لا يمكن أن تمرّ كلّ هذه الجرائم مرّ الكرام دون حساب أو عقاب. لا يمكن أن تمرّ كلّ هذه الجرائم وكأنّ شيئًا لم يكن.
سلمان مصالحة
الشعرة التي انقطعت في السويداء
بادئ ذي بدء:
من الصعب الكلام بتؤدة ورويّة حينما يرى المرء المشاهد التي تنهال عليه من الشاشات الكبرى للفضائيات، أو الشاشات الصغرى للخلويّات. ومن الصعب إن لم يكن من المُحال، ضبط النّفس النّازفة ألمًا على ضحايا مجزرة السويداء، وغضبًا على حال أصناف هؤلاء ”البشر“ من هذه الأمّة الذين يعلنون النفير العام ويلمّون شُذّاذًا من كلّ حدب وصوب، ليس لنصرة أبناء جلدتهم في غزّة على سبيل المثال، والذين تتزيّى بها شاشاتهم وقنواتهم منذ عامين. بل فجأة، وعلى حين غرّة، هبّوا يلتمّون يجمعون عتادًا لغزو السويداء وجبل العرب، يهلّلون ويكبّرون قتلًا وسبيًا وحرقًا حيثما حلّوا، ويعيثون في الأرض العربيّة فسادًا.
إنّ دماء الأبرياء التي سُفكت في السويداء، لم تكن على طريق القدس كما قيل لهم وكما شهد شاهد من شُذّاذهم المأسورين. إنّ دماء الأبرياء في السويداء هي جزء من المخطّط الداعشي الذي جاء به هذا الجولاني منذ أن كان في عداد سجنائهم بأيدي الأميركيين في العراق. لقد كان هذا الداعشي الأفّاق الذي عاد إلى سوريا قد وضع خطّة مكتوبة لهذا الغرض، وقد كان أرسل لزعيم داعش البغدادي أنّه سيقوم بتهجير كلّ الأقليّات من سورية لإنشاء دولة خلافة إسلامية صرفة. إنّ “الأقليّات” في عرف هذا الداعشي هي كلّ من لا ينمو مثل فسيلته وكلّ من لا ينتمي إلى فصيلته.
إنّ الجرائم التي ارتكبتها عصابات الجولاني بدءًا بالساحل السوري مع الطائفة العلوية، مرورًا بجرمانا والأشرفية وصحنايا، وبكنيسة مار إلياس في دمشق، وانتهاء بمحافظة السويداء لم تأت من فراغ، بل نهلت من هذا الموروث الذي ينضح كراهية وعنفًا.
المنهل العفن:
نحن نعرف حقّ المعرفة ما هو ذلك المنهل العفن والنتن الذي ينهل منه هذا الجولاني وزمرته التكفيرية. نحن نعلم من هم هؤلاء الكفّار في عرف هذه الأيديولوجية الإرهابية: ”الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب، وهم اليهود والنصارى... ومن له شبهة كتاب فهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب... ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب وهم من عدا هؤلاء... من عباد الأصنام والأوثان والكواكب وغيرهم...“، (مصدر: المبسوط للشيخ الطوسي) أو ”كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة“. (مصدر: تفسير القرطبي). وبكلمات أخرى، فالكفّار هم كافّة بني البشر الذين لا يستسلمون لهذه الأيديولوجية العنفيّة.
