آچي مشعول: قصائد


آچي مشعول

قصائد

ترجمة: سلمان مصالحة


ولدت آچي مشعول في هنغاريا في العام 1946. متزوّجة وتعيش مع عائلتها في قرية زراعية هي كفار مردخاي في جنوب إسرائيل.نشرت آچي مشعول حتّى الآن ثماني مجموعات شعريّة وحازت على جوائز أدبيّة متعدّدة بينها جائزة رئيس الحكومة وجائزة يهودا عميحاي.تُعدّ آچي مشعول من أبرز الأصوات الشّعرية العبرية النسائية المعاصرة. الحياة القروية، بنباتها، حيوانها وطيرها، إضافة إلى الألوان والرّوائح كثيرًا ما تنعكس في شعرها الّذي تصعب أحيانًا ترجمته إلى لغات أخرى بسبب الإشارات والتّلميحات التي تستند إلى لعبة لغوية هي من صميم اللغة العبرية. لا يخلو شعرها من أيضًا من نبرة الدعابة والسخرية الذاتية التي يحاول الشعراء عادة الابتعاد عنها.
الجسد والإيروطيقا لهما مكانة خاصّة في شعرها، ومن خلال لعبة الحبّ الجسدانية إنّما هي تريد الوصول ليس إلى المتعة في التعبير التجسيدي فحسب، بل أبعد من ذلك، إنّها تطمح إلى الوصول إلى متعة التعبير التجريدي في اللغة.

هذه هي المرّة الأولى التي تترجم قصائدها وتُنشر باللغة العربية.


***

يَدٌ وَاحِدَة

يَدٌ واحدة تَخْلطُ الكَرَنْب
يَدٌ واحدة تُديرُ قُرْصَ الحُبّ 
يَدٌ واحدة تَنْقرُ في الأَنْف
 يَدٌ واحدة تُصَفّقُ بالكَفّ
 يَدٌ واحدة تُمْسِكُ بالقَلَم
 يَدٌ واحدة تَطيرُ كَالجناح
 يَدٌ واحدة تُخْفِي يدًا 
تُخْفِي يدًا تُخْفِي يدًا 
وَطْرُومْپِلْدُور كانَ أَجْذَم
 يَدٌ واحدة في المِحْراث
 يَدٌ واحدة كانَ أَجْذَم 
***


  السّهل الدّاخلي
 هنا 
في السّهل الدّاخلي 
 أرعى مع الووكمان في المَرْج
 أنتقي لي عصا
 أفتحُ كوز رمّان
 أصفُرُ للكَلْبَة

 إلى قائمة الأشياء 
الّتي تُسبّب لي قُشَعْريرة أضفتُ هذا الصّباح 
بيلي هوليداي تُغنّي:
I'm so lonely.

***

  تَجَلٍّ  
في الصّباح الباكر جدًّا 
رأيتُ على حبلِ غسيلي 
ملاكًا ورديًّا عالِقًا في مِلقَط
 وقطًّا أسْوَدَ  
تحتَهُ 
 يُحاولُ الإمساك 
 بِكُمّه. 
***


  أنفخ الرّوح

 أتذكّرُ‏ ‬خطابًا صغيرًا كنتُ‏ ‬كتبتُه
بيني‏ ‬وبين نفسي‏ ‬عن
أنّي‏ ‬أردعُ‏ ‬حياتي
كي‏ ‬أُنصتَ‏ ‬للشِّعْر
الّذي‏ ‬سيأتي‏ ‬إذا ما
اختصرتُ‏ ‬الطّريقَ‏ ‬إليه

