلى لغة الكتاب المدرسي التي تختلف كليًّا عمّا سمعه في بيئته، من ناحية المفردات ومن ناحية النحو وقواعد اللغة. هذه الحال، مع ما تحمله من أشكاليات، تستمرّ معه على طول مسيرته الحياتية.
ما من شكّ في أنّ لهذه الحالة من الفصام اللغوي البنيوي لدى متكلّمي العربية إسقاطات كثيرة وبالغة الأهميّة في مراحل متقدّمة من حياة التلميذ، فهي ذات تأثير بالغ على مسارات امتلاكه للمدارك والمعارف، معالجتها وتحليلها بلغته العربية التي يُفترض أنّها لغة أمّه، لكن يتّضح أنّها ليست كذلك. وإذا أخذنا بالحسبان أنّ كلّ العلوم الطبيعية والإنسانية، على قلّتها في اللغة العربية، تكتب باللغة الفصحى، وفي الوقت ذاته نعلم مدى مأساوية الوضع القرائي في صفوف الجمهور العربي، فإنّ الفقر اللغوي يصبح عائقًا بنيويًّا إضافيًّا لا يستطيع معه الفرد العربي أن يبدع شيئًا في فروع العلوم يكون ذا قيمة علميّة بلغة أمّه. إنّه، والحال هذه، لا يمتلك الأدوات اللغوية ولا الكنوز اللغويّة الملائمة التي قد تتيح له إمكانية الإبداع الفكري والعلمي في المجالات المعرفيّة.
في السنوات الأخيرة شهد العالم طفرة معلوماتية رقمية شكّلت ثورة شاملة في عمليّة القراءة. رويدًا رويدًا طفت على السطح طريقة القراءة الرقمية بعيدًا عن رائحة الحبر والورق. غير أنّ هذه النعمة المعلوماتية أضحت نقمة على القارئ العربي. إذ يُلاحظ وجود فوضى عارمة فيما يخصّ اللغة العربية في الإنترنت وفي وسائل الاتّصال العصرية. هنالك عدم اهتمام فاضح في جمالية وفي مدى وضوح الحرف العربي في هذه التقنيّات الحديثة. وبالمقارنة مع اللغات الأخرى، فإنّ الوضع اللغوي العربي في الإنترنت على سبيل المثال، هو وضع مأساوي، وقد آن الأوان لتصحيحه. إذ أنّ حروف الـ“ويندوز“ الأساسية بالعربية مقارنة بالإنكليزية، على سبيل المثال، هي من أقبح ما يكون، وحينما تُشكل الحروف فإنّ الضمّة، والشدّة والتنوين وسائر الحركات تتداخل مع الحروف فتزيد الطين بلّة. كما إنّ المشكلة تتضاعف لعدم إمكانية استبدال هذه الحروف، لأنّها جزء من بنية النظام.
وهكذا، فعندما يدور الحديث عن القراءة باللغة العربية الرقميّة مقارنة باللغات الأخرى، فإنّ الوضع العربي يزداد عواصة لما ذكرنا آنفًا. كما يُلاحظ أنّ هنالك من يعتقد أنّه يريد أن يتميّز عن غيره باختيار خطّ خاصّ به مختلف عن سائر المواقع والصحف. لكنّه في خضمّ بحثه عن التميّز ينسى أنّ القارئ بحاجة إلى حرف عربيّ واضح ونقيّ مريح للبصر لدى القراءة، خاصّة إذا أُضيفت الحركات لمنع الالتباس في القراءة العربية. وهكذا نجد الكثير من المواقع العربية تضع خطوطًا قبيحة، غير مقروءة ومنهكة للبصر.
لهذا السبب، ولأسباب كثيرة أخرى لها علاقة بالأبحاث المذكورة آنفًا، هنالك حاجة ملحّة إلى إجراء بحوث مستفيضة في هذه المجالات بغية وضع خطط للخروج من هذا المأزق اللغوي الذي وجدت الأجيال العربية نفسها فيه. لقد آن الأوان لوضع حدّ لهذه الفوضى اللغوية، لكي يسهل على القارئ العربي أن يقوم بعملية ”فكّ الحرف“ بسهولة.
*
نشر: الحياة، 22 أكتوبر 2014
قضايا عربية
-
دول عصابات
-
تفكيك العنصرية
فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...تتمة الكلام...
-
هذيان ثنائي القومية
على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...تتمة الكلام...
شؤون محلية
-
شعب واحد أم تشعّبات؟
قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.
تتمة الكلام
-
كل يغني على ويلاه
إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.