كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
______
سـلمان مصـالحة______
عن هبّة تونس وأشياء أخرى
لقد كتب الأستاذ نادر قريط هنا في الأوان تهويمات نثريّة عاطفيّة عن الهبّة الشعبيّة التونسيّة التي أدّت في نهاية المطاف إلى رحيل الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وما من شكّ في أنّ الأسارير تنفرج والقلوب تنشرح حينما نرى النّاس يهبّون ضدّ المظالم التي يواجهونها. والهبّات تكشف، بين سائر ما تكشفه، أنّ هذه المظالم قد طال أمدها وقد تراكمت تبعاتها على صدور العباد حتّى أضحت جمرًا مستعرًا مختبئًا تحت رماد من صنوف الكبت. يُضحي الوضع في انتظار هبوب نسمة خفيفة تذرو هذا الرّماد فيستعر الجمر ويعلو اللّهب.
وهكذا، فقد تعالى من جديد على ألسنة العرب بيت شعر لأبي القاسم الشابي، وردّده الجميع في مشارق العرب ومغاربهم. غير أنّ الكثيرين الكثيرين من كلّ هؤلاء المردّدين لـ"إذا الشّعب يومًا… فلا بُدّ أن…"، إنّما هم يردّدون كلامًا لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم. إنّهم يردّدون بيت الشّعر بوصفه شعارًا شعبويًّا ليس إلاّ. وذلك، لأنّ جوهر هذا البيت هو نقيض واضح وبيّن لما هو قائم في الإيمان الإسلامي بالقضاء والقدر. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الفرديّة، ثمّ الجمعيّة من بعدها، هي الأصل وأمّا القدر بكلّ ما يحمل من معانٍ فلا عمل له في المصير بأيّ حال. القدر فقط يقوم بدور الاستجابة للإرادة، أفرديّة كانت هذه الإرادة أم شعبيّة. لقد نوّة الأستاذ نادر قريط عَرَضًا إلى هذه النقطة في مقالته قائلاً: "في معادلتك الشعرية الفذّة يا أبا القاسم، وضعت الشعبً والقدر وجها لوجه، فكسبت الرهان…".
كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
غير أنّ المفارقة الكبرى في كلام الأستاذ قريط تكمن في هذه الفقرة من مقالتة الشعريّة: "تونس "شعب" تجمعه الأرض والتاريخ، ويوحده حلم العيش الكريم ومدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال، ورجمت مليشيات الطاغية، وضمّدت الجرحى". يجب ألاّ ينسى الأستاذ قريط، وكثيرون غيره، ممّن يدبّجون الكلام الشّعري الآن على خلفيّة الهبّة التونسيّة، أنّ ما يمتدحونه في تونس بكلام مثل: "مدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال…"، فهو في نهاية المطاف من مُنجزات هذا النّظام التونسي بالذّات، بخلاف سائر الأنظمة العربيّة. أيّ أنّ كلام قريط هذا قد جاء ذامًّا فانتهى مادحًا بكلام هو ممّا يُحسب لصالح النّظام بالذّات.
ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح والتحسُّر على المشرق: "أما في مشرقنا فواحسرتاه! لقد كنّا شعبا في يوم ما، أما اليوم فنحلم على أريكة الديوان الشرقي، لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات، وفقهاء نبحث عن العصر الباليوليتي وعصماء بنت مروان لنهرب من واقعنا، فما أوسخنا…".
لقد وردت في المأثور العربي مقولة "يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره". وهي مقولة فيها نوع من التّساهُل والتّسامُح مع نزق الشّعراء في الخروج على النّحو والقواعد والمألوف في اللّغة. ولمّا كان الأستاذ قريط قد كتب مقالة شعريّة، فإنّي سأنظر إليها بنوع من التّساهُل أيضًا قائلاً بيني وبين نفسي: يحقّ له في هذا الانجراف الشّعري ما لا يحقّ لغيره.
