ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

سـلمان مصـالحة

ثورة حتّى النّصر، أم ثورة حتّى العصر؟

ينشرح صدر المرء
عندما يرى الناس ترتعش وتنتفض ضد الظّلم. هذا ما حصل في تونس وفي مصر، وهذا الفرح يعمّ شرائح شعبيّة واسعة ليس في مصر فحسب، بل وفي أنحاء العالم العربي. غير أنّ تسمية هذه الارتعاشات الشعبيّة "ثورة" يفتقد إلى الأسس التي تجعل من هبّة النّاس، مهما اتّسعت رقعتها، ثورةً بما يعنيه هذا المصطلح في العلوم السياسية.

من هنا فعلى الذين يتحدثون عن "ثورة" أو ثورات عربيّات أن يشرحوا لأنفسهم أوّلا، وقبل أن يطلقوا الشعارات الرنّانة ويوزعوها على الملأ، كَيْفَذا ولِمَذا تجتاح هذه الاحتجاجات الشعبيّة بالذّات البلاد العربية التي أفرزت منذ منتصف القرن المنصرم، وبعد جلاء الاستعمار أنظمة مسمّاة زورًا وبهتانًا أنظمة جمهورية وثورية؟ وهل كانت هذه حقًّا جمهورية وثورية؟

إنّ تخطّي هذه الاحتجاجات الشعبية العربية الأنظمة الملكية في العالم العربي يثير الكثير من التساؤلات. إنّ هذه الهبّات الشعبية التي تتخطّى الأنظمة الملكية إنّما هي تعبير عن رفض الدجل الذي اتّسمت به كلّ تلك الأنظمة التي تدّعي الـ"ثورية" والـ"جماهيريّة". فكلّ تلك الأنظمة "لثورية" الدّاجلة في جوهرها والزّاجلة في شعاراتها، بدءًا من عبد الناصر والناصرية وانتهاء بصدّام والأسد والبعثيّة القبلية لم تجلب سوى الطغيان والاستبداد وتقتيل العباد والاستيلاء على خيرات البلاد لتوزيعها وتوريثها لذوي القربى والأولاد.

بل يمكن القول جهرًا إنّ كلّ تلك الأنظمة الملكية العربيّة، والتي طالما وسمها هؤلاء النّفر "الثوريون"، ممّن يرفعون شعارات قوموية عن الثورة والجماهير وما إلى ذلك من كلام المواخير المستوردة بالـ"رجعية"، كانت أنظمة أكثر رأفة بشعوبها من كلّ ما يأفك هؤلاء في شعاراتهم. كما يمكن الذهاب أبعد من ذلك للقول إنّه حتّى الاستعمار ذاته كان أفضل بكثير ممّا جلبته هذه الأنظمة "الثورية" على شعوبها من خيبات وويلات.

هكذا، وعلى سبيل المثال،
يخرج ما تبقى من فلول الشيوعيين العرب من جحورهم ويدبّجون كلامهم بشعارات ثورية رومانسية ظانّين بسذاجتهم أنّ ميدان التحرير في القاهرة، وبين ليلة وضحاها وبجرّة شعارات أكل الدهر عليها وشرب حتّى ثمل، قد أضحى الساحة الحمراء في موسكو التي طالما شدّوا إليها الرحال، قبل أن تنفرط المنظومة، كما لو أنّها محجّة يتضرّعون في أنحائها إلى وليّ نعمتهم الّذي اندثر ولم يبق منه أثر. وهو على كلّ حال ولي نعمة لم يختلف في دكتاتوريته وفساده عن سائر الدكتاتوريات من دول الإفساد. وهؤلاء هم ذاتهم الذين دعموا في الماضي ولا زالوا في الحاضر يدعمون أسوأ الأنظمة دكتاتورية وفسادًا بدءًا من بلاد العرب وانتهاء ببلاد العجم وما وراءها.

