سيرجيو باديّا: ثلاث قصائد


سيرجيو باديّا ||


ثلاث قصائد


(ترجمها من الإنكليزيّة: سلمان مصالحة)



سيرجيو باديّا (Sergio Badilla) هو شاعر وكاتب ومترجم من تشيلي، ولد في ڤالپاريسو في العام 1947. شارك في مجموعات فنيّة مختلفة، وحاز جوائز أدبيّة عديدة. بعد الإنقلاب الّذي ترأسّه پينوشيه في العام 1973 تمّ اعتقال سيرجيو باديّا حيث واجه صنوفًا من التّعذيب، ثمّ نفي إلى الأرجنتين. وفي الأرجنتين قضى سنة واحدة فقط حيث حدث انقلاب آخر في الأرجنتين وسيطرت على الحكم طغمة يمينيّة بدأت تلاحق اللاّجئين السّياسيّين، فانتقل سيرجيو باديّا إلى رومانيا، ومن هناك إلى السّويد. وبعد سنوات من الحياة في المنافي عاد إلى وطنه بعد انتهاء عهد پينوشيه. له مؤلّفات شعريّة عديدة، بالإضافة إلى مسرحيّات وكتابات أخرى. ترجمت أشعاره إلى لغات عديدة. يعيش سرجيو باديّا ويعمل في سانتياغو، تشيلي.



عندما تمقتينني

تتثاقلُ جُفُوني إذ يأتي الحُزنُ
جَسَدِي مُنْهَكٌ
صورتُكِ تَبقَى هُناك، صَخريّة اللاّمُبالاة
غَضَّة المُحَيّا، وقحةَ التّقاسيم
وأنا، أتصيّدُ الوُضُوحَ الّذي لن يأتي.
لا زلتُ أجدُ فيكِ مِسْحَةً من حنان.
مُتْعَبًا أَتخيّلُكِ على أطرافي
في رَحابَة سَريري
والنّوافذ الّتي تعكسُ صفاءَ الشّمس
والأصيل الّذي يُشيّدُ ذاتَه في حُدودِكِ.
الآنَ، تلك الضّوضاءُ البعيدة لن تدعني أسمعُ صَوتَكِ بوضوح
الضّوء الّذي يتساقطُ في الأُفق، برفقٍ تحتضنيني
إنّه حُزنُنا الّذي يَنْمو في المرآة
يُحيلُنا تماثيلَ ذات مَفاصل
الوقتُ ذاتُه يختزلُنا
الشكُّ يُعَرِّينَا، يُطَهِّرُنا، يرسمُ دواخلنا
ما أنا إلاّ جوهر نَفْسي المُقنَّعَة
أنظرُ إلى فُلُول الضّياء في النّافذة،
جَدٌّ يَرفعُ رَأسَه، يَتأمّلُ جاهدًا
طَيرانَ الحَمام
في الميدان المُضاء بضوء خافت.
تنتفخُ جُفُوني، تَتَهدَّلُ مُثقَلَةً بالأحزان
لَفْتَةٌ مُطْمَئنّة بكَلامٍ لا حاجة له
صُورتُك تَبْقَى هناك، كَـ كْوَارْتز لا مُبالٍ
والظّلالُ تكادُ تمحو واجهات المدخنة
رُبّما تخلقُ واقعًا آخر
رُبّما تخترعُ حاضرًا مُنفصلاً.

***

هلوسة

طروادة تَحْترقُ وربّما لا يعنينا الأمر.
هذه الأقنعةُ تحجُبُنا عن العُيون، على شفا البَحْر.
الآنَ أتذكّر.
مدينة الأخشاب المزيّتة في الضّباب.
جَسدُكِ الشّبِقُ على صَدْري
إذْ دَهَمَت النّيرانُ المكانَ، حيثُ أحْببنا من قَبْلُ.
كانتْ صُورُ أَبْعَدَ، مَتاجرُ الفينيقيّين
الضّوءُ الخافتُ الكئيبُ يَتصادَى الآنَ خشنًا على وَجْهِك
وعلى الأرْضِ المُرتَجَلَة:
مانيلاّ شَرْقًا
مضغوطة في نكهةِ التّبْغ في غليوني.
يُخَرفشُ الحنينُ كَما العتمة العمياء
في الفَحْم المُسْتَعر.
الأرضُ الّتي تَنْطَفِئُ خَلْفَ الضّباب ليستْ أرضَنا بَعْدُ.
في النّهايات ثَمَّ المُحيطُ الهادرُ وَدِماغي.
الجُنونُ جَسَدُكِ على مقربة من جسدي، والرّغبةُ الجامحة
احترقتْ بينَ بَقايا الآثار.

***

مُبكّرًا هذا الصّباح

مع السّحَر قَبلَ أنْ أتركَ البيت
ناقلاً الكُتبَ من الرّفّ،
قبلَ النّزول إلى الپارك
سأختلسُ النّظَر إلى وَجْهِكِ الأسْمر.
على كُلّ حال، سَيَراني أحدُهُمْ أخطو صاعدًا نحو اليمين،
مُغْمَضَ العَيْنَيْن في ذا الصّباح الصَّافِن،
الغريبُ الوقحُ
الّذي يَطُوفُ وحيدًا حَوْل قُرًى غير واضحة المعالم.
في مكانٍ ما يَعْوي ذئبٌ إذْ يُخَيّمُ الهُدُوء
سَتُضْحي الشّوارعُ تَقاسيمَ شَخْصٍ يمشي نائمًا،
لا يملكُ أن يَتَخيّلَ هشاشةَ الإنسان
إزاءَ الغريم.
لا زلتَ في حال النَّيْمُومَة
رُبّما تَسْتمتعُ بشبحٍ لا تَراه، لكنّكَ تَستطيعُ الإحساسَ به.
بماذا تحلمُ كُلَّ ليلة في هذا البيت في شارع "إيلْمْ"؟
بماذا تحلمُ في ذلك المَسْكَن الّذي عَضّهُ الضّوء الخافت؟
ضَوضاءُ الشّارع تُحَرّكُ جَسدَكَ المُتَلوِّي عِشْقًا تحتَ الشّراشف،
وعيناكَ تتغامضان في أَلَقِ الشّمْس
في ساعَةِ سَحَرٍ بعدَ خُروجِ النّاسِ على عَجَل.