ولكن، ومن جهة أخرى، فهل ما ورد في كلامه الشّعري هذا يستند إلى أسس متينة؟ إنّه يقول: "لقد كنّا شعبًا في يوم ما". فهل هذه المقولة صحيحة؟ ومتى كنّا شعبًا في يوم ما؟ هل بوسع الأستاذ قريط أن يذكر لنا ذلك اليوم بالتحديد؟ ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح: "لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات…". مرّة أخرى، لا أدري علام يستند هذا الكلام.
في رأيي، لقد تحوّل الحديث عن "البترودولار" في السّنوات الأخيرة نوعًا من الشّعارات الشّعبويّة التي تُطرح لتُدغدغ عواطف "مُراهقي العروبة" في المشرق والمغرب دون أن تكون هذه الشعارات مدعومة بأيّ حقائق. فهل حقًّا كلّ مآسي العرب مردّها إلى "البترودولار"؟ وهل القبائل والشيع والملل والمذاهب كلّها مردّها إلى "البترودولار"؟ ولو كانت هذه حقيقة، فماذا كان العرب قبل البترودولار؟
إنّ ما أخشاه في هذا النوع من الكلام هو أن يتحوّل إلى جوهر الخطاب العربي. إنّ هذا الكلام لا يختلف كثيرًا عن أنواع الكلام المندرج في خطاب "نظريّات المؤامرة" الشائعة الفضاء العربي. إنّ هذا النوع من الكلام، رغم كلّ النوايا الطيّبة التي قد تكون تلفّه، إنّما يشقّ في نهاية المطاف طريقًا أخرى من الطّرق التي يسلكها كلّ الهاربين من مواجهة الحقائق العربيّة. إنّها حقائق عربيّة متعدّدة المناحي، من الاجتماعيّة والدينية والثقافية والسياسية إلى آخره.
إنّ ما جرى في تونس كان ممكن الحدوث لعدّة أسباب:
أوّلاً، لأنّ الشّعب التونسي يتّسم بالتّجانس، إذ أنّ 99 بالمائة منه عرب يدينون بذات المذهب، وكلّ ما يجري لا يمكن أن يتحوّل إلى صراعات مذهبيّة.
ثانيًا، لأن ما جرى من تحديث في البلد بخصوص الأحوال التعليمية والأحوال الشخصيّة ومساواة المرأة وحضورها المدني من جهة، وتقييد الإسلامويين وما يمثلونه من جهة أخرى، هي بالذّات من منجزات النظام التونسي التي تُحسب له، لا عليه. وهي في نهاية المطاف ما تدفع إلى حدوث هبّات من هذا النوع المدني.
إنّه لمن المفرح أن يهبّ التونسيّون ليطيحوا بطاغية النّظام، غير أنّ الحذر يجب أن يكون نصب أعين المنتفضين في تونس. يجب التشبُّث بالمنجزات المدنيّة والّتي على رأسها مساواة المرأة والرّجل في كلّ مناحي الحياة. إنّ هذا المنجز هو ما يجب البناء عليه للمستقبل. ويجب في الوقت ذاته الحذر من الإسلامويين المتربّصين الذين ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المنجز التونسي وسائر المنجزات الأخرى، بغية جرّ تونس إلى الوراء. يجب أن يتذكّر التونسيّون، كما سائر العرب، أنّه فيما يتعلّق بالمجتمعات العربيّة فإنّ المرأة هي الحلّ، وليس الإسلام بأيّ حال.