بدلَ‏ ‬ذلك أنا أنفخُ‏ ‬الرّوح
في‏ ‬عشيقٍ‏ ‬ما مرحوم

أُجندلُه بسِنان القَلَم‏ ‬
على حلبة الورقة
وأعدّ‏ ‬حتّى تسعة‏.‬

 *** 


نوكطورن I 
(‬أ‏)‬
داخل البيت
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
السّكّر في‏ ‬القارورة
الخبز في‏ ‬صندوق
الخبز،
السّكّين في‏ ‬الجارور
الطّعام في‏ ‬الجفنة،
الرّياح العاتية
بين ثنايا السّتارة
الشّيء فوق الآخر
الملاحف
المخدّات،
الكلاسين
والصّدريّات،
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
الموسيقى في‏ ‬شقوق الإسطوانات،
الفأر في‏ ‬العليّة
الأشياء المرفوضة‏.‬

‏(‬ب‏)‬
إذا قامت المرأة من فراشها
وفتحت البرّاد،
يمكن رؤية محيّاها،
يمكن رؤية نظراتها
في‏ ‬الجبنة الّتي‏ ‬تنظر إليها من ثقوبها،
لكن في‏ ‬هذا الضّوء الشّاحب،
يُرى جوعُها مفتوحًا
على ضوء آخر
وليس للأزرق المتراقص
في‏ ‬شاشة التّلفزيون،
وليس للأحمر‏  ‬المُشعّ
من ساعة المُنبّه،
أو لنيون القمر
الّذي‏ ‬يُشعّ‏ ‬أباجورةَ‏ ‬روحها‏.‬
هي‏ ‬بحاجة‏ ‬
إلى ضوء آخر
في‏ ‬اللّيل المُنتظِر كأريكة جلد سوداء
لابتلاعها‏.‬

‏(‬ج‏)‬

لا أقف هكذا دونما سبب في‏ ‬اللّيل
مائلة نحو المغسلة
أُشْغلُ‏ ‬مَنْصِبي
وأغنّي‏ ‬للبعيد‏:‬
سرب أسماك مسافرة

لأنّ‏ ‬كلّ
ما لَهُ‏ ‬حَوْلٌ‏ ‬وقوّة
يبتعد عن الأرض‏:‬
دخان المدخنة،
الصّلاة،
قفزات السّعادة

لكنّ‏ ‬أهل البيت‏ ‬يتنفّسون كما الأغنام
نائمون في‏ ‬الغرف واللّه حارسهم

وتحت البيت مياه الجَوْف
وتحت الجَوْف
لاڤا من الكسل‏.‬ 
***  


وداع

 "أپريل هو أَلأمُ الشُُّهور يخلطُ الذّاكرة بالشّبق" ت. س. إليوت
 
عِقابًا لكَ‏ ‬على موتِكَ
ينفونكَ‏ ‬الآن
إلى مدينة جديدة،
بيوتُها صَغيرة‏.‬

مُلتفعًا بثياب التّرحال
البيضاء‏ -‬
الموضة العتيقة ذاتها،
يُجرّدونكَ‏ ‬من اسْمِكَ
الشّخصي

وغَصْبًا عنكَ
حَوْضٌ،‏ ‬قَسيمة صفّ
تُعطيكَ‏ ‬عنوانًا آخر‏.‬

وأنا أَخِزُ‏ ‬أصابعي
بأشواك الـ‏ »‬بْلُو مُونْ‏« ‬الزّرقاء
الّتي‏ ‬تنشرُ‏ ‬رائحتها الطريّة
من حضني

وأَرَى كيفَ‏ ‬يَشْتُلُونَك
في‏ ‬بُستان المَوْتَى الكبير
وما مِنْ‏ ‬مَطَر،
حتّى أكثرُهُ‏ ‬رياءً،
سَيُنبِتُكَ‏ ‬ثانيةً
أبَدًا‏.‬