***


نشرت في: إيلاف


________

Sergio Badilla, 3 poems, translated into Arabic by Salman Masalha






أودن: رَقِيمةٌ عَلَى قَبْر طاغية


و. هـ. أودن


رَقِيمةٌ عَلَى قَبْر طاغية


الكَمَالُ، الكامِلُ الأَحَدُ، هُوَ كُلُّ مَا كَانَ نَشَدْ،
وَالشِّعْرُ، الّذِي ابْتَدَعَهُ، كَانَ سَهْلاً عَلَى الأَفْهامْ؛
كانَ يَعْلَمُ بِحَمَاقَاتِ البَشَرِ كَعِلْمِهِ بِكَفِّ اليَدْ،
وَقَدِ اهْتَمَّ بالجُيوشِ وَالأَسَاطيلِ أَشَدَّ الاهْتِمَامْ؛
حِينَمَا ضَحِكَ، انْفَجَرَ ضِحْكًا شُيُوخُ الوَقَارْ،
وَحِينَمَا بَكَى، مَاتَ في الشَّوارعِ الأَطْفَالُ الصِّغَارْ.

ترجمة: سلمان مصالحة
***
للترجمة العبريّة، اضغط هنا.

أشباح

سلمان مصالحة ||

 أشباح

لَوْ أنَّ لِي حَجَرًا مَا كُنْتُ أَقْذِفُهُ
فِي بِرْكَةٍ طَفَحَتْ مِنْ دَمْعِ تِمْسَاحِ

إنّ الدُّمُوعَ إذَا حَرَّكْتَهَا انْتَثَرَتْ
وَاغْرَوْرَقَتْ عَبْرَةً ذِي النَّفْسُ، يَا صَاحِ

يَا مَنْ تَرَاكَضَ خَلْفَ العَقْلِ يَطْلُبُهُ
لا الصُّبْحُ جَاءَ، وَعَافَ الزَّيْتَ مِصْبَاحِي

دَعْ ذَا عَدَمْتُكَ وَاعْزِفْ عَنْ مُغَامَرَةٍ
إنَّ التَّفَكُّرَ مَسْكُونٌ بِأَشْبَاحِ

فَابْعَثْ سَلامَكَ للنُّدْمانِ حَيْثُ مَضَوْا
وَارْحَلْ إلَى بَلَدٍ فِي الكَاسِ مُرْتَاحِ

وَادْفِنْ هُمُومَكَ فِي خَمْرٍ لَهَا خَفَرٌ
لا تَبْتَئِسْ فَخَلاصُ الرُّوحِ فِي الرّاحِ

فِي رَشْفِهَا أَثَرٌ مِنْ وَصْلِ عَاشِقِهَا
إنْ لامَسَتْ رُوحَهُ أَمْسَتْ بِأَرْوَاحِ

***

إذا حمل الطير غربًا فؤادي

سلمان مصالحة || 

إذا حمل الطير غربًا فؤادي

       (رحلة فلسطينيّ في الرّبوع الأندلسيّة)

 
رَكِبْتُ ضُحًى صَهْوَةَ القَلْبِ شَوْقَا
كَمَنْ شَدَّهُ الحُلْمُ، أَوْ رَامَ نُطْقَا

وَيَمَّمْتُ وَجْهِيَ صَوْبَ رُبُوعٍ
نَمَتْ فِي الجَنَانِ، فَأَوْرَقَ رَوْقَا

وَأَعْمَلْتُ فِكْرِيَ بَعْضَ نَهَارٍ
بِمَا أَوْرَثَ البَحْرُ فِي الأَرْضِ أُفْقَا

وَرُوحًا سَمَتْ فَوْقَ مَوْجٍ كَطَيْرٍ
تَسَلَّقَ حَبْلَ الرِّياحِ، فَأَلْقَى

عَلَى الغَرْبِ نَجْمًا، وَمَالَ فَثَنَّى
عَلَى الشَّرْقِ غَيْثًا، وأَشْعَلَ بَرْقَا

رَكِبْتُ ضُحًى صَهْوَةَ الحُلْمِ حُزْنًا
وَوَدَّعْتُ طِفْلاً بِقَلْبِيَ عَقَّا

تَرَكْتُ وَرائِي كَلامًا كَثِيرًا
وَرَمْلاً كَثِيفَ الظِّلالِ وَرِقَّا

وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الدُّرُوبَ رَمَتْنِي
إلَى شَاهِقٍ مِنْ زَمانٍ مُنَقَّى

وَراءَ جِبَالٍ غَفَتْ خَلْفَ بَحْرٍ
بها غابِرٌ عامِرٌ لَيْسَ يُرْقَى

عَلا أَسْرُجَ الخَيْلِ، يَبْغِي هِلالاً
هَوَى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَارْتَدَّ أَلْقَا

بَنَى أَجْنُحًا لِلرِّيَاحِ، وَبَيْتًا
بِهِ الرُّوحُ شَادَتْ صُرُوحًا وَأَبْقَى

حُرُوفًا مُسَطَّرَةً كَالقَوَافِي
وَنَظْمًا عَلَى هَامِ مَنْ هَامَ عِشْقَا

هُنا رحْلَةٌ في رُبُوعِ حَكايا
لَها أَوّلٌ لَيْسَ يَفْنَى، فَيَبْقَى

كَلامًا عَلَى القَلْبِ، إذْ عَزَّ قَوْلٌ
تَصَوَّبَ غَيْثٌ عَلَيْهِ فَرَقَّا

هُنَا خُطْوَةٌ دَرَسَتْ فِي تُرابٍ
هُنَا آيَةٌ تَرْفَعُ الرَّايَ فَوْقَا

تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا تَلَظَّتْ
بِنَارِ جَهَنَّمَ فَازْدَدْتُ حَرْقَا

حَمَلْتُ مَعِي شَهْقَةً مِنْ بِلادٍ
تَقِي شَاعِرًا زادَهُ الغَرْبُ شَهْقَا

تَرَكْتُ وَرائِي بِلادًا وَدَمْعًا
جَرَى مِنْ شُجُونِ العُيُونِ، فَشَقَّا

عَلَيَّ الرَّحِيلُ، لِبَعْضِ زَمانٍ
يُذَكِّرُنِي بِالَّذِي سَوْفَ أَلْقَى

فَيَا أيُّهَا الطَّيْرُ دَعْنِي أُغَنِّي
وَخُذْ بَعْضَ لَحْنِي لِقَلْبِكَ خَفْقَا

