‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءات. إظهار كافة الرسائل

رسالة في فضل العقل على النقل

 

سلمان مصالحة ||

رسالة في فضل العقل على النقل


الكتابة، كلّ كتابة، ومنذ قديم الزّمان
هي من عمل هذا الحيوان النّاطق، بل هي مزية، من بين مزايا أخرى، تفرق الإنسان عن سائر المخلوقات. إنّها فعل هو نتاج تجريدي من مهمّات العقل، أمبدعًا كان العقلُ أم ناقلاً لما أبدع آخرون.

قبل وجود الكتاب درج الإنسان على التّدوين بالنّقش في الحجر أو النّقش في الألواح الطّينيّة، عبورًا بالكتابة على العظم والجلود وما إلى ذلك من وسائل تحمل نتاج العقل والنّقل لتبقى على مرّ الزّمن، لتكون ذاكرة وزادًا للأجيال القادمة.  هذه هي بالذّات وظيفة الكتاب منذ القدم وهذه وظيفته في يومنا هذا وستظلّ كذلك في المستقبل المنظور على ما يبدو، رغم الطّفرة الإلكترونيّة المعاصرة.  

ولمّا كان الكتاب وما يحويه من مضامين هو من عمل الإنسان العاقل والنّاقل فإنّه يحتمل الخطأ والصّواب، ولهذا أيضًا فإنّه يحتمل النّقد والنّقض. لا فرق في هذه القضيّة إن كان الكتاب حاملاً لمضامين العلوم الطّبيعيّة أو حاملاً لمضامين العقائد الدّينيّة على اختلاف مشاربها ولأيّ من الدّيانات والعقائد البشريّة كان انتماؤها.

إنّ العقائد البشريّة تعكس كلّ تلك المنظومات المعرفيّة الّتي يتوصّل إليها العقل البشري في مراحل تدرّجه على مرّ تاريخه. وفي الحقيقة فإنّ العقائد الدّينيّة لدى بني البشر تعكس في الأساس منظومات المجاهل وليس منظومات المعارف. إنّ بني البشر على العموم يحيلون الجهل بقوانين الطّبيعة والجهل بالظّواهر الطّبيعيّة إلى قوى أخرى خارقة تقع ما وراء حدود علمهم في مراحل تطوّرهم عبر التّاريخ.  هكذا ينتقل الإنسان من العادي المادّي ومحاولة معرفة علاقاته السّببيّة إلى مرحلة الإيمان. أي إنّ الجهل، على العموم، هو العنصر الجوهري الّذي يتأسّس عليه الإيمان على مرّ الزّمان.

هكذا وُلدت الآلهة عبر التّاريخ 
فلقد خلقها الإنسان لكي ينيط بها كلّ ما لم يقدر عقله على سبره وعلى فهم علائقه. وهكذا على مرّ التاريخ جاءت آلهة البشر على شاكلتهم، تحبّ وتبغض وتتزاوج وتتحارب ثمّ تتصالح إلخ، وبمدى عمق وثراء معارفهم تكون معارف آلهتهم على شاكلتهم. لقد لخّص الفيلسوف الإغريقي اكسينوفان هذه المسألة بالقول: لو كانت الحيوانات، أهليّة كانت أم وحشيّة، تعرف فنّ الرسم، لكانت رسمت آلهتها على شاكلتها، ولكان الحصان، على سبيل المثال، قد رسم إلٰهه على شكل حصان.

وهكذا أيضًا، عندما تذكر التّوراة، في قصّة الخلق، أنّ حوّاء قد خُلقت من ضلع آدم، فلا يمكن النّظر إلى هذه الخرافة إلاّ من باب الأسطورة الّتي تحاول الذّهاب بعيدًا والنّظر في المجهول من أجل وضع تفسير مبسّط لبدء الحياة البشريّة على هذه الأرض.  ولمّا كان العقل البشري منذ القدم قاصرًا عن فهم هذه الظّاهرة الّتي تدبّ على الأرض فإنّ الإحالة إلى الأسطورة تصبح الطريق المثلى لفكّ مجاهل هذه القضايا الشّائكة. وهكذا تتحوّل الخرافة إلى قصّة أسطوريّة تتداخل في فعل الإيمان، لأنّ القداسة على العموم هي أداة تُستخدَم لحفظ الذّاكرة الحضاريّة من خلال العودة مرّة تلو أخرى إلى تكرار وترديد الأسطورة. وبوصفها كذلك فهي لا تحتضر ولا تفنى مهما تناقضت مع المُكتشفات العلميّة لأنّ وظيفتها لا تنتهي باندفاع العلوم قدمًا، لأنّها من طبيعة مختلفة أصلاً.

ومن هذا المنطلق ستحمل الذّاكرة الحضاريّة التّوحيديّة، يهوديّة عبورًا إلى الإسلاميّة، كلامَ الله لموسى عبر عوسجة أو عليقة محترقة في الصّحراء. ومهما بدا الأمر مضحكًا في نظر الإنسان الّذي يعيش في هذا العصر غير أنّ هذه الخرافة تبقى حيّة وعالقة فاعلة في ذهنه لأنّها ترتبط بقضايا الإيمان والّتي لا مجال لوزنها بميزان العقل.

كذا هي الحال في ما يتعلّق بظواهر الطّبيعة
الّتي لم يسبر أغوارها العقل البشري في مراحل تطوّره البدائيّة. فكلّ ما يجهله بهذه الشؤون والقضايا ينسبه إلى الآلهة أو إلى عالم الغيب، عالم الخرافة. فلو نظرنا إلى ظاهرة غروب الشمس على سبيل المثال، فماذا نحن واجدون في الموروث العربي الإسلامي؟  من بين الأمور الّتي قد تثير الضّحك في عصرنا العلميّ هذا هو تلك الخرافات الّتي كان أسلافنا يؤمنون بها، وقد يكون من الصّعب على المؤمنين بالنّصوص المقدّسة التّخلّي عنها.  

مثال على ذلك ما ورد في القرآن بخصوص مغرب الشّمس.  فقد ذكر القرآن في سورة الكهف وفي سياق ذي القرنين: "حتّى إذا بلغَ مغربَ الشّمس وَجدَها تغربُ في عينٍ حمئة" (سورة الكهف: 86).

فلو ذهبنا إلى أحد أقدم التّفاسير القرآنيّة الّتي وصلتنا فماذا نجد في تفسير غروبها في ”عين حمئة؟ ها هو الصّحابي أبو ذر الغفاري يتطرّق إلى هذه المسألة: "قال أبو ذر الغفاري: غربت الشمس يومًا، فسألتُ النبيّ (صلعم)، أين تغرب الشمس؟ فقال النبي (صلعم): تغرب فى عين حمئة وطينة سوداء، ثم تخرّ ساجدةً تحت العرش فتستأذن، فيأذن لها..." (تفسير مقاتل بن سليمان، أنظر كذلك بخصوص ذات الرّواية باختلافات طفيفة في تفسير الطّبري، سنن أبي داود، تفسير القرطبي، تفسير البيضاوي، زاد المسير لابن الجوزي، الدّرّ المنثور للسّيوطي، وغيرها من المصادر).

فما هي، يا تُرى، هذه العين الحمئة؟
أوّلاً، لا يوجد إجماع على النّصّ القرآني بهذه الصّورة، وهذا ما يُخبرنا به الطّبري: "فاختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة {في عين حمئة}، بمعنى: أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قرّاء المدينة، وعامة قرّاء الكوفة {في عين حامية}، يعني أنها تغرب في عين ماء حارة." (نقلاً عن: تفسير الطّبري للآية).  فهذه الرّوايات والقراءات المختلفة هي خير شاهد على أنّ هذه النّصوص، ورغم قداستها، ليست ثابتة وإنّما هي من عمل البشر، من عمل ذاكرتهم الّتي لا يمكن أن تكون ذاكرة محكمة لا يعمل فيها تقادم العهود وتقادم الزّمان وتبدُّل المكان، وربّما الأهواء أيضًا، عمله.

الأمر الوحيد الّذي يُجمع عليه المؤمنون في هذا السّياق هو أنّ الشّمس تغيب. ولكن، كيف وأين تغيب هذه الشّمس فهذه القضايا مثار خلافات، إن لم نَقُل، مثار خرافات. فالبعض يقول إنّها تغيب في طينة سوداء والبعض يقول إنّها تغيب في عين ماء حارّة، وكما يذكر الطّبري: "واختلف أهل التّأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته".  ولهذا الغرض يستعينون بالأحاديث النّبويّة: "عن عبد الله، قال: نظر رسول الله (صلعم) إلى الشمس حين غابت، فقال: في نار اللّه الحامية، في نار الله الحامية، لولا ما يَزَعُها من أمر الله لأَحْرَقت ما على الأرض" (تفسير الطبري).

إنّ الطّبري لا يشكّك في المضمون المضحك للخرافة، بل يحاول التّوفيق بين القراءتين لا غير، فيقول: "والصوابُ من القول في ذلك عندي أن يُقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، ولكل واحدة منهما وجهٌ صحيحٌ ومعنًى مفهومٌ، وكلا وجهيه غيرُ مُفسدٍٍ أحدُهما صاحبَه. وذلك أنّه جائزٌ أن تكون الشمس تغرب في عين حارة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ {في عين حامية}  بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة. ويكون القارئ {في عين حمئة}  واصفَها بصفتها التي هي بها، وهي أنها ذات حمأة وطين" (تفسير الطبري).

ثمّ تسلك الخرافة طريقًا جديدة، إذ تذهب إلى أناس تلك النّواحي لتسرد علينا أحوال معيشتهم.  فها هي الخرافة تتعاظم: "وروى قتادة عن الحسن قال: وجدها تغرب في ماء يغلي كغليان القُدور، ووجد عندها قومًا لباسُهم جُلودُ السّباع، وليس لهم طعام إلاّ ما أحْرَقت الشّمسُ من الدّواب إذا غربت نحوها، وما لفظت العَيْنُ من الحيتان إذا وقعت فيها الشمس." (زاد المسير لابن الجوزي، وتفسير البيضاوي).

غير أنّ هنالك أيضًا من بين السلف
من قام بمحاولات جدّيّة لدحض هذا الغباء الصّحْراوي البدائيّ. فها هو الرّازي ينظر في هذه المسألة في مؤلّفه "مفاتيح الغيب".  لقد تطرّق الرّازي في البداية إلى اختلاف القراءات وحاول، مثلما فعل الطبري من قبله، التّقريب بينها: "واعلم أنّه لا تَنافيَ بين الحمئة والحامية، فجائز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعًا" (الرّازي، مفاتيح الغيب).  لقد وفّق الرّازي بين الخلافات هذه، لأنّه رأى أنّ المشكلة لا تكمن في القراءة فحسب، بل هي في مضمون هذه المشاهدة أصلاً، وهي المشاهدة الّتي تسم اللّه بالغباء في نهاية المطاف.

ولذلك يستمرّ الرّازي في بحث المسألة، فيقول: "ثبت بالدّليل أنّ الأرض كرةٌ وأنّ السّماء محيطةٌ بها، ولا شكّ أنّ الشمس في الفلك...".  ولأنّ الأرض كرويّة، يضيف الرّازي مستعينًا بتفسير الجبائي: "إنّ راكب البحر يرى الشمس كأنّها تغيب في البحر إذا لم ير الشطّ وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التّأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره... أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها، فالنّاظر إلى الشّمس يتخيّل كأنّها تغيب في تلك البحار".

غير أنّ الرّازي يشعر بأنّه قد وصل مبلغًا كبيرًا في نقد ونقض الرّوايات التّراثيّة حول نصّ مقدّس فيجنح إلى تخفيف الصّدمة المنوطة بذلك، ربّما، فيضيف: "ولا شك أن البحار الغربيّة قوية السّخونة فهي حامية وهي أيضًا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء فقوله: {تغرب فى عين حمئة} إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض، قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة".