هكذا أيضًا، يخرج ما تبقى من فلول العروبيين، أناصريين كانوا أم بعثيين، ناشرين على الملأ كلامًا معسولاً، منثورًا أحيانًا وموزونًا أحيانًا ومقفّى في أخرى، عن أمّة العرب وعن العروبة. نعم، يتحدثون بكلام شاعري عن هذه الأكذوبة التي ما فتئوا يروّجون لها ولأنظمتها القمعيّة "الممانعة" حتّى أضحت وبالاً عليهم وعلى من لفّ لفّهم من أصحاب البهتان. فلا جاءت هذه القوموية العروبية الرومانسية بهوية تجمع ما انتثر من بطون وأفخاذ، ولا جاءت بنظام يجلب العدل والرفاهية لأهل البلاد. بل على العكس من ذلك، لقد حكمت هذه العروبة "الممانعة" الكاذبة حكمًا مستبدًّا، قبليًّا أحيانًا وعسكريًّا أحيانًا أخرى، ونهبت خيرات البلاد وأراقت دماء العباد في حروب ونزوات وغزوات فاشلة عبر الحدود أو في دهاليز مخابراتها وعسسها الذين يعيثون في الأرض فسادًا.

لا ندري ماذا ستكون
وجهة هذه الهبّات الشعبيّة، بدءًا من تونس عبورًا إلى مصر أو بقاع عربيّة أخرى. غير أنّ أمرًا واحدًا يجب الالتفات إليه، ألا وهو انعدام أي أجندة "ثورية" حقًّا في هذه الانتفاضات. الشيء الواضح هو أنّ ثمّة تذمّرًا من هذه الأنظمة التي يربخ فيها الرئيس "الجمهوري" في منصبه عشرات السنين دون أن يفكّر أصلاً بأن "يحلّ عن ربّ" البشر في البلاد ويذهب للتقاعد. بل أنكى من ذلك، يحاول العمل على توريث المنصب وخيرات البلد للولد الذي ترعرع في أحضانه، كما لو أنّ الأوطان إقطاعيّة أو حظيرة عائليّة.

كذا هي حال الشام التي ابتدعت توريث الجمهورية. وقد مضى حتّى الآن على توريث بشّار الابن الشّاب عقد من الزّمان في رئاسة سورية. ألا تكفي هذه الأعوام ليُعرف صالحه وطالحه؟ لكن، يبدو أنّه، ولأنّه لا يزال في عمر الشّباب، فربّما كُتب على الشعب السّوري أن يخضع لرئاسته لعقود طويلة أخرى. غير أنّي أقول للحقّ أيضًا ودون مواربة، فمن خلال قراءة بعض كتابات المعارضين السوريين، أقول بعضها وليس كلّها، فإنّها هي الأخرى تثير الاشمئزاز بقدر ما يشمئز المرء من نظام البعث ذاته. فهي أيضًا لا تبشّر بالخير الذي يصبو إليه بنو البشر في هذه الربوع، كما إنّ الإسلاميين بإخوانهم وبمن يتبعهم فليسوا بأفضل حالاً من نظام القمع البعثي ذاته. على المعارضة أوّلا أن تقنع الجمهور السوري بجميع أطيافه الدينية والإثنية أنّها ليست طائفية وقبليّة هي الأخرى كالنّظام القائم الظّالم ذاته.

وكذا أيضًا هي الحال وعلى هذا المنوال في سائر "الجمهوريات" العربيات. لهذا السّبب فقد جاء ردّ فعل العقيد القذّافي مناصرًا لزين العابدين ولغيره من المستبدّين المخلّدين في السلطة. فهذا العقيد الغريب الأطوار لم يعد مُضحكًا بالمرّة. وهو وإن كان يُنعَت بـ"الأخ العقيد"، بينما يليق به أكثر تعبير "الآخ على التعقيد". إنّه الآخر لا يريد أن "يحلّ عن ربّ الشعب اللّيبي" بعد أكثر من أربعة عقود.

إنّ الهبّة الشعبيّة المصريّة كانت، أصلاً وفي الأساس، هبّة للإطاحة بمخلّفات الناصريّة العسكرية وأعوانها الذين أناخوا كلكلهم على صدر الشعب المصري والشعوب العربية الأخرى طوال عقود طويلة دون أن ينقلوا البلد والمجتمع إلى مرتبة متقدّمة أسوة بباقي شعوب الأرض. لقد أفلحت الهبّة حتّى الآن فقط بالإطاحة بالرئيس، غير أنّ الطبقة العسكرية، صاحبة الامتيازات الاقتصادية المتشعبة، هي التي أحكمت القبضة الآن في أرض الكنانة.