كَلامُكَ رَجْعُ حُرُوفٍ تَوارَتْ
عَنِ السَّمْعِ، يا طَيْرُ بِاللّهِ رِفْقَا

فَإنِّي، وَإنْ زَانَ قَوْلِيَ سِحرٌ
فَقَدْ كَذَبَ السِّحْرُ، لَوْ كانَ صِدْقَا

إذا حَمَلَ الطَّيْرُ غَرْبًا فُؤَادِي
فَيَا عَجَبَ القَلْبِ يَزْدادُ شَرْقَا

***

من مجموعة: "لغة أم"، منشورات زمان، القدس 2006
***


إذا حمل الطير غربًا فؤادي
      لحن: مروان عبادو * أداء: ڤيولا راهب    
   

وضع النّقاط على الحروف المبهمات

سلمان مصالحة

وضع النّقاط على الحروف المبهمات 

ما كنت لأردّ بهذه المقالة لأنّي أؤمن بفتح الأبواب على مصاريعها للآخرين كي يلجوا منها، ويدلوا فيها بدلوهم في نقاش منفتح وصريح إلى أبعد الحدود. غير أنّ المقالة الّتي كتبها د. أفنان القاسم تقديمًا لمقابلة إلكترونيّة معي نشرها على موقعه الخاص استثارت لديّ بعض النّقاط الّتي رأيت ألاّ أمرّ عليها مرّ الكرام، لما فيها من إيضاح لبعض الجوانب الّتي يتخبّط فيها الكاتب من جهة، وما تشكّله هذه التّخبّطات من سمة مميّزة للكثير من الكتّاب العرب في هذا الأوان. 
 
ولأنّي أحترم لغتي العربيّة بما تمثّله في من دلالات ذهنيّة فأنا لا ألقي الكلام على عواهنه، بل أنتقي الكلمات بتؤدة لما فيها من معاني واضحة الدّلالة لا يمكن أن تُفسَّر إلاّ على الوجه الّذي أقصده مع حريّة الاتّساع في المعاني والدّلالات الّتي قد تفسح لها هذه المفردات والمصطلحات. من هنا نبدأ: يستهلّ د. أفنان القاسم كلمته بمقولة أضحكتني كثيرًا، حيث وسمني بكوني "ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". إذ يبدو لي أنّ الّذين أدمنوا على تمثيل دور "الضحيّة" في كلّ شاردة وواردة لم يعودوا يفرّقون بين معاني وسياقات استعمالها. 
 
ولمّا كنت لم أشعر أو لم أكن في يوم من الأيّام، على الأقلّ منذ أن بلغت سنّ الرّشد، ضحيّة لأيّ شيء فإنّ وسمي بكوني ضحيّة قد أضحكني كثيرًا. هذا ناهيك عمّا جاء لصيقًا بهذه التّسمية، أي "من ضحايا الفكر السّائد". ولمّا كنت عربيّ النّشأة أمميّ الأهواء في الآن ذاته، أعيش في وطني وأكتب بلغتي، لغتنا جميعًا الّتي احترمها بخلاف الآخرين الّذين يحتقرونها ويشوّهونها ليل نهار، فلا أدري ما الّذي يرمي إليه الدكتور القاسم باصطلاح "الفكر السائد". أيّ فكر هذا، وأين هو سائد؟ هل هو "الفكر السائد" عند العرب، أم شيء آخر؟ وهل يمكن أصلاً الإشارة إلى فكر وإلى سيادة عند العرب في هذا العصر؟ 
 
ربّما كان من المفيد التّذكير والتّأكيد مجدّدًا على أنّه لا يمكن أن ينتج فكر بمعزل عن الحريّة. ولمّا كانت المجتمعات في البلدان العربيّة من أقصاها إلى أقصاها تعيش في أنظمة من الكبت السّياسي والاجتماعي والثّقافي فلا يمكن أن تنتج هذه المجتمعات وهذه البلدان فكرًا أو ثقافة أو علمًا بأيّ حال من الأحوال، مهما تبجّح المتبجّحون ومهما دغدغوا عواطف الأجيال الشّابّة ببلاغة عربيّة تليدة وبليدة في آن معًا. الكبت لا تمارسه الأنظمة فحسب، بل يمكن أن نقول إنّ الكبت الّذي تمارسه بعض التّيّارات، السّائدة حقًّا، ثقافيًّا واجتماعيًّا على الفرد هو في الكثير من الأحيان أشدّ وطءًا عليه من كبت الأنظمة ذاتها. 
 
إذن، ما هو "السّائد" في هذه الأقطار والمجتمعات؟ يمكن أن أجمل هذا السّائد، وبخطوط عريضة، في تيّارين اثنين لا ثالث لهما في هذا الغار المظلم. التّيّار الأوّل هو جوقة المثقّفين المرتزقين المصفّقين لهذه الأنظمة الكابتة على اختلاف درجات كبتها بين قطر عربيّ وآخر. والثّاني هو تيّار ليس أقلّ إيلامًا على النّفس من سابقه، وأعني به تيّار الإسلامويّين ومن يتّبعهم من الغاوين من فلول مراهقي العروبة وفتات اليسار العربي الّذي لم يطرح في يوم من الأيّام نفسه بديلاً حقيقيًّا في هذه المجتمعات ولهذه المجتمعات، بل كان دومًا متعاونًا مع الأنظمة المستبدّة ومع الاستبداد المجتمعي الّذي لم يجرؤ أبدًا على زعزعة أركانه المحافظة. لو أنّي كنت أنتمي إلى أحد هذين التّيارين السّائدين في المجتمعات العربيّة لكان من حقّ الدكتور القاسم أن يسمني بـ"ضحيّة من ضحايا الفكر السّائد". يجدر هنا أن أذكّر الدكتور القاسم وكلّ هؤلاء الغارقين في هذه المقولات أنّ مواقفي الصّريحة الّتي تقف في موقع نقيض لهذين التّيارين الآنفين تسحب البساط من تحت هذا النّوع من المقولات المضحكة حقًّا. لكن، ما لي وهذا الكلام إذ ها هو يناقض نفسه بنفسه لاحقًا، حين يصفني بكوني أكتب "من خارج المكان فيما يخصّ مسائلنا وهمومنا". 
 