ثمّ ما يلبث الرّازي أن يعود إلى دحض كلّ تلك الخرافات من خلال تتبّع المشاهدات الفلكيّة في الأصقاع المختلفة من الأرض، فيقول: "وذلك لأنّا إذا رصدنا كسوفًا قمريًا، فإذا اعتبرناه، رأينا أنّ المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أوّل الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أوّل النّهار، فعلمنا أنّ أوّل اللّيل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس".

ولأنّ الرّازي يأخذ بالعقل لا بالنّقل،
ولأنّه يأخذ بالمشاهدات العلميّة لا بالخرافات النّابعة من جهل ومن أمّيّة، فهو يصل إلى القول الّذي لا بدّ منه: "وإذا كانت هذه الأحوالُ معلومةً بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أنّ الشّمس طالعةٌ ظاهرةٌ في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلامًا على خلاف اليقين، وكلامُ اللّه تعالى مُبرّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يُصار إلى التأويل الذي ذكرناه".

فهل نذهب نحن أيضًا، مثلما فعل من قبلنا، صاحب مفاتيح الغيب إلى العمل بالعقل بدل النقل؟
 
ففي نهاية المطاف، العقلُ وليّ التّوفيق.
***

نشرت أيضًا: شفاف الشرق الأوسط

عن الأدب وعن قلّته

أرشيف- قبل ربع قرن تقريبًا:


أعيد نشر هذه المقالة التي كانت قد نشرت قبل عقدين ونصف تقريبًا، وقد أثارت في ذلك الوقت جدلاً حادًّا. لعلّ ما ورد فيها لا يزال يسري على هذه الساحة الأدبية في الوقت الحالي أيضًا.

سلمان مصالحة || عن الأدب وعن قلّته


مأساة العرب جبن مثقّفيهم

أرشيف - كذا كان. فهل كذا يكون؟

سلمان مصالحة ||

مأساة العرب جبن مثقّفيهم


كثيرًا ما نجنح، في غمرة الحديث عن أحوال العرب في هذا الأوان، إلى الكلام التّعميمي الّذي نُطلقه. الكلام التّعميمي قد يفيد في بعض الأحايين، إذ أنّه يقوم بفعل "التّنفيس"، أي التّرويح عن النّفس الّتي امتلأت غيظًا ممّا نشاهده بكرةً وأصيلاً في هذا الجزء من العالم الّذي ننتمي إليه. والحقيقة أنّنا جميعًا مصابون بهذا الدّاء، هذا الوباء، ولا أستثني نفسي من هذا القول. مع أنّي أحاول، قدر المستطاع، الابتعاد عنه ومداواة ما علق بي من تبعاته الخبيثة.

الكلام التّعميمي، وعلى وجه الخصوص في "مقالات الرأي" العربيّة الّتي تعجّ بها الصّحافة العربيّة الورقيّة والمُؤَنْلَنَة (نحتًا من: أونلاين)، ينبع من حالات الكبت الّتي ذوّتها هؤلاء الكتّاب في أماكن تواجدهم العربيّة. وهذا الكبت متشعّب يشمل المجالات السّياسيّة - مواجهة السّلاطين والحكّام، الدّينيّة - مواجهة السّلطات الدّينيّة وفقهاء الظّلام، والاجتماعيّة - مواجهة المنظومات المتوارثة دون إعمال العقل فيها. وما دام العقل والبصيرة الفطريّة قد تعطّلا لدى هؤلاء الكتّاب، إنْ كان الأمر قد جاء نتيجة التّذويت الإرادي للكبت أو نتيجة التعسُّف الحقيقيّ من جانب ذلك الثّالوث الكابت سياسيًّا، دينيًّا واجتماعيًّا، فليس ثمّ أملٌ في الإمساك بطرف خيط يُفضي إلى بصيص في نهاية هذا النّفق المعتم الّذي وجد العرب أنفسهم فيه، منذ عقود، إن لم نقل منذ قرون طويلة.


***

تفكيك محمود درويش:

ولكي لا أتّهم بأني ألقي الكلام على عواهنه مُعمّمًا، فلننظر معًا إلى الحال الفلسطينيّة الرّاهنة، إذ أنّ الأقربين أولى بالمعروف، كما يُقال. فقد يكون الكلام التّعميمي الصّادر من البعض في هذه الحال، بالإضافة إلى جبن كاتبه في مواجهة الحقيقة، نابعًا من مصدر آخر، هو مصدر نرجسيّ، يهدف إلى البحث عن عطف كلّ من هبّ ودبّ. فيأتي هذا الكلام التّهويمي مغلّفًا بتشبيهات واستعارات ممجوجة ومتكرّرة طالما شكّلت كواتم عقول على رؤوس الأعاريب. إنّ النّزوع إلى مثل هذه الصّيغ من الكلام التّهويمي الفضفاض يهدف إلى حقن القارئ العربي المدمن على هذه السّموم البلاغيّة بجرعة أخرى من هذا المخدّر العربيّ. فما بالكم إن جاءت هذه الحقنة البلاغيّة من شاعر لا بأس به، يعتبره كثيرون شاعر فلسطين الأوّل؟

فها هو محمود درويش، وتعقيبًا على ما جرى من جرائم بشعة في غزّة، ينشر "مقالة" في صحف فلسطينية وعربيّة، كمن يريدُ أن يقول شيئًا ما. غير أنّ قراءة كلامه لا يفيد منها القارئ شيئًا بقدر ما تضع كاتم عقل على رأسه من خلال حقنه بجرعة جديدة من هذا المخدّر البلاغي. لقد وضعت المصطلح مقالة بين هلالين لأنّي لا أدري أهي مقالة هذه الّتي نحن بصددها، أم قصيدة، أم تهويمات نثريّة لشاعر يبدو كمن ليس لديه ما يقوله؟ أمّا هو فقد وسم الكلام بعنوان "أنت منذ الآن غيرك"، ضمن زاوية بعنوان "يوميّات"، ولا يوميّات ولا ما يحزنون.

***
لنقم إذن بتفكيك هذا النّصّ الهلامي:
فالعنوان "أنت منذ الآن غيرك" يضع ما جرى في غزّة حدًّا فاصلاً بين ما سبق وبين ما هو لاحق، جاعلاً طرفي الزّمان من المعادلة في موقعين نقيضين، هكذا وبجرّة قلم. أمّا هذه الـ"أنت" في العنوان فهي ليست سوى "أنا" الكاتب ذاته الّتي استعار لها هذه الـ"أنت" في الكثير من شعره المنشور، وبعضه حسنٌ. ولأنّ الكاتب قد أدمن النّظر إلى "أنا"ه، فقد خلطها كثيرًا بالـ"نحن"، بما يليق بمن ينتمي إلى شعراء القبيلة. وحيثما تكثر الـ"نحن" تقلّ الصّراحة، ويقلّ القول. وهكذا سرعان ما يعود الكاتب إلى هذه الـ"نحن" بعد العنوان، فيقول: "هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا، لنُدْرك أننا لسنا ملائكة، كما كنا نظن؟"

فما هو هذا العلوّ الشّاهق الّذي سقطنا منه، ومنذ متى كنّا نظنّ أنّا ملائكة؟ ورؤية الدّم على أيدينا! أي دم وبأيدي من؟ إنّ كلامًا من هذا النّوع الفضفاض التّهويمي لا يقول شيئًا، بل بوسع كلّ من هبّ ودبّ من هذا الفصيل أو ذاك، في المكتب والسّوق، يساريًّا كان أم يمينيًّا، علمانيًّا أم إسلاميًّا، مثقّفًا أو من عامّة الشّعب، عاملاً أم مزارعًا أن يحمله ويطلقه. هذا الكلام الّذي يحتمل التّأويل لكلّ شيء قد يخطر على بال كلّ فرد من هؤلاء، ولذلك فهو كلام فارغٌ، لا معنى له أصلاً. وإذا كان هذا الصّنف من الكلام ينفع للشّعر، مع أنّي أشكّ في ذلك أيضًا، فإنّه لا يُجْدي نفعًا عندما يدور الحديث عن قضيّة حريّ بالكاتب أن يتّخذ فيها موقفًا أخلاقيًّا.

ثمّ يستمرّ الكاتب فيقول: "كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!" فماذا نقول في هذا الكلام الّذي صدر من فم الكاتب؟ أوّلاً، يجدر بالكاتب عدم الزّجّ بنا جميعًا في خانة "نحن"ـه هذه. فلم نقل في يوم من الأيّام إنّنا استثناء، كما لم نكذب على أنفسنا. وثانيًا، إذا كان هو الّذي كذب أو يكذب على نفسه، فليتحدّث باسمه هو وعن نفسه فقط، أو عمّن هو على شاكلته. فهنالك فلسطينيّون كثيرون آخرون لا يكذبون على أنفسهم، وحريّ به ألاّ يجمعهم في خانة الكذب الّتي اقتناها لنفسه.

ثمّ يمضي الكاتب في طرح التّهويمات الطّفوليّة على القارئ: "أيها المستقبل! لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف...أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!"

هذه التّهويمات "الشّعريّة" يمكن أن تصدر من نفوس المراهقين والمراهقات في كلّ مكان على وجه البسيطة، وليست حكرًا على بني يعرب. غير أنّها عندما تأتي من شخص في عقده السّادس، أو ممّن يُعتبر لدى كثيرين شاعر فلسطين الأوّل، فإنّها تُبقي المرء مشدوهًا أمام هذا الخواء العربيّ.

ونمضي في قراءة هذه التّهويمات، لنصل إلى: "تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟"

فمن هو هذا الّذي تقنّع وتشجّع وقتل أمّه، ومن هي أمّه؟ مرّة أخرى، نحن أمام كلام فضفاض لا يخرج منه القارئ بشيء سوى هذه الإشارات والإحالات إلى استعارات بوسع كلّ عابر سبيل أن يرفعها شعارًا. بل أكاد أجزم أنّ عابري السّبيل أكثر جرأة من كاتب هذا الكلام، لأنّهم يصرّحون بما يفكّرون به في الشّارع، في السّوق وفي كلّ مكان في هذا الوطن. أمّا هو فقد آلى على نفسه البقاء في خانة الكلام التّهويمي، في وضع فلسطيني بحاجة إلى قول الكلام صراحة وعلى الملأ. كذلك، انظروا إلى تلك الجملة المحشورة في هذه الكلام عن الجنديّة والنّهدين. فما علاقة الجنديّة والنّهدين في معرض الكلام عمّا جرى في غزّة؟ يبدو أن الكاتب قد استحوذت عليه "ريتا وبندقيّتها"، حتّى يبدو أنّه لا يستطيع منها فكاكًا فيحشرها في كلّ شاردة وواردة، وكيفما اتّفق. المهمّ أن يحشر الجنديّة في نصّه، وأن يتطرّق إلى نهديها. فيا لها من جنديّة! لقد احتلّت كيانه كلّه بواسطة نهدين اثنين، لا ثالث لهما في هذه الأرض البوار.

ويمضي الكاتب فيقول: "لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد! ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!"

إذن، على حدّ قوله: "لولا الحياء والظّلام، لزرتُ غزّة...". فعن أيّ حياء يتحدّث الكاتب؟ وما الحاجة إلى الحياء من أجل زيارة غزّة؟ على الكاتب أن يشرح لنا علنًا ودون لفّ أو دوران، ما هو هذا الحياء الّذي يمنعه من زيارة غزّة؟ ربّما استطاع القارئ أن يتكهّن ما هو الظّلام الّذي يقف مانعًا أمام زيارة غزّة، غير أنّه لا يستطيع وضع النّقاط على الحروف المبهمات فيما يتعلّق بهذا "الحياء" الّذي لولاه لزار الكاتب غزّة. فهلاّ أفادنا عن مصدر هذا الحياء، كي لا تختلط الأمور على القرّاء؟ ثمّ انظروا بعد ذلك إلى الكلام عن أبي سفيان وخاتم الأنبياء، والّذي يفرده الكاتب، لا لهدف إلاّ لتملّق الإسلاميّين، ليس إلاّ.