هل ما حدث في تونس قد يحدث في بلاد عربيّة أخرى، مثلاً في سورية؟
أشكّ في ذلك جدًّا. وشكوكي نابعة من رؤيتي للحقيقة السورية المختلفة جذريًّا عن تونس. ففي سورية، مثلما هي الحال في العراق وأماكن أخرى، لا يمكن الحديث عن شعب متجانس، فمصطلح "الشّعب السّوري" هو مصطلح فضفاض، إذ أنّ المواطنين الذين ينضوون تحت مسمّى الدولة السوريّة هم تشكيلة متنوّعة من النّاس والأقوام والمذاهب والطوائف، من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيّين وسنّة وشيعة ودروز إلى آخره. هذه الحقيقة تختلف جذريًّا عن الوضع التونسي. كما إنّ النّظام السّوري، وإن كان يرفع شعارات قومويّة، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر نظام قبليّ بامتياز يستند إلى سلسلة من قوّات عسكريّة خاصّة ومخابرات مرؤوسة كلّها طائفيًّا وغايتها حماية رأس النّظام القبلي. لهذا السّبب، فإنّ طبيعة هذا النّظام هي طبيعة اضطهاديّة في جوهرها، ولذلك فإنّ أيّ تحرّك شعبي ضدّ النّظام ورأسه يُفهَم من قبل أركان النّظام على أنّه خطر على القبيلة، أو الطائفة، بأسرها، ولذا فإنّ سحق أيّ تحرّك شعبي من هذا النّوع هو من أولويّات نظام تأسّس على هذه الأصول. وما جرى في حماة هو مثال صارخ لهذه الدمويّة.
من هنا، فلا يمكن بأيّ حال مقارنة ما جرى في تونس ومع ما يجري في سائر البلاد العربيّة، وخاصّة تلك البلدان التي تتشكّل من أطياف بشريّة متنوعة دينيا وإثنيا. وخلاصة القول، ولقد ذكرت ذلك أكثر من مرّة في الماضي، إنّ العرب على العموم هم أكثر الأمم احتياجًا إلى ثورة حقيقة تفصل الدين عن الدولة بكلّ ما يعني ذلك. وبكلمات أخرى، هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ في هذا الأوان. إذ، بغير ذلك، فسيواصلون التّخبُّط والتفتُّت إلى أن يندثروا من التاريخ البشري.
*
نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب، 22 يناير 2011
وهكذا، فقد تعالى من جديد على ألسنة العرب بيت شعر لأبي القاسم الشابي، وردّده الجميع في مشارق العرب ومغاربهم. غير أنّ الكثيرين الكثيرين من كلّ هؤلاء المردّدين لـ"إذا الشّعب يومًا… فلا بُدّ أن…"، إنّما هم يردّدون كلامًا لا يؤمنون به في قرارة نفوسهم. إنّهم يردّدون بيت الشّعر بوصفه شعارًا شعبويًّا ليس إلاّ. وذلك، لأنّ جوهر هذا البيت هو نقيض واضح وبيّن لما هو قائم في الإيمان الإسلامي بالقضاء والقدر. وبكلمات أخرى، فإنّ الإرادة الفرديّة، ثمّ الجمعيّة من بعدها، هي الأصل وأمّا القدر بكلّ ما يحمل من معانٍ فلا عمل له في المصير بأيّ حال. القدر فقط يقوم بدور الاستجابة للإرادة، أفرديّة كانت هذه الإرادة أم شعبيّة. لقد نوّة الأستاذ نادر قريط عَرَضًا إلى هذه النقطة في مقالته قائلاً: "في معادلتك الشعرية الفذّة يا أبا القاسم، وضعت الشعبً والقدر وجها لوجه، فكسبت الرهان…".
كم كنت أودّ أن يؤمن حقًّا غالبيّة مردّدي كلام الشّابي بالجوهر الكامن الوارد في البيت، لكنّي أعرف في قرارة ذاتي إنّ غالبيّة المردّدين ليسوا كذلك، وهذه هي المشكلة.