فإذا كنت أكتب من خارج المكان بخصوص مسائلنا وهمومنا، فهذا يعني أنّي أقف في موقع هو نقيض من السّائد، أليس كذلك؟ ثمّ إنّي لا أعرف ما الّذي يحدو بالكتّاب العرب إلى تأبّط الكلام بنون الجمع هذه: مسائلنا وهمومنا. مسائل من، وهموم من، يا أستاذ؟ يبدو أنّ سطوة اللّغة الفصحى المكتوبة، غير المحكيّة، على ذهنيّة الكُتّاب العرب تفقدهم صوابهم أحيانًا، إذ يميلون إلى الظنّ في قرارة أنفسهم أنّهم صاروا جزءًا من جسم كبير محدّد المعالم، بينما الحقيقة هي خلاف ذلك تمامًا. وفي ظنّي، إنّ الاحتماء "السّائد" بنون الجمع هذه في الكتابات العربيّة هي جزء من ذهنيّة الهرب من مواجهة الواقع في البيئة القريبة من الكاتب ذاته الّذي يستخدمها. وأعترف هنا أيضًا، وفي هذه النّقطة، أنّني فعلاً "ضحيّة" من ضحايا هذا الاستخدام باللّغة العربيّة، إذ أجد نفسي أنا أيضًا مستخدمًا هذه الـ"نحن" أحيانًا. لكن، في كلّ ما عدا ذلك، فلست ضحيّة ولا أريد أن أكون ضحيّة. وإذا كنت ضحيّة فأنا ضحيّة من ضحايا ذاتي لا ضحيّة من ضحايا غيري. إنّ دور الضّحيّة هذا أتركه لمن يرتأيه من أناس غيري. هل يُفهم المقروء؟ 
 
لقد أسلفت من قبل أنّي أحترم لغتي العربيّة وأحترم الكتابة بها لأنّي أحترم القارئ أوّلاً وقبل كلّ شيء. ولهذا السّبب فإنّي أنتقي كلامي بتؤدة وأحاول صوغ الكلام بدقّة، قدر استطاعتي، كي لا تلتبس المعاني على القارئ فلا يعرف مقصدي ولا يفقه ما أنا ذاهب إليه في مقالتي. إنّ ما يثير في نفسي الحزن هو هذه الحال الذّهنيّة العربيّة الّتي يشكّل الأستاذ أفنان القاسم مثالاً صارخًا لها. ما أقصده هنا هي حال الضّحالة، إن لم تكن هذه إعاقة بنيويّة، في فهم المقروء كما تتجلّى في أقوال الأستاذ أفنان القاسم حين يقول عنّي مستندًا إلى إجاباتي ما يلي: "ويذهب في تصوره البراني إلى حد يلامس فيه الخطورة عندما يعتبر القضية الفلسطينية واحدة من بين قضايا ليست أهمها، وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإستراتيجية الإسرائيلية...". 
 
كيف وصل الأستاذ أفنان القاسم إلى هذا الفهم؟ لا أدري. لقد كان كلامي واضحًا إلى أبعد الحدود، فمن أين جاء بهذا الفهم إذن؟ إنّه هو نفسه الّذي يسأل عن "القضيّة"؟ أمّا كلامي الّذي صغته في إجابتي على سؤاله فهو واضح لا يمكن الالتباس فيه. إنّه هو نفسه الّذي يستخدم مصطلح "القضيّة الفلسطينيّة"، أمّا أنا فقد حذّرت في إجابتي من هذا الاستخدام الشّائع في الإعلام العربي، مُذكّرًا الجميع أنّه: "عندما يدور الحديث عن قضيّة يتحوّل الموضوع إلى تمرين ذهنيّ، أو ربّما مسألة مجرّدة تحتمل الجدل فيها بعيدًا عن الأبعاد الإنسانيّة. فإذا كانت "فلسطين" قضيّة فهناك الكثير من القضايا الأخرى، ومثلما يتمّ تقديم البحث أو تعليق بعض القضايا لأسباب متعلّقة بمصالح هذا النّظام أو ذاك حفاظًا على رؤوسه، كذا هي "القضيّة الفلسطينيّة"، قد تلحّ أحيانًا وقد تتأخّر لأنّ قضايا المنطقة كثيرة وعويصة وهنالك ما هو ألحّ للتّعامل معه. وفي أثناء ذلك يتمّ تناسي البشر والشّجر والحجر"، كما ورد حرفيًّا في إجابتي على سؤاله. أليس كلامي هذا واضحًا؟ الحقيقة الّتي لا بدّ من مواجهتها في هذا السّياق هي أنّ الفلسطينيّين وطوال عقود من الزّمن، ولأسباب عديدة لن نطرق أبوابها الآن في هذه العجالة، قد أدمنوا الجلوس في خانة الذّهنيّة الاتّكاليّة. ليس هذا فحسب، بل يظنّون أنّهم مركز العالم، أو على الأقلّ مركز العالم العربي الّذي هو في الواقع عالم "لا يعرف أَساسُهْ مِنْ راسُهْ"، كما شاع القول في لهجتنا الدّارجة. 
 
وإذا كانت البلاغة العربيّة، الّتي قد يقرؤها، يسمعها أو يشاهدها هنا وهناك في الصحافة والإعلام العربي من الكلام المعسول الّذي يجيء من التّيّارين الآنفين اللّذين ذكرتهما سابقًا حول فلسطين وما إلى ذلك، تُدغدغ مشاعره، فهنيئًا له بهذه الدّغدغة. لقد نسي، أو تناسى، أنّ هذه الأنظمة قد تركت للنّاس هذه "القضيّة الفلسطينيّة" بصفتها عظمة يتلهّون بها صباح مساء، بشرط أن لا يقربوا الأنظمة الفاسدة والمُفسدة في بلادهم. 
 