إنّ هذا التّملُّق يظهر جليًّا في جملة لاحقة، حيث يقول: "هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته-أخيه: الله أكبر، أنه كافر...". فهذه الجملة مرّة أخرى هي جملة تعميميّة، كما يستطيع كلّ فرد من عامّة الشّعب، ومهما كانت مشاربه، أن يحملها شعارًا. إنّه يتركها بكلام تعميمي هكذا لأنّه يخشى قول الكلام صراحةً. فمن الّذي قتل أخيه وهتف: اللّه أكبر، غير هؤلاء الإسلاميّين، أيّها الكاتب؟ ثمّ إنّ الكاتب ولكي يبعد التّهمة عن ذاته يتبنّى مصطلحات هؤلاء، مُستخدمًا مصطلح "كافر". إنّه يعلم بلا شكّ، أنّ كلّ إسلاميّ أو متأسلم يستطيع أن يرفع علنًا هذا الكلام شعاره أيضًا.

ثمّ نخلص إلى مسك الختام من هذا التّهويم في الكلام: "لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!".

إذن، هؤلاء الأصوليّون الّذين يهتفون الله أكبر على جثث ضحاياهم لا يغيظون الكاتب، "فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة"، على حدّ قوله. فهنيئًا له بهذه الرؤيا الخاصّة. غير أنّ الّذين يغيظونه، كما يصرّح، فهم "أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!". فمن هم هؤلاء العلمانيّون والملحدون الّذين يغيظون الكاتب؟ إنّه يلقي الكلام جزافًا، تعميميًّا دون أن يُقدّم لنا مثالاً واحدًا من هؤلاء. هل هو الجبن مرّة أخرى في قول شيء صراحةً؟ هل الكاتب يرغب في كلامه المراوغ هذا في البقاء ممسكًا بـ"شعرة" معاوية، مع كلّ من هبّ ودبّ؟ ثمّ حين يعزو لهؤلاء دينًا وحيدًا هو "صورهم في التّلفزيون"، أليس ينفع هذا الكلام في توصيف حالة الكاتب ذاته الّذي لم نقرأ له في يوم من الأيّام مقالة موقّعة باسمه يتّخذُ فيها موقفًا أخلاقيًّا من أيّ قضيّة، صغرت أم كبرت، يواجهها الفلسطيني أو العربي على العموم؟ إنّه أيضًا، وعلى ما يبدو من هذه المقالة التّهويميّة، لا يهمّه أمر سوى التّودُّد لكلّ من يمرّ أمامه، أو التّودُّد لكلّ من يشاهده. قد تكون نيّته حسنة ولا نشكّ فيها. غير أنّ النّيّة وحدها لا تكفي، إذ لم يأت الكلام على قدر النّوايا والقضايا، وإنّما جاء باهتًا، لاهثًا وراء صياغات هي أشبه بمراهقات شعريّة، من صنف المخدّرات الّتي ترعرعت عليها الشّعوب العربيّة، الّتي لم تفارق المراهقة حتّى ببلوغها سنّ الشّيخوخة.

***

والحقيقة أنّ المشكلة ليست في درويش وحده. إذ أنّه ولطبيعته الشّعريّة يبحث، أنَّى حلّ وأنَّى رحل، عن حنان ربّما افتقده في زمان ومكان آخرين، ولسنا هنا بصدد الكلام عن هذه النّاحية. إنّما نعني أيضًا تلك الجوقة في الصّحافة العربيّة، أو في مجلاّت أدبيّة يُشرف عليها مشرفون أو مشرفات، في مشارف هذه الألفيّة، من صنف أولئك الّذين يُسرّون شيئًا ويُعلنون خلافَهُ سيرًا على نهجٍ عربيّ مقيت ممتلئ بالرّياء، أو من صنف أولئك المُستَكتَبين الّذين خدّرهم مصنع الاستعارات الجينيريّة الّتي اكتظّت بها أسواق القَيْح الشّعري العربيّة.

أليس كذلك؟

***


ملاحظة أخيرة:

وها أنذا أكتشف الآن، بعد أن أنهيت هذه المقالة وراجعتها قبل الدّفع بها للنّشر، أنّ العنوان الّذي اخترته لها فيه أيضًا نوع من التّعميم، وكان حريًّا بي أن أضع بدله: "مأساة العرب جبن بعض مثقّفيهم".

فماذا أقول، إذن، في حالي وحالكم؟

شفاني العقلُ وشفاكم!

***

نشر في: ”إيلاف“ 3 يوليو 2007

سعيد عقل في الكنيست


سـلمان مصالحة ||

سعيد عقل في الكنيست


كيف عمل سعيد عقل جاهدًا على إقناع الإسرائيليّين بأهميّة إفساح المجال له أن يُلقي خطابًا، على غرار السّادات، من على منصّة الكنيست الإسرائيليّة؟

قد يكون وقع هذا السّؤال غريبًا بعض الشّيء على مسامع القارئ العربيّ. غير أنّ الإجابة على السؤال يمكن العثور عليها ليس في الوثائق السّريّة الّتي تقبع في الأرشيفات الّتي يغطّيها الغبار، إنّما في مكان آخر أبعد ما قد يتوقّع المرء أن يكون مصدرًا لمعلومات من هذا النّوع. هذه المعلومة، إضافة إلى معلومات أخرى تخصّ السّاحة اللّبنانيّة والعربيّة، كما والإسرائيليّة، يمكن العثور عليها في الكتابات الأدبيّة، وفي الشّعر على وجه الخصوص.

قد يتساءل المرء،، هل يشكّل الشّعر وثيقة يمكن الإعتماد عليها في محاولة فهم تيّارات وأحداث سياسيّة واجتماعيّة؟ الإجابة على ذلك بسيطة، فممّا لا شكّ فيه أنّ الموروث الشّعري، لدينا نحن العرب، كان ولا يزال أحد أهمّ المصادر التّاريخيّة، إذ أنّه دوّن أحداثًا وعقائد وروحًا عربيّة على مرّ العصور، ولا يستطيع الباحث في تاريخ الحضارة العربيّة تجاهله.

لقد تبادرت إلى ذهني هذه التّساؤلات إثر قراءة مجموعة شعريّة عبريّة صادرة حديثًا هذا العام. فمن شأن القارئ لهذا النّصّ أن يقف على حقائق ومعلومات قد تكون لم تصل بعد إلى من يشتغل بالتّاريخ العربيّ الحديث، وخاصة فيما يتعلّق ببعض الجوانب المستترة من الحرب الإسرائيليّة في لبنان في العام 1982. المجموعة الشّعريّة الّتي نحنُ بصددها هي بعنوان “هستننوت”، أي تسلُّل بالعربيّة، للكاتب العبريّ أهارون أمير.

ولكن، وقبل التّطرُّق إلى الوقائع الواردة فيها، يجدر التّنويه أوّلاً بالمؤلّف وهو شاعر وكاتب، مترجم ومحرّر، من مواليد 1923، وقد درس الأدب العربي في الجامعة العبريّة في القدس. طوال فترة طويلة كان، ولا يزال، من دعاة الحركة “الكنعانيّة” في إسرائيل. أي على غرار تيّارات مثيلة، مثل الدّعوى الفرعونيّة في مصر، والفينيقيّة في لبنان، وكلّ تلك التّيّارات الّتي حاولت أن تبحث عن فرادة حضاريّة وبناء هويّة إقليميّة، ذات حضارة علمانيّة، في ظلّ الإخفاقات الّتي كانت من نصيب العروبويّة والإسلامويّة. وأهارون أمير “الكنعانيّ” النّزعة طمح إلى تأسيس الحضارة العبريّة والإسرائيليّة على أساس جغرافي إقليمي بعيدًا عن النّزعة الدينيّة اليهوديّة. ومثلما صارت إليه الحال في سائر الأماكن، مصر أو لبنان، فلم تفلح الدّعوى الكنعانيّة أيضًا في اجتذاب سواد المجتمع الإسرائيلي. ولكن، وعلى الرّغم ذلك، فقد كان لها تأثير ثقافي بيّن فيما مضى. كما لا تزال هنالك بعض الأصوات القليلة الّتي تردّد أصداء تلك الدّعاوى.

كيف تعرّف أهارون أمير على الشّاعر سعيد عقل؟ يذكر أمير أنّ بداية المعرفة كانت عبر الكتب، فهو يتذكر أنّه عندما كان يافعًا كان معجبًا بالكتب، فوقع بين يديه كتاب هو بمثابة دائرة معارف في مجلّد واحد كان صدر في العام 1935. وفي المجلّد عثر على مادّة: “عقل، سعيد”، حيث ذكر فيها أنّه شاعر عربيّ نشر في العام 1932 مسرحيّة توراتيّة بعنوان “بنت يفتاح”. ويتذكّر أهارون أمير وقائع تاريخيّة مثل، كيف عبّرت الكنيسة المارونيّة في العام 1947 عن دعمها لقيام دولة عبريّة تكون شقيقة للبنان، ويشير في كتابه هذا إلى الشّراكة بين سعيد عقل وأنطون سعادة في الحزب الّذي دعا إلى قيام “سوريا الكبرى”، وكيف أنّ أنطون سعادة رأى في مسرحيّة “بنت يفتاح” خدمة للصهيونيّة وقام بفصل سعيد عقل عن الحزب.

بعد عشرات السّنوات كان اللّقاء بين أهارون أمير وسعيد عقل، حيث تمّ ذلك إثر حرب لبنان في العام 1982. كان سعيد عقل واحدًا من بين شخصيّات لبنانيّة أجرى معها إيهود يعاري مراسل التّلفزيون الإسرائيلي مقابلات في بيروت. سعيد عقل أرسل إلى أهارون أمير، مع إيهود يعاري، تحيّات مرفقة بمجموعاته الشّعريّة الموقَّعة. غير أنّ المحادثات بين أمير وعقل أخذت تتطوّر، حيث يذكر أمير: “في محادثاتنا الّتي أخذت تتواتر، كان الحماس مُلتهبًا في جوانحه. لقد رأى في ظهور إسرائيل على أرض لبنان أمرًا ذا مغزى تحريري... وتوقّع قيام عهد قريب بين بلاده وبلادي، يُبشّرُ بالخيرات الجمّة للمنطقة بأسرها” (ص. 16). يضيف أهارون أمير أنّه سمع أثناء لقاءاته في بيروت أمورًا كثيرة تتمشّى مع هذه الرّوح من أفرادٍ ينتمون إلى سائر الطّوائف اللّبنانيّة، مسيحيّة، سنيّة، شيعيّة ودرزيّة.

غير أنّ سعيد عقل، كما يروي أهارون أمير، أراد أن يدخل التّاريخ، بل أكثر من ذلك أراد أن يصنع التّاريخ، وفي القدس بالذّات، ثمّ يضيف: كان سعيد عقل يؤمن أنّ شاعرًا مثله، ذائع الصّيت بين قرّاء العربيّة، سيكون لكلامه وقع على السّامعين. لذلك اعتقد أنّ على حكومة إسرائيل أن تدعوه إلى إلقاء كلمة في الكنيست. سيكون هذا بلا شكّ خطابًا فاتح عهد جديد، على غرار خطاب السّادات، ولذلك حريّ به أن يُسمَع هناك بالذّات... لقد استصعب سعيد عقل سماع أنّ خطابًا في هذا المكان هو أمر محفوظ لرؤساء الدّول فحسب. في نظره كانت هذه الحجّة مستلّة من حُجج الموظّفين الصّغار مقابل حجّته هو، حجّة الشّاعر النبيّ... لكن حينما اقتُرحَ عليه أن يلقي خطابه على الجبل، كما فعل اللّورد بلفور في افتتاح الجامعة العبريّة، رأى في ذلك بديلاً لائقًا لرجل في مثل مكانته... ولأجل هذا الحدث أفردت الجامعة العبريّة قاعة احتفاليّة مع دعوات خاصّة لثلاثمائة شخص إضافة إلى ممثّلي وسائل الإعلام..” (ص 19-20).

