أرشيف: يناير 2008-
سلمان مصالحة ||
دفاعًا عن سورية
قد يتفاجأ بعض القرّاء
من عنوان هذه المقالة، وخاصّة لمعرفة القرّاء من مواقفي ضدّ نظام البعث الحاكم في سورية والّتي عبّرت عنها هنا وفي أكثر من مكان. فمن جهة أولى يمكن الإشارة إلى:
أوّلاً: التّوريث
بعد أن جثم الأسد الأب على صدر الشعب السّوري عقودًا من الزّمن، وبعد أن تقدّم به الزّمن كما هي سنّة الحياة، طفق يعمل على توريث الكرسي، فصفّق له ما يسمّى زورًا وبهتانًا "مجلس الشّعب" لهذه الخطوة الـ"مباركة"، وكأنّ الشّعب السّوري قد اختُزل بأسره في هذه الأسرة الحاكمة؟ هكذا أضحت بين ليلة وضحاها ما يسمّى زورًا وبهتانًا أيضًا "ثوريّة" البعث إلى "ثورثيّة" البعث، أي ثوريّة توريثيّة. ولكنّ التّوريث السّياسي العربيّ قديم قدم هذه البقعة من الأرض، فقط الشّعارات تتغيّر غير أنّ الطّبع العربي لا تُغيّره الشّعارات مهما تظاهرت بالثّوريّة، إذ أنّ الطّبع القَبَلي البَرِّي العربيّ يغلب التّطبُّع البِرِّي للمجتمعات المعاصرة.
ثانيًا: السّجن السّوري
من الواضح أنّ نزوع النّظام الحاكم في الشّام إلى تحويل البلد سجنًا يزجّ فيه بأبناء الشّعب السّوري من أصحاب الرأي الّذي يتعارض مع توجّهات هذا النّظام، وفقط لمجرّد الرأي المخالف، إنّما هو نابع في الحقيقة من ذعر هذا النّظام. إنّ النّظر إلى بنود الاتّهام الّتي توجّه للمثقّفين السّوريّين الّذين يزجّ بهم النّظام في السّجون هي مثار للسّخرية، وأبرز مثال على ذلك التّهمة المتمثّلة ببند "النّيل من هيبة الدّولة". لستُ رجل قانون، غير أنّي أكاد أجزم بالقول إنّه لا يوجد رجل قانون في العالَم بوسعه تفسير هذا البند المضحك، ناهيك عن كونه تهمة يُعاقَب عليها أصلاً. رُبّما مُدّعو الفلسفة والمجتمع المدني من مراهقي العروبة هم الوحيدون الّذين يستطيعون تفسير هذا البند السّخيف على شاكلتهم.
لقد تحوّل هذا الذّعر إلى رهاب مزمن في نفسيّته. لذلك فإنّ القمع الّذي يمارسه إنّما هو تعبير صارخ ذعر عميق لدى النّظام من أيّ تحوّل نحو الدّيمقراطيّة. إنّ هذا لذّعر له ما يبرّره، لأنّ النّظام أدرى بما يفعل بأبناء الشّعب السّوري على اختلاف ملله وطوائفه وإثنيّاته. إنّه ذُعر من إمكانيّة الانتقام الشّعبي من زمرة هذا النّظام، ولذلك لا يجد النّظام سبيلاً أمامه سوى سبيل تشديد القبضة وقمع البشر، على غرار سفّاح العراق البعثي القبلي التّكريتي، غير المأسوف عليه.
ثالثًا: تحرير الجولان
منذ الاحتلال الإسرائيلي للجولان في حزيران 67، لم يُحرّر نظام البعث شبرًا واحدًا من الجولان. ورغم كلّ ما يتشدّق به هذا النّظام من تسمية حرب أكتوبر 73 ووصفها بـ "حرب تشرين التّحريريّة"، إلاّ أنّ الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا. فحتّى مدينة القنيطرة السّوريّة في الجولان المحتلّ لم تُحرّر بل تمّ إعادتها إلى سورية من خلال مفاوضات فكّ الاشتباك بين القوّات الإسرائيليّة والسّوريّة مع وقف النّار. هذه الحقيقة يتمّ إخفاؤها لغاية في أنفس اليعاقيب. إنّ تقادم عهد تلك الأيّام عن الأجيال الجديدة لا يُغيّر من الحقيقة شيئًا. ومنذ ذلك الأوان لم تُطلق طلقة واحدة على هذه الحدود. أي أنّ جبهة الجولان هي أكثر الجبهات هدوءًا في الشّرق الأوسط منذ عقود طويلة، حتّى بعد ذلك القصف الإسرائيلي للمنشآت العسكريّة السّوريّة في دير الزّور الواقعة في العمق السّوري.