لقد وصلت إلى قناعة منذ زمن أنّ كلّ أولئك الصّارخين عن فلسطين في الإعلام العربي لا يعرفون فلسطين في الحقيقة، لا يعرفون أهلها، لا يعرفون بشرها، وبرها، شجرها وحجرها. إنّها صيحتهم الوحيدة المسموح لهم بها (وخاصّة في تلك الفضائيّات المنطلقة من أكبر القواعد العسكريّة الأميركيّة في الشّرق الأوسط، أو تلك الصّحف الزّاعقة من لندن والّتي لا ندري من يموّلها أصلاً، إذ تنعدم فيها الإعلانات التّجاريّة)، بينما هم في قرارة أنفسهم يصيحون ضدّ الظّلم والقهر في بلدانهم. المحافظون الجدد يسمّون هذه "الفوضى البنّاءة". هذه هي الحقيقة العربيّة المرّة، أليس كذلك؟ 
 
وعلى كلّ حال، أنتظر أنا مثلما ينتظر الآخرون أن يشرح لنا الأستاذ القاسم ما هي هذه "القضيّة الفلسطينيّة" الّتي يسأل عنها. هل هي التّحرُّر من الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينيّة في الضفّة والقطاع إلى جانب إسرائيل واعتراف متبادل بين دولتين؟ أم أن "القضيّة" هي القضاء على دولة إسرائيل وتسفير اليهود إلى ما وراء البحار؟ إنّه مُلزم، مثلما أنّ الجميع ملزمون، في الحالتين بإعطاء إجابات صريحة للذّات أوّلاً، ثمّ للنّاس الأقربين ثانيًا ولسائر العالم في نهاية المطاف. 
 
إذا كان من الصّنف الأوّل فعليه أن يصارح الملأ من أبناء قومه بذلك ودون لفّ ودوران، وإذا كان من الصّنف الثّاني، فليقلها أيضًا صراحة. لكن، ليعرف أيضًا إنّه في حال كهذه لن يجد أحدًا في العالم متعاطفًا معه ولا مع "قضيّته"، مهما ساءت أحواله وأحوالها. وإذا كان يعتقد أنّ قضيّته هي قضيّة مركزيّة، فهو مخطئ، فالعالم مشغول بكثير من القضايا، وما قضيّته هذه سوى واحدة من قضايا كثيرة أخرى تشغل الآخرين. أليس العراقيّ مشغولاً بعراقه أوّلاً؟ أليس اللّبنانيّ مشغولاً بلبنانه أوّلاً؟ أليس السّودانيّ والمصري مشغولين بمصرهما وسودانهما؟ وكذا المغربي واليمنيّ إلى آخر القائمة. وكذا هو العالم الآخر من حولنا. 
 
وفي نهاية المطاف لن يَقلع لك أحد الأشواك من يديك، فما عليك إلاّ أن تقلعها بنفسك. لقد عانى الشّعب الفلسطيني كثيرًا من فساد قياداته وزعاماته السيّاسيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، لقد عانى كثيرًا من جبن مثقّفيه وارتزاقهم، لقد عانى كثيرًا من قراءة الواقع وقراءة العالم المعاصر، لقد عانى كثيرًا من جهله واتّكاليّته. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن يسمع أصوات أخرى تكلّمه صراحة ودون غمز أو لفّ ودوران. من حقّ الشّعب الفلسطيني أن يتحرّر سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ومن حقّه أن يكون كسائر الشّعوب المتحضّرة. أمّا اتّهامي باستخدام "لغة غوغائيّة"، فهو أكثر إضحاكًا ممّا سلف. إذ أنّ القارئ النّبيه البصير سيقرّر بنفسه، لغة مَنْ منّا هي الغوغائيّة. 
 
وأخيرًا، وكي أضع النّقاط على الحروف المبهمات، ها أنا من موقعي هذا، هنا في وطني، ورغم كلّ إشكاليّات هذا الموقع الّذي أعيش فيه وأكتب منه وفيه وله، أقول بصريح العبارة إنّي أقف ضدّ الصّهيونيّة العنصريّة، مثلما أقف في الوقت ذاته ضدّ القومويّة العربيّة العنصريّة، وضدّ كلّ قومويّة عنصريّة أخرى. يجب أن نقولها كلمة صريحة على الملأ: إنّ القومويّة على جميع تفرّعاتها وأشكالها هي داء نفسيّ عضال يضرب ذهن البشر فيصيبهم بالشّلل الفكري ويتركهم في حال بدائيّة لا يستطيعون الفكاك منها. وهي، أي القومويّة العنصريّة، داء طالما جلب الويلات على من يحمل في ذهنه هذا الڤيروس. 
 
وهذا الكلام لا يعني طبعًا الانتماء الطّبيعي إلى مجموع حضاري معيّن من البشر قد يختلف عن الآخرين لكنّه يبقى مؤتلفًا معهم في الانتماء إلى هذه البشريّة الّتي ننشد الخير لها جميعًا على هذه الأرض، وفي السّماء أيضًا. لقد قلت هناك إنّ علينا أن نتصارح كي نتصالح. والآن، أما آن الأوان بعد للقوم الّذين أنتمي إليهم لمعالجة هذا الدّاء والشّفاء منه؟ والعقل وليّ التّوفيق!
يوليو 2008
***
المقالة في إيلاف المقالة في الشفاف

هل هي حقًّا جامعة دول عربيّة، أم عبريّة؟


سلمان مصالحة ||

هل هي حقًّا جامعة دول عربيّة، أم عبريّة؟



لا يستغربنّ أحدٌ
هذا العنوان المتعلّق بجامعة الدّول العربيّة! وكما وعدتكم في المقالة السّابقة، "قد ينجح الكسلان"، فها أنا أفي بوعدي الآن. فما سنكشفه للقرّاء الكرام في هذه المقالة سيزيل الغشاوة عن أعينهم وسيجدون فيه الإجابة الواضحة على هذا السؤال.

لقد شاع قول العرب: الإناء ينضح بما فيه. ولأنّي، بخلاف هؤلاء النّفر من البشر في الجامعة العربيّة، لا أكتفي بإلقاء الكلام على عواهنه، فقد درجت على طريق الاستقراء والتّقصّي. وهكذا عقدت العزم على شدّ رحالي إلى إناء جامعة الدّول العربيّة ابتغاء معرفة ما ينضح به إناؤها، وعرض ما استخلصه من نتائج على القرّاء الكرام. وما غرضي من وراء ذلك إلاّ ليكون القرّاء العرب في كلّ مكان على بيّنة من أمرهم، على بيّنة من أمر سيّداتهم وساداتهم. والإناء الّذي أقصده، هو موقع جامعة الدّول العربيّة على شبكة الإنترنت. نعم، فهذه المؤسّسة الّتي يُطلقون عليها اسم "الجامعة"، قد أوصلت هذا المصطلح إلى حضيض يصعب تصديقه.