كما إنّنا نعرف حقّ المعرفة فتاوى سلف الجولاني السالح كراهية وعنفًا تجاه سائر أبناء البشر الذين لا يسلكون مسلكه الوَعِر وفكره القَذِر. هاكم ما يُفتي به هذا الذي يطلقون عليه شيخ الإسلام، ابن تيميّة عن الدروز: ”وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب. وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله... كفر هؤلاء ممّا لا يختلف فيه المسلمون، بل من شكّ في كفرهم فهو كافر مثلهم. لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين. بل هم الكفرة الضالّون“. ليس هذا فحسب بل يُضيف نبذًا من ذهنيّته حول كيفية التعامل معهم: ”فلا يُباح أكل طعامهم، وتُسبَى نساؤهم، وُتؤخذ أموالهم. فإنهم زنادقة مُرتَدّين لا تُقبل توبتهم، بل يُقتَلون أينما ثُقِفوا، ويُلعَنون كما وُصِفوا... ويجب قتل عُلمائهم وصُلحائهم، لئلا يُضلّوا غيرهم. وُيحرم النوم معهم في بيوتهم، ورفقتهم، والمشي معهم، وتشييع جنائزهم إذا علم موتها. ويُحرم على ولاة أمور المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحُدود عليهم بأي شيء يراه المُقيمُ المُقامَ عليه“.(مصدر: الشبكة الإسلامية، مجموع فتاوى ابن تيمية؛ انظر أيضًا في: إحسان إلهي ظهير، كتاب الشيعة والتشيع، فرق وتاريخ)
هذا هو بالضبط
موروث الجولاني وعصابته، وهذا هو غذاؤه ”الروحي“. لقد سمعنا هؤلاء الغزاة الذين جاؤوا إلى السويداء ينضحون كراهية مقتبسين من كلام ابن تيمية هذا. فهل يُرجى ممّن كان هذا نبراسه، ومن كان هذا هو أصله وفصله وأساسه، أن يصدر منه غير الشرّ المُطلق؟
بين الخير المطلق والشرّ المطلق:
نكتفي بإيراد مثال واحد على الفرق الجوهري بين الخير المطلق الذي تمثّله السويداء وأهلها وبين الشرّ المطلق الذي يمثّله الجولاني وعصاباته. وهذا المثال يتعلّق بتلك المجزرة التي ارتُكبت بعائلة القسّ خالد مزهر المكونة من عشرين شخصًا، والقسّ خالد مزهر هو راعي كنيسة ”الراعي الصالح“ الإنجيلية في السويداء. والملفت في الأمر أنّ هذا القسّ هو من أصول درزية في المدينة،كان قد اعتنق المسيحية قبل سنوات وكان معروفًا بعلاقاته مع كافّة المكوّنات الدينية وعاش بطمأنينة مع أهله، أكانوا مسيحيين أم دروزًا. غير أنّ عصابات الجولاني التكفيرية ارتأت أن تقضي على هذا الخير المُطلق من التسامح الذي يمثّله أهل السويداء بواسطة الشرّ المُطلق الذي تحمله في جعبتها الأيديولوجية التكفيرية الغازية.
لقد استباحت عصابات الجولاني السويداء وقراها ونهبت المتاجر والبيوت وأضرمت نيران حقدها في البشر والحجر. وخطّت على الجدران شعارات ”أحفاد بني أمية“، بينما يحقّ فيهم القول إنّهم جراء ومعاويات يجبرون أبناء البشر على العواء الذي هو سمة فصيلتهم الدائدة والبائدة. وها هي أحقاد بني أمية تكشف عن جهلها حتى باللغة العربية فتصبّ جام غضبها على لافتة تُعلنُ السويداء سنة 2008 خالية من الأمّيّة والجهل، ظنًّا أنها تتعلق ببني أُميّة. يبدو أنّ السويداء حقًّا خلت من الجهل لخلوّها من أمثال هؤلاء الجهلة الذين يعيثون في الأرض فسادًا.
لا تعنينا في هذه اللحظة الدامية كلّ مخطّطات القوى الإقليمية والكبرى بشأن هذا البيدق الداعشي الذي حرّكته هذه القوى ووضعته في الشام، حيث يعلم الجميع أنّه جاء مدعومًا من المخابرات الأميركية وبواسطة عملائها من إخوان إردوغان الأتراك والقطريين وآخرين من إرهابيي الدواعش، وذلك لأغراض في أنفس اليعاقيب. إنّ ما يعنينا الآن وفي هذا الأوان هو دماء الأبرياء الطاهرة التي سفكتها ولا زالت تسفكها العصابات التكفيرية.
وختامًا لهذا الكلام،
لا يمكن أن تمرّ كلّ هذه الجرائم مرّ الكرام دون حساب أو عقاب. لا يمكن أن تمرّ كلّ هذه الجرائم وكأنّ شيئًا لم يكن.