“بعد انتخاب بشير الجميّل في الـ 23 من شهر آب رئيسًا للبنان بدأ سعيد عقل يُعدّ العدّة لخطابه الموعود الّذي كان من المفروض أن يلقيه في الموعد الّذي اتفقنا عليه، وهو بداية أكتوبر” (ص 21). أمّا الرّوح الّتي كانت ستحملها كلمة سعيد عقل إلى السّامعين في القدس فهي: “صورة الماضي العريق تُشعّ، حاضرٌ ينبعث من جديد، مُستقبلٌ باهر يُبارك صانعيه بالسّلام، كما في عهد سليمان وحيرام” (ص 21). لقد عمل سعيد عقل أيّامًا وليالي على كتابة الخطاب الموعود، وفي الأسبوع الأوّل من أيلول كانت المسوّدة الرّابعة عشرة حاضرة بصيغتها النّهائيّة، بالفرنسيّة وبالعربيّة، بفضل مساعدته الأرمنيّة.

في الثّالث عشر من أيلول، يكتب أهارون أمير، كان من المفروض أن أصل إلى بيروت، وفي صبيحة اليوم التّالي سأكون في مكتبه الواقع في سنّ الفيل، للوقوف على الصّيغة النّهائيّة لخطابه الّذي كان من المفروض أن أترجمه إلى العبريّة.

“حين اقتربت سيّارتنا من مداخل بيروت في الموعد المحدّد، كان كان الظّلام مخيّمًا والإزدحام شديدًا. أدرنا مؤشّر الرّاديو إلى أذاعة الجيش الإسرائيلي لسماع آخر الأخبار، فإذا بنا نسمع خبر انفجار سيّارة مفخّخة في الأشرفيّة. في البداية ذُكر أنّ الرّئيس نجا من الإنفجار ولذلك أطلقت عيارات الفرح في الشّوارع. “فقط ساعةً واحدةً قبل انتصاف اللّيل، في مقرّ قيادة "أبو أرز" اتّصل شخص وأكّد خبر مقتل الرّئيس... أمور كثيرة دُفنت في الحُطام، من بينها الخطاب التّاريخي لشاعر كبير غزا الشيبُ مفرقَه، عالي الهمّة، رجل الأحلام والرّؤيا، واسمه سعيد عقل” (ص 22).

القران الّذي عمل سعيد عقل جاهدًا على عقده بين الفينيقيّة والكنعانيّة، بين لبنان وإسرائيل، قد دُفن في لحظة واحدة تحت حطام المقرّ في الأشرفيّة، بالضّبط مثلما دُفن حلم قران سعيد عقل وشابّة درزيّة متمرّدة من الفرع الجنبلاطي، وهذه أيضًا معلومة أخرى في هذه المجموعة الشّعريّة العبريّة الّتي تروي الأخبار على غرار أيّام العرب في الجاهليّة.
*
نشرت في ملحق تيارات، “الحياة”، 1 تموز، 2001



"بلدٌ من كَلام"



سلمان مصالحة ||

"بلد من كلام"


هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟ وما هو المعنى الواقعي والمُتخيَّل لهذا المصطلح كما ينعكس في بعض هذه النّصوص؟

المصطلح بلد كما يعرّفه ابن منظور في لسان العرب هو "كلّ موضع أو قطعة مستحيزة عامرة كانت أو غير عامرة، وهو ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. والبلد جنس المكان كالعراق والشّام، والبلدة الجزء المخصّص منه كالبصرة ودمشق"(1). نجد دلالات شبيهة بهذه الدّلالات أيضًا في معرض تعريف ابن منظور لمصطلح وطن، حيث يقول، هو: "المنزل تُقيمُ به، وهو موطنُ الإنسان ومَحلُّه". ولذلك يُضيف: "أوطان الغنم والبقر: مَرابضُها وأماكنُها الّتي تأوي إليها"(2). أي مثلما المصطلح بلد، كذلك هي الحال مع المصطلح وطن فهو يسري على الحيوان كما يسري على الإنسان، وبكلمات أخرى، البلد والوطن سيّان، رغم أنّ التّعريف القديم للبلد، كما يظهر من كلام ابن منظور، هو أعمّ وأشمل من تعريف الوطن. في الحقيقة نستطيع القول إنّ لغتنا العصريّة قد قلبت هذه المعادلة القديمة لمعنى البلد والوطن فجعلت البلد وطنًا والوطنُ بلدًا.

في البداية نقول إنّ مسألة الوطن بالنّسبة للإنسان العربي على العموم هي مسألة معقّدة ولها أبعاد ثقافيّة حضاريّة، اجتماعيّة وسياسيّة، ومنذ القدم، لا يوجد تحديد لمعالم هذا المصطلح، ولن يتّسع المجال هنا للإحاطة بجميع جوانبه. أمّا بالنّسبة للفلسطيني فتتعقّد هذه القضيّة أكثر فأكثر منذ نشوء الحركة الصّهيونيّة وقيام دولة إسرائيل في هذه البقعة من الأرض الّتي يراها كلّ طرف من الطرفين المتصارعين وطنًا له دون الآخر.

إذن فما هو معنى هذا الوطن الفلسطيني؟
قبل وقوع النّكبة الفلسطينيّة كان هُنالك من حاول التّطرُّق إلى قضيّة الوطن وإلى ما يحمله هذا الوطن في ثناياه من معانٍ. فالشّاعر إبراهيم طوقان يشاهد ما يجري على الأرض من صراع مع الحركة الصّهيونيّة قبل قيام دولة إسرائيل، فيحاول التّنبيه إلى النّتائج الوخيمة الّتي ستنتج عن بيع الأراضي الّذي يقوم به بعض الفلسطينيّين للشّركات الصّهيونيّة، فيقول في إحدى قصائده:

"باعُوا البلادَ إلى أَعْدائِهم طَمَعًا - بالمالِ لكنَّما أوطانَهم باعُوا
تلك البلادُ إذا قلتَ اسْمُها وَطَنٌ - لا يَفْهمونَ، ودونَ الفهمِ أَطْماعُ"(3).

أيّ أنّ هذه الأرض، البلاد، الّتي يرى فيها هؤلاء التّجّار مجرّدَ أملاك منقولة، هي أكبر من مجرّد مفردة، فلها دلالات أخرى يمكن أن تُختزَل في هذه الكلمة، الاسم؛ البلاد الّتي "اسْمُها وَطَنٌ". والوطن، كما يراه، هو هذا الشّيء الّذي لا يَفهم معناه هؤلاء التّجّار، بل ويتظاهرون بعدم الفهم بسبب أطماعهم التّجاريّة. إلاّ أنّ إشارة طوقان هذه هي إشارة عابرة إلى المصطلح فقط، دون أن يفسّر لنا هذا المصطلح وما يعنيه له. فهو يريد أن يقول إنّه يعني الكثير، فيكتفي بهذا التّصريح ولا يُفصّل هذا الكثير. إنّه يتركه للقارئ أو للسّامع، ليفصّل كلّ فرد على قدر ما يحسّ وعلى قدر ما يفهم من هذا المصطلح لذاته. إنّه يدعو فقط إلى التّفكير بمكان، رقعة صغيرة، ليومه الأخير:

"فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها - واترُكْ لقبركَ أرضًا طولُها باعُ"(4).

وهكذا وبعد مرور أعوام ليست كثيرة على التّحذيرات الّتي تطرّق إليها إبراهيم طوقان، حدثت النّكبة في فلسطين، فقامت إسرائيل على جزء من الوطن، وهُجّر آلاف الفلسطينيّين من وطنهم. فقط أقليّة قليلة من الفلسطينيّين بقيت في الجزء من الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل في العام 1948. هذه الأقليّة حاولت أن تتشبّث بما بقي لها من تراب في الوطن منتظرةً الفرجَ: "وظلّت هنا في بلادي بقيّةْ / بقيّة شعب / تغرس أقدامها في التّراب / لترسخَ فيه جذورًا قويّةْ / وأجفانُها عُلّقت بالسّحاب / تلمح خيط ضياء / يشقّ غيوم العذاب"(5).

محاولة لفهم ما يعنيه مصطلح الوطن يعود للظّهور من جديد لدى هذه الأقليّة الّتي بقيت في أرض الوطن الّذي صار إسرائيل. مدينة القدس، قبل حرب حزيران 1967، كانت مشطورة شطرين. قسمها الغربي كان يقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة والقسم الشّرقي تحت سيطرة المملكة الأردنيّة. في مواسم الأعياد المسيحيّة كانت السّلطات تسمح للفلسطينيّين المسيحيّين الّذين بقوا في دولة إسرائيل بالإنتقال إلى القدس وبيت لحم لزيارة المواقع المقدّسة المسيحيّة في المملكة الأردنيّة آنذاك. كان الحجّاج يعبرون إلى الشّطر الشّرقي من مدينة القدس عبر بوابة اسمها بوّابة مندلباوم، وهي البوّابة الّتي شكّلت نقطة العبور بين شطري المدينة للحجّاج المسيحيّين وللدپلوماسيّين ولقوات الأمم المتّحدة.

الكاتب إميل حبيبي، يتطرّق إلى مسألة الوطن من خلال قصّة قصيرة بعنوان "بوّابة مَنْدِلْباوْم"، نُشرت في بداية سنوات الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد أعوام قليلة من وقوع النّكبة، وهي قصّة تتمحور حول نقطة العبور هذه بين شطري مدينة القدس. في مشهد وداع الوالدة التي ستنتقل عبر بوابة مندلباوم إلى الطرف الأردني، يكتب إميل حبيبي في قصّته عن شخصيّة الوالدة: "لقد بلغتْ الخامسة والسبعين من عمرها ولمّا تجرّبْ ذلك الشّعور الّذي يقبض على حبّة الكبد فيفتّتَها، ذلك الشّعور الّذي يُخلّفُ فراغًا روحيًّا وانقباضًا في الصّدر، كتأنيب الضّمير، شُعور الحنين إلى الوطن. ولو سُئلتْ عن معنى هذه الكلمة "الوطن" لاختلطَ الأمرُ عليها كما اختلطتْ أَحرفُ هذه الكلمة عليها حينما التقتْها في كتاب الصّلاة. أَهُوَ البيتُ، إناءُ الغسيل وجرنُ الكُبّة الّذي وَرِثَتْه عن أمّها؟... أو هو نداءُ بائعة اللّبن في الصّباح على لبنها، أو رنين ُجرس بائع الكاز، أو سُعالُ الزّوج المصدور وليالي زفاف أولادها الّذين خرجوا من هذه العتبة إلي بيت الزّوجيّة واحدًا واحدًا وتركوها لوحدها؟....ولو قيلَ لها إنّ هذا كُلَّه هو "الوطن" لما زِيدَتْ فَهْمًا"(6).

في هذه الفقرة هنالك محاولة من جانب الكاتب لتفكيك معنى هذا المصطلح. إنّها محاولة للولوج عميقًا في دهاليز هذا المصطلح المشحون، واستجلاء ما يخبّئ في طيّاته. هذه التّساؤلات الّتي يطرحها إميل حبيبي بنوع من التّفصيل هي في الحقيقة الإجابة على السؤال نفسه. إلى كلّ هذه التّفصيلات يستطيع القارئ أن يضيف من عنده أمورًا أخرى فتصبح هي هي المعنى الحقيقي لكلمة الوطن.