أوّلاً: ما هي القدس؟
كثيرًا ما يتشدّق العرب بأهميّة القدس في الوجدان العربي والإسلامي، غير أنّ الشّعارات الرنّانة شيء والحقيقة شيء آخر مختلف تمامًا. فها قد نما إلى أسماعنا في الآونة الأخيرة خبر اختيار القدس عاصمة للثقافة العربيّة لسنة 2009، وسرعان ما أثيرت تساؤلات حول الموضوع وحول اللجنة المنظّمة، ثم قرأنا عن حدوث استقالات البعض منها وما إلى ذلك من طرائف ونكات عربيّة عاديّة في مثل هذه الحالات. والحقيقة الّتي لا مناص من طرحها هنا هي أنّ العرب، على العموم، عندما يذكرون القدس فإنّما يذكرونها كمجرّد شعار ليس إلاّ. إذ لا أحد منهم يعرف حدود هذه المدينة، أين تبدأ وأين تنتهي. فهل هي يا ترى حدود بلديّة القدس حينما كانت ضمن المملكة الأردنيّة الهاشميّة قبل حرب حزيران 67، أم هي الحدود الّتي تفرضها إسرائيل والاحتلال الإسرائيلي الآن بعد عقود من هذا الاحتلال؟ وماذا تقول السّلطة الفلسطينيّة حول هذه المسألة، وما هي الحدود الّتي ترسمها هذه السّلطة الفلسطينيّة للقدس؟ إنّها أسئلة لا بدّ من طرحها على الملأ، لكي نكون على بيّنة من أمرنا، لكي نعرف ما هي القدس الّتي نتحدّث عنها.

أمّا جامعة الدّول العربيّة، وعلى ما يبدو، فإنّها ترى الأمور بصورة أخرى. على الأقلّ، هذا ما قد يخرج به القارئ الّذي يزور موقع هذه "الجامعة" المزعومة والمأزومة في آن. فعلى سبيل المثال تحاول المادّة الضّحلة في موقع الجامعة أن تتعرّض لطوبوغرافيا المدينة، فماذا نقرأ عن القدس؟ هذا ما يرد: "أراضيها تلال صخرية قليلة الارتفاع تحيط بها الاودية القليلة العمق مثل وادي جهنم من الشرق ووادى الحبانيين من الغرب، ووادى الربابة من الجنوب". ألا يثير هذا الكلام السّخرية؟ إنّ موظّفي الجامعة على ما يبدو لا يعرفون من القدس غير الاسم والشّعار. إنّهم يعتقدون أنّ القدس هي فقط تلك المساحة الصّغيرة الّتي تقع داخل أسوار المدينة القديمة، أي حدود القرن السّابع عشر. فهنيئًا، إذن، لهؤلاء الجهلة بما يعرفونه عن مدينة القدس وحدودها وبما يقدّمونه لزوّار موقعهم! أليس من الأجدر أن نقول لهؤلاء: ألا ابتلعتكم جهنّم وواديها!

وكيف نعرف أنّ القدس تعني لهم فقط تلك المدينة الواقعة بين الأسوار؟ ها هم عندما يذكرون المواقع الهامّة في القدس يشيرون إلى الحرم الشّريف: "الحرم الشريف: كان وما زال البؤرة الرئيسية فى تخطيط المدينة...يقع فى الطرف القبلى شرق مدينة القدس". إضافة إلى هذه اللّغة الرّكيكة، بوصفهم الحرم بالبؤرة، لأنّهم يترجمون حتّى هذا الأمر عن لغات أخرى ولم يكتبوه أصلاً باللّغة العربيّة، فإنّهم يحدّدون موقعه في الطّرف القبلي شرق مدينة القدس. هكذا، إذن، شرق مدينة القدس!! ألا يعني هذا أنّهم لا يعرفون مدينة القدس؟ إنّهم يعتقدون أنّ القدس هي فقط تلك المساحة الضّيّقة داخل الأسوار القديمة. وإذا كانوا كذلك، أليس من حقّنا أن نقول عن ربع الجامعة العربيّة، بمثل لغتهم، ما يلي:

جامعة الدّول العربيّة كانت وما زالت البؤرة الرّئيسيّة في إشاعة الجهل بين العرب.

ثانيًا: كذلك، ولأنّ رهط الجامعة العربيّة
يدافعون عن مدينة القدس، وهي المدينة الّتي لا يعرفون عنها شيئًا، فإنّهم يُطلقون الشّعارات كيفما اتّفق. هل تريدون دررًا من موقعهم؟ هاكم، إذن: "كما ورد بالوثائق المنقوشة ذكر القدس باسمها القديم (أورشليم) في نصوص مصرية فرعونية... وهذه النقوش بالخط المسماري ومدونة باللغة الآرامية عثر عليها في تل العمارنة... وفيما يتعلق بالأدلة اللغوية فان اسم أورشليم ليس عبريًّا..." (نقلاً عن: موقع الجامعة العربيّة). طيّب، قد نتفهّم نحن هذه النّخوة العربيّة. لكن وعلى ما يبدو فإنّ هؤلاء الجهلة في جامعة الدّول العربيّة لا يقرؤون العربيّة ولا علاقة لهم حتّى بالتّراث العربي المكتوب باللّغة العربيّة. فلنذهب نحنُ إذن إلى هذا التّراث ولننظر فيه قليلاً، فماذا نجد فيه بخصوص أورشليم هذه؟