يجدر بنا وضع النقاط على الحروف المبهمات لكي لا يساء فهم خطورة ما جرى وخطورة ما هو راهن وما هو قادم. إنّ كلّ شعرة من شوارب شيوخ أتقياء في جبل الدروز تمّ اقتطاعها بأيدي عصابات الجولاني ومن لفّ لفّة، وبخلاف ”شعرة معاوية“ التي لم يقطعها، فهذه هي شعرة طاهرة وقد انقطعت مع زمرة هؤلاء الأبالسة من جند الطغيان، هي شعرة قد انقطعت مع هذا الصنف من هذه الأمّة التي يمثّلها هذا المتعطّش لدماء الأبرياء من كافّة الأقليّات والمشارب السورية. ألا هل بَلّغت.
والعقل وليّ التوفيق.
***
تنويه لا بد منه:
في العقود الأخيرة كنت تطرّقت كثيرًا إلى النّظام البعثي البائد، وإلى
جرائمه بحق الشعب السوري أوّلًا، وإلى دجل هذا النظام بشأن المقاومة والممانعة
وما إلى ذلك من أصناف البلاغة العربية التليدة والبليدة.
فيما يلي
روابط لمقالات نشرتها حول الموضوع السوري:
إيلاف - فبراير 2005: أمة عربية بائدة ذات رسالة دائدة
إيلاف - يونيو 2007: ثلاثة مشاهد سوريا-لية
يناير 2008: دفاعًا عن سوريا
إيلاف - أغسطس 2008: نكات بعثية غير مضحكة
إيلاف - مارس 2011: ثورة الحرية السورية
إيلاف - أبريل 2011: وصمة على جبين طاغية
إيلاف - أبريل 2011: الخروج من المأزق السوري
إيلاف - فبراير 2005: أمة عربية بائدة ذات رسالة دائدة
إيلاف - يونيو 2007: ثلاثة مشاهد سوريا-لية
يناير 2008: دفاعًا عن سوريا
إيلاف - أغسطس 2008: نكات بعثية غير مضحكة
إيلاف - مارس 2011: ثورة الحرية السورية
إيلاف - أبريل 2011: وصمة على جبين طاغية
إيلاف - أبريل 2011: الخروج من المأزق السوري
هآرتس - أبريل 2011:
الأسد ملك إسرائيل
إيلاف - مايو 2011:
نعم إنها مؤامرة - ولكنها حميدة
إيلاف - يونيو 2011:
تفكيك أدونيس ومن هم على شاكلته
إيلاف - أكتوبر 2011:
وجه الشبة بين بشار وسيف الإسلام
إيلاف - ديسمبر 2011:
رسالة إلى الرئيس الأسد
إيلاف - يناير 2012:
هل حقًّا الشعب السوري ما بينذلّ
إيلاف - يناير 2012:
القصيدة الشامية
إيلاف - فبراير 2012:
النظام السوري - جرائم ضد الإنسانية
إيلاف - مايو 2012:
دولة مدنية رائدة ذات عدالة سائدة
إيلاف - يوليو 2012:
سورية غير مصر
إيلاف - أغسطس 2012:
سوريا والدواهي التي تحت السواهي
إيلاف - أغسطس 2012:
جرائم النظام والمعارضة
إيلاف - سبتمبر 2012:
في مديح سايكس-بيكو
إيلاف - سبتمبر 2012:
النظام السوري وتأمين حدود إسرائيل
إيلاف - فبراير 2013:
كلب العروبة النابح
مارس 2014:
مجنون يحكي وعاقل يسمع
صحيفة “الحياة” - سبتمبر 2014:
فضائح كتب التدريس السورية
صحيفة “الحياة” - مايو 2015:
علينا أن نتصارح كي نتصالح
صحيفة “الحياة” - أكتوبر 2015:
ستاتيكو أم سايكس بيكو؟
صحيفة “الحياة” - فبراير 2016:
ملاحظات عابرة حول المأساة السورية
صحيفة “الحياة” - مارس 2016:
سورية في ذمة الله
صحيفة “الحياة” - أبريل 2017:
معنى أن تكون عربيًّا الآن
صحيفة “الحياة” - فبراير 2018:
الحرب التي على الأبواب
صحيفة “الحياة” - مارس 2018:
سورية كحقل تجارب للأسلحة الروسية
صحيفة “الحياة” - مارس 2018:
دروس من الحرب السورية
-
صحيفة “الحياة” - أبريل 2018:
مجزرة القومية العربية
صحيفة “الحياة” - يوليو 2018:
عن الأسد وحرق البلد
***
نشرت أيضًا في شفاف الشرق الأوسط
0 تعليقات:
إرسال تعليق