***


 الهدوء
 أنا هُدُوءُ الغُرْفَة. 
كُلَّمَا دَقَقْتُ 
غَلُظَ الصَّخَبُ فِي رُؤُوسِكُمْ.
 أَنا مَنْ يُخَمِّرُ الكَلِماتِ الَّتِي سَتَأْتِي. 
أنَا الحُفْرَةُ الَّتِي يُمْكِنُ مَلْؤُهَا بِالكَلِمَة. 
لَنْ تُفْلِحُوا بِالإفلاتِ مِنِّي،
 أَنا الطُّمَأْنِينَةُ فِي قَلَقِ جَسَدِكُمْ 
أَنصبُ لكمْ كمينًا 
في طرفِ أياديكُمْ المبسوطة 
الضّحكات القهقهات 
الحركات الخفيفةعلى الكرسي.
 أنتم تقلمونني من رؤوسِ الأظافر،
 تلتقون بي في السّقف 
 في الجدران في الأشكال الغريبة 
الّتي تنبتُ في البلاطات.
 أنا الإنصاتُ الكامن في كلّ شيء 
أنا هو من ينبلجُ فيكم 
الآن.
 ***
 وفاق
 أبي العجوز، المُنهَك، 
عادَ من بين الأموات 
ليغفو في صالوني 
على الأريكة الجلديّة. 
جاء بثيابه الجميلة -
 بدلة، ربطة عنق، 
أوروپيًّا ألقت به رجلاه 
بين آسيويّين. 
أنا الآن 
صرتُ والدةً لوالديّ 
ولا شائبةَ بقلبي تجاهه
 أقترب منه من الوراء 
وأربّتُ على كتفِهِ 
كَفِعْلِ رجلٍ على كتفِ زميلِه: 
"يا لكَ مِنْ ساذج يا أبي"
 أقولُ لهُ،وأقصدُ صنفَ الرّجالِ 
الّذِي انَكُتبَ عليَّ أنْ أعشقَهم 
طوال عمري بسببه. 
*** 

قصيدة حبّ 
علامَ ترحلُ بعيدًا 
بحثًا عن العجائب، 
بينما هي بين رجليّ؟ 
تعالَ إليّ عميقًا  
إلى رحمي  
لأنّ المساءَ أرخى سُدولَهُ
 وَانطفأَ البُرتقال.
 *** 

پاپوا نيو-غيني
 أُحبُّ أنْ أقول پاپوا نيو-غيني. 
وإلاّ لَـمَا كُنتُ أَتيتُ إلى هُنا.
 زَوْجي أنطونيو يَضُمّنِي من الوراء 
ويهمس قَبلَ أنْ ينام:حِبِّيني أَكْثرَ ممّا أُحبُّكِ 
وَأنا ألاطِفُ وجَهَهُ وأُحبُّهُ أكثرَ ممّا يُحبّني
 وعلى كلّ حال لا يَهمّني لأُسبوع أَنْ أحبّه أكثر، 
في نِهايةِ المطاف صَعْبَةٌ حَياةُ سفير الپُرتغال: 
الدُّولُ العُظمى تُهَدِّد وَلَيْلُهُ أَرِقٌ بَحْثًا عن 
العصر الذّهبي في المستعمرات، 
كلمات مثل أنچولا، ماكاو، كوشين ونامپولا 
 تُبحر للوراء كسفنٍ خشبيّة عتيقة في دمِهِ 
وتُحَوِّلُ شَخِيرَهُ نُواحًا وغَيْرَ مرّةٍ يَتَشَرْدَقُ قَلِقًا مَهْزُومًا. 
وَلِمَ لا؟ يَسْتحِقُّ أَنْ أُحبّهُ أكْثرَ.
 أَنا كريمةٌ وَأَمْلَؤُ الذّراعين الجديدتين اللّتين تَضمّانني 
 في حين قلبٌ غريبٌ يَحُثّني  
على أنّ العصافيرَ في پاپوا نيو-غيني 
غَنيّةٌ بالألوان وَصَوتَها جَميلٌ جدًّا ومُغْرٍ، 
وعَبْرَ السّتارة هناك يُضيءُ القَمرُ أَيضًا حَياتِي السّابقَة.
 يا لي مِنْ حِرباء ماهرَة. عندما أزْحَفُ على پاپوا نيو-غيني
 أُبَدّلُ ألواني بألوانها،وعندما أزْحَفُ على جَسَدِ أنطونيو 
 أُبدّل ألواني بألوانهِ، إذ يجب أَخْذَ كلّ َما تمنحُهُ الحياةُ 
وَأنا آخذُ يَعْنِي أَمْنَحُ. زوجي مُرَتّبٌ للغاية. 
حتّى البابا المعلّق على حائطِ غُرفةِ نومِنا 
يبتسمُ راضيًا عن التّرتيب الخالص: 
 نَعْلٌ حَذْوَ نَعْلٍ، القميصُ والبنطالُ مَطْوِيّان، 
ساعةُ اليدِ على الـمنضدة.  
زوجي لا يحبّ أن أنامَ مع السّاعة. 
 لكنّى أحبّ في اللّيل توزيعَ إيقاعاتِ نبضِ القلب 
والصّلصلةَ الدّيجتاليّة إذْ هُوّةٌ ساخرةٌ ممتدّة بينهما.
الآن أنا أَطْمَئِنُّ في جَسَدِهِ اللّذيذ، 
 يَسُوعُ الذّهب المُتدلّي من عُنقِهِ بارتخاءٍ، 
مَغْميٌّ عليهِ ويداعبُ جلدي.
أنا يهوديّة ونحنُ عاريان. 
ماذا يُفَكّرُ عَنّا يوحنّا اللاّبسُ المُعْتَمِرُ قُبّعةً 
وبيدِهِ العَصَا. 
واحد- اثنان -ثلاثة 
هُوَ أَحَشويروش 
 وأنا زوجةُ السّفير في پاپوا نيو-غيني.
***


نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 17، 2002
____

אגי משעול, "שירים", תרגם לערבית: סלמאן מצאלחה, משארף, מס' 17, 2002


Agi Mishol, "selected poems", translated by Salman Masalha, Masharef , No. 17, 2002




لغة الملائكة


سلمان مصالحة || 

لغة الملائكة



على غرار سائر الأطفال على وجه البسيطة، أغلب الظنّ أنّي سُئلت مرّة ذلك السؤال الأبديّ: ماذا تطمح أن تصبح عندما تترعرع؟

قد يبدو الأمر غريبًا بعض الشّيء خاصّة في الأوضاع والظّروف الّتي وُلدتُ فيها. ولكن، بخلاف الأطفال الّذين حلموا بأن يصبحوا أطبّاء، محامين، مهندسين، إلى آخر قائمة المهن الحرّة، كان جوابي دائمًا: أرغب في أن أكون شاعرًا، لأنّ الشّعر ارتبط بذهني بالمعنى الجوهري للحريّة.

كلّ أولئك الّذين قد يفكّرون في مصطلحات من مثل "التّحقيق الذّاتي" لطفل صغير، سيكتشفون فورًا أنّهم كانوا على خطأ. فقد اتّضحت لي لاحقًا حقيقة جوهريّة أخرى وهي، أن تكون شاعرًا لا يعني بأيّ حال من الأحوال تحقيقًا للذّات. في نهاية المطاف، يبدو الأمر لي الآن مغايرًا تمامًا وهو، "أن تكون شاعرًا"، يشكّل في الحقيقة نوعًا من العقاب أكثر منه تجربة ممتعة. ولكن، ومع ذلك، فإنّ عالَم الشّعر هو على كلّ حال نوع من عالَم السّجون الّتي يجدر المكوث فيها.

الشّعر هو سجن في فوضى الحروف، العلامات، الكلمات، السّطور وكلّ الإمكانات الّتي توفّرها لنا اللّغة كَرَمًا منها ومعروفًا منها تُسديه علينا. بمعنى آخر، وظيفة الشّاعر هي وظيفة شبيهة بوظيفة المبدع الأوّل الّذي أبدع النّظام في الكون من خلل الفوضى العارمة. الشّعر لا يمتلك حسًّا بالزّمان ولا بالمكان، كما لا يمتلك حسًّا بالقوم والقوميّة. إنّه في جوهره يمتلك كلّ الأزمنة، يسكن كلّ الأماكن، يعيش كلّ الحيوات ويتحدّث إلى كلّ الشّعوب في الوقت ذاته. إنّ لغة الشّعر هي لغة التّجربة البشريّة دون فرق في اللّون، الجنس واللّسان. إنّها لغة فوقيّة تذهب بعيدًا وراء حدود اللّغات الّتي تبلبلت وتفرّقت من بابل إلى أربع جهات الريح.