لنقرأ معًا ما ذكره لنا السّلف: "أوريشلم: بالضم ثم السكون وكسر الراء وياء ساكنة وشين معجمة مفتوحة ولام مكسورة... هو اسم للبيت المقدس بالعبرانية،... وقال أبو عبيدة: هو عبراني معرب" (نقلاً عن: ياقوت الحموي، معجم البلدان). أمّا الخوارزمي فيقول: "إيليا، هي مدينة بيت المقدس، وهي بالعبرانية أورشليم" (نقلاً عن: الخوارزمي: مفاتيح العلوم).،وكذا يقول الفيروزاباذي: "وشلم: اسم بيت المقدس ممنوع للعجمة وهو بالعبرانية أورشليم" (نقلاً عن: الفيروزاباذي: القاموس المحيط). وكذا هي الحال في لسان العرب وتاج العروس: "شلم... وهو موضع بالشأم كما في الصحاح قال ويقال هو اسم مدينة بيت المقدس بالعبرانية، ممنوع من الصرف للعجمة ووزن الفعل، وهو بالعبرانية أورشليم. (نقلاً عن: تاج العروس، ولسان العرب)، وبالإضافة إلى ذلك يذكر ابن منظور: "ويُقال أيضًا: إيلياء وبيت المقدس وبيت المكياش..." (نقلاً عن: لسان العرب، مادة: شلم). فما هو "بيت المكياش" هذا الّذي يورده لسان العرب اسمًا للقدس؟ يذكر محقّقو لسان العرب في هامش المعجم إنّها وردت كذا بالأصل المخطوط. على ما يبدو فإنّهم لم يعرفوا كيفيّة قراءة هذه الكلمة في المخطوط عندما قاموا بتحقيق المعجم، وقد تحدث أخطاء قراءة كهذه لدى العمل على تحقيق المخطوطات. غير أنّي أقول لهؤلاء: إنّ هذا التّعبير في الحقيقة تعبير مأخوذ من اللّغة العبريّة، والتّعبير هو "بيت المكداش" (بيت المقدس)، أي الهيكل، هيكل سليمان. فليصحّحوا إذن هذا التّعبير في الطّبعات الجديدة الّتي سيصدرونها من معجم لسان العرب.
ثالثًا: ولا يكتفي موقع الجامعة بذلك،

بل ولأنّ هؤلاء العاملين في الجامعة هم من أصحاب النّخوة العربيّة المعروفة فهم يضيفون: "وأهل القدس، عندما طالعهم عمر بن الخطاب، كانوا عربًا ينطقون باللغة العربية، أي أن عروبة المدينة كانت قائمة راسخة قبل الدخول السلمي العمري بأمد طويل". أمّا نحن فلا ندري من أين جاء هؤلاء بهذه المعلومة، فلا شكّ أنّها تشكّل فتحًا علميًّا عربيًّا جديدًا. ولأنّ هؤلاء الكسالى في جامعة الدّول العربيّة لا يقرؤون، فها نحن نختصر الطّريق عليهم، فنذكّرهم بما يروي لنا السّلف الصّالح.

لنقرأ معًا الاقتباس التّالي ممّا يرويه لنا الواقدي: "فلما كان في اليوم الخامس، وقد صلى المسلمون صلاة الفجر، كان أوّلَ من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيدُ بن أبي سفيان، فشهرَ سلاحَه وجعلَ يدنو من سورهم وقد أخذَ معه تُرجمانًا يبلغه عنهم ما يقولون، فوقفَ بإزاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون. فقال لترجمانه: قُلْ لَهُم أميرُ العرب يقولُ لَكُم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام..." (نقلاً عن: الواقدي، فتوح الشام). فإذا كان أهل القدس "عربًا ينطقون باللّغة العربيّة"، كما يذكر موقع الجامعة العربيّة، فما حاجة "أمير العرب"، إذن، إلى ترجمان؟ هل رغب "أمير العرب" في أن يُفسّر له هذا التّرجمان "الماءَ بعدَ الجُهد بالماء"، كما قال الشّاعر؟ ربّما.

ليس هذا فحسب، بل عندما يذكرون تحرير القدس من الصّليبيّين، ماذا يكتبون: "تم تحريرها على يد البطل العربى صلاح الدين الايوبى...". فهل هذا كلام يا سادة؟ فمنذ متى صار صلاح الدّين عربيًّا؟ إنّه بطل، صحيح وعلى الراس فوق العين! إنّه مسلم، صحيح وعلى الرّاس فوق العين! لكن، لماذا تسلبونه من الأكراد؟ أليس من حقّ الأكراد على الأقلّ أن يُفاخروا به وبانتمائه إليهم؟ وإزاء هذه السّخافات، أما آن الأوان لفرض الجمارك على الكلام الخارج من أفواه هؤلاء التّافهين؟

رابعًا: لقد أفرد موقع هذه "الجامعة"،
الّتي تدّعي أهميّة القدس في الوجدان العربي، خانة للقدس تحتوي على معلومات أقلّ ما يقال عنها أنّها تتّسم بالضّحالة، إضافة إلى صياغة المواد بلغة عربيّة ركيكة مليئة بالأخطاء. لكنّ المفاجأة الكبرى، هي ما يذكره هذا الموقع من أنّ فريقًا خاصًّا عمل على إعدادها، حيث ينصّ الموقع على ذلك صراحة أنّها من: "اعداد: ادارة الشئون الاسرائيلية - قسم متابعة شئون القدس". هكذا، إذن. أليس في ذلك اعتراف من هذه "الجامعة" الّتي لا يمكن إلاّ أن تتّصف بالهبل، بأنّ القدس هي شأن من الشؤون الإسرائيليّة الّتي تفرد لها الجامعة فريقًا مختصًّا بهذه الشّؤون. ولماذا يا ترى لا يوجد لدى هذه الجامعة فريق مختصّ وإدارة مختصّة للشّؤون الفلسطينيّة، والّتي من المفروض أن تكون هي المسؤولة عن هذه الأمور المتعلّقة بالقدس، وعلى عاتقها تُلقى هذه المهمّات؟ هل القدس تابعة للقضايا والشؤون الإسرائيليّة لدى الجامعة العربيّة؟ إنّه مجرّد سؤال، وعليهم الإجابة عنه.

خامسًا: والحديث ذو شجون، كما يقولون،
فقد يسأل سائل: وكيف تعرف أنّهم في الجامعة العربيّة يترجمون عن لغات أخرى؟ فأقول لمن يسأل: لقد أفردوا فصلاً عن الحضارة العربيّة ومقدّمة عن العالم العربي، فماذا نقرأ فيه؟ اسمعوا وعوا: "فهناك جبال أطلس المستقرة في القطاع الشمالي الغربي من قارة أفريقيا... والتي تمثل حاجزا بين صحراء صحاري ومنطقة السواحل". فأيّ تعبير هو هذا: صحراء صحاري؟ أليس هو ترجمة إلى العربيّة من لغات أخرى كانت قد تبنّت المصطلح العربي أصلاً، ويأتي الآن جهلة الجامعة العربيّة لترجمة المصطلح العربي من لغات أخرى إلى العربيّة؟ فما هذا الهبل أيّها السّيدات والسّادة؟

وانظروا في المثال التّالي: "يشتمل الجزء الأكبر من كثافة السكان في العالم العربي والتي تقدر بحوالي 150 مليون نسمة علي شبابا، فان تقريبا نصف الكثافة هي من الشباب تحت سن الخامسة عشر"... هل هذه لغة الجامعة العربيّة العربيّة؟ فهنيئًا لهم بجامعتهم هذه وسائر جامعاتهم الّتي تُخرّج أمثال هؤلاء!
وهاكم المثال التّالي: "فان أغلبية العرب يعيشون في مجموعات كبيرة في المناطق الساحلية، وحول وديان الأنهار". فماذا يعنون بوديان الأنهار؟ قرّروا: إمّا وديان وإمّا أنهار، فالعربيّة لا تحتوي على صيغة كهذه، وديان الأنهار. أليست هذه أيضًا ترجمة عن لغات أخرى.

