أتاتورك هو الحلّ

من الأرشيف:


سلمان مصالحة ||


 أتاتورك هو الحلّ


هنالك من يدّعي،
ولنوايا طيّبة بالطّبع، أنّ هؤلاء الّذين يقفون من وراء الجرائم الّتي يشهدها العالم في هذا الأوان، قد اختطفوا الإسلام وشوّهوا صورته. إنّ استخدام مصطلح الاختطاف بهذا الصّدد فيه كثير من المغالطة والتّضليل، لأنّ هؤلاء الّذين يطلقون هذه الدّعاوى يفترضون أنّ الإسلام أشبه بشخص وقع في قبضة بعض رجال المافيا وقد تمّ اختطافه عنوةً، بينما هذا الشّخص المخطوف يحاول الاعتراض على هذا الخطف. فهل هذا الوصف لما يجري على السّاحة العربيّة والإسلاميّة هي الحقيقة؟ أم أنّ هذا الإسلام "المخطوف" قد وقف دائمًا على قارعة الطّريق يستجدي رجال المافيا أن يخطفوه، قائلاً لهم: هيّا اخطفوني وافعلوا بي ما تشاؤون، لأنّكم ستجدون عندي كلّ ما تُسوّل لكم أنفسكم.

أنظروا إلى عناوين البيانات
الّتي تُنشر باسم المنظمّات الإرهابيّة الإسلاميّة بعد كلّ جريمة ينفّذونها. فها هو البيان الّذي نُشر بعد جريمة شرم الشّيخ الأخيرة، فماذا نقرأ في صدر هذا البيان؟ "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه" (البقرة: 193). والفتنة تعني الشّركُ والأندادُ، أو الكفر إلخ. والدّين هو بالطّبع دين الإسلام، إذ أنّ النّبيّ قال: أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، ويقيموا الصّلاة ويؤتوا الزّكاة..." (تفسير الطّبري للآية من سورة البقرة). أو كما يذكر القرطبي: "وقاتلوهم" أمر بالقتال لكلّ مشرك في كلّ موضع على من رآها ناسخة ومن رآها غير ناسخة... وهو أمر بقتال مُطلَق لا بشرط أن يبدأ الكفّار. ودليل ذلك قوله تعالى: ويكون الدّين للّه"، ثمّ يذكر الحديث النّبوي: أمرت أن أقاتل النّاس، ويضيف القرطبي: "فدلّت الآية والحديث على أن سببب القتال هو الكفر، أي فتنة، "فجعل الغاية عدم الكفر" (تفسير القرطبي). أمّا ابن كثير فيشرح الآية على النّحو التّالي: " ثمّ أمر اللّه تعالى بقتال الكفّار "حتّى لا تكون فتنة" أي شركٌ..."ويكون الدّين للّه" أي يكون دين اللّه هو الظّاهر العالي على سائر الأديان... لما ثبت في الصّحيحين من الحديث النّبوي: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل اللّه... وقوله: ؛فإن انتهوا فلا عدوان إلاّ على الظّالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عمّا هم فيه من الشّرك" (تفسير ابن كثير للآية). أمّا من يحتجّ بالآية الّتي تنصّ أن "لا إكراه في الدّين" فإنّ هذا النّصّ ليس مُطلقًا وإنّما هو "مقصور على ما نزلت فيه من قصّة اليهود وأمّا إكراهُ الكافر على دين الحقّ فواجب، ولهذا قاتلناهم على أن يُسلموا أو يؤدّوا الجزية، ويرضوا بحكم الدّين عليهم"، (سنن التّرمذي). أي أنّ قتال الكفّار واجب دينًا، لا لسبب سوى لفرض الإسلام عنوة وبحدّ السّيف. والكفّار هم كلّ أولئك الّذين لا يدينون بدين الإسلام، بمن فيهم النّصارى واليهود والمجوس وسائر بني البشر. أي أنّ هؤلاء الّذين يدبّجون بيانات الإرهاب بالآية: "وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ويكون الدّين للّه"، يرضعون أيديولوجيّاتهم من مكان ما، ومن موروث ما. هل هنالك تفسير آخر؟

إذن، فبعد هذا الكلام
وهذه البيانات الّتي ينشرها هؤلاء الّذين يقفون من وراء العمليّات الإرهابيّة، هل نستطيع أن نقول إنّ هؤلاء الإرهابيّين قد خطفوا الإسلام حقًّا، أم أنّ الحقيقة هي نقيض هذا الكلام تمامًا. وبكلمات أخرى يجب علينا أن نُحدّد ونشخّص المسألة أوّلاً وقبل أن نطلق على الملأ الادّعاءات الّتي لا تستند إلى أساس. علينا أن نشخّص الخاطف والمخطوف في هذه القضيّة قبل البدء في إيجاد الوسائل لعلاج الموضوع في جميع جوانبه.

يتّضح ممّا أوردنا سالفًا
أنّ الخاطفَ في الواقع هو هذا التّراث الإسلامي، بينما هؤلاء الإرهابيّون فهم المخطوفون في حقيقة الأمر. لقد تحوّل الإسلام منذ نشأته إلى حركة عقائديّة قامت باستعمار الذهنيّة العربيّة القبليّة مُغدقةً عليها رؤيا ذكوريّة تَسَلُّطيّة هي من مخلّفات الإنسان البرّي الأقرب إلى حياة الغابة منه إلى حياة الإنسان الّذي يعيش في مجتمعات عاقلة. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسّر أنّ كلّ هؤلاء الإرهابيّين يظهرون على خلفيّة هذا التّراث، ويخرجون من بيوت عباداته وقد تتلمذوا على أئمته وفقهائه؟

إذن، ما العمل في وضع كهذا؟
من أجل الوصول إلى علاج جذري لهذه الأمراض المزمنة في مجتمعاتنا العربيّة علينا أن نشخّص المرض أوّلاً. لذلك، ولأنّنا لا زلنا، نحن العرب، في هذا الطّور البدائي من التّطوُّر البشري، فليس أمامنا من سبيل في هذه المرحلة سوى البحث عن وسيلة للتّحرُّر من هذا الاستعمار، الدّيني والاجتماعي والّذي كبّل الذّهنيّة العربيّة منذ القدم . ولأنّ المسألة ليست بسيطة بالمرّة، وإذا كانت لدينا رغبة حقًّا في أن نعيش في مجتمع مدنيّ معاصر يتساوى فيه الأفراد على جميع مللهم ونحلهم، رجالاً ونساءً، في دولة القانون الّتي تضع الفرد في أعلى سلّم أولويّاتها، فما علينا إلاّ السّير في ركب الشّعوب المتحضّرة.

ولهذا السّبب، ليس أمام مجتمعاتنا من سبيل سوى سبيل فصل الدّين عن الدّولة، وربط هذا الفصل بإصلاحات سياسيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة غايتها الانتقال السّريع إلى دولة عصريّة تسير على هدى مبادئ دستور علماني على غرار الدّساتير الأوروبيّة. هنالك حاجة مُلحّة إلى علمنة التّربية والتّعليم في الدّولة العربيّة والإسلاميّة، وإعلان المساواة التّامّة بين الرّجل والمرأة في جميع مجالات الحياة. لا بأس كذلك في تشجيع المواطنين على ترك اللّباس التّقليدي وخاصّة الكوفيّات وما شابهها والّتي أضحت تُشكّل في الحقيقة "كاتم عقل" أكثر منها زيًّا وطنيًّا. فلم يعد أمام العرب في هذا العصر من سبيل سوى السّير على خطى مصطفى كمال، إذ يبدو واضحًا الآن أنّه فيما يتعلّق بالعربان فإنّ:
أتاتورك هو الحلّ
*
نشرت: إيلاف، يوليو 2005
***
مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!