السبت، 25 نوفمبر 2017

دول عصابات ونظرة إلى ما هو آت

ماذا يصدّر العرب للعالم غير العمالة البسيطة الباحثة عن لقمة عيش، غير الإرهاب وغير اللاجئين الذين تقطّعت بهم السبل في أوطانهم التي دمّرها المستبدّون؟


سلمان مصالحة || 

دول عصابات ونظرة إلى ما هو آت


درج الإعلام العربي منذ عقود، ولا زال حتى اللحظة، على التهرّب من لفظ اسم إسرائيل. بدل ذلك أطنب في اشتقاق وإغداق نعوت واستعارات عليها خوفًا من أن يُتّهم بالتعامل مع الحقائق الراسخة على الأرض، أو حذرًا من تخوينه من قِبَل ”جبهات الصمود والتصدّي“ فيما مضى من زمان، أو من قِبَل ”الممانعين المقاومين“ في هذا الأوان.

لا شكّ أنّ القارئ العربي لا زال يعثر هنا وهناك في ساحات الخطاب الإعلامي العربي على تعابير مثل ”الكيان المزعوم“، أو ”دولة الكيان“، أو ”دولة العصابات“ وما إلى ذلك من نعوت تتفتّق عنها قرائح الكتّاب والإعلاميين من مشارق العرب إلى مغاربهم.

ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره، ما دام لا يقترب سبابه من المنظومات السياسية، الدينية والاجتماعية التي تنيخ عليه كلاكلها. بل، يسعنا القول إنّ إسرائيل هي بمثابة ”الشيطان“ الذي يُرمى بجمار الإعلاميين العرب في كلّ شاردة وواردة، أكانت لها علاقة بأحوالهم في بلادهم أم لا، فهم بذلك يكونون قد أمّنوا أنفسهم من مساءلات ”الأخ الأكبر“ الذي يترقّب كلّ خطوة يخطونها.

وإذا أشحنا بنظرنا قليلًا والتفتنا إلى ما هو حاصل في البلاد العربية، فماذا نحن واجدون؟ أمّة عربية يبلغ عديدها مئات الملايين من البشر هي أمّة مستهلكة وليست منتجة بأيّ حال. لا يمكن مواصلة ربط هذه الحال بالاستعمار الذي لم يعد له وجود منذ عقود. هنالك أمم كثيرة أخرى كان قد حكمها الاستعمار ذاته، غير أنّها انطلقت وسارت في ركب التطوّر بخلاف العرب الذين ظلّوا يقبعون في غياهب من الماضي الموهوم.  ففي الوقت الذي ينظر فيه الآخرون قدمًا يصرّ العرب على التشبّث بمواضيهم السالفة، أكانت هذه المواضي زمنًا مأمولاً أو سلاحًا مفلولاً.

هل يستطيع المرء أن يشير إلى شيء ما بوسع العرب تقديمه إلى هذا العالم المعاصر؟ أين هي الجامعات والمعاهد التكنولوجية مقارنة بسائر العالم؟ أين هي الصناعات المتطوّرة في كلّ مناحي الحياة؟ أين هي الاختراعات والاكتشافات العلمية؟ أين هي الحريّة للأفراد والمجتمعات؟ أين نساء العرب من كلّ هذا؟ أين العرب بأسرهم من كلّ ذلك؟ ماذا يصدّر العرب للعالم غير العمالة البسيطة الباحثة عن لقمة عيش، غير الإرهاب وغير اللاجئين الذين تقطّعت بهم السبل في أوطانهم التي دمّرها المستبدّون؟

هل ”الوطن العربي“، بحسب التعبير الشائع، هو حقًّا وطن للمواطن أم إنّه مسرح تتجاذبه العصبيّات التي لها أوّل وليس لها آخر؟ لننظر من حولنا ونحاول الإجابة على هذه الأسئلة لأنفسنا أوّلًا، هل العراق وطن حقًّا لشيعته، سنّيّيه، أكراده، إيزيدييه، أشورييه إلخ، أم إنّه كيان مزعوم تتناحر عليه العصابات بعصبيّاتها؟ وهل سورية هي حقًّا وطن السوريّين أم هي الأخرى كيان مزعوم مرؤوس من قِبَل مستبدّين دمّروا البلاد فوق رؤوس العباد؟ أوليست ليبيا قد ظهرت الآن على حقيقتها بوصفها كيانًا مزعومًا ودولة عصابات؟ ثمّ خذوا هذا الكيان المزعوم الآخر المسمّى بلبنان. ألم يتمّ إنشاؤه منذ البدء بوصفه دولة عصابات طائفية؟ نستطيع الاستمرار في جردة الحساب هذه مع سائر السلطنات والممالك التي لا تختلف من ناحية الجوهر عن كلّ هذه الأوصاف.