لكنّنا، عندما نصل إلى الاقتباس التّالي، نفهم ما هو مصدر الرّكاكة اللّغويّة: "تعد الزراعة هي الحرفة الاقتصادية الأساسية في العالم العربي، فمن أهم محاصيل الغذاء التي يستهلكها سكان المنطقة هي القمح، والشعير...". فعلى ما يبدو فإنّ موظّفي الجامعة العربيّة، بوصفهم من سكّان المنطقة، هم أيضًا من مستهلكي الشّعير الّذي أتخم عقولهم. ولهذا السّبب فإنّهم يصلون إلى القول: "يعد العالم العربي اليوم هو بمثابة مجمع غني بتأثيرات عديدة، ومختلفة". فهل هذه لغة عربيّة حقًّا؟ وكذلك: "يعد الوطن العربي من أوائل المستوطنات التي أحس فيها الإنسان بالاستقرار الاجتماعي". لا شكّ إنّه استقرار اجتماعي قد أحسّ به ولا يزال يحسّ به الانسان في الوطن العربي. أليست هذه نكتة مضحكة؟

سادسًا: ولا يكتفي جهابذة الجامعة بذلك،
بل يترجمون تراثهم، نعم تراثهم، أيضًا من لغات أخرى. أنظروا هذه الصّياغة في الاقتباس التّالي: "نشأت في تلك الحقبة من الزمن الأديان السمائية التوحيدية الثلاث... عاش معتنقي الأديان الثلاثة في حب وتآخ علي مر العصور وذلك لأنهم أيقنوا حقيقة أنهم أبناء إله واحد". ليس فقط أنّ الاقتباس شاهد على لغة عربيّة ركيكة، بل فهي مشتملة على مضامين واهمة وواهية في آن معًا نابعة من ترجمة سيئة. فمنذ متى يعتقدون أنّهم أبناء إله واحد؟ هل هذه عقيدة إسلاميّة، يهوديّة، مسيحيّة أم ماذا؟ أم هي عقيدة جديدة تحاول الجامعة العربيّة التّبشير بها؟ ربّما.
هل ترغبون بالمزيد؟ لا بأس، إليكم الاقتباس التّالي: "جاء النبي محمد صلي الله عليه وسلم في القرن السابع بعد الميلاد حاملا رسالة الإسلام، وسرعان ما نشر تابعي محمد الإيمان الإسلامي في الغرب... و أيضا في الشرق. لم يكن تابعي الإسلام هؤلاء، فقط فاتحين بل أيضا لقد أقاموا حضارة جديدة... في عالم راكد ثقافيا وقتذاك". فلو تركنا جانبًا الأخطاء النّحويّة، فهل هنالك عربيّ أو مسلم يحترم نبيّه وتراثه يكتب بهذه الصّياغة؟ أوليست مصطلحات مثل هذه، "تابعي الإسلام" و"تابعي محمد"، ترجمات حرفيّة عن لغات أخرى؟ إذن، ما هو العالم الرّاكد ثقافيًّا في هذا الأوان، أيّها السّيدات والسّادة؟

سابعًا: ومسك الختام، العبريّة.
فقد يسأل بعض القرّاء، وكيف تقول إنّها جامعة عبريّة؟ فأقول لمثل هؤلاء: لا بأس عليكم أيضًا، واليكم البرهان القاطع التّالي. فلنقرأ معًا هذا الاقتباس من موقع الجامعة العربيّة: "يعيش العرب على مساحة واسعة... وبالرغم من أنهم أعضاء واحد وعشرون مدينة مختلفة، ولكن العرب يعتبرون أنفسهم جزء من أمة واحدة".
لنضع مرّة أخرى جانبًا الأخطاء اللّغويّة في الصياغة. لكن، من أين جاؤوا بهذا الكلام القائل إنّ العرب "أعضاء واحد وعشرون مدينة مختلفة"؟ فهل العرب يسكنون في واحد وعشرين مدينة مختلفة فقط؟ كلاّ، إذ، ماذا بخصوص القرى والأرياف والبوادي وغيرها من الأماكن المأهولة؟ إذن، ماذا يقصدون بكلمة مدينة، ومن أين جاؤوا بها؟
والحقيقة هي أنّهم جاؤوا بها من اللّغة العبريّة، فهم يترجمون المادّة عن اللّغة العبريّة، إذ أنّ مصطلح "مدينة" بالعبريّة يعني: دولة. غير أنّ مترجمي الجامعة العربيّة الّذين يترجمون أحوال بلادهم من اللّغة العبريّة، ولكون الكلمة العبريّة "مدينة" ذات جرس عربي وذات دلالة عربيّة شائعة، فقد غاب عن ذهنهم أنّهم يترجمون، فأبقوا الكلمة العبريّة على حالها، بدل استخدام مصطلح "دولة" كترجمة دقيقة لها. وكذلك، فإنّ العدد 21، كما يظهر في الجملة ذاتها، فهو غير صحيح، إذ أنّ العدد الصّحيح هو 22 دولة. وعلى ما يبدو أنّ هذا الخطأ أيضًا نابع من التّرجمة من أصل عبريّ.

هذه هي حقيقة هؤلاء في جامعة الـ"مدينوت" (الدّول) العربيّة.

إذن، هل هذه جامعة عربيّة، أم عبريّة؟
وبعد كلّ ما ذكرنا، أليس من الأجدر أخيرًا أن نتوجّه إليهم باللّغة العبريّة قائلين لهم: شَلُومْ عَلِيخِمْ!

والعقلُ وَليّ التّوفيق!

***

نشرت المقالة في: إيلاف، 28 أكتوبر 2007

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!