لغة الشّعر هي المعنى الأوّل للإبداع الإلهي وهي البارقة الأولى للخلود. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الشّعر هو الأداة الأولى الّتي ينافسُ فيها الشّاعر عمل المبدع الأوّل. الشّعر ينافس الخالق لأنّه يحاول أن يُشكّل من جديد كلّ ما لم يتشكّل على ما يُرام في الخليقة الأولى. قد يقول المتفائلون إنّ المبدع الأوّل لم ينهِ عمله لأسباب خافية لها علاقة بكرمه الإلهي علينا، أو بتركه لنا فسحة كي نتذوّق نحن المخلوقات الأرضيّة طعم الحياة. من جهة أخرى، فإنّ المتشائمين، ويشمل هؤلاء الشّعراء وكلّ من يتعامل مع صنوف الفنّ، قد يقولون: إنّه لم يقم بمهمّته كما كان من المفروض أن يفعل.

في البدء كانت كلماتٌ في الفوضى، وخيّم الظّلام على غرفة ذلك السّجن الأوّل. وفي لحظة قدسيّة ظهر الشّاعر من خلل هذا الظّلام وجمع كلّ العلامات والحروف ووضعها على الورق. أخذ بعضًا منها ووضعها في نظام ما: نون واو راء، وفجأة كانَ نورٌ. بواسطة هذا النّور استطاع أن يرى كلّ الكلمات بكلّ اللّغات في كلّ هذه الفوضى. وكان هذا يومًا أوّلَ، كانت هذه القصيدةَ الأولى.

بواسطة هذا النّور يستطيع الشّاعر أن يرى كلّ المعاني القائمة في اللّغات بالقوّة. الشّاعرُ يستطيع أن يشكّل كلمة الحبّ ويترك الآخرين يحبّون على هواهم. يستطيع أن يشكّل رائحة الوجود فيمنح الأمل لكلّ البؤساء الّذين يتكاثرون على وجه البسيطة. يستطيع التّعبير عن الموت، ولكنّه من وراء التّشبيهات والإستعارات إنّما هو يرمي إلى الكشف عن المعنى المختبئ للحياة. بسطوره، وبأبياته القليلة يستطيع الشّعر أن يمنحنا القدرة على الإتّصال مع شعوب وأناس آخرين وأن يكشف لنا ثقافات أخرى. الشّعر يمكّننا من صنع أجنحة بالحروف للتّحويم في عوالم أخرى والهبوط في أماكن أخرى، لأنّ اللّغة هي الوطنُ الموعود الأوحد للشّاعر.

والآن، ومع مرور السّنين والأعوام، ولأنّي لم أعد ساذجًا إلى هذا الحدّ فقد اكتشفت شيئًا آخر: الشّعر هو شبكة فوقيّة داخليّة شائكة، متاهة عليا لا تسمح لك بالوصول إلى نهاية. وداخل هذه المتاهة الخالدة سيمكث الشّاعر حتّى يوم الدين، حتّى اليوم الّذي سيُقدّم فيه بديلَه الإستفزازي أمام القارئ الأوحد الأوّل الّذي نافسه منذ البداية وعلى مرّ الزّمن. إذا كان الكون قد أُبدع وتبيّنت معالمه من نور الشّعر في اليوم الأوّل، فما من شكّ أنّ هذا النّور سيبقى حتّى اليوم الآخر. أمّا أنا الآن، فليس لديّ غير رغبة واحدة. ليتني أحيا في تلك اللّحظة لأشاهد هذا الصّراع، لأشاهد هذا النّور.

