لا توجد معركة أخرى


سلمان مصالحة || لا توجد معركة أخرى

كثيرًا ما يحاول

البعض الإدلاء بدلوه في قراءة الرّاهن العربي متلمّسًا طريقه في هذا الأوقيانوس المتخبّط. أبدأ فأقول: الحقّ يُقال، إنّي لا أستثني نفسي من هؤلاء المنشغلين ليل نهار في هذه القضايا الّتي تؤرّق الكثيرين من ذوي الاهتمامات. لا شكّ أنّ الانشغال بهذه الأمور مردّه إلى هذا التّأريق المزمن الّذي تُسبّبه هذه التّشكيلة المتنوّعة من البشر الّذين ننتمي إليهم والأحوال الّتي ألفَوْا أنفسهم فيها على مرّ الزّمن. ومهما حاول البعض أن يتلفّع بألحفة المؤامرات الّتي تُحاك من بعيد ضدّه ويُلقي بعبء المسؤوليّة على كاهل الآخرين، بدءًا بالاستعمار، مرورًا بالصّهيونيّة وانتهاءً بكلّ ما يخطر على باله من صنوف المؤامرات، إلاّ أنّ الحقيقة المرّة تبقى شاخصة أمام ناظريه في المرآة الّتي ينظر فيها كلّ صباح قبل الشّروع بمكابدة يوم جديد من حياته على هذه الأرض.

أسهلُ ما في الأمر

أن يُنحي المرء باللّائمة على الآخرين، وعلى وجه الخصوص إذا كان هؤلاء الآخرون من صنف الّذين يُنظر إليهم بوصفهم قوى عظمى ومقتدرة، أو ما إلي ذلك من تشبيهات تقترب من الصّفات والأسماء الحسنى. إنّ نفض الأيدي من المسؤوليّة الذّاتيّة هي حال نفسيّة مرضيّة مزمنة لدينا. إنّها، برأيي، أقرب إلى حال الإيمان منها إلى رؤية الواقع كما هو على حقيقته دون رتوش. فمثلما أنّ المؤمن يجنح إلى التّشبّث بقوى غيبيّة عندما يُصاب بالعيّ في تفسير الكون من حوله، فيركن إلى سكينة وطمأنينة تُغنيه عن تشغيل تلك الملكة البشريّة الّتي انوجدت في الرأس باسم العقل. كذا هي حال كلّ هؤلاء الّذين يجنحون إلى إلقاء المسؤوليّة عن سوء أحوالهم على عاتق الآخرين، دون ذواتهم هم. لأنّهم إذ يفعلون ذلك، ودون عناء يُذكر، فهم يتنصّلون من مسؤولياتهم هم عن سوء الحال الّتي وجدوا أنفسهم فيها. هذا هو، وباختصار، التّوصيف المقتضب لحال العرب في هذا الأوان.

وفي الحقيقة، قد يكون

هذا التّوصيف صحيحًا على مرّ الأزمان ومنذ القدم. لكن، ما لنا ولذلك الماضي الآن؟ فنحن نبتغي الخروج من الرّاهن الآسن في هذا الأوان. ومن أجل الخروج من هذا الغابر الّذي يُعشّش في كلّ حركة من حركاتنا الآنيّة لا توجد طريق أخرى سوى طريق فصل الدّين عن الدّولة. لقد فعلت ذلك شعوب أخرى فقطعت أشواطًا من التّقدُّم، وأشواطًا من التّحرُّر من كلّ يشكّل حجر عثرة في طريقها. وفي حالنا نحن العرب، ليس حجر يعترض سبيلنا، بل رجوم من العوائق هي من صنع أيدينا. لا حاجة إلى البحث عن اختراع جديد، فقد اخترعته من قبل تلك الشّعوب الّتي تغذّ الخطى في ركب التّطوُّر والتّقدُّم والانفتاح، وما علينا، نحن العرب، سوى الاستفادة من تجارب تلك الشّعوب. لا يكفي أن نستفيد من علوم تلك الشّعوب ومخترعات علوم تلك الأمم على أهميّة كلّ ذلك. آن الأوان أن نستفيد من هيكليّات المؤسّسات والنّظم الاجتماعيّة الّتي دفعتها قدمًا. ومن أجل ذلك، يجب تغيير الأولويّات لدينا، بمعنى أن نأخذ بأسباب التّقدُّم أوّلاً قبل تبنّي كلّ ما تنتجه علوم تلك الشّعوب. يجب أن نضع نصب أعيننا أوّلا وقبل أيّ شيء آخر، أنّ العلوم لا تتقدّم إلاّ بحبّ الاستطلاع، لا تتقدّم إلاّ بالشكّ. نعم، هذا الشكّ هو المَلَكة -النّعمة- الّتي نفتقدها نحن العرب في حياتنا.