غير أنّ المفارقة الكبرى في كلام الأستاذ قريط تكمن في هذه الفقرة من مقالتة الشعريّة: "تونس "شعب" تجمعه الأرض والتاريخ، ويوحده حلم العيش الكريم ومدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال، ورجمت مليشيات الطاغية، وضمّدت الجرحى". يجب ألاّ ينسى الأستاذ قريط، وكثيرون غيره، ممّن يدبّجون الكلام الشّعري الآن على خلفيّة الهبّة التونسيّة، أنّ ما يمتدحونه في تونس بكلام مثل: "مدوّنة الأحوال الشخصية والمدنية، التي جعلت المرأة صنوا للرجل، فانتصبت محمولة على أعناق الرجال…"، فهو في نهاية المطاف من مُنجزات هذا النّظام التونسي بالذّات، بخلاف سائر الأنظمة العربيّة. أيّ أنّ كلام قريط هذا قد جاء ذامًّا فانتهى مادحًا بكلام هو ممّا يُحسب لصالح النّظام بالذّات.
ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح والتحسُّر على المشرق: "أما في مشرقنا فواحسرتاه! لقد كنّا شعبا في يوم ما، أما اليوم فنحلم على أريكة الديوان الشرقي، لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات، وفقهاء نبحث عن العصر الباليوليتي وعصماء بنت مروان لنهرب من واقعنا، فما أوسخنا…".
لقد وردت في المأثور العربي مقولة "يحقّ للشاعر ما لا يحقّ لغيره". وهي مقولة فيها نوع من التّساهُل والتّسامُح مع نزق الشّعراء في الخروج على النّحو والقواعد والمألوف في اللّغة. ولمّا كان الأستاذ قريط قد كتب مقالة شعريّة، فإنّي سأنظر إليها بنوع من التّساهُل أيضًا قائلاً بيني وبين نفسي: يحقّ له في هذا الانجراف الشّعري ما لا يحقّ لغيره.
ولكن، ومن جهة أخرى، فهل ما ورد في كلامه الشّعري هذا يستند إلى أسس متينة؟ إنّه يقول: "لقد كنّا شعبًا في يوم ما". فهل هذه المقولة صحيحة؟ ومتى كنّا شعبًا في يوم ما؟ هل بوسع الأستاذ قريط أن يذكر لنا ذلك اليوم بالتحديد؟ ثمّ يستمرّ الأستاذ قريط في البوح: "لقد أصبحنا بعون الله والبترودولار والطغاة، قبائل وشيعا ومللا ومذاهب وحثالات…". مرّة أخرى، لا أدري علام يستند هذا الكلام.
في رأيي، لقد تحوّل الحديث عن "البترودولار" في السّنوات الأخيرة نوعًا من الشّعارات الشّعبويّة التي تُطرح لتُدغدغ عواطف "مُراهقي العروبة" في المشرق والمغرب دون أن تكون هذه الشعارات مدعومة بأيّ حقائق. فهل حقًّا كلّ مآسي العرب مردّها إلى "البترودولار"؟ وهل القبائل والشيع والملل والمذاهب كلّها مردّها إلى "البترودولار"؟ ولو كانت هذه حقيقة، فماذا كان العرب قبل البترودولار؟
إنّ ما أخشاه في هذا النوع من الكلام هو أن يتحوّل إلى جوهر الخطاب العربي. إنّ هذا الكلام لا يختلف كثيرًا عن أنواع الكلام المندرج في خطاب "نظريّات المؤامرة" الشائعة الفضاء العربي. إنّ هذا النوع من الكلام، رغم كلّ النوايا الطيّبة التي قد تكون تلفّه، إنّما يشقّ في نهاية المطاف طريقًا أخرى من الطّرق التي يسلكها كلّ الهاربين من مواجهة الحقائق العربيّة. إنّها حقائق عربيّة متعدّدة المناحي، من الاجتماعيّة والدينية والثقافية والسياسية إلى آخره.
إنّ ما جرى في تونس كان ممكن الحدوث لعدّة أسباب:
أوّلاً، لأنّ الشّعب التونسي يتّسم بالتّجانس، إذ أنّ 99 بالمائة منه عرب يدينون بذات المذهب، وكلّ ما يجري لا يمكن أن يتحوّل إلى صراعات مذهبيّة.