وأخيرًا، وعلى الرّغم من الرّواية الإسلاميّة القائلة بأنّ سكّان الجنّة يتكلّمون العربيّة، ورغم الحقيقة بأنّ اللّغة العربيّة هي لغة الملائكة، أستطيع أن أشهد، من تجربتي الذّاتيّة، أنّ العربيّة هي لغة أهل جهنّم أيضًا.

***


للنص بالإنكليزية، اضغط هنا.


شيموس هيني: قصائد



شيموس هيني || "الخارج من السّحر"



ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


في إيرلندا هذه الّتي استمرّ فيها الاقتتال لعقود طويلة، واختلط اللّه فيها بالعنف بالدّم والألم مع الويسكي والشّتاء الصّاقع، ولد ييطس كبير شعراء الإنچليزيّة، وكوكبة أخرى من شعراء إيرلندا الّذين يقف على رأسهم في هذه الحقبة شيموس هيني (Seamus Heaney) الحائز على جائزة نوبل للآداب للعام 1995. شيموس هيني ينتمي إلى الطّائفة الكاثوليكيّة الّتي تشكّل أقليّة كبيرة في إيرلندا الشّماليّة. ولد هيني في 13 أپريل 1939 وهو الابن البكر بين اخوته التّسعة في مزرعة واده الواقعة حوالي 50 كيلومترًا شمال غرب بلفاست.


بدأ كتابة الشعر إبّان فترة دراسته الجامعيّة ونشر بعض محاولاته في تلك الفترة باسم مستعار. وفي العام 1963 عُيّن محاضرًا في الأدب الإنچليزي، وقد اشترك في تلك الأيّام في ورشة شعريّة أدارها فيليب هوبسباوم. في العام 1965عُيّن محاضرًا في الأدب الإنچليزي في كوينز كوليج في بلفاست. حازت كتاباته الشعرية على عدّة جوائز.

لقد وصفه النّاقد روبرت لويل على أنّه أهمّ شاعر إيرلندي بعد ييتس. وهو يعدّ في هذا الأوان من أشهر الشعراء الكاتبين باللغة الإنچليزية.

كتاباته تعجّ بالموت، موت أصدقاء ومعارف كثيرين من جرّاء الحرب الطائفية التي دارت رحاها في رحاب إيرلندا في العقود الأخيرة. غير أنّ أشعاره الذاتية، وبخاصة تلك الصوناتات التي كتبها إثر وفاة والدته، والزشعار الّتي نظمها في أعقاب وفاة والده، تُعدّ من أمهات الشعر الإنچليزي في الفترة المعاصرة.

لم يأبه هيني بالنقّاد، وبخاصة أولئك الّذين وصفوه بالشيء ونقيضه. فقد وصفه البعض بالابتعاد عن الأحداث السياسية في شعره، بينما كال آخرون اللّوم له لأنّه كثيرًا ما يتطرّق إلى هذه الأمور في قصائده. ويبدو أنّ الجانبين على حقّ، فلم يلجأ هيني في شعره إلى المباشرة والتقريرية حينما كتب عن هذه الأمور، كما أنّه لم يدع تلك الأمور تمرّ دون أن يضع عليها بصماته الشعرية.

لقد تحوّل هيني مع الأيّام إلى أخد أفذاذ الشعر الإنچليزي المعاصر، كما أنّه عالج الكثير من القضايا الّتي تهمّ الشعر المكتوب بالإنچليزية. إنّ المكانة الّتي حظي بها هيني دفعت الأكاديمية البريطانية إلى تبنّيه ومنحته كرسي الشعر في جامعة أوكسفورد ليجلس عليها خلال سنين. لقد ذاع صيت هيني خارج الجزر البريطانية وحظي بشعبيّة كبيرة في أميركا الّتي نصّبته من طرفها على عرش الشّعر المكتوب بالإنچليزيّة.