لكن، ليس الوطن ككلّ أوكمصطلح عام ومجرّد هو شيء ملتبس فحسب، بل كلّ نقطة عينيّة فيه. كلّ موقع ومهما كان محدّدًا يلتبسُ على النّاس، فهنالك تباين من ناحية التّوجّه إليه ومن ناحية الأسماء الّتي يُطلقها الإنسان على هذا الموقع. الأسماء الّتي تُعطى للأماكن هي قضيّة مهمّة للغاية ولها دلالات وأبعاد كثيرة لأنّها تكشف عن علاقة حميميّة بين الإنسان والمكان. هذا التّباين في أسماء المكان يظهر جليًّا في نقطة عبور أخرى، هي جسر على نهر الأردن يعبر عليه النّاس بين ضفّتي الأردن. هذا هو مريد البرغوثي الشّاعر الفلسطيني الّذي يعيش خارج الوطن يتحدّث عن هذا الجسر بعد أن عاد لزيارة الوطن بعد عقود من الزّمن: »فيروز تسمّيه جسر العودة. الأردنيّون يسمّونه جسر الملك حسين، السّلطة الفلسطينيّة تسمّيه معبر الكرامة. عامّة النّاس وسائقو الباصات والتّكسي يسمّونه جسر أللنبي. أمّي وقبلها جدّتي وأبي وامرأة عمّي أم طلال يسمّونه ببساطة: الجسر. الآن أجتازه للمرّة الأولى منذ ثلاثين صيفًا، صيف 1966 وبعده مباشرة ودون إبطاء صيف 1969"(7) .

لعلّ في هذا التّباين ما يشير إلى الأزمة الجماعيّة الوطنيّة المتعلّقة بالمكان الفلسطيني، وفي هذه التّسميات الكثيرة لموقع واحد ما يدلّ على التّحوّلات الّتي طرأت على هذا المكان على مرّ السّنين، فكلّ تسمية تُشيرُ إلى قضيّة سياسيّة، كما تكشفُ عمّا في نفوس من يُطلق هذه التّسميات. ففيروز تُعبّرُ عن حلم العودة لدى اللاّجئين، بينما تسمية الجسر باسم الملك حسين تُشير إلى السّلطة الفعليّة في المكان. أمّا مصطلح الكرامة فهو مأخوذ من اسم المعركة بين القوات االفلسطينيّة والإسرائيليّة الّتي توغّلت عبر النّهر والّتي تكبّدت خسائر كبيرة. بينما اسم أللنبي، الجنرال البريطاني، فهو يشير إلى فترة الإنتداب في فلسطين. هكذا من خلال اسم موقع واحد يمكن الحصول على تاريخ البلاد، وعلى إشكاليّة هذا التّاريخ.

الغربة عن الوطن والغربة في الوطن

أوّلاً: الغربة في الوطن
مع أنّ الكتابات الفلسطينيّة الّتي تتطرّق للوطن تعكس على العموم حالة نفسيّة من الإغتراب تجاه مصطلح الوطن، إلاّ أنّ ثمّة فروقًا بين توجّهات من بقي في وطنه يعيش فيه ويعايشه وبين من يمكثُ بعيدًا عنه. فالوطن، في نظر من بقي في أرضه في الجزء الّذي قامت عليه إسرائيل، قد تغيّرت معالمه وتغيّرت علاقته بالإنسان الفلسطيني الّذي يصل إلى هذه القناعة لأنّه يشاهده بأمّ عينه ويرى ما يستجدّ عليه يوميًّا. كلّ شيء فيه قد تغيّر: الطّيرُ، والأرضُ بنباتها وشجرها وينابيعها. والوطن يتغيّر ليس فقط من ناحية المعالِم الجغرافيّة، بل تتغيّر علاقة هذا الوطن بالإنسان صاحب هذا الوطن. فهذا هو سميح القاسم الشّاعر الّذي بقي في وطنه يعبّر عن هذه الحالة في قصيدة له بعنوان "وطن"، فيقول: "وماذا؟ / حينَ في وطني / يموتُ بجوعه الدّوريُّ / منفيًّا، بلا كفنِ ... / وماذا؟ / والحقول الصّفر / لا تُعطي لصاحبها / سوى ذكرى متاعبها... / وماذا؟ / والينابيع القديمةُ / ردّها الإسمنتْ / وأنساها مجاريها / فإن نادى مناديها / تصيحُ بوجهه: من أنت؟"(8).

إذن، الطّيور والحقول والينابيع تغيّرت جميعها وتبدّلت أحوالها، وها هي الآن لا تتعرّف على مناديها، صاحبها، فتصرخ في وجهه: »من أنت«؟ هذه الطّيور وهذه الحقول لم تعد تابعة للفلسطيني بل تمّ اقتطاعها ومصادرتها منه ومن هويّته، وهذه العصافير والحقول هي هي ذاتها الّتي أُسقطت من هويّة الفلسطينين ومن جواز سفره: "لم يعرفوني في الظّلال الّتي / تمتصّ لوني في جواز السّفر. .../ كُلّ العصافير التي لاحقت / كفّي على باب المطار البعيد / كُلّ حُقول القَمْح،/ كُلّ السجون، / كُلّ القُبور البيض / كل الحدود / كُلّ المناديل التي لوّحت / كُلّ العيون السود / كُلّ العيون / كانت معي، لكنّهم / أسقطوها من جواز السفر"(9).

وهكذا تمرّ الأعوام وتمّحي معالم الأرض الّتي كانت تدلّ على من سكنها قبل النّكبة، فتصبح هذه الأرض في نظر من بقي في الوطن، بمثابة حبيبة خائنة، بل وأبعد من ذلك فهي تتحوّل إلى مومس تمنح جسدها في الموانئ لكلّ عابر ووافد، وتتنكّر لصاحبها. هكذا يصفها شاعر آخر، هو طه محمد علي في قصيدة له بعنوان، "عنبر":
"آثارُنا دارسة / رُسُومُنا جُرِفت .../ وما من مَعْلمٍ واحد / يوحي بشيء / يدلّ على شيء / أو يومئ إلى أيّ شيء / لقد تقادمَ العهدُ... / الأرضُ خائنةٌ / الأرضُ لا تحفظُ الودّ / والأرضُ لا تؤتمن / الأرضُ مومسٌ / أخذت بيدها السّنين / تُدير مَرقصًا / على رصيف ميناء / تضحك بكلّ اللّغات / وتُلقم خَصْرها لكلّ وافد / الأرضُ تتنكّر لنا / تخوننا وتخدعنا.../ أرضُنا تُغازل البحّارة / وتتجرّد أمام الوافدين ....ولا يبدو عليها ما يربطها بنا."(10)

الشّاعر الّذي يعيش في وطنه يشعر بأنّ الأمور فيه قد انقلبت رأسًا على عقب،بل ويصل إلى الوعي بفقدان هذا الوطن: "غير العشّاق، الآن، همُ العشّاقُ، / غير القتلة فيك هم القتلة"، / يا وطناً يغرق في الرمز الصّوفيّ، وفي الدم،/ يا مفقوداً،... / يا وطن الأشياء المفقودة"، ولذلك فهو يتحوّل إلى مجرّد رمز فحسب: "الموتُ بلا موتٍ، / والصوت بلا صوتٍ،/ والوطن بلا وطنٍ."(11)

بعد كلّ هذه التّحوّلات، والإحباطات الّتي أصابت الإنسان الباقي في وطنه إزاء الّذي جرى له، لم يتبقّ لديه سبيل للخلاص سوى الإبتهال إلى مُخلّصٍ ينقذه من هذه الورطة. هذا المخلّص قد يُستحضر من رموز التّاريخ العربيّ، أي من الماضي، كما فعل كثير من الشّعراء، وعلى سبيل المثال فقط، نقتبس هذه السّطور من قصيدة طه محمد علي: "صفورية / ماذا تفعلين هنا / في هذا اللّيل المجوسي.../ ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟ / وأين وفود الظّاهر؟ / أين الجميع؟"(12). وهذا المخلّص، وبخلاف التّفاصيل المجسّدة للوطن المتغيّر، قد يأتي أيضًا من عالم المجاز، من عالم الإستعارة. إنّه يأتي من عالم الطّبيعة وبنبرة اتّكاليّة: كما يقول سميح القاسم: "تعالي يا رياحَ الشّرقِ / إنّ جذورنا حيّة."(13)

كلّ هذا الّذي جرى يدفع الإنسان إلى الإنزواء والعزلة، بل أكثر من ذلك إلى حالة نفسيّة تتّسم بالكآبة والإحساس بالغربة في هذا الوطن، فيشعر بالرُّعب ممّا جرى له. لهذا يشرح سميح القاسم وضعه المأساوي في قصيدة له من مجموعة أخرى، ويضع لها عنوان "الرّعب"، فيقول: "حين تغيب الشّمس، قالوا: أغيب / في حجرة من وطن / أُحرم، قالوا، من عناق الهموم / بيني وبين القمر/ يرعبهم، أعلم، بثّ الضّجر / بيني وبين النّجوم .../ وفي مغيب الشّمس، قالوا، أغيب / في حجرتي يا وطن / قالوا أكون الغريب / وأنت ملءُ البدن / فمن تُرَى يحملُ عبر الزّمن / في قلبه، وجهَكَ هذا الحبيب / ومن مغنّيكَ، من،/ غيري أنا... يا وطن؟"(14)

هكذا تتقّلص حدود الوطن إلى حجرة، إلى غرفة في هذا الوطن بها يتسامر مع همومه، لأنّه صار يُنظَر إليه بصفته غريبًا، فيضيق عالمه، وطنه، ويضيق هو بالعالَم والحياة. وحين يكون الكاتب قابعًا في زنزانة في السّجن فقد يتحوّل الوطن من مكان في الأرض إلى رمز للحريّة: "والشّرطي الّذي اجتذبته موجة الهجرة الأخيرة، يُعلنُ خَطوَه الثّقيل في باحة السّجن، يتوقّف أمام الزّنازين، يُراقِب من الكُوَى االضّيّقة رجالاً يرسفون في قيودهم... يزحف اللّيلُ بطيئًا، والشّرطي ينوءُ تحت وطأة الوظيفة وعبء الإنتصار والعيون الّتي تخترق الكُوى بَحثًا عن وطن."(15)

ثانيًا: الغربة عن الوطن
البعد عن الوطن يخلق وطنًا مُتخيَّلاً بعيدًا عن الواقع الحقيقي. في المنفى ينبني الوطن على أسس من الذّكريات، أو على أسس من الخيال. في المنفى يُبنى الوطن في الخيال كمكان مثاليّ كما لو كان جنّة اللّه على الأرض: "بعيدًا عن الوطن الممكن المستحيل / قريبًا من السّاعة المُفزعة / فتى ساهمٌ: / يا بلاد الحنان قسوتِ عليّ.../ وحين تمرّ البناتُ أذوبُ هوًى / ويُثقلني جبلٌ أرتقيه إليكِ / وتُثقلني قطرةٌ من ندى .../ تفتنني نبتةٌ / وتمتدّ حولَ عيوني البساتينُ خُضرًا..."(16)

هذه الصّورة المثاليّة للوطن، الجنّة، لم تُبنَ في الشّعر فحسب، بل في الحديث اليومي مع النّاس: "كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة أنّ فلسطين مغطّاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة."(17)

الحنين إلى الوطن لدى من خرج منه ولم يعد، إمّا بمحض الصّدفة وإمّا لاجئًا، يتحوّل إلى شيء آخر، ويحمل دلالة جديدة، فدلالة هذا الحنين تتّسع لتأخذ بعدًا جديدًا ومعنى جديدًا هو الشّهوة. تظهر هذه الشّهوة في قصيدة "الشّهوات"(18 مايو، 1992): "وأنا لم أعد أشتهي أيّ شيء / فأنا أشتهي كلّ شيء.... / شهوة لبلادٍ / نجوع ونشبع فيها ... / وفيها من الوقتِ وقتٌ نُخصّصُه / للخطايا الحميمة والغلط الآدميّ البسيط"(18). إنّها شهوة إلى فسحة في الزّمان، شهوة إلى بعض الوقت في المكان، البلاد، الّتي يمكن للإنسان أن يحيا فيها بأشيائه الصّغيرة، كأن يجوع وكأن يشبع. إنّها الشهوة إلى مكان يمارس فيه بعض الخطايا الصّغيرة، وبعض الهفوات الإنسانيّة البسيطة، فكلّ هذه الأمور، على بساطتها، تُصبح في المنافي ذات دلالات كبيرة. إنّ هذا الابتعاد عن فلسطين خلق أجيالاً من الفلسطينيّين لا تعرف عن فلسطين شيئًا، أجيالاً من "الفلسطينيّين الغرباء عن فلسطين" ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها ولا قصّته وأخباره، أجيالاً بوسعها أن تعرف كلّ زقاق من أزقّة المنافي البعيدة وتجهل بلادَها، أجيالاً لم تزرعْ ولم تصنعْ، ولم ترتكبْ أخطاءها الآدميّة البسيطة في بلادها..."(19)