في الحقيقة، لا حاجة إلى الحديث عن كلّ هذه المساحة العربية الشاسعة من العالم. إذ يكفي العربي أن ينظر إلى بلده الصغير، أكان هذا البلد قرية أو مدينة متعدّدة الطوائف، ويرى كيف تسير الأمور وكيف تُدار العلاقات وكيف تنخر العصبيّات في كلّ ركن فيه. فكلّ بلدة في هذا المشرق هي هي عالم صغير يختزل الشرق بأسره.

على من ينشد الخروج من المآزق العربية أن يبدأ من هذا ”العالم الصغير“، فمنه تبدأ رحلة الألف ميل. ما لم يستطع الفرد العربيّ أن ينتقل بعالمه الصغير، قريته وبلدته ومدينته، إلى مرحلة متقدّمة فلن يفلح بشعاراته البلاغية تحويل مسار الشعب والوطن والأمّة إلى مراحل متقدّمة منشودة. فإنّ العصا، كما قالت العرب، من العُصيّة. أليس كذلك؟
*
الحياة، 25 نوڤمبر 2017

مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • توفيق طوبي: احتفالنا باستقلال إسرائيل

    نقدم هنا خدمة للقارئ العربي ترجمة عربية لخطاب القائد الشيوعي الفلسطيني، توفيق طوبي، والنائب في الكنيست الإسرائيلي لسنوات طويلة. وهو خطاب كان قد ألقاه في باريس في شهر مايو 1949 بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لاستقلال إسرائيل....
    تتمة الكلام
  • هل البطون والأفخاذ عورة؟

    لا فرق، إذن، بين فقهاء الظّلام الّذين يُعوّرون المرأة كلّها، وبين فقهاء الفضائيّات المطبّلين المزمّرين للدكتاتوريات العربيّة على اختلاف مشاربها. فمثلما يرى هؤلاء الفقهاء المرأة كلّها عورة يجب سترها، فإنّ فقهاء الدكتاتوريات العربية يرون في الشّعوب العربيّة بعامّة كلّها عورة. تتمة الكلام...

    بين اللغة والسياسة

    ما من شك في أن القدرة علي التعبير لدى أطفال العالم أكبر بكثير، وأغني وأعمق من تعبير الأطفال العرب الذين حينما يتكلمون فهم مصابون بالارتباك والبلبلة، ولا يستطيعون تقريباً ايصال جملة سليمة للمشاهد أو للمستمع.
    تتمة الكلام
 
قراءات
  • سبحان الذي أسرى

    نتقدّم الآن خطوة أخرى للوقوف على ماهيّة هذا "المسجد الأقصى" الّذي ورد ذكره في سورة الإسراء، أو بالاسم الأقدم للسورة وهو سورة بني إسرائيل...

    تتمة الكلام...
  • بلد من كلام

    هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟

    تتمة الكلام

مختارات
  • سفر المبدأ

    (1) بَدِيءَ بَدْءٍ بَرَأَ ٱللّٰهُ ٱلسَّمٰواتِ وَٱلْأَرْضَ. (2) وَٱلْأَرْضُ كانَتْ خَرابًا خَواءً، وَظُلْمَةٌ عَلَى وَجْهِ ٱلْمَهْواةِ؛ وَرُوحُ ٱللّٰهِ تُرَفْرِفُ عَلَى وَجْهِ ٱلْماءِ. (3) فَقالَ ٱللّٰهُ لِيَكُنْ نُورٌ، فَكانَ نُورٌ. (4) وَرَأَى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ حَسَنًا، فَمازَ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلنُّورِ وَبَيْنَ ٱلظُّلْمَةِ. (5) فَسَمَّى ٱللّٰهُ ٱلنُّورَ نَهارًا، وَٱلظُّلْمَةَ سَمَّاها لَيْلًا؛ فَكانَ مَساءٌ وَكانَ صَباحٌ يَوْمًا أَحَدًا.

    تتمة الكلام
  • كشف أسرار الرهبان

    "اعلم أنّ بعض هذه الطائفة أعظم الأمم كذبًا ونفاقًا ودهاء، وذلك أنّهم يلعبون بعقول النصارى ويستبيحون النساء وينزلون عليهم الباروك، ولا يعلم أحد أحوالهم...
  • العباس بن الأحنف

    يا أيُّها الرّجُلُ المُعَذِّبُ نَفْـسَـهُ
    أقْصِرْ، فإنّ شفاءَكَ الإقْصارُ

    نَزَفَ البُكاءُ دُمُوعَ عَيْنِكَ فاسْتَعِرْ
    عَيْنًا، يُعينُكَ دَمْعُها الـمِدْرارُ

عنوان خانة

لغات