يوظّف هيني في أشعاره الأساطير الإيرلنديّة القديمة من الحضارات الغاليّة، السّيلطيّة، رامزًا أحيانًا مصرّحًا في أحايين كثيرة عن أنّ العالم الخارجيّ ما هو إلاّ قائم بالقوّة فينا. وهو ليس منعزلاً بأيّ حال عن الحال الذّاتيّة للإنسان الفرد أينما كان.


لقد وجد شيموس هيني في فضاء إيرلندا مادّة غنيّة لشعره.

منذ المجموعات الأولى يُشتمّ من شعره تلك الأجواء الطبيعية التي لفّته. رائحة الأرض والفلاحة والإنسان مربوطة بالتاريخ والأساطير وكلّ ذلك مع الإبقاء على العلاقة مع ما هو قائم الآن على جميع مركّباته.

تتّسم لغته الشعرية بالعنفوانيّة والإغراق في الموسيقيّة اللّغويّة، إضافة إلى المضامين الإنسانيّة الشّاملة. اللّغة لدى هيني هي إحدى أبرز معالم شعره، حيث يتجّلى ذلك في امتلاكه لناصية اللّغة الإنچليزيّة من خلال تركيبات معقّدة ونحو كلاسيّ. في في الفترة اللاّحقة تتحوّل قصائد هيني إلى الاقتضاب كما هي حال الأمثال التي تختزل التجارب الإنسانية في سطور قليلة، ويستخدم التشبيهات وفي الكثير من الأحيان التوريات والأليچويا.

ما من شكّ في أنّ ما يقف في الكثير من الأحيان وراء منح جوائز نوبل هي أمور خارجة عن الجوهر الأدبي البحت. وعلى الرّغم من أنّ النّقّاد يعتبرونه من أبرز شعراء الإنچليزيّة في العصر الحديث إلاّ أنّ رياح التّسويات السّياسيّة الّتي شهدتها إيرلندا في الآونة الأخيرة قد هبّت على قاعة هيئة الحكّام، فتركت لديهم تأثيرًا على قرارهم بمنح الجائزة.






روتردام 1996


***

شجرة الأمنيات

خطرت على بالي كما شجرة الأمنيات
وشاهدتها تتسامى، بجذرها وفرعها، صوبَ السّماء،
تُجرجرُ أذيالها بكلّ ما انغرز
لضرورة بعد أخرى للشّفاء.
باللّباب والقُشور: قطعة نقديّة، دبّوسٌ ومسمار
انسابت منها كما نجم مُذّنّب
جديد الصّكّ وذائب. رأيتُ رؤيا
رأسَ فرعٍ يتسامى عبر الغيوم الرّطبة
وجهًا متضرّعًا للسّماء في المكان
الّذي انتصبت فيه الشّجرة.

***

إشراقات viii

تروي كتب التّاريخ: حينما كان رهبان كْلـُونماكْنويْز
أجمعين في المصلّى خاشعين
تراءت فوقهم سفينة في الهواء
جرّت معها في الخلف المرساة.
وعلقت في أخشاب المذبح. إذْ ذاك
وبعد ثبات الزّورق دون حراك،
هبَّ أحدُ الملاّحين، تشبّثَ بالأطراف،
ثمّ تدلّى بالحبل وراح يُصارعُ حتّى فكاك
المرساة، ولكن سدًى ما باء.
"لن يَقْوَى هذا الرّجلُ أن يحيا فينا، وسيغرق"، قالَ
رئيس الدَّيْر، "إلاّ إن قدّمنا إليه العَوْن". فكان العون كذاك.
أبحرت السّفينة، وتسلّقَ الملاّحُ عائدًا
خارجًا من ذاك السّحر، كما كان عرفَهُ بأمّ العين.