ومن أجل الوصول إلى ذلك،

يجب طرد الدّين من الشّارع وسجنه في المسجد والكنيسة والكنيس وغيرها من أماكن العبادة الّتي تشكّل كواتم عقول منصوبة على رؤوس بني البشر. وعندما أقول طرد الدّين من الشّارع فإنّما أعني إنّه يُسمَح لمن لا يريد أن يشغّل عقله أن يفعل ذلك كيفما ارتأى لنفسه، لكن في الوقت ذاته بشرط أن يُحظَر عليه فرض تصوّراته على كلّ من يرغب في تشغيل عقله خارج سجون العقل المسمّاة أماكن عبادة على اختلاف مشاربها وتيّاراتها.
أيّ أنّنا، ومن أجل الأخذ بأسباب التّطوُّر يجب أن نقلب الآية رأسًا على عقب. علينا أوّلا أن نبدأ من الشكّ الّذي كان دائمًا أيسر وأسلك الطّرق إلى العلم وإلى كشف المحجوب في هذا الكون المضروب من حولنا. وما لم نفعل ذلك، فسنظلّ نهيم على أوجهنا حالّين مُرتحلين بين مضارب العربان في حال من التّصحُّر الذّهني. أليس كذلك؟

فماذا أقول، إذن، لهذه الأمّة الآن؟
نستميح روح نزار قبّاني عذرًا لتحوير كلامه:

إنّي خَيّرْتُك فاختاري
ما بينَ المَوْتِ على جَهْلٍ،
أو فَوْقَ مَراكِبِ بَحَّارِ.
اخْتارِي العَقْلَ أو اللاّعَقْلَ
فَجُبْنٌ ألاّ تَخْتاري.
لا تُوجَدُ مَعْرَكةٌ أُخْرَى
مَا بينَ القِطّةِ وَالفَارِ.
***
والعقلُ وليّ التّوفيق
*

عرب-إسرائيل، كسائر العربان


سلمان مصالحة ||

عرب-إسرائيل، كسائر العربان


لقد ورد في المأثور
أنّ الأقربين أولى بالمعروف. ولمّا كان المعروف الّذي أعنيه هنا هو النّقد بما يحمله من اهتمام بأحوال النّاس، فقد رأيت أن أتطرّق في هذه المقالة إلى شؤون هؤلاء القوم من الفلسطينيّين الّذين بقوا في الوطن بعد النّكبة وصاروا إثر ذلك الحدث مواطنين إسرائيليّين. لقد مرّت ستّة عقود من الأعوام على هذه المواطنة، على هذه التّجربة العربيّة الفريدة. وأقول تجربة فريدة وخاصّة، إذ رغم كلّ الإشكاليّات المرتبطة بها إلاّ أنّ أبناء هذه الأقليّة بخلاف سائر المجتمعات العربيّة من المحيط إلى الخليج تعيش، وعلى الأقلّ من النّاحية النّظريّة والقانونيّة، تجربة ديمقراطيّة طوال هذه العقود. ليس هذا فحسب، بل وعلى مرّ الزّمن فقد أنشأ هؤلاء القوم أحزابًا، بعضها يدّعي القومجيّة، وبعضها يدّعي الشّيوعيّة، وبعضها الآن يدّعي الإسلامويّة، فأدخلت جميع هذه الأحزاب نوّابًا في الكنيست الإسرائيلي، حيث أقسموا جميعًا، على اختلاف تيّاراتهم، يمين الولاء لدولة إسرائيل من على منصّة الكنيست وعلى الملأ.