لا يكفي ترديد شعار
"ثورة ثورة حتّى النصر". إنّما الثّورة تكون ثورة حقيقية وجديرة بهذه التسمية، فقط عندما تصل ليس حتّى النّصر، بل تصل حتّى العصر. أيّ حتّى تُجذّر المُكتسبات العصريّة التي تدفع بالبشر قدمًا. إنّ الانتفاضة المصرية ضدّ النّظام يمكن أن تتحوّل إلى ثورة حقيقيّة فقط عندما تقبل الطبقة العسكرية وأعوانها الذين يحكمون الآن بالمبادئ الأتاتوركية الدستورية التالية:
أوّلاً - فصل الدّين عن الدولة فصلاً تامًّا، بكلّ ما يعنيه هذا الفصل.
ثانيًا - مساواة تامّة في المواطنة بين المصريين - لا فرق بين مسلم ومسيحي وما سواهما من سائر المعتقدات الدينية وغير الدينية.
ثالثًا - مساواة تامّة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات دون استثناء.
رابعًا - فصل السلطات، التنفيذية، التشريعية والقضائية.
خامسًا - حريّة التفكير وحريّة التعبير وحرية الصحافة والنّشر هي حقوق دستورية مكفولة للمواطن.
سادسًا - يُنتخب الرئيس فقط لدوتين انتخابيّتين على أقصى حدّ، أي بما لا يزيد عن عشر سنين، يُحال بعدها إلى التقاعد.

هذه مجرّد بعض المبادئ، وهنالك بالطبع قضايا ومبادئ أخرى يجب العمل على تثبيتها. فقط عندما يتمّ إقرار هذه المبادئ بحذافيرها، عندئذ يمكن الحديث عمّا حصل في مصر بأنّه ثورة حتّى العصر. أمّا ما سوى ذلك، فإنّ لسان حالنا سيظلّ يقول: رجعت حليمة لعادتها القديمة، أو أنّنا سنظلّ نردّد إلى يوم يبعثون: كأنّنا يا بدر لا رحنا ولا جينا.

والعقل ولي التوفيق!
***
***
For Hebrew on the same topic, press here

إقرأ أيضًا:
أفكار معروضة للسرقة
______________________

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
______
سـلمان مصـالحة

عن هبّة تونس وأشياء أخرى

لقد كتب الأستاذ نادر قريط هنا في الأوان تهويمات نثريّة عاطفيّة عن الهبّة الشعبيّة التونسيّة التي أدّت في نهاية المطاف إلى رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وما من شكّ في أنّ الأسارير تنفرج والقلوب تنشرح حينما نرى النّاس يهبّون ضدّ المظالم التي يواجهونها. والهبّات تكشف، بين سائر ما تكشفه، أنّ هذه المظالم قد طال أمدها وقد تراكمت تبعاتها على صدور العباد حتّى أضحت جمرًا مستعرًا مختبئًا تحت رماد من صنوف الكبت. يُضحي الوضع في انتظار هبوب نسمة خفيفة تذرو هذا الرّماد فيستعر الجمر ويعلو اللّهب.

وهكذا، فقد تعالى من جديد على ألسنة العرب بيت شعر لأبي القاسم الشابي، وردّده الجميع في مشارق العرب ومغاربهم. غير أنّ الكثيرين الكثيرين من كلّ هؤلاء المردّدين لـ"إذا الشّعب يومًا… فلا بُدّ أن…"، إنّما هم يردّدون كلامًا لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم. إنّهم يردّدون بيت الشّعر بوصفه شعارًا شعبويًّا ليس إلاّ. وذلك، لأنّ جوهر هذا البيت هو نقيض واضح وبيّن لما هو قائم في الإيمان الإسلامي بالقضاء والقدر. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الفرديّة، ثمّ الجمعيّة من بعدها، هي الأصل وأمّا القدر بكلّ ما يحمل من معانٍ فلا عمل له في المصير بأيّ حال. القدر فقط يقوم بدور الاستجابة للإرادة، أفرديّة كانت هذه الإرادة أم شعبيّة. لقد نوّة الأستاذ نادر قريط عَرَضًا إلى هذه النقطة في مقالته قائلاً: "في معادلتك الشعرية الفذّة يا أبا القاسم، وضعت الشعبً والقدر وجها لوجه، فكسبت الرهان…".

كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.

غير أنّ المفارقة الكبرى في كلام الأستاذ قريط تكمن في هذه الفقرة من مقالتة الشعريّة: "تونس "شعب" تجمعه الأرض والتاريخ، ويوحده حلم العيش الكريم ومدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال، ورجمت مليشيات الطاغية، وضمّدت الجرحى". يجب ألاّ ينسى الأستاذ قريط، وكثيرون غيره، ممّن يدبّجون الكلام الشّعري الآن على خلفيّة الهبّة التونسيّة، أنّ ما يمتدحونه في تونس بكلام مثل: "مدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال…"، فهو في نهاية المطاف من مُنجزات هذا النّظام التونسي بالذّات، بخلاف سائر الأنظمة العربيّة. أيّ أنّ كلام قريط هذا قد جاء ذامًّا فانتهى مادحًا بكلام هو ممّا يُحسب لصالح النّظام بالذّات.

ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح والتحسُّر على المشرق: "أما في مشرقنا فواحسرتاه! لقد كنّا شعبا في يوم ما، أما اليوم فنحلم على أريكة الديوان الشرقي، لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات، وفقهاء نبحث عن العصر الباليوليتي وعصماء بنت مروان لنهرب من واقعنا، فما أوسخنا…".

لقد وردت في المأثور العربي مقولة "يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره". وهي مقولة فيها نوع من التّساهُل والتّسامُح مع نزق الشّعراء في الخروج على النّحو والقواعد والمألوف في اللّغة. ولمّا كان الأستاذ قريط قد كتب مقالة شعريّة، فإنّي سأنظر إليها بنوع من التّساهُل أيضًا قائلاً بيني وبين نفسي: يحقّ له في هذا الانجراف الشّعري ما لا يحقّ لغيره.

ولكن، ومن جهة أخرى، فهل ما ورد في كلامه الشّعري هذا يستند إلى أسس متينة؟ إنّه يقول: "لقد كنّا شعبًا في يوم ما". فهل هذه المقولة صحيحة؟ ومتى كنّا شعبًا في يوم ما؟ هل بوسع الأستاذ قريط أن يذكر لنا ذلك اليوم بالتحديد؟ ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح: "لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات…". مرّة أخرى، لا أدري علام يستند هذا الكلام.

في رأيي، لقد تحوّل الحديث عن "البترودولار" في السّنوات الأخيرة نوعًا من الشّعارات الشّعبويّة التي تُطرح لتُدغدغ عواطف "مُراهقي العروبة" في المشرق والمغرب دون أن تكون هذه الشعارات مدعومة بأيّ حقائق. فهل حقًّا كلّ مآسي العرب مردّها إلى "البترودولار"؟ وهل القبائل والشيع والملل والمذاهب كلّها مردّها إلى "البترودولار"؟ ولو كانت هذه حقيقة، فماذا كان العرب قبل البترودولار؟

إنّ ما أخشاه في هذا النوع من الكلام هو أن يتحوّل إلى جوهر الخطاب العربي. إنّ هذا الكلام لا يختلف كثيرًا عن أنواع الكلام المندرج في خطاب "نظريّات المؤامرة" الشائعة الفضاء العربي. إنّ هذا النوع من الكلام، رغم كلّ النوايا الطيّبة التي قد تكون تلفّه، إنّما يشقّ في نهاية المطاف طريقًا أخرى من الطّرق التي يسلكها كلّ الهاربين من مواجهة الحقائق العربيّة. إنّها حقائق عربيّة متعدّدة المناحي، من الاجتماعيّة والدينية والثقافية والسياسية إلى آخره.