***

أوراكل (كاهن)

أن تختبئ في الجذع الأجوف
في شجر الصّفصاف،
يبدو الأنصاتُ لديه معروفًا
حتّى كالعادة ينادوك باسمك
يتردّدُ إسمك كالوقواق
على طول الحقول.
تستطيع سماعَهم
إفتح أقفال البوّابات
حالَما يتقدّمون
وينادونك لتخرج:
فم صغير وأذن
في صدعٍ خشبيّ،
قصبة وحَنْجَرَة
للأماكن المُطَحْلَبَة.

***

سَفْرة ليليّة

روائح الأشياء العاديّة
كانت جديدة في السَّفْرَة اللّيليّة عبرَ فرنسا:
غابات وقشٌّ ومطرٌ في الأجواء
عملَت نسيمًا دافئًا في السيّارة المفتوحة.
والشّاراتُ ابيضّت بلا شفقة
مونطريه، أبيڤيل، بوڤيه
قد وُعدت، وُعدتْ، مرّت وارتحلت،
كلّ اسمٍ مَنَحَ ما يحملُه الإسمُ بذاته
يتأوّه كومباينٌ دَربَه في ساعات اللّيل أو ينزفُ
عن طرفَي الضّوء حبوبًا.
نارُ الغابة تتسامى فوق الأشجار وتخبو
تُغلق المقاهي الصّغيرة الواحد تلوَ الآخر أبوابها.
وأنا أفكّرُ فيك باستمرار
ألفَ ميلٍ جنوبًا أراحت إيطاليا
فخذها على فرنسا في الكرة الأرضيّة المعتمة.
الأشياء العاديّة لديكِ
بُعثت من جديد هناك.


***

نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 5، 1995

ـــــــــ

Seamus Heaney, "selected poems", translated by Salman Masalha, Masharef, No. 5, 1995





بشرى سارّة - فتوى علمانيّة


سلمان مصالحة ||

بشرى سارّة - فتوى علمانيّة



كثرت في الآونة الأخيرة الفتاوى،
وهذا بلا شكّ دليل ناصع ساطع قاطع على حيرة كبيرة وجد النّاس أنفسهم فيها جرّاء طبيعة الحياة المتسارعة في هذا العصر المُعَوْلم. والحقيقة أنّه لا بأس في ذلك، ما دامت كلّ هذه الفتاوى تتطرّق إلى أمور سخيفة، أو مثيرة للضّحك في الكثير من الأحيان. فما من شكّ في أنّ إثارة الضّحك في نفوس بني البشر لها ميزات صحيّة لا بأس بها، كما أنّ الطبّ الحديث يوصي بالضّحك كوسيلة للتّخفيف عن آلام المرضى. لذلك درجت مستشفيات كثيرة في العالم على استحضار المهرّجين إلى أروقتها، وذلك بغية إشاعة الضّحك لدى المرضى النّزلاء، وخاصّة لدى الأطفال منهم.

شاي دوتان: الشّعرُ يؤثّر على العالَم


شاي دوتان

الشّعرُ يؤثّر على العالَم

أَنْبَتَتْ زَوْجَتِي مِنْقارًا.
أَعْتَقِدُ أَنَّ هذا بِسَبَبِ الشِّعْر.
لأَنَّنِي بالَغْتُ بَعْضَ الشَّيء
بِتَشْبِيهِ العُصْفُور. هاكِ،
قُلْتُ لَها، الشِّعْرُ يُؤثِّرُ على العالَم.
كَمْ شَعَرَتْ بِالإهانة! لَمْ تَقُلْ ذلك
بالكلمات، لكنّ الحركة العصبيّة في العُنُق
والتّأهُّب الرّفّاصيّ في الرِّجلَيْن
فضحا كلّ شيء. لَمْ يَنْفَعْ
أنّي كَدَدْتُ على تقطيع السَّلَطة، قَلْيِ العجّة.
في اللّحظة الّتي فَتَحْتُ بها النّافذة
بَسَطَتْ زَوْجَتي ذراعَيْن.


ترجمة: سلمان مصالحة

***
القصيدة نشرت في مجلّة هليكون - "فنطازيا"، عدد 80 شتاء 2008
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!