رابعًا: وبعد أن وقّعت
جمهورية مصر العربيّة اتّفاقيّة سلام مع إسرائيل، وتبعتها لاحقًا المملكة الأردنيّة الهاشميّة بتوقيع اتّفاق سلام آخر مع إسرائيل، ما يعني في نهاية المطاف خروج هاتين الجبهتين من المواجهة، فقد وجد نظام البعث الحاكم في سورية أنّ طرق المجابهة من أجل تحرير الجولان بمساعدة آخرين قد انسدّت أمامه. ولأنّ هذا النّظام البعثي الشّامي لا يبادر إلى حرب من طرفه من أجل تحرير أرضه، وإنّما ينضمّ في المؤخّرة إلى محاربين آخرين، فهو يجنح إلى التّخريب في كلّ مكان، وفي هذه الأثناء يملأ الإعلام بجعجعة الشّعارات القوميّة الطنّانة ليس إلاّ. هذه هي طبيعة هذا النّظام، ولذلك فإنّه على استعداد لمحاربة إسرائيل حتّى آخر لبنانيّ وحتّى آخر فلسطيني. هذا هو التّفسير الوحيد لإصراره على مواصلة التّخريب في لبنان وعدم الاعتراف باستقلال هذا البلد وتبادل السّفراء معه، وهذا هو التّفسير الوحيد أيضًا للّعب بأوراق الأحزاب الفلسطينيّة الإسلاميّة. لهذا السّبب سيواصل هذا النّظام اللّعب بلعبة التّخريب هذه، لأنّها في نهاية المطاف اللّعبة الوحيدة الّتي بقيت بحوزته، فلا لعبة له سواها.
خامسًا: ولكن ومن جهة أخرى،
وبالنّظر إلى ما ذكرنا آنفًا، فهل كلّ ما ذكرنا هي طبيعة النّظام السّوري لوحده؟ فعندما نقرأ لبعض الكتّاب الّذين يجدون متنفّسًا لهم في نقد هذا النّظام فحسب ملتزمين الصّمت تجاه سائر الأنظمة العربيّة، فإنّنا نشكّ في مصداقيّتهم أصلاً. فها هو النّظام المصري يعمل جاهدًا، على غرار نظام البعث، على التّوريث في أرض الكنانة. وها هو مهرّج ليبيا يعمل هو الآخر على توريث "الجماهيريّة العربيّة الاشتراكيّة العظمى"، وها هي سائر الأقطار من ممالك وإمارات وسلطنات تعمل كلّها على التّوريث، لا فرق. وها هي الأحزاب اللّبنانيّة على اختلاف مللها ونحلها ليست سوى محميّات قبليّة تعمل بالتّوريث هي الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، أنظروا ماهي حال المرأة في سائر الإمارات والسّلطنات والممالك الّتي تعيش في القرون الوسطى بقوانين ظلاميّة من تلك القرون. أليس من حقّنا أن نقول كلمة واحدة بهذه الأمور أيضًا؟
صحيح أنّ النّظام السّوري يلعب بالأحزاب الإسلاميّة القادمة من خارج سورية من أجل مصالحه ليس إلاّ، لكن من جهة أخرى هذه هي اللّعبة السّياسيّة، لعبة مصالح وموازين قوى. فليتعلّم الآخرون النّظر إلى مصالحهم هم، فلا توجد عروبة، فالعروبة أيّها الأخوة هي أكذوبة.
وأخيرًا على الأقلّ تبقى نقطة ضوء واحدة لدى هذا النّظام، رغم كلّ الانتقادات ضدّه. ونقطة الضّوء هذه هي "حظر حركة الإخوان المسلمين". في الحقيقة يجب حظر كلّ الأحزاب الدّينيّة في كلّ مكان على هذه الأرض، وعلى وجه الخصوص في العالم العربي، لأنّه لن تقوم لهذا العالم قائمة ما لم يفعل ذلك.
والعقل وليّ التّوفيق.
*
نشر: إيلاف، 31 يناير 2008
***