فقط بعد سنين يحاول مريد البرغوثي أن يراجع حساباته الشّخصيّة مع الوطن، أن يراجع رؤيته لهذه الصّورة المتخيّلة عن الوطن. إنّه يفعل ذلك بعد عودته لزيارة هذا الوطن في العام 1996: "ما هذه التّلال، جيريّة، كالحة وجرداء؟ هل كنت أكذب على النّاس آنذاك؟... هل قدّمتُ صورة مثاليّة عن فلسطين بسبب ضياعها؟ قلت لنفسي عندما يأتي تميم إلى هنا سيظنّ أنني وصفتُ له بلادًا أخرى."(20)

ويستمرّ مريد البرغوثي في عرض ملاحظاته بنوع من الصّراحة والشّجاعة الأدبيّة فيعترف بأنّه كان يكذب على الآخرين ويكذب على نفسه: "الطريق إلى دير غسانة نسيتُ ملامحَهُ تمامًا. لم أعدْ أتذكّر أسماء القرى على جانبي الكيلومترات السّبعة والعشرين الّتي تفصلها عن رام اللّه. الخجل وحده علّمني الكذب. كلّما سألني حسام عن بيت أو علامة أو طريق أو واقعة سارعت بالقول إنّني "أعرف". أنا في الحقيقة لم أكن أعرف. لم أعد أعرف. كيف غنّيت لبلادي وأنا لا أعرفُها؟ هل أستحقّ الشّكر أم اللّوم على أغانيّ؟ هل كنت أكذب قليلاً؟ كثيرًا؟ على نفسي؟ على الآخرين؟ أيّ حبّ ونحن لا نعرف المحبوب؟"(21)

التّشبُّث بالوطن هذا مردُّه إلى الرّفض من قبل الآخر، ليس الإسرائيلي اليهودي فحسب، بل هنالك أيضًا رفض من طرف الآخر العربي، للفلسطيني الّذي وفد أو لجأ إليه. فبعد أن ترك محمود درويش الوطن طوعًا، وجاب العالم العربي واستقرّ في بيروت، وكتب عنها في شعره، لم يرق ذلك للّبنانيّين الّذين قالوا له: "هذه المدينة ليست لك، قالوا لي: إنّني غريب، فشعرت بأنّني مؤقّت هناك"(22). هذا الرّفض من ذوي القربى هو الّذي يدفع إلى البحث في الذّات عن مكان هذه الذّات في الزّمان والمكان. التّرحال الّذي صار حالة نفسيّة لدى درويش يدفعه إلى سؤال نفسه سؤالاً أزليًّا: من أنا، وأين أنا وإلى أين أنا، فيشعر بالضّياع: "وما زال في الدّرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟ / أنا من هنا، وأنا من هناك، ولستُ هناك ولستُ هنا"(23). من خلال هذا الضّياع يأخذ بالبحث مرّة أخرى عن وطن، عن معنى هذا الوطن، فيستنجد بالذّكريات، لأنّها الشّيء الوحيد الّذي تبقّى لديه من "هناك"، من وطنه: "أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ. وُلدتُ كما يولدُ النّاسُ. لي والدةْ / وبيتٌ كثير النّوافذ، لي أخوة أصدقاء، وسجنٌ بنافذةٍ باردةْ. ... / تعلّمتُ كلّ الكلام وفكّكْتُه كي أُرَكّبَ مفردةً واحدةْ / هي الوطن"(24). غير أنّه حينما عاد إلى الوطن، إلى غزّة على وجه التّحديد، بعد اتّفاقات أوسلو، فإنّه يكتشفُ شيئًا جديدًا في هذا الوطن: "زرتُ وطني. شعرتُ غريبًا جدًّا في غزّة"(25). أين هو هذا الوطن في نظر درويش؟ إنّه يجيب على هذا السؤال بنفسه: "سأرمي كثيرًا من الوردِ قبلَ الوصولِ إلى وردةٍ في الجليل"(26). فوطن درويش في نهاية المطاف هو إذن مكان صغير، وليس فلسطين الجغرافيّة بحدودها التّاريخيّة. إنّه وطن صغير يتمثّل في قرية في الجليل، مسقط رأسه، هي عنوان الرّوح الّتي يحبّ السّفر إليها من منفاه: "عناوين للرّوح خارج هذا المكان. أحب السّفر / إلى قريةٍ لم تُعلّق مسائي الأخيرَ، على سروها. وأحبّ الشّجر / على سطح بيتٍ رآنا نعذّبُ عصفورتين."(27)

خاتمة
إذن، الكتابة الفلسطينيّة، ومنذ بداية الهجرة والإستيطان الصّهيوني في فلسطين، مشغولة جدًّا بهاجس الوطن، وبما يعنيه هذا المصطلح. على مرّ السّنين يتبيّن من هذه الكتابات أنّ ثمّة فارقًا في التّوجّه إلى هذا الوطن. فالّذي يعيش في الغربة يبني له وطنًا في الخيال الّذي يرضع من الذّكريات، وكلّما اتّسعت المسافة الزّمانية والجغرافيّة بين المُتَخَيِّل والوطن كلّما اتّسمَ هذا بهالة جماليّة فيها نوع من الفنطازيا. أمّا من بقي في وطنه فهو يرى كلّ ما يجري من تحوّلات عليه، ويراه على حقيقته ويرى هذا التنكُّر النّاتج من المكان له. والفارق في علاقة كليهما بالوطن يمكن أن يُلخّص بهذه المعادلة: الّذي يعيش في المنفى يُفاجأ حين يعود للوطن بأنّه لا يعرف هذا الوطن، بينما الّذي بقي في وطنه، فإنّ الوطن هو الّذي لا يعرفُه ويتنكّر له. الّذي يعيش في المنفى تتحوّل فلسطين لديه مجرّد خيالات، مجرّد فكرة: "الإحتلال الطّويل استطاع أن يحوّلنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين"(28). بينما الّذي يعيش في الوطن الّذي يتنكّر إليه فيحاول البحث عن الوطن في أشياء أخرى، يحاول الخلاص من هذه الورطة أحيانًا عبر البيولوجيا، وهذا ما حدا بالشّاعر سميح القاسم أن يختار لابنه البكر اسم: "وطن". وفي كلتا الحالين سيبقى الحديث عن الوطن مستمرًّا وسيكتب الشّعراء والكتّاب الكثير من الكلام عنه، فسَفَر الفلسطيني هو سَفَر عاديّ لكنّه سفر في طريق باتّجاه واحد لا عودة منه، فيتحوّل الوطن المتخيَّل إلى مجرّد كلام، كلام فحسب: "نُسافرُ كالنّاسِ، لكنّنا لا نعودُ إلى أيّ شيء.../ لنا بلدٌ من كلامٍ ... / لنا بلدٌ من كلامٍ. تكلّمْ تكلّمْ لنعرفَ حدًّا لهذا السّفرْ"(29). غير أنّ الحديث عن الوطن لن ينتهي، لأنّ أمورًا كثيرة قد تتشابك فيه ممّا يجعل للنّظرة الذّاتيّة تجاهه موقعًا ووقعًا كبيرًا في النّفس. وقد ألمحَ إلى هذه الإشكاليّة شاعرٌ عربيّ قديم، إذ ربط معنى الوطن بالأشياء اليوميّة وبأسباب العيش الّتي قد تتخطّى حدودًا جغرافيّة بعينها لتتحوّل إلى نظرة كوسموپوليتيّة، قد يُطلق عليها الـمُحْدَثون مصطلح عولمة.

قال الشّاعر:

"الفَقْرُ في أوطاننا غُرْبَةٌ - وَالمالُ في الغُرْبَةِ أَوْطانُ
والأرضُ شَيْءٌ كُلُّها واحدٌ - والنّاسُ إخْوانٌ وَجِيرانُ."(30)

_____


(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،ج 3، ص 94.
(2) لهذا ورد في لغة العرب: "حَنَّتِ الإبِلُ، أي نزعتْ إلى أوطانِها أو أولادها"، إبن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 129. وقد ذكر الشّعراء العرب القدماء حنين الإنسان والحيوان إلى الأوطان كثيرًا: "كما حنّت إلى أوطانها النّيبُ".
(3) إبراهيم طوقان، ديوان، ص 54.
(4) إبراهيم طوقان، ديوان ص 54-55)
(5) حنا أبو حنا، نداء الجراح، ط 3، منشورات الطلائع، يافة الناصرة 1999، ص 34
(6) إميل حبيبي، "بوابة مندلباوم"، سداسيّة الأيّام السّتة، ص 208-213.
(7) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 15.
(8) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، عربسك، ص 522-523.
(9) محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها، 1977، ص 37-39.
(10) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، حيفا 1989، ص 115-122. هذه النّظرة إلى الوطن ليست جديدة بل كانت تكرّرت عند شعراء آخرين من قبل: "وطني... / يا امرأة تفتح / فخذيها للرّيح الغربيّة"، سميح القاسم، سقوط الأقنعة، ديوان ص 126.
(11) من قصيدة: جدليّة الوطن لعلي الخليلي، من مختارات: سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
(12) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، ص 19-23.
(13) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، ص 522-525.
(14) سميح القاسم، في انتـظار طائر الرّعد، ديوان سميح القاسم، منشورات عربسك، مطبعة السروجي، عكا 1979.
(15) محمود شقير، طقوس للمرأة الشّقيّة، دار القدس للنّشر، القدس 1994، ص 58.
(16) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 28-29.
(17) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص 35.
(18) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 86-90.
(19) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 74.
(20) (مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 35.
(21) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،، ص 73.
(22) حداريم 21، ص 178.
(23) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(24) درويش، ورد أقلّ، ص 13.
(25) حداريم 21، ص 172.
(26) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(27) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 15.
(28) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 75.
(29) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 21.
(30) اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، ص 316.

ــــــــــــــــــ

* هذه المحاضرة قُدّمت في غرناطة في ربيع سنة 2002 بدعوة من الصندوق الإسپاني العربي الّذي يستضيف كتّابًا وشعراء من العالم العربي بهدف التّواصل الحضاري بين إسپانيا والعالم العربي.

** نُشرت في مجلة "مشارف"، عدد 18، خريف 2002
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على قدر خيلي تكون السّماء

هاتان اللّحظتان الجامدتان همّا نقطة الارتكاز الّتي يقف فيها درويش في هذه المجموعة ويلقي بنظره على العالم.

ڤيسلاڤا شيمبورسكا: قصائد



ڤيسلاڤا شيمبورسكا

قصائد

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


ولدت ڤيسلاڤا شيمبورسكا (Wislawa Szymborska) في العام 1923 في بلدة بنين الواقعة شرق پولندا. ومنذ العام 1931 تسكن في مدينة كراكوڤ، حيث درست هناك الأدب الپولندي والسّوسيولوجيا. في منتصف سنوات الأربعين نشرت محاولاتها الشّعريّة الأولى. وبعد أن وضعت الحرب العالميّة أوزارها استمرّت في نشر قصائدها في الجرائد والمجلاّت الپولنديّة. بالإضافة إلى ذلك، كتبت أعمدة صحفيّة في النّقد الأدبي، ومراجعات دوريّة للكتب الصّادرة. كما ترجمت قصائد كثيرة إلى اللّغة الپولنديّة وخاصّة من الشّعر الفرنسي. لقد نالت جوائز كثيرة منها جائزة وزارة الثّقافة الپولنديّة في العام 1963، جائزة چوتة في العام 1991، دكتوراة فخريّة من جامعة پوزنان في العام 1995، وجائزة نادي پن الپولندي في العام 1996. نشرت مجموعات شعريّة كثيرة وكتبًا ومقالات في النّقد الأدبي، وظهرت أشعارها في دوريّات وأنثولوجيات عديدة. كما تُرجمت أشعارها إلى كثير من اللّغات الأوروپيّة. لُغتها الشّعريّة غنيّة، ولا تقتصر على أسلوب واحد دون سواه. إنّ تعدّد أساليب الكتابة لديها يجعل مهمّة التّرجمة لأشعارها شائكة ومضنية. ولكن، لا مناص في نهاية المطاف من سلوك هذه الطّريق بغية تقديم بعض النّفحات للقارئ العربيّ الّذي يتشوّق إلى التّعرّف على آداب الأمم الأخرى.