والولاء لإسرائيل لم يكن
مجرّد يمين يُتلى من على منصّة الكنيست، بل رافقته دعوات لاتّخاذ خطوات عمليّة ذات مدلولات كبرى. وهذا الولاء لإسرائيل لم يأت فقط من جانب مخاتير الحمائل والطّوائف الّذين ارتبطوا بالأحزاب الصّهيونيّة ابتغاء الوصول إلى كراسي النّيابة في الكنيست، بل تعدّاه إلى أحزاب وتيّارات من صنف أولئك الّذين تُسبغ عليهم في هذه الأيّام تعابير "الوطنيّة" وغيرها من الشّعارات. فها هو الزّعيم الشّيوعي "الوطني"، توفيق طوبي، والّذي كان نائبًا لعشرات السّنين في الكنيست عن الحزب الشّيوعي، وبالتّحديد في يناير من العام 1950، أي بعد عامين فقط على النّكبة، يطالب بتجنيد الشّباب العرب في الجيش الإسرائيلي، فيوجّه كلامه إلى رئيس الحكومة ووزير الدّفاع الإسرائيلي من على منصّة الكنيست قائلاً: "لماذا تستثني الحكومة المواطنين العرب في سنّ الخدمة العسكريّة، مع أنّ الكثيرين عبّروا عن استعدادهم للقيام بواجباتهم كمواطنين يطالبون بالتّمتّع بكامل الحقوق؟ لا شكّ أنّ هذه هي إحدى الظّواهر البارزة للتّمييز العنصري في سياسة الحكومة، الّتي تتعارض مع كلّ جهد لاستمالة صداقة الجماهير العربيّة".

والولاء لإسرائيل لم يتغيّر
رغم تغيّر الظّروف وتبدّل الشّعارات بعد كلّ هذه العقود، فالشّعارات الطنّانة الرّنّانة شيء والحقيقة شيء آخر مختلف تمامًا. وإذا كان يظنّ البعض أنّ هنالك من يريد الإنضمام إلى دولة فلسطينيّة مستقبلاً فظنّه لا يستند إلى أيّ شيء ملموس قولاً وفعلاً على أرض الواقع. فحتّى أقطاب الحركة الإسلاميّة، غلاتها ومعتدليها، شمالها بجنوبها، يعبّرون ليل نهار عن رفضهم الانضمام إلى دولة وطنيّة فلسطينيّة. إنّ هؤلاء الإسلامويّين كغيرهم من مراهقي العروبة الذّاهبين للحجّ بينما النّاس قافلة في رحلة العودة، يجدون أنفسهم في مأزق كبير حقًّا. فعندما يدور الحديث في السّنوات قيام دولة فلسطينيّة وطنيّة وحلّ للقضيّة يتضمّن تبادل للأرض، وترفع بعض الأحزاب الإسرائيليّة اليمينيّة المتطرّفة إمكانيّة التّنازل عن وادي عارة لضمّه إلى دولة فلسطينيّة، يسارع هؤلاء الإسلامويّون ومن لفّ لفّهم من مراهقي العروبة إلى رفض اقتراحات من هذا النّوع. فلماذا يرفض هؤلاء اقتراحات كهذه، إذا كانوا حقًّا فلسطينيّين وعروبيّين؟ ألا يريدون أن يكونوا هم وأرضهم جزءًا من دولة وطنيّة عربيّة فلسطينيّة؟ إنّه مأزق كبير لا يجرؤون حتّى على الخوض في دلالاته العميقة وأبعاده السّحيقة أبدًا، وبدل ذلك يتزنّرون بشعارات طنّانة رنّانة كعادتهم. فإذا كان هؤلاء الإسلامويّون ومراهقو العروبة يريدون أن يكونوا جزءًا من الدّولة الإسرائيليّة، ولا يريدون أن يكونوا جزءًا من الدّولة والعلم والنّشيد الوطني الفلسطيني، على ما يعنيه هذا الأمر وما له من أبعاد، فليقولوا ذلك علانية ودون لفّ أو دوران، ودون التّزنُّر بشعارات الوطنيّة الفلسطينيّة الكاذبة!

هل طبع عرب إسرائيل يغلب تطبّعهم؟
لقد كنت كتبت في الماضي في أكثر من مكان وأشرت إلى أنّ نشوء الحركة الإسلاميّة بين ظهراني "عرب إسرائيل"، "عرب الـ 48"، "فلسطينيّي الدّاخل" وما إلى ذلك من تسميات شائعة لدى العربان، هو من بين أهمّ الأسباب الّتي أدّت إلى "تطييف"، أي إلى تفريز طائفي، في صفوف هؤلاء العرب، ومن هنا خطورة هذه الحركة على المجتمع العربي في إسرائيل بأسره. فلكون هذا المجتمع متعدّد الطّوائف فإنّ نشوء أيّ تيّار أو حزب على أسس دينيّة بحتة، أيًّا ما كانت تلك الدّيانة، فهذا يعني أنّه يعزل نفسه عن سائر الطّوائف، وهذا يعني أيضًا أنّه حزب عنصريّ بالقوّة وبالفعل. وفي الواقع كان لنشوء هذا التّيار تأثير كبير على تذرّر هذا المجتمع إلى طوائف، ومن ثمّ إلى قبائل وحمائل، كما يظهر ذلك جليًّا في الانتخابات المحليّة والقطريّة. وهذه هي الحال الّتي نشهدها في صفوف هذه الأقليّة رغم مرور ستّة عقود من تجربة ديمقراطيّة عربيّة فريدة، غير أنّ الطّبع على ما يبدو يغلب التّطبُّع.
إنّ سوسة الطّائفيّة والقبليّة تنخر عظام جميع الحركات "السّياسيّة" القائمة بين عرب إسرائيل، بدءًا من الحزب الشّيوعي وجبهته غير الديمقراطيّة، مرورًا بحزب مراهقي العروبة الّذين تيتّموا بعد فرار زعيمهم إلى أكبر قاعدة أميركيّة في الشّرق الأوسط، وانتهاءًا بهذه الحركة الإسلاميّة الّتي تقوقعت في الدّين قاصمة بذلك ظهر هذه الأقليّة المنكوبة بشعارات سياسيّيها البلهاء. وهكذا، وبعد عقود ستّة، لم يتغيّر شيء في ذهنيّة هؤلاء القوم.
ألم أقل لكم بأنّ الأقربين أولى بالمعروف؟

والعقل وليّ التّوفيق
*

المقالة في إيلاف

المقالة في شفاف الشرق الأوسط




نكات بعثية غير مضحكة

سلمان مصالحة

نكات بعثيّة غير مضحكة

بينما كنت أتابع الأخبار
الواردة من الشّام بخصوص مهازل المحاكمات الجارية هناك لموقّعي إعلان دمشق للتّغيير الوطني، تذكّرت كلامًا صدر عن أبي علاء قبل قرون طويلة. لا، ليس المقصود أبا علاء، ذلك "الزّعيم" الفلسطيني الّذي طلب وحصل على هويّة إسرائيليّة لابنته، بل أعني، وشتّان بين الاثنين، فيلسوفَ المعرّة الّذي قال:
"ضَحِكْنا وَكانَ الضّحْكُ منّا سَفاهَةً - وَحُقَّ لسُكّان البَسيطةِ أَنْ يَبْكُوا".
فلو كان الأمر مُضحكًا لكُنّا ضحكنا حتّى استلقينا على أقفيتنا، ولكنّ الأمور تشي بغير ذلك. فالأخبار القادمة من دمشق الشّام لا تثير الضّحك بقدر ما هي تبعث على الانتحاب من هذه الحال الّتي آلت إليها الذهنيّة العربيّة، في الوقت الّذي يغذّ فيه العالم الخطى في هذا القرن المتسارع تطوّرًا على جميع الأصعدة. لعلّ أشدّ ما يثير الحزن والاشمئزاز في الآن ذاته هوذلك الصّمت المعيب والمريب من قبل أطراف وجهات تصفها الصّحافة العربيّة بالـ"نخبة"، والّتي كان من المفروض أن تهبّ دونما تلكّؤ لقول كلام صريح بشأن هذه المهازل البعثيّة وغيرها من المهازل العربيّة. والمهازل البعثيّة لا تُحصى، غير أنّي أكتفي هنا في هذه المقالة بتعداد ثلاث من هذه النّكات الّتي تثير الضّحك والحزن في آن معًا:

أوّلاً: نفسيّة الأمّة
لا شكّ أنّ الّذي رفع شعار "أمّة عربيّة واحدة، ذات رسالة خالدة" يعرف عمّا يتحدّث عندما يطرح مسألة "نفسيّة الأمّة". لأنّ الأمّة إذا كانت "واحدة" فهي بلا شكّ كيان حيّ ذو عواطف ومشاعر وتصوّرات وفوق كلّ ذلك، فهي ذات "نفسيّة". غير أنّ كلّ هؤلاء المنظّرين البعثيّين لم يشرحوا لنا في يوم من الأيّام ما هي مركّبات هذه النّفسيّة، وهل تمّ إحالة صاحب هذه النّفسيّة إلى تحليل نفساني في مصحّات البعث، أكان هذا التّحليل بحسب المنهج الفرويدياني أم بحسب المنهج اليونغياني لا فرق، كي نخرج على الأقلّ بشيء من كلّ هذا التّحليل العربي الأصيل. وإذا كان للأمّة "نفسيّة"، فهل هذه النّفسيّة هي "نفسيّة البعث"، أم نفسيّة الرّئيس القبليّ الّذي ورث الزّعامة البعثيّة في عرض مسرحيّ دستوري تراجيكوميدي، تمّ تسجيله كـ"ماركة مسجّلة" تنضاف إلى إبداعات الذهنيّة العربيّة المعاصرة؟ وهل تمّ اختصار واختزال "نفسيّة الأمّة" بنفسيّة هذا الزّعيم الّذي يعيث فسادًا وسحلاً وقتلاً في سورية ولبنان، والعراق أيضًا، بواسطة مخابراته المتوارثة كابرًا عن كابرٍ؟

ثانيًا: الشّعور القومي
ولأنّ الأمّة جسم حيّ، فما من شكّ في أنّ لها أحاسيس ومشاعر، ومثلما هي الأمّة كذلك هي الحال مع القوم، ولذلك أفردت قريحة البعث تعبير "الشّعور القومي"، كما لو أنّ القوم قد اختُزلوا في شخص لا يقترب منه إلاّ من كان على شاكلة زعيمهم القبليّ. في الغالب، كلّ من يطرح مصطلحات من هذا النّوع، في العالم بأسره وعلى وجه الخصوص في بلاد العربان، يجب التّشكيك في نواياه الحقيقيّة. لأنّ الشّعارات القوميّة والوطنيّة غالبًا ما تكون الملجأ الآمن لكلّ المستبدّين الّذين يزيّنون صنوف استبدادهم بتعابير من هذا الصّنف الآسن.

ما كنت لأتطرّق لهذه الأمور بمقالة سيّارة من هذا النّوع، لأنّ القضيّة بحاجة إلى بحوث نفسيّة وإلى أطبّاء نفسانيّين لمعالجة هذه الحالات المستعصية. غير أنّ الأخبار الواردة من دمشق الشّام بخصوص التّهم الموجّهة إلى ناشطين سوريّين من مختلف الطّوائف والنّزعات دفعتني إلى ذلك. فمن بين التّهم الّذي يوجّهها هذا "القضاء" السّوري المأزوم بنظامه، ما يتعلّق بهذه الأمور الخطيرة. أنظروا مثلاً إلى هذه التّهمة: "توهين نفسيّة الأمّة". وإن لم تضحككم هذه التّهمة، فلعلّ التّهمة التّالية تفعل ذلك: "إضعاف الشّعور القومي". فأيّ أمّة هي هذه وعن أيّ نفسيّة أمّة يتحدّثون؟ وأيّ قوم هم هؤلاء وأيّ شعور قومي هو ذاك الشّعور؟

وأخيرًا، أكثر النّكات إضحاكًا:
والنّكتة صيغت على النّحو التّالي: "تعكير الصّفاء بين عناصر الأمّة" الّتي وُجّهت إلى أمين الحزب اليساري الكردي. ألا تُقهقهون ضحكًا معي لسماع هذه النكتة؟

حريّ بنا أن نقول الكلام جهرًا. المشكلة لا تكمن في الصّياغة لذاتها، فالصّياغة هي من عمل البشر. الطّامة الكبرى هي في هؤلاء البشر الّذين يصوغون هذه النّصوص، والطّامة الكبرى هي في من يصادق على هكذا نصوص بوصفها بنودًا لاتّهامات تُوجّه إلى بشر آخرين. الطّامة الكبرى هي في ما يُسمّى زورًا وبهتانًا "مجلس شعب" يُقرّ نصوصًا من هذا النّوع. الطّامة الكبرى هي في زمرة هؤلاء القضاة الّذين ينظرون أصلاً في قضايا من هذا النّوع، بدل إصدار قرار فوريّ بتسريح "المُتّهمين" ببنود هي من مهازل قضاء العربان في هذا الزّمان. والطّامة الكبرى أيضًا هي في ما يُسمّى اتّحادات محامين عرب، اتّحادات كتّاب عرب إلى آخر قوائم الاتّحادات الهزليّة الّتي تبقى صامتة على هذه المهازل. أمّا "جامعة الدّول العربيّة"، الّتي يجدر أن يُطلق عليها "مجمع الكتاتيب العربيّة"، فهذه الأمور لا تعنيها لأنّها مشغولة بسيكار عمرو موسى.

هذه البنود الاتّهاميّة الّتي يقرّها نظام البعث ليست نكاتًا، وليست مثيرة للضّحك بالمرّة. هذه قضايا تعكس حال هذه الأنظمة، وتفضح إلى أيّ درك سفليّ أوصل هذا النّوع من الأنظمة الشّعوب العربيّة. من هنا، يجب أن نقول الكلام صراحة ودون لفّ أو دوران: كلّ من يصمت إزاء هذه المهازل الّتي ابتدعتها أنظمة عربان هذا الزّمان هو شريك في الجريمة البشعة الّتي شوّهت صورة كلّ ما هو عربيّ على وجه هذه الأرض.


والعقل وليّ التّوفيق
*


ماذا يعني المصطلح "شعب" في الذهنيّة العربيّة؟


سلمان مصالحة ||

ماذا يعني المصطلح "شعب" في الذهنيّة العربيّة؟

ليس من السّهل الحديث
عمّا تواجهه "الشّعوب" العربيّة في هذا العصر. المسألة عويصة لأنّ كلّ ما يدور من حديث في هذه القضايا السّياسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة المتعلّقة بالعالم العربي والمجتمعات العربيّة في هذه الأيّام إنّما هو مستعار من مصطلحات ومفاهيم أجنبيّة ذات دلالات مختلفة، بل وقد تكون إشكاليّة فيما يخصّ دلالاتها وسياقاتها في المفهوم العربيّ. الحقول الدّلاليّة للمفردات والمصطلحات تنبني من خلال تراكمات حضاريّة تحصل على مرّ القرون والدّهور. فعندما نستعمل في العربيّة مصطلح "أُمّة"، كأن نقول مثلاً "الأمم المتّحدة" ترجمة للمصطلح الإنكليزي المعروف، فإنّما المقصود هنا ليس أممًا، بل هو دُولٌ في مفهوم العلوم السّياسيّة كما يُعرّفها القانون الدّولي. فالدّولة هي كيان سياسي، بينما الأمّة هي شيء آخر مختلف تمامًا قد يتخطّى هذه الحدود الدّوليّة المتعارف عليها. وبكلمات أخرى، فهذا يعني أنّ الدّول العربيّة الأعضاء في منظّمة "الأمم المتّحدة"، هي في الحقيقة ليست أممًا بالمرّة، إذ لا يوجد أمّة كويتيّة أو أمّة ليبيّة أو أمّة لبنانيّة على سبيل المثال رغم كونها أعضاء في "منظّمة الأمم المتّحدة"، وإنّما هي كيانات سياسيّة ناشئة بعد اندثار العثمانيّين وانحسار الاستعمار لاحقًا، كغيرها من الدّول. كذا هي حال يوغوسلافيا سابقًا قبل أن ينفرط عقدها، وكذا كانت حال الاتّحاد السوفييتي قبل أن يتفرّق هذا الكيان أيدي سبأ، أو أيدي فولغا تحديدًا.

فإن لم تكن هذه الكيانات العربيّة أممًا،
فهل هي شعوب؟ وعندما نستخدم مصطلح شعب في سياق كهذا، فماذا نعني به أصلاً؟
من أجل الإجابة على سؤال من هذا النّوع حريّ بنا أن نعود إلى ما تعنيه هذه المفردات في لغتنا العربيّة. فاللّغة ليست مجرّد وسيلة اتّصال بين النّاس، إنّما هي جامعة للمفاهيم المتجذّرة في ذهنيّة أهلها. فلو عدنا للنّظر في دلالات هذا المصطلح في اللّغة العربيّة فماذا نحن واجدون؟ فها هو ابن فارس في معجم مقاييس اللّغة يُخبرنا: "الشين والعين والباء أصلان مختلفان، أحدهما يدلُّ على الافتراق والآخر على الاجتماع. ثمَّ اختلف أهلُ اللغة في ذلك، فقال قومٌ: هو من باب الأضداد وقد نصَّ الخليلُ على ذلك. وقال آخرون: ليس ذلك من الأضداد، إنّما هي لغات". أي، لهجات قبليّة.

ليس هذا فحسب، بل إنّ مدلولات هذا المصطلح ليست واضحة المعالم، فها هو ابن منظور يورد في اللّسان في مادّة "شعب": "وهو أيضًا القبيلة العظيمة، والجمع شعوب... وقيل الشّعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب." أي بكلمات أخرى لا ينطبق على العرب في هذا السّياق استخدام مصطلح شعب وشعوب لأنّ المصطلح خاصّ بالأعاجم، أي بغير العرب. وحتّى لو أخذنا بالمدلول الجامع للمصطلح شعب في المفاهيم العربيّة، فإنّنا نرى أنّه لا يتعدّى ذلك المفهوم القبلي المتجذّر، كما يقول صاحب الكشّاف: "الشّعب الطبقة الأولى من الطبقات الستّ التي عليها العرب. وهي الشّعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة. فالشّعب يجمع القبائل والقبيلة تجمع العمائِر، والعمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائِل. فخزيمة شعبٌ، وكنانة قبيلة، وقُرَيش عمارة، وقُصَيّ بطن، وهاشم فخذ، والعبَّاس فصيلة. وسُمِّيت الطبقة الأولى شعبًا لأنّ القبائل تتشعب منها. وقد زادوا طبقةً سابعة وهي العشيرة يريدون بها بني الأب الأقربين، فتكون في هذا النسب المذكور بني عبد مناف." (نقلاً عن: لسان العرب، أنظر أيضًا: البقاعي، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور؛ أنظر أيضًا: تفسير النّسفي). أي أنّ مصطلح "شعب" يعني خزيمة في نهاية المطاف، ولا يعني مجموع قبائل العرب بعامّة. أو كما يذكر صاحب التّاج: "الشَّعْبُ: القبيلة العظيمة، وقيل: الحَيُّ العظيمُ يَتَشَعَّبُ من القبيلة، وقيل: هو القبيلة نَفْسُها والجمع شُعُوبٌ." (نقلاً عن: تاج العروس).

"وَجَعَلْناكُم شُعوبًا وقبائلَ لتَعَارَفُوا"
وها هو القرآن أيضًا في سورة الحجرات يميّز بين الشّعوب والقبائل. غير أنّ الشّعب هنا أيضًا لا يتعدّى كونه دالاًّ على مضر أو ربيعة، كما يقول مقاتل وهو من أقدم المفسّرين:"وجعلناكم شعوبا - يعنى رؤوس القبائل، ربيعة ومضر وبنو تميم والأزد. وقبائل - يعنى الأفخاذ بنو سعد، وبنو عامر، وبنو قيس، ونحوه." (نقلاً عن: تفسير مقاتل). أو أنّ مصطلح شعوب لا يخص العرب بل الموالي: "ويقال شعوبًا موالي، وقبائل عربًا." (نقلاً عن: تنوير المقباس، المنسوب لابن عبّاس؛ أنظر كذلك: ابن الجوزي زاد المسير). وكما يذكر ابن جزي: "الشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أعظم من القبيلة وتحته القبيلة ثم البطن ... فمضر وربيعه وأمثالهما شعوب. وقريش قبيلة وبني عبد مناف بطن وبنو هاشم فخذ ... وقيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل." (نقلا عن: ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل، أنظر أيضًا: الشّوكاني، فتح القدير؛ إبن الجوزي، زاد المسير؛ إبن كثير، تفسير). مرّة أخرى نرى هنا أنّ القبيلة هي المصطلح المركزي في كلّ ما يتعلّق بالذهنيّة العربيّة. أو كما يذكر القرطبي في تفسيره: "والشعب: القبيلة العظيمة، وهو أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم."

مهما اختلف المفسّرون في
مدولولات مصطلح شعب، إن كان يعني قبيلة، أم فخذًا أم بطنًا أم شيئًا من هذا القبيل فهو لا يتعدّى النّسب في الذّهنيّة العربيّة، وبكلمات ابن عبّاس: "وجعلناكم شعوبا وقبائل - قال: الشعوب: الأنساب." (نقلاً عن: تفسير الطّبري)، أو: "الشعب - الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد." (نقلاً عن: تفسير البيضاوي). أي أنّ الإنتماء إلى الشّعب في حضارة العرب هو إنتماء بيولوجي وليس إنتماء إلى حضارة جامعة تتخطّى النّسب القبلي الأعلى، وبكلمات القشيري: "وعلى هذا، فالشعوب من لا يُعرف لهم أصلُ نسبٍ كالهند والجبل والترك. والقبائل - من العرب." أو: "ويحتمل أن الشّعوب هم المضافون إلى النواحي والشعاب، والقبائل هم المشتركون في الانساب." (نقلاً عن: تفسير القرطبي).
ومن هنا أيضًا جاء مصطلح "الشّعوبيّة"، والّذي يُنسب إلى الأقوام الأخرى من غير العرب. غير أنّه يُفهم خطأ في عرب هذا الأوان بوصفه حمل عقيدة عداء للعرب، وهو ليس كذلك. هذا ما نفهمه على الأقلّ من كلام القرطبي، إذ يذكر: "والشعوبية: فرقة لا تُفضّل العرب على العجم." (نقلاً عن: تفسير القرطبي)، أي أنّ كلّ ما في أمر الشّعوبيّة هو عدم تفضيل العرب على غيرهم من سائر الخلق. فليس في عدم تفضيل العرب على العجم ما يفيد عداء للعرب، بل هو رفض لتلك النّظرة العنصريّة العربيّة تجاه الآخر، ليس إلاّ.

هل يستطيع العرب الخروج
من الطّور القبليّ والوصول إلى طور الشّعب كما نفهمه في هذا الأوان؟
ليس من السّهل الإجابة على هذا السؤال، على خلفيّة ما أوردنا هنا من مفاهيم عربيّة لهذا المصطلح. وإذا ما نظرنا إلى ما يجري حولنا من أحداث، وإلى حال هذه البقعة من الأرض المترامية الأطراف الّتي تتشكّل منها المجتمعات العربيّة، فلا يبدو أنّ هذه المفاهيم القديمة المتجذّرة في ذهنيّتها قد تغيّرت خلال هذه القرون الطّويلة. فلا الدّولةُ دولةً، ولا الأمّة أمّةً ولا الشّعب شعبًا.
من أجل الوصول إلى بناء شعب، هنالك حاجة إلى مدنيّة وإلى حواضر كاسرة للقبيلة، وبكلمات أبي رزين: "الشّعوب أهل الجبال الذين لا يعتزّون لأحد والقبائل قبائل العرب." (نقلاً عن: ابن الجوزي، زاد المسير). أي أنّ عدم الاعتزاز لأحد، بمعنى عدم التّبنّي والنّهج بمنهج النّعرة القبليّة المتمثّلة بالاعتزاز بجدّ قبليّ هي الطّريق الّتي تفضي إلى تحوّل المجتمع من قبيلة إلى شعب. وحتّى هذه اللّحظة لم يخرج العرب بعد من هذا الطّور القبلي المغرق في القدم. وليست هذه الحواضر العربيّة حواضر بما تعنيه هذه الكلمة، إنّما هي حظائر جامعة لقبائل عربيّة متناعرة بنعرات خبيثة، محكومة بسيف الدّكتاتوريّات القبليّة بعثيّة كانت أم غيرها، بدءًا ببغداد والشّام وجزيرة العربان، وانتهاء بالمغرب والسّودان. كذا كان منذ قديم الزّمان وما بدّلوا تبديلا.

والعقل وليّ التّوفيق

*

إيلاف، 18 يونيو 2008

 
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!