ثانيًا، لأن ما جرى من تحديث في البلد بخصوص الأحوال التعليمية والأحوال الشخصيّة ومساواة المرأة وحضورها المدني من جهة، وتقييد الإسلامويين وما يمثلونه من جهة أخرى، هي بالذّات من منجزات النظام التونسي التي تُحسب له، لا عليه. وهي في نهاية المطاف ما تدفع إلى حدوث هبّات من هذا النوع المدني.
إنّه لمن المفرح أن يهبّ التونسيّون ليطيحوا بطاغية النّظام، غير أنّ الحذر يجب أن يكون نصب أعين المنتفضين في تونس. يجب التشبُّث بالمنجزات المدنيّة والّتي على رأسها مساواة المرأة والرّجل في كلّ مناحي الحياة. إنّ هذا المنجز هو ما يجب البناء عليه للمستقبل. ويجب في الوقت ذاته الحذر من الإسلامويين المتربّصين الذين ينتظرون فرصة للانقضاض على هذا المنجز التونسي وسائر المنجزات الأخرى، بغية جرّ تونس إلى الوراء. يجب أن يتذكّر التونسيّون، كما سائر العرب، أنّه فيما يتعلّق بالمجتمعات العربيّة فإنّ المرأة هي الحلّ، وليس الإسلام بأيّ حال.
هل ما حدث في تونس قد يحدث في بلاد عربيّة أخرى، مثلاً في سورية؟
أشكّ في ذلك جدًّا. وشكوكي نابعة من رؤيتي للحقيقة السورية المختلفة جذريًّا عن تونس. ففي سورية، مثلما هي الحال في العراق وأماكن أخرى، لا يمكن الحديث عن شعب متجانس، فمصطلح "الشّعب السّوري" هو مصطلح فضفاض، إذ أنّ المواطنين الذين ينضوون تحت مسمّى الدولة السوريّة هم تشكيلة متنوّعة من النّاس والأقوام والمذاهب والطوائف، من عرب وأكراد ومسلمين ومسيحيّين وسنّة وشيعة ودروز إلى آخره. هذه الحقيقة تختلف جذريًّا عن الوضع التونسي. كما إنّ النّظام السّوري، وإن كان يرفع شعارات قومويّة، إلاّ أنّه في حقيقة الأمر نظام قبليّ بامتياز يستند إلى سلسلة من قوّات عسكريّة خاصّة ومخابرات مرؤوسة كلّها طائفيًّا وغايتها حماية رأس النّظام القبلي. لهذا السّبب، فإنّ طبيعة هذا النّظام هي طبيعة اضطهاديّة في جوهرها، ولذلك فإنّ أيّ تحرّك شعبي ضدّ النّظام ورأسه يُفهَم من قبل أركان النّظام على أنّه خطر على القبيلة، أو الطائفة، بأسرها، ولذا فإنّ سحق أيّ تحرّك شعبي من هذا النّوع هو من أولويّات نظام تأسّس على هذه الأصول. وما جرى في حماة هو مثال صارخ لهذه الدمويّة.
من هنا، فلا يمكن بأيّ حال مقارنة ما جرى في تونس ومع ما يجري في سائر البلاد العربيّة، وخاصّة تلك البلدان التي تتشكّل من أطياف بشريّة متنوعة دينيا وإثنيا. وخلاصة القول، ولقد ذكرت ذلك أكثر من مرّة في الماضي، إنّ العرب على العموم هم أكثر الأمم احتياجًا إلى ثورة حقيقة تفصل الدين عن الدولة بكلّ ما يعني ذلك. وبكلمات أخرى، هم أكثر الأمم احتياجًا إلى أتاتورك عربيّ في هذا الأوان. إذ، بغير ذلك، فسيواصلون التّخبُّط والتفتُّت إلى أن يندثروا من التاريخ البشري.
*
نشرت في: الأوان - منبر رابطة العقلانيين العرب، 22 يناير 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
0 تعليقات:
إرسال تعليق