القصيدة لدى شيمبورسكا هي تلك السّلسلة الّتي في يد "قرد برويچل". فحينما تُمتحن في التّاريخ الإنساني ويغلبها النّسيان تأتي تلك الرّنّة الخفيفة من السّلسلة لتذكّر بما كان، وبما هو كائن أو سيكون. فالشّعر لديها ليس مجرّد لعبة للتّسلية. إنّه قاموس تُشكّل مفرداته كراتٍ معدنيّة تضرب النّاقوس الّذي يقضّ مضجعها حينما تميل هي إلى النّسيان، وهذا المعدن هو المعدن الحقيقي والأصيل للشّعر، وفيه فقط ضمان النّجاح في هذا الاختبار. وفي هذا العصر وفي هذه الحقبة كلّ شيء له مغزى سياسي، وشيمبورسكا ذات النّفس الحسّاسة لما يجري، تضع أصابعها على تلك المداولات بين أطراف نزاع في كلّ مكان، الّذين يمضون الوقت للتّداول حول شكل الطّاولة، فكلّ ذلك هو سياسة، ولكن خلال هذه السّياسة، والسّؤال حول أيّ طالة "يجدر التّداول / بشأن الحياة والموت، مستديرة أم مربّعة." في هذه الأثناء يُقتَل النّاس وتنفق الحيوانات وتتهدّم البيوت وتُصبحُ الأرض خرابًا يبابًا، كما حال سابق العصور والدّهور.

أمّا عن الشّعر، فما هو هذا السّحر الّذي طالما تساءل النّاس عن جوهره؟ كثير من النّاس من يسأل عن سرّ هذا الفنّ الكلامي. وكثير من الشّعراء يسألون ويبحثون عن إجابة. لكلّ منهم رؤيا، ولكلّ منهم تصوّر أو إحساس بهذا الجانب أو بغيره من حُجيرات هذا الكنز المكنون. "بعض النّاس يحبّون الشّعر"، لكن ليس الجميع، "لكن يمكن أيضًا حبّ مرقة الدّجاج بالمعكرونة"، تستطرد شيمبورسكا. لكنّها لا تقنع بإجابات من هذا النّوع. فكثير من الإجابات الّتي أعطيت حتّى الآن هي إجابات واهية. ولذلك فهي تستمرّ في البحث عن إجابة أكثر دقّة، حتّى تخلص في النّهاية إلى الإجابة اللاّ-إجابة: "وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا / كما بدرابزين مُنقذ".

وهنا، وفي هذا الجواب الّذي يترك الباب مفتوحًا على مصاريعه، تبقى شيمبورسكا على طريق الرّحلة الطّويلة الّتي لا نهاية لها، تبقى متلبّسة بعدم المعرفة وهذا هو الدّليل على معرفتها لحقيقة الشّعر. هذه الحقيقة البسيطة الّتي تقتصر على البحث عن الإجابات لكلّ شيء. البحث عن الإجابات العميقة لماهيّة وجوهر الأشياء. ولأنّ إجابات من هذا النّوع مستحيلة الحصول، فإنّ عمليّة البحث ستبقى خالدة، وهي رحلة في طريق ليس منها رجعة. ولأنّ هذه الرّحلة هي رحلة فرديّة فإنّ شيمبورسكا تشعر بالأمان لدى شقيقتها الّتي "لا تكتب الأشعار". أحيانًا، وحينما يكون في العائلة أكثر من شاعر فهذا يؤدّي إلى "دوّامات في العلاقات العائليّة". ولهذا فإنّ الأمان الّذي تشعر به شيمبورسكا هو هذا التّوتّر الشّخصيّ الّذي لا يقربه أحد. هذه الفردانيّة المُرعبة، ولكن المُبدعة في آن معًا.


***


قردان لبرويچل

دائمًا أفكّر في امتحان التّوجيهي:
في النّافذة يجلسُ قردان مربوطَيْن بسلسلة.
عبر النّافذة تحومُ السّماء.
البحرُ يضربُ أمواجَه.

إنّي أُمتَحنُ في التّاريخ الإنساني:
أُتأتِئُ، وترتعدُ فرائصي.
قردٌ واحد، عيناهُ عليّ، يسترقُ السّمعَ ويسخر.
الثّاني يبدو يغلبُه نُعاس.
وحينَ يعمّ الصّمتُ بعدَ سؤال،
يُشيرُ لي ليذكّرني من خلال
رنّة خفيفة بالسّلسلة.

***

رسائل الميت

قرأنا رسائل الميت كما آلهة بلا أمل،
ومع كلّ ذلك آلهة، لأنّنا نعرفُ المواقيت الآتية.
نعرفُ أيّ دُيونٍ لم تُدفَع.
مع أي رجال هرولت النّساء للزّواج.
يا لهم من مساكين هؤلاء الموتى، موتى الرّؤى الضّيّقة،
مضحوك عليهم، غير معصومين، ويحسبون كلّ شيء.
إنّنا نرى الوجوه، حركات الأيادي وراء الظَّهْر.
آذانُنا تلتقطُ صوت تمزيق الوصايا الأخيرة.
يجلسون أمامنا مُضحكين كما لو كانوا على قطع خبزٍ مطليّة بالزّبدة.
أو مُسرعين للإمساك بالقبّعات المتطايرة فوق رؤوسهم.
ذوقهم السّيّء، ناپليون، بُخار وكهرباء،
أدوية فتّاكة لأمراضٍ قابلة للشّفاء.
سُخْف أشراط السّاعة حسب القدّيس يوهانس.
جنّة اللّه الخادِعة على الأرض، حسب جان جاك...
بهدوء نراقبُ بيادقهم على لوح الشّطرنج.
أنّهم فقط الآن تحرّكوا ثلاث خانات للأمام .
كلّ ما رأته عيونهم خرج مختلفًا تمامًا.
أكثرُهم حماسًا نظروا إلينا بثقة.
اكتشفوا أنّهم سيجدون هناكَ الكَمال.

***


أبناء هذا العصر

نحنُ أبناءُ هذا العَصْر،
إنّه عصرٌ سياسيّ.

كلّ ما يحملُ يومُك من أعباء
أو ليلُك، أعباؤك أعباؤنا، أعباؤكم
هي أعباءُ سياسة.

شِئتَ أمْ أبَيْتَ،
جيناتُك ماضيها سياسي،
لونُ الجلدِ سياسي،
للعَيْن وَجْهٌ سياسيّ.

بهذه الصّورة أو تلك،
لكلّ ما تقول أصداءٌ
لكلّ سَكَتاتِك مضمونٌ أو معنى
سياسي.

حتّى إذْ تخطو في الغابة،
تخطو أنتَ خطواتٍ سياسة
على أرضٍ سياسيّة.

حتّى الأشعار الغَيْر السّياسيّة هي أشعارٌ سياسة،
وفي الأعالي يزهو القمر بنوره،
منذُ زمن، لم يعُدْ قمري بَعْدُ.
أن تكون أو ألاّ تكون، هذا هو السّؤال.
أيّ سؤالٍ يا صديقي، أجب ببساطة.
سؤال سياسيّ.

لستَ مُلزمًا أن تكون من بني البشر
لكي تكون ذا مغزى سياسيّ.
يكفي أن تكون نفطًا خامًا،
هشيمًا مُركّزًا، مادّةً خامًا مُكرّرة.

أو حتّى طاولة جلساتٍ، على شكلها
ثار جدالٌ شهورًا طويلة:
حولَ أيّ طاولة يجدرُ التّداوُل
بشأن الحياة والموت، مُستديرة أمْ مُربّعة.

وفي هذه الأثناء، قُتل أناسٌ،
نفقتْ جوعًا حيوانات،
دُورٌ التهمتها ألسنة النّيران،
وحقولٌ أنبتت البُور،
مثلما في غابر العصور
غير السّياسيّة.

***


بعض النّاس يحبّون الشِّعْر

البعض -
أقصد ليس الجميع.
ليس الغالبيّة، ولا حتّى الأقليّة.
دون أخذ المدارس بالحسبان، فهم مُضطرّون هناك،
والشّعراء أنفسهم،
هؤلاء النّاس إثنان بالألف.

يحبّون -
لكن، يمكن أيضًا حبّ مرق الدّجاج بالمعكرونة،
يحبّون الإطراءات وأزرق السّماء،
يحبّون منديلاً قديمًا،
يحبّون الإصرار على إراداتهم،
يحبّون ملاطفةَ كَلْب.

الشِّعْر -
لكنْ، ما هو الشِّعْرُ في الحقيقة.
كَمْ مرّةٍ أُعطيتْ على هذا
إجابة واهية.
وأنا لا أعرفُ، لا أعرفُ وطالما تشبّثتُ بهذا
كما بدرابزين مُنقذ.

***


ڤيتنام

يا امرأة، ما اسمُك؟ لا أعرف.
أينَ وُلدتِ؟ لا أعرف.
لماذا تحفرينَ الأرض؟ لا أعرف.
كم من الوقت تختبئين هنا؟ لا أعرف.
لماذا تعضّين يدَ المحبّة؟ لا أعرف.
ألا تعرفين أنّنا لن نمسّك بسوء؟ لا أعرف.
مع أيّ طرفٍ أنتِ؟ لا أعرف.
ثَمّةَ حربٌ فعليكِ أن تختاري. لا أعرف.
هل ما زالت قريتك قائمة؟ لا أعرف.
هل هؤلاء هم أولادك؟ نعم.

***


في مديح ذمّ الذّات

ليسَ للدّأية ما تتّهم به نفسَها.
التّساؤلات غريبة في نظر الفَهْد الأسود.
سمكة الپيرانْها لا تُشكّك بمصداقيّة أعمالِها.
الأفعى يُمدح نفسَه دونما اعتراضات.

لا يوجد ابنُ آوى ذو نَقْدٍ ذاتيّ.
الجراد، التّمساح، الشْعريّة وذبابُ الخيل
كلّها تعيشُ حياتها راضيةً مرضيّة

قَلْبُ حوت الأورْكا يزنُ مائة كيلو
لكن من جهة أخرى، فهو خفيف.

لا يوجد شيء أكثر حيوانيّة
من ضمير نقيّ
على الكوكب الثّالث في المجموعة الشّمسيّة.

***


في الثّناء على شقيقتي

شقيقتي لا تكتُب الأشعار
ولا يبدو أنّها فجأة ستنظم القصائد.
سارت على خطى والدتها الّتي لم تكتب الأشعار.
وعلى خطى والدها الّذي هو الآخر لم يكتب الأشعار.
تحتَ سقف شقيقتي أشعر بالأمان:
لا شيء سيدفعُ زوج شقيقتي لكتابة الأشعار.
ومع أنّ الأمر يُذكّر بقصيدة لآدم مكدونسكي،
لا أحد من أقربائي مشغول بكتابة الأشعار.

على مكتب شقيقتي لا توجد أشعار قديمة.
ولا توجد جديدة في حقيبتها.
وحينما تدعوني شقيقتي للعشاء،
أعرفُ أنّّها ليست عازمة على قراءة الأشعار لي.
إنّها تعمل مرقة رائعة، ودونما أن تُحاول
ولن تندلق قهوتها على المخطوطات.