إنّ ما جرى في تونس كان ممكن الحدوث لعدّة أسباب:

أوّلاً، لأنّ الشّعب التونسي يتّسم بالتّجانس، إذ أنّ 99 بالمائة منه عرب يدينون بذات المذهب، وكلّ ما يجري لا يمكن أن يتحوّل إلى صراعات مذهبيّة.

ثانيًا، لأن ما جرى من تحديث في البلد بخصوص الأحوال التعليمية والأحوال الشخصيّة ومساواة المرأة وحضورها المدني من جهة، وتقييد الإسلامويين وما يمثلونه من جهة أخرى، هي بالذّات من منجزات النظام التونسي التي تُحسب له، لا عليه. وهي في نهاية المطاف ما تدفع إلى حدوث هبّات من هذا النوع المدني.

إنّه لمن المفرح أن يهبّ التونسيّون ليطيحوا بطاغية النّظام، غير أنّ الحذر يجب أن يكون نصب أعين المنتفضين في تونس. يجب التشبُّث بالمنجزات المدنيّة والّتي على رأسها مساواة المرأة والرّجل في كلّ مناحي الحياة. إنّ هذا المنجز هو ما يجب البناء عليه للمستقبل. ويجب في الوقت ذاته الحذر من الإسلامويين المتربّصين الذين ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المنجز التونسي وسائر المنجزات الأخرى، بغية جرّ تونس إلى الوراء. يجب أن يتذكّر التونسيّون، كما سائر العرب، أنّه فيما يتعلّق بالمجتمعات العربيّة فإنّ المرأة هي الحلّ، وليس الإسلام بأيّ حال.

هل ما حدث في تونس قد يحدث في بلاد عربيّة أخرى، مثلاً في سورية؟
أشكّ في ذلك جدًّا. وشكوكي نابعة من رؤيتي للحقيقة السورية المختلفة جذريًّا عن تونس. ففي سورية، مثلما هي الحال في العراق وأماكن أخرى، لا يمكن الحديث عن شعب متجانس، فمصطلح "الشّعب السّوري" هو مصطلح فضفاض، إذ أنّ المواطنين الذين ينضوون تحت مسمّى الدولة السوريّة هم تشكيلة متنوّعة من النّاس والأقوام والمذاهب والطوائف، من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيّين وسنّة وشيعة ودروز إلى آخره. هذه الحقيقة تختلف جذريًّا عن الوضع التونسي. كما إنّ النّظام السّوري، وإن كان يرفع شعارات قومويّة، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر نظام قبليّ بامتياز يستند إلى سلسلة من قوّات عسكريّة خاصّة ومخابرات مرؤوسة كلّها طائفيًّا وغايتها حماية رأس النّظام القبلي. لهذا السّبب، فإنّ طبيعة هذا النّظام هي طبيعة اضطهاديّة في جوهرها، ولذلك فإنّ أيّ تحرّك شعبي ضدّ النّظام ورأسه يُفهَم من قبل أركان النّظام على أنّه خطر على القبيلة، أو الطائفة، بأسرها، ولذا فإنّ سحق أيّ تحرّك شعبي من هذا النّوع هو من أولويّات نظام تأسّس على هذه الأصول. وما جرى في حماة هو مثال صارخ لهذه الدمويّة.

من هنا، فلا يمكن بأيّ حال مقارنة ما جرى في تونس ومع ما يجري في سائر البلاد العربيّة، وخاصّة تلك البلدان التي تتشكّل من أطياف بشريّة متنوعة دينيا وإثنيا. وخلاصة القول، ولقد ذكرت ذلك أكثر من مرّة في الماضي، إنّ العرب على العموم هم أكثر الأمم احتياجًا إلى ثورة حقيقة تفصل الدين عن الدولة بكلّ ما يعني ذلك. وبكلمات أخرى، هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ في هذا الأوان. إذ، بغير ذلك، فسيواصلون التّخبُّط والتفتُّت إلى أن يندثروا من التاريخ البشري.
*
نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب، 22 يناير 2011

***
On the same topic:
Hebrew, press here
English, press here
Italian, press here
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!