مأساة العرب جبن مثقّفيهم

أرشيف - كذا كان. فهل كذا يكون؟

سلمان مصالحة ||

مأساة العرب جبن مثقّفيهم


كثيرًا ما نجنح، في غمرة الحديث عن أحوال العرب في هذا الأوان، إلى الكلام التّعميمي الّذي نُطلقه. الكلام التّعميمي قد يفيد في بعض الأحايين، إذ أنّه يقوم بفعل "التّنفيس"، أي التّرويح عن النّفس الّتي امتلأت غيظًا ممّا نشاهده بكرةً وأصيلاً في هذا الجزء من العالم الّذي ننتمي إليه. والحقيقة أنّنا جميعًا مصابون بهذا الدّاء، هذا الوباء، ولا أستثني نفسي من هذا القول. مع أنّي أحاول، قدر المستطاع، الابتعاد عنه ومداواة ما علق بي من تبعاته الخبيثة.

الكلام التّعميمي، وعلى وجه الخصوص في "مقالات الرأي" العربيّة الّتي تعجّ بها الصّحافة العربيّة الورقيّة والمُؤَنْلَنَة (نحتًا من: أونلاين)، ينبع من حالات الكبت الّتي ذوّتها هؤلاء الكتّاب في أماكن تواجدهم العربيّة. وهذا الكبت متشعّب يشمل المجالات السّياسيّة - مواجهة السّلاطين والحكّام، الدّينيّة - مواجهة السّلطات الدّينيّة وفقهاء الظّلام، والاجتماعيّة - مواجهة المنظومات المتوارثة دون إعمال العقل فيها. وما دام العقل والبصيرة الفطريّة قد تعطّلا لدى هؤلاء الكتّاب، إنْ كان الأمر قد جاء نتيجة التّذويت الإرادي للكبت أو نتيجة التعسُّف الحقيقيّ من جانب ذلك الثّالوث الكابت سياسيًّا، دينيًّا واجتماعيًّا، فليس ثمّ أملٌ في الإمساك بطرف خيط يُفضي إلى بصيص في نهاية هذا النّفق المعتم الّذي وجد العرب أنفسهم فيه، منذ عقود، إن لم نقل منذ قرون طويلة.


***

تفكيك محمود درويش:

ولكي لا أتّهم بأني ألقي الكلام على عواهنه مُعمّمًا، فلننظر معًا إلى الحال الفلسطينيّة الرّاهنة، إذ أنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال. فقد يكون الكلام التّعميمي الصّادر من البعض في هذه الحال، بالإضافة إلى جبن كاتبه في مواجهة الحقيقة، نابعًا من مصدر آخر، هو مصدر نرجسيّ، يهدف إلى البحث عن عطف كلّ من هبّ ودبّ. فيأتي هذا الكلام التّهويمي مغلّفًا بتشبيهات واستعارات ممجوجة ومتكرّرة طالما شكّلت كواتم عقول على رؤوس الأعاريب. إنّ النّزوع إلى مثل هذه الصّيغ من الكلام التّهويمي الفضفاض يهدف إلى حقن القارئ العربي المدمن على هذه السّموم البلاغيّة بجرعة أخرى من هذا المخدّر العربيّ. فما بالكم إن جاءت هذه الحقنة البلاغيّة من شاعر لا بأس به، يعتبره كثيرون شاعر فلسطين الأوّل؟

فها هو محمود درويش، وتعقيبًا على ما جرى من جرائم بشعة في غزّة، ينشر "مقالة" في صحف فلسطينية وعربيّة، كمن يريدُ أن يقول شيئًا ما. غير أنّ قراءة كلامه لا يفيد منها القارئ شيئًا بقدر ما تضع كاتم عقل على رأسه من خلال حقنه بجرعة جديدة من هذا المخدّر البلاغي. لقد وضعت المصطلح مقالة بين هلالين لأنّي لا أدري أهي مقالة هذه الّتي نحن بصددها، أم قصيدة، أم تهويمات نثريّة لشاعر يبدو كمن ليس لديه ما يقوله؟ أمّا هو فقد وسم الكلام بعنوان "أنت منذ الآن غيرك"، ضمن زاوية بعنوان "يوميّات"، ولا يوميّات ولا ما يحزنون.

***
لنقم إذن بتفكيك هذا النّصّ الهلامي:
فالعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يضع ما جرى في غزّة حدًّا فاصلاً بين ما سبق وبين ما هو لاحق، جاعلاً طرفي الزّمان من المعادلة في موقعين نقيضين، هكذا وبجرّة قلم. أمّا هذه الـ"أنت" في العنوان فهي ليست سوى "أنا" الكاتب ذاته الّتي استعار لها هذه الـ"أنت" في الكثير من شعره المنشور، وبعضه حسنٌ. ولأنّ الكاتب قد أدمن النّظر إلى "أنا"ه، فقد خلطها كثيرًا بالـ"نحن"، بما يليق بمن ينتمي إلى شعراء القبيلة. وحيثما تكثر الـ"نحن" تقلّ الصّراحة، ويقلّ القول. وهكذا سرعان ما يعود الكاتب إلى هذه الـ"نحن" بعد العنوان، فيقول: "هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا، لنُدْرك أننا لسنا ملائكة، كما كنا نظن؟"

فما هو هذا العلوّ الشّاهق الّذي سقطنا منه، ومنذ متى كنّا نظنّ أنّا ملائكة؟ ورؤية الدّم على أيدينا! أي دم وبأيدي من؟ إنّ كلامًا من هذا النّوع الفضفاض التّهويمي لا يقول شيئًا، بل بوسع كلّ من هبّ ودبّ من هذا الفصيل أو ذاك، في المكتب والسّوق، يساريًّا كان أم يمينيًّا، علمانيًّا أم إسلاميًّا، مثقّفًا أو من عامّة الشّعب، عاملاً أم مزارعًا أن يحمله ويطلقه. هذا الكلام الّذي يحتمل التّأويل لكلّ شيء قد يخطر على بال كلّ فرد من هؤلاء، ولذلك فهو كلام فارغٌ، لا معنى له أصلاً. وإذا كان هذا الصّنف من الكلام ينفع للشّعر، مع أنّي أشكّ في ذلك أيضًا، فإنّه لا يُجْدي نفعًا عندما يدور الحديث عن قضيّة حريّ بالكاتب أن يتّخذ فيها موقفًا أخلاقيًّا.

ثمّ يستمرّ الكاتب فيقول: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!" فماذا نقول في هذا الكلام الّذي صدر من فم الكاتب؟ أوّلاً، يجدر بالكاتب عدم الزّجّ بنا جميعًا في خانة "نحن"ـه هذه. فلم نقل في يوم من الأيّام إنّنا استثناء، كما لم نكذب على أنفسنا. وثانيًا، إذا كان هو الّذي كذب أو يكذب على نفسه، فليتحدّث باسمه هو وعن نفسه فقط، أو عمّن هو على شاكلته. فهنالك فلسطينيّون كثيرون آخرون لا يكذبون على أنفسهم، وحريّ به ألاّ يجمعهم في خانة الكذب الّتي اقتناها لنفسه.

ثمّ يمضي الكاتب في طرح التّهويمات الطّفوليّة على القارئ: "أيها المستقبل! لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف...أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!"

هذه التّهويمات "الشّعريّة" يمكن أن تصدر من نفوس المراهقين والمراهقات في كلّ مكان على وجه البسيطة، وليست حكرًا على بني يعرب. غير أنّها عندما تأتي من شخص في عقده السّادس، أو ممّن يُعتبر لدى كثيرين شاعر فلسطين الأوّل، فإنّها تُبقي المرء مشدوهًا أمام هذا الخواء العربيّ.

ونمضي في قراءة هذه التّهويمات، لنصل إلى: "تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟"

فمن هو هذا الّذي تقنّع وتشجّع وقتل أمّه، ومن هي أمّه؟ مرّة أخرى، نحن أمام كلام فضفاض لا يخرج منه القارئ بشيء سوى هذه الإشارات والإحالات إلى استعارات بوسع كلّ عابر سبيل أن يرفعها شعارًا. بل أكاد أجزم أنّ عابري السّبيل أكثر جرأة من كاتب هذا الكلام، لأنّهم يصرّحون بما يفكّرون به في الشّارع، في السّوق وفي كلّ مكان في هذا الوطن. أمّا هو فقد آلى على نفسه البقاء في خانة الكلام التّهويمي، في وضع فلسطيني بحاجة إلى قول الكلام صراحة وعلى الملأ. كذلك، انظروا إلى تلك الجملة المحشورة في هذه الكلام عن الجنديّة والنّهدين. فما علاقة الجنديّة والنّهدين في معرض الكلام عمّا جرى في غزّة؟ يبدو أن الكاتب قد استحوذت عليه "ريتا وبندقيّتها"، حتّى يبدو أنّه لا يستطيع منها فكاكًا فيحشرها في كلّ شاردة وواردة، وكيفما اتّفق. المهمّ أن يحشر الجنديّة في نصّه، وأن يتطرّق إلى نهديها. فيا لها من جنديّة! لقد احتلّت كيانه كلّه بواسطة نهدين اثنين، لا ثالث لهما في هذه الأرض البوار.

ويمضي الكاتب فيقول: "لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد! ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!"

إذن، على حدّ قوله: "لولا الحياء والظّلام، لزرتُ غزّة...". فعن أيّ حياء يتحدّث الكاتب؟ وما الحاجة إلى الحياء من أجل زيارة غزّة؟ على الكاتب أن يشرح لنا علنًا ودون لفّ أو دوران، ما هو هذا الحياء الّذي يمنعه من زيارة غزّة؟ ربّما استطاع القارئ أن يتكهّن ما هو الظّلام الّذي يقف مانعًا أمام زيارة غزّة، غير أنّه لا يستطيع وضع النّقاط على الحروف المبهمات فيما يتعلّق بهذا "الحياء" الّذي لولاه لزار الكاتب غزّة. فهلاّ أفادنا عن مصدر هذا الحياء، كي لا تختلط الأمور على القرّاء؟ ثمّ انظروا بعد ذلك إلى الكلام عن أبي سفيان وخاتم الأنبياء، والّذي يفرده الكاتب، لا لهدف إلاّ لتملّق الإسلاميّين، ليس إلاّ.

إنّ هذا التّملُّق يظهر جليًّا في جملة لاحقة، حيث يقول: "هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته-أخيه: الله أكبر، أنه كافر...". فهذه الجملة مرّة أخرى هي جملة تعميميّة، كما يستطيع كلّ فرد من عامّة الشّعب، ومهما كانت مشاربه، أن يحملها شعارًا. إنّه يتركها بكلام تعميمي هكذا لأنّه يخشى قول الكلام صراحةً. فمن الّذي قتل أخيه وهتف: اللّه أكبر، غير هؤلاء الإسلاميّين، أيّها الكاتب؟ ثمّ إنّ الكاتب ولكي يبعد التّهمة عن ذاته يتبنّى مصطلحات هؤلاء، مُستخدمًا مصطلح "كافر". إنّه يعلم بلا شكّ، أنّ كلّ إسلاميّ أو متأسلم يستطيع أن يرفع علنًا هذا الكلام شعاره أيضًا.

ثمّ نخلص إلى مسك الختام من هذا التّهويم في الكلام: "لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!".

إذن، هؤلاء الأصوليّون الّذين يهتفون الله أكبر على جثث ضحاياهم لا يغيظون الكاتب، "فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة"، على حدّ قوله. فهنيئًا له بهذه الرؤيا الخاصّة. غير أنّ الّذين يغيظونه، كما يصرّح، فهم "أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!". فمن هم هؤلاء العلمانيّون والملحدون الّذين يغيظون الكاتب؟ إنّه يلقي الكلام جزافًا، تعميميًّا دون أن يُقدّم لنا مثالاً واحدًا من هؤلاء. هل هو الجبن مرّة أخرى في قول شيء صراحةً؟ هل الكاتب يرغب في كلامه المراوغ هذا في البقاء ممسكًا بـ"شعرة" معاوية، مع كلّ من هبّ ودبّ؟ ثمّ حين يعزو لهؤلاء دينًا وحيدًا هو "صورهم في التّلفزيون"، أليس ينفع هذا الكلام في توصيف حالة الكاتب ذاته الّذي لم نقرأ له في يوم من الأيّام مقالة موقّعة باسمه يتّخذُ فيها موقفًا أخلاقيًّا من أيّ قضيّة، صغرت أم كبرت، يواجهها الفلسطيني أو العربي على العموم؟ إنّه أيضًا، وعلى ما يبدو من هذه المقالة التّهويميّة، لا يهمّه أمر سوى التّودُّد لكلّ من يمرّ أمامه، أو التّودُّد لكلّ من يشاهده. قد تكون نيّته حسنة ولا نشكّ فيها. غير أنّ النّيّة وحدها لا تكفي، إذ لم يأت الكلام على قدر النّوايا والقضايا، وإنّما جاء باهتًا، لاهثًا وراء صياغات هي أشبه بمراهقات شعريّة، من صنف المخدّرات الّتي ترعرعت عليها الشّعوب العربيّة، الّتي لم تفارق المراهقة حتّى ببلوغها سنّ الشّيخوخة.

***

والحقيقة أنّ المشكلة ليست في درويش وحده. إذ أنّه ولطبيعته الشّعريّة يبحث، أنَّى حلّ وأنَّى رحل، عن حنان ربّما افتقده في زمان ومكان آخرين، ولسنا هنا بصدد الكلام عن هذه النّاحية. إنّما نعني أيضًا تلك الجوقة في الصّحافة العربيّة، أو في مجلاّت أدبيّة يُشرف عليها مشرفون أو مشرفات، في مشارف هذه الألفيّة، من صنف أولئك الّذين يُسرّون شيئًا ويُعلنون خلافَهُ سيرًا على نهجٍ عربيّ مقيت ممتلئ بالرّياء، أو من صنف أولئك المُستَكتَبين الّذين خدّرهم مصنع الاستعارات الجينيريّة الّتي اكتظّت بها أسواق القَيْح الشّعري العربيّة.

أليس كذلك؟

***


ملاحظة أخيرة:

وها أنذا أكتشف الآن، بعد أن أنهيت هذه المقالة وراجعتها قبل الدّفع بها للنّشر، أنّ العنوان الّذي اخترته لها فيه أيضًا نوع من التّعميم، وكان حريًّا بي أن أضع بدله: "مأساة العرب جبن بعض مثقّفيهم".

فماذا أقول، إذن، في حالي وحالكم؟

شفاني العقلُ وشفاكم!

***

نشر في: ”إيلاف“ 3 يوليو 2007

نعم، لا يوجد عالم عربي


سـلمان مصـالحة ||


نعم، لا يوجد عالم عربي

أيلول الأسود:
لا أدري لماذا أتذكّر الآن ما جرى في أيلول الذي سُمّي بالأسود سنة 1970. في ذلك الأيلول وعلى أثر الأحداث الدموية التي حصلت في المملكة الأردنية الهاشمية، وتحت ضغط الجيش الأردني قام بعض المسلّحين الفلسطينيين بعبور النّهر وتسليم أنفسهم بالذّات للجيش الإسرائيلي. نعم، لقد فرّوا من بلد عربيّ وفضّلوا تسليم أنفسهم لجيش الـ“عدو“.

أتذكّر هذه الأحداث الآن على ضوء ما يجري في سورية. فها هم العرب ينتكبون مرّة أخرى بأنظمتهم المافيوزية، ولكنّ النكبة هذه المرّة يصنعها العرب بأنفسهم ولأنفسهم. فها هم المواطنون السوريّون يفرّون باحثين عن ملجأ في تركيا خشية بطش هذا النّظام البعثي المافيوزي. نعم، إنّ المواطنين السوريين يفرّون من بلد هو بلدهم طالما ادّعى بأنه حامل لواء العروبة، وذلك بحثًا عن ملجأ في تركيا. وهي التي طالما وسمها مراهقو العروبة بأنّها أساس بلاء العرب وتخلّفهم، بسبب سيطرة العثمانيين على العرب طوال قرون.

خلاف على أسباب التخلّف:
لقد ذكرت مرّة لصديق تركيّ هذه الدعوى القوموية العربية والتي تنسب التخلّف العربي المزمن إلى تلك القرون من الحكم العثماني للمنطقة العربيّة. غير أنّ الصديق التركي انفجر ضاحكًا حتّى كاد يستلقي على قفاه. ولمّا حاولت الاستفسار عن سبب ضحكه هذا، أجاب: هنالك دعوى مشابهة في تركيا، غير أنّها معكوسة تمامًا. القومويون الأتراك يقولون إنّ سبب بقاء تركيا متخلّفة كلّ هذا الزّمان هو بسبب حكمهم العرب.

وفي هذا دلالة على أنّ القومويّين لا يختلفون عن بعضهم البعض. القومويّ يعلّق أسباب تخلّفه على الآخرين. إنّه لا يستطيع، أو أنّه لا يرغب في النظر إلى نفسه بالمرآة. إنّه يبحث عن أسهل الطرق بغية تجنّب مساءلة الذات، والوقوف على جذور وأسباب الفشل الذّاتي. لهذا السّبب أيضًا، فإنّنا نرى أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض قبولاً واستيعابًا لنظريّات المؤامرة على اختلافها وغرائبيّتها.


إنّه اليأس، يا خوري!
في مقالة بعنوان ”إنّه الأمل“ نشرها في ”القدس العربي“ في الأسبوع الفائت يصبّ الكاتب اللبناني إلياس خوري، ”المُصاب بالأسى“ بتعبيره، دلوًا من اللّوم على رأس الكاتب المغربي الطاهر بن جلون. ومناسبة هذا الدلو من اللائمة هو ما ورد من تفوّهات على لسان الطاهر بن جلون بشأن أحوال ”العالم العربي“ في لقاء حواري مع الروائي اللبناني شريف مجدلاني في بيروت. لقد ذكر أنّ بن جلون نفى وجود ”عالم عربي“ وهو ما حدا بإلياس خوري إلى التساؤل: ”ما معنى أن يقول بن جلون أن العالم العربي غير موجود؟“، ثم يُضيف: ”هل يكفي ان تكون هناك اختلافات في اللهجات والأديان كي يصير العالم العربي غير موجود؟“. ثمّ يذكر خوري من بين مسبّبات الأسى الذي دلقه عليه بن جلون في هذا اللقاء: ”لكن ما يثير الأسى هو ان يدافع المثقف عن نظام بلاده وعن مليكه، في بيروت، وعلى مبعدة مئة كيلومتر فقط من الشام، حيث تسيل الدماء.“

ولهذا السّبب يطلب الكاتب اللبناني من الكاتب المغربي أن يكون حذرًا وأكثر دقّة قائلاً: ”كان على صاحبنا المغربي أن يكون أكثر دقة. فالحوار العلني في الجامعة ليس شبيهًا بحوارات المقاهي، بل يفترض شيئًا من المسؤولية الأدبية.“

هكذا، إذن. إنّه يطلب من الكاتب المغربي أن لا يقول ما يجيش بصدره من أفكار في منصّة عامّة، بل يطلب منه أن يكون بوقًا لـ“فكرة مُتوَهَّمة“ اسمها الـ“عروبة“ أو ”العالم العربي“، وهي الفكرة التي طالما جلبت وبالاً على أصحابها. والغريب في الأمر أنّ هذه الدّعوى تأتي من كاتب لبناني، وهو على علم بحيثيّات الوضع اللبناني. ففي بلد صغير مثل لبنان، لم يستطع هذا البلد ولا زعاماته أو أهله أن يبنوا هويّة واحدة جامعة لأبنائه تتخطّى هذه الطوائف المتصارعة طوال تاريخه.

وعودًا على بدء:
نعم، لا يوجد عالم عربي. لا يوجد تكافل عربي بما تعنيه هذه الكلمة. فلو كان هنالك شيء اسمه ”عالم عربي“ لاستنفر هذا العالم نفسه لوقف المجازر التي يرتكبها البعث المافيوزي بحقّ المواطنين السوريين. يكفي المرء أن ينظر إلى صور التمثيل بجثث الأطفال السوريّين لكي يقف على طبيعة هذا النّوع من الأنظمة.

ولو كان هنالك شيء اسمه ”عروبة“ لانطلقت المظاهرات في العواصم العربية ضدّ هذا النّظام المجرم وضدّ كلّ ما يمثّله من استبداد طوال عقود من الزمان.

لكنّ الحقيقة هي أنّ بيوت العرب كلّها وكلّهم مصنوعة من زجاج. هذه هي الحقيقة المرّة التي يجب أن يواجهها كلّ عربيّ. وما لم يبدأ العربيّ بالنّظر إلى نفسه في المرآة فلن يصل إلى سواء السّبيل.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 13 يونيو 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العقل في الرأس زينة

سلمان مصالحة

العقل في الرأس زينة

"الإنسانُ - كائنٌ يَبحثُ عن معنى" (أفلاطون)

أمّا بعدُ،
فقد درجَ العامّةُ لدينا، حينما لحظوا شخصًا ينفّذ عملاً يشوبه بعض الغباء، على إطلاق المقولة الشّعبيّة "العقل في الرّأس زينة". لقد قالوها تفكُّهًا على ما آل إليه صنيع ذلك الشّخص وتهكُّمًا به وبغبائه. والمقولة، على ما فيها من دعابة شعبيّة بريئة، تحمل في طيّاتها قولاً حكيمًا ينهلُ من موروث مغرق في القدم. فمثلما ذكر التّراث المشرقي القديم أنّ الإنسان هو تاج الخليقة، كذا هي الحال مع العقل في هذا التّاج، فالعقل هو درّة هذا التّاج المنصوب على رأسه، وهو، إذن، زينة هذا الرأس في نهاية المطاف.

وقد آن أوان أن ننظر قليلاً في هذه المسألة لما فيها من عون لذوي الألباب في فتح الأبواب أمامهم للوصول إلى سواء السّبيل. وما مرادي من هذا الكلام سوى شحذ الهمّة لدى بعض نفر هذه الأمّة ابتغاء الخير لها، ورفع ما ربخَ على أكتافها من غمّة.

في البدء نسألُ،
لماذا سُمّيَ هذا الجوهرُ اللّطيف، الكامن في الرأس الكثيف، عقلاً أصلاً؟ وللإجابة على السؤال حريّ بنا الذّهاب أوّلاً إلى الدّلالة اللّغويّة لهذا التّعبير. فالعقلُ، كما هي الحال مع الكثير من المصطلحات العربيّة مردّها إلى الصّحراء، وإلى البعير على وجه التّحديد، فقد قيلَ: "العقلُ مأْخوذٌ من عِقَال البعير" (عن: لسان العرب)، وَ"عقلَ البعيرَ: شَدَّ وظيفَهُ إلى ذراعه." (عن: القاموس المحيط)، وكذا هو رأي ابن الأنباري: "رَجُلٌ عاقِلٌ: وهو الجامع لأَمرِه ورَأْيه. مأْخوذٌ من عَقَلْتُ البَعيرَ، إِذا جَمَعْتَ قَوائمَهُ." (عن: محيط المحيط). أي أنّ العقل، في النّهاية "مشتقّ من العقل، بمعنى الرّبط والإحكام، كما قال بعض الحكماء." (عن: لسان العرب). فالعقل إذن هو الرّبط، أي النّظر في ما يُحدق بالإنسان من أمور شَتّى، المُجسَّدَة منها والمُجرَّدَة، ابتغاء الوصول إلى مفاهيم علميّة، ثقافيّة، اجتماعيّة وغيرها من أمور تواجه الإنسان في مسيرته على هذه الأرض وفي هذا الكون. فقد قيل إنّه: "جوهر مُجرَّد يُدرِك الغائِيَّات بالوسائِط والمحسوسات بالمشاهدة." (عن: لسان العرب).

هذا من ناحية الاشتقاق اللّغوي للتّعبير. أمّا من ناحية التّعريف، فقد قيل الكثير الكثير عنه. من بين ذلك ما ذكره الفيروزاباذي، ناقلاً عن الرّازي، أنّ العقل هو: "العِلْمُ بِصفاتِ الأَشْياءِ من حُسْنِها وقُبْحِها وكَمَالِها ونُقْصانِها." (عن: القاموس المحيط). أمّا ابن منظور فيقتبس، في معرض تعريفه للعقل، من تعريفات الجرجاني أنّ العقل هو: "جوهرٌ مُجرَّدٌ عن المادَّة في ذاتهِ، مقارنٌ لها في فعلهِ." (عن: لسان العرب).

غير أنّ الفقهاء
الّذين يعتبرون هذه الملكة نورًا روحانيًّا يقصرونها على الأمر والزّجر، أو الأوامر والنّواهي فحسب: "والمراد من العقل، ملكةٌ وحالةٌ في النّفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشّرور والمضارّ، وبها تقوى النفسُ على زجر الدّواعي الشّهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية." (عن: محمّد باقر المجلسي، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول). أو كما يذكر سريّ السّقطي: "العقل: ما قامت به الحجة على مأمور ومنهي". كما أنّهم خلطوا بين النّفس والذّهن والعقل، واختلفوا في محلّ تواجد هذه الملكة: "وقيل العقلُ والنّفسُ والذّهنُ واحدة إلا أنّها سُمِّيَت عَقْلاً لكونها مُدرِكةً. وسُمِّيَت نفسًا لكونها مُتصرِّفةً وسُمِّيَت ذهنًا لكونها مستعدّة للإدراك. وقال أيضًا العقلُ ما يعقل بهِ حقائِق الأشياءِ. قيل مَحلُّهُ الرأس. وقيل محلُّهُ القلبُ." (عن: لسان العرب).

وبسبب الاشتغال بهذه المسائل، فقد ترك لنا التّراث الإسلامي أيضًا أحاديث نبويّة تتعلّق بهذا الجسم اللّطيف الّذي يُسمّى العقل. مثال على ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود: "عن عبد الله بن مسعود -رض-، قال: قال رسول الله -صلعم-: لمّا خلقَ اللهُ العقل قال له : أقبل فأقبل، وأدبر فأدبر، فقال له : ما خلقتُ خلقًا أحبّ إلي منك، ولا أركبك إلا في أحبّ الخلق إلي." (عن: إبن الأثير، جامع الأصول من أحاديث الرّسول). وهذا الحديث ينتقل ويتكرّر بروايات مختلفة واختلافات طفيفة في كثير من المصادر (أنظر مثلاً: إبن حنبل، كتاب الزّهد؛ الطّبراني، المعجم الكبير؛ البيهقي، شعب الإيمان؛ الغزالي، إحياء علوم الدّين؛ التّبريزي، مشكاة المصابيح؛ السّيوطي، الدّرّ المنثور، وغيرها). لقد ثار جدل بشأن صحّة هذا الحديث أصلاً، وبشأن أوّليّة خلق العقل، فقد قال الحافظ ابن حجر: "والوارد في أوّل ما خلق الله حديث أوّل ما خلق الله القلم، وهو أثبتُ من حديث العقل." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة النّاس).

مهما يكن من أمر،
أكانَ الحديث موضوعًا أم لا من وجهة النّظر الإسلاميّة، فإنّه يشير إلى انشغال العلماء في فترة لاحقة من التّاريخ الإسلامي بقضايا بدأت تظهر على السّاحة مع التقاء المجتمع البدوي الخارج من جزيرة العرب بالحضارات الأخرى وظهور النّزعات الفلسفيّة عبر ترجمات من الحضارات الّتي انشغلت بالتّجريد، بخلاف الحضارة العربيّة الّتي عرفت التّجسيد ليس إلاّ. في الحقيقة، لا يمكن أن تكون الأحاديث الّتي جمعت ودوّنت بعد قرنين من الزّمان على الدّعوة إلاّ موضوعة بالقوّة وبالفعل. لكن، لسنا بصدد هذه المسألة، غير أنّ ما يلفت الانتباه هو أنّنا نسمع صدى هذا الجدل الفقهي مع الفلسفة، أي الحكماء، من خلال ما أورد الشّافعي: "إن العقول عند الحُكماء أوّل المخلوقات، وإنّ العقلَ عندهم أعظمُ الملائكة وأوّل المبدعات." (عن: الشّافعي، كشف الخفاء).

في نهاية المطاف، ليس فقط أنّ العقل هو ما يفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات فحسب، بل هو الحدُّ الفردانيّ للمخلوق البشريّ الّذي يفرق بينه وبين سائر أبناء جنسه من هؤلاء البشر، أو "هو الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم"، أي أنّ العقل هو الـ"أنا" على الإطلاق، كما يذكر الجرجاني بالنّسبة للعقل، فيقول: "وهي النّفسُ الناطقةُ التي يشيرُ إليها كلُّ أحدٍ بقولهِ: أنا." (عن: الجرجاني، التّعريفات).

من هذا المنطلق،
عندما ندعو إلى تفعيل العقل وإعلاء شأنه لدى أبناء جلدتنا فنحن إنّما ندعو إلى إعلاء شأن الإنسان، كلّ إنسان، في نهاية المطاف. فهذه الدّعوة هي دعوة إلى إعلاء شأن حدِّ بشريّته بوصفه كائنًا يبحث عن معنى. والبحث عن معنى، أي البحث عن معارف. والمعارف لا يمكن أن تُقتنَى بالإكراه، ومثلما ذكر أفلاطون فإنّ "المعرفة الّتي تُقْتنَى بالإكراه لا تَعلقُ بالعقل، كما أنّ المعرفة تتحوّل شرًّا إنْ لم تكن غايتُها أخلاقيّة".

لهذا السّبب، نرى على مرّ تاريخنا العربيّ أنّ الأوامر والنّواهي لا تصمد أمام الواقع. إنّها لا تصمد لأنّها تأتي بالإكراه ولذلك فهي لا تعلق بعقول البشر. وربّما خير مثال على ذلك ما يُنشر من إحصاءات في شبكة الإنترنت، فقد نشر أكثر من مرّة أنّ العرب هم أكثر شعوب الأرض بحثًا عن مفردة "جنس" ومشتقّاتها في الشّبكة. أليس في ذلك عبرة لذوي الألباب؟

لذلك، ليس فقط أنّ العقل في الرأس زينة، بل نواصل التّأكيد على الخير الكامن في هذه الملكة المسمّاة العقل، ففي نهاية المطاف فإنّ العقلَ وليّ التّوفيق.

وبهذه المناسبة نتمنّى للبشر أجمعين: كلّ عام وأنتم بعقل.
*
نشر في: ”إيلاف“، 22 ديسمبر 2007
________________

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!