في كثير من العائلات لا أحد يكتب الأشعار.
ولكن، حين يفعلون عادةً ما يكونون أكثر من واحد.
أحيانًا يفيضُ الشّعر كشلاّلات الماء عبر الأجيال،
صانعةً دوّاماتٍ في العلاقات العائليّة.

شقيقتي تعتني بالنّثْر الدّارج والمُحترم.
كلّ نتاجها الأدبي يقتصر على البطاقات البريديّة.
يكرّرُ الشّيء ذاتَه كلّ عام:
أنّها حينما ستعود،
ستروي لنا كلّ شيء،
كلّ شيء،
كلّ شيء.

***

النّهاية والبداية

في نهاية كلّ حرب
أحدٌ ما يجبُ أن يُنظّف.
النّظام أيًّا ما كان
لن يحدثَ من ذاته تلقائيًّا.

أحدٌ ما يجبُ أن يدحرَ رُكامَ الخراب
إلى جوانب الطّرقات،
حتّى تعبرَ فيها
العرباتُ الملأى بالموتى.

أحدٌ ما يجبُ أن يتلطّخ
بالطّين وبالرّماد،
برفّاصات الأرائك،
شظايا الزّجاج
والخِرَق النّازفة.

أحدٌ ما يجبُ أن يجرّ لوحًا من خشب
ليدعمَ الحائط،
يُثبّت الزّجاج في النّافذة
يُركّبَ البابَ في محوره.

هذا لا يبدو جميلاً في الصّورة
ويحتاج سنين طويلة.
كلُّ الكاميرات قد نزحتْ من زمان
إلى حربٍ أخرى.

ثَمّ حاجة للجسور من جديد
ولمحطّات القطار.
ستتمزّقُ الأكمام
من كثرة التّشمير.

أحدٌ ما، يحملُ مكنسةً في يده،
يتذكّرُ كيف كان.
أحدٌ ما يتنصّتُ
ويهزّ رأسَه الّذي لم يُنْزَع من مكانه.
لكنّ البعضَ هناك
يبدأ هذا الشّأن
يُثيرُ المللَ لديهم.

بين الفينة والأخرى، يحفرُ أحدٌ
ما تحتَ شُجَيْرَة
حُججًا قد صَدِئَتْ
ينقُلُها لأكوام الوَرَثَة.

مَنْ كانَ منهم على عِلْمٍ
بما قد حدثَ هنا ولماذا،
يجبُ أن يُفرعُ مكانًا لِمَنْ
كانَ قليلاً ما يعلم.
وأقلّ من قليل،
وأخيرًا، لا شيء.

على الأعشاب الّتي غطّت
الأسباب والنّتائج،
أحدٌ ما يجبُ أن يستلقي
سُنبلةٌ بين أسنانه
ويتأمّل الغيوم.

***


عن الموت، دون مبالغة

هو لا يفهمُ في النّكات،
لا يفهم في النّجوم، في الجسور،
في النّسيج، في حفر المناجم، في فلاحة الأرض،
في بناء السّفُن، وخَبْز الكعك.

عندَ حديثنا عن برامج الغد
يدسّ كلمتَه الأخيرة الّتي
لا علاقة لها بالموضوع.

هو لا يعرفُ حتّى في الأمور،
المتعلّقة مباشرةً بمهنته:
حَفْر القبور،
نقش التّوابيت،
لا يعرفُ التّنظيف وراء نفسه.

غارقٌ في التّقتيل،
يفعل ذلك بكثير من عدم الدّراية،
دونما أسلوب أو خبرة،
وكأنّه يتمرّن، لأوّل مرّة، على كلّ واحد منّا.

الانتصارات هي انتصارات،
لكنْ كم من الهزائم،
والضّربات الّتي أخطأت الهدف
والمحاولات المتكرّرة.

أحيانًا تنقصه القوّة
لإسقاط ذُبابَة في الهواء.
مع غير قليل من الزّواحف
خسرَ المُباراة في الزّحْف.

جميع هذه البصيلات، الأكواز
السّداسيّات، الزّعانف، قصبات التّنفّس،
ريش المُداعبة، فِراء الشّتاء
تشهد على التّأخير
في عمله الجاري بلا مبالاة.

لا تكفي الغرائز المُبيّتة،
وحتّى المُساعدة الّتي نُقدّمها له في الحروب والثّورات
هي، للآن، ضئيلة جدًا.

قلوبٌ تنبض في البَيْض.
هياكل الأطفال تنمو وتكبر.
البُذور، بكدٍّ واجتهاد، تصلُ إلى وُريقتين أولَيين.
أحيانًا إلى شجرتين سامقتين على خطّ الأفق.

مَنْ يظنّ أنّ الموت قادرٌ على كلّ شيء،
فهو بنفسه برهانٌ حيّ،
على أنّه ليس بقادر.

لا يوجد ثَمّ حياةٌ،
ولو لِرمشة عين واحدة فقط،
ليست خالدةً.

الموتُ
دَوْمًا يتأخّر في الرّمشة عينٍ هذه.

سُدًى يهزّ ألأيادي
للأبواب اللاّ مرئيّة.
كلّ ما قامَ به أحدٌ ما
لن يقدر أن يُعيده للوراء.

***


كتابة سيرة حياة

ما المطلوب؟
المطلوب أن تكتب طلبًا
وأنْ تُرفق طيّه سيرة حياة.

ودون علاقة بطول الحياة
على السّيرة أن تكون قصيرة.

تلخيص الحقائق وفرزها أمر ضروري.
إستبدال المناظر بالعناوين
والذّكريات الواهية بتواريخ ثابتة.
من بين جميع قصص الحبّ يجب تسجيل الزّواج فحسب،
ومن الأولاد فقط الّذين قد وُلدوا.

مَنْ يعرفُكَ ذو شأنٍ أكبر ممّن تعرفُهُ.
والسّفرُ فقط إن كان لخارج البلاد.
الإنتماء لـ"ماذا"، لكن ليس لماذا.
شهادات التّقدير دون التّبريرات.

أُكتبْ كما لو أنّك لم تتحدّث مع نفسك أبدًا
وكأنّك التففتَ على نفسك من بعيد.

تجاهل الكلاب، والقطط والعصافير،
الهدايا القديمة، الأصدقاء والأحلام.

السِّعْر وليس القيمة
العنوان وليس المضمون.
رقم الحذاء وليسَ الغاية الّتي يذهبُ
إليها هذا المفروض أن يكون أنت.

مع ذلك يجب إرفاق صورة مع أذنٍ مكشوفة.
شكلها فقط يُؤخذ بالحسبان، ليس ما يُسمَع
ماذا يُسمَع؟
صرير الماكنات الّتي تطحن الورق.

***



نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 13، 1997


Wislawa Szymborska, "Selected Poems", translated by Salman Masalha, Masharef 13, Haifa 1997

حاييم غوري: "خلخال ينتظر الكاحل"، قصائد



حاييم غوري

"خلخال ينتظر الكاحل"

ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة



ولد حاييم غوري (Haim Gouri) في تل أبيب في العام 1923، وبهذا يكون قد نشأ وترعرع في فترة الانتداب البريطاني في فلسطين فكان شاهدًا على ما جرى فيها من أحداث مصيريّة حتّى حصول النّكبة الفسطينيّة وقيام دولة إسرائيل. في العام 1941 إنضمّ چوري إلى كتائب الـ "پلماح" (وهي تعبير عبري مركّب من كلمتين، پْلُوچُوت ماحَتْس، أي الكتائب السّاحقة، أو الصّاعقة)، الّتي حاربت إبّان الانتداب البريطاني قبل قيام دولة إسرائيل، ولاحقًا انخرط في صفوف الجيش الإسرائيلي حتّى تمّ تسريحه. درس حاييم غوري الأدب في الجامعة العبريّة في القدس، كما درس الأدب الفرنسي في جامعة السّوربون في پاريس. حاز جوائز أدبيّة مختلفة، منها جائزة "بيالك" للعام 1975، ثمّ جائزة إسرائيل للعام 1988.

أهارون شبتاي | شيزوفرينيا الوطن


أهارون شبتاي


"شيزوفرينيا الوطن"



(قصائد)


ترجمة وتقديم

سلمان مصالحة



ولد أهارون شبتاي في تل-أبيب في العام 1939. درس التراث الإغريقي والفلسفة في الجامعة العبريّة وهو يعمل الآن مُدرّسًا للأدب العبري في جامعة تل-أبيب. ينتمي إلى جيل الشّعراء العبريّين الّذين ترعرعوا مع قيام دولة إسرئيل، ويُعدّ من أبرز مترجمي الدّراما الإغريقيّة إلى اللّغة العبريّة حيث يواصل مشروعه هذا منذ سنوات، وقد ترجم حتّى الآن 24 عملاً دراميًّا إغريقيًّا من الأصل الإغريقي إلى اللّغة العبريّة. له مؤلّفات شعريّة كثيرة حيث نشر منذ العام 1966 ستّ عشرة مجموعة شعريّة بالإضافة إلى مؤلّفات وكتابات أخرى.

لا نبيّ في وطنه


وبخلاف الفلسطيني اللاجئ الّذي يكتشف إنّه قد رسم صورة خيالية لوطن لا يعرفه، فإنّ الفلسطيني الباقي يكتشف على مرّ السنين أنّ البلاد هي الّتي لا تعرفه، هي التي تتنكّر إليه...

برايتن برايتنباخ: "الحياة في مكان آخر"



برايتن برايتنباخ


"الحياة في مكان آخر"



ترجمة وتقديم: سلمان مصالحة


"الكتابة هي نوع من الانتحار"، كما يقول الشاعر برايتن برايتنباخ (Breyten Breytenbach). لقد عرف هذا الأمر "على جلده"، كما نقول، من خلال ما جرى له مع نظام التفرقة العنصرية الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا طوال عقود من الزّمن. المجموعات الشعرية الأولى التي نشرها برايتنباخ كُتبت بلغة أمّه، الأفريقانيّة، أي لغة المستوطنين البيض في القرن الأفريقي. في أعقاب نشرها، حظيت مجموعاته هذه بإعجاب النقاد الذين أطلقوا عليه لقب "دانتي أفريقي".

آچي مشعول: قصائد


آچي مشعول

قصائد

ترجمة: سلمان مصالحة


ولدت آچي مشعول في هنغاريا في العام 1946. متزوّجة وتعيش مع عائلتها في قرية زراعية هي كفار مردخاي في جنوب إسرائيل.نشرت آچي مشعول حتّى الآن ثماني مجموعات شعريّة وحازت على جوائز أدبيّة متعدّدة بينها جائزة رئيس الحكومة وجائزة يهودا عميحاي.تُعدّ آچي مشعول من أبرز الأصوات الشّعرية العبرية النسائية المعاصرة. الحياة القروية، بنباتها، حيوانها وطيرها، إضافة إلى الألوان والرّوائح كثيرًا ما تنعكس في شعرها الّذي تصعب أحيانًا ترجمته إلى لغات أخرى بسبب الإشارات والتّلميحات التي تستند إلى لعبة لغوية هي من صميم اللغة العبرية. لا يخلو شعرها من أيضًا من نبرة الدعابة والسخرية الذاتية التي يحاول الشعراء عادة الابتعاد عنها.
الجسد والإيروطيقا لهما مكانة خاصّة في شعرها، ومن خلال لعبة الحبّ الجسدانية إنّما هي تريد الوصول ليس إلى المتعة في التعبير التجسيدي فحسب، بل أبعد من ذلك، إنّها تطمح إلى الوصول إلى متعة التعبير التجريدي في اللغة.

هذه هي المرّة الأولى التي تترجم قصائدها وتُنشر باللغة العربية.


***

يَدٌ وَاحِدَة

يَدٌ واحدة تَخْلطُ الكَرَنْب
يَدٌ واحدة تُديرُ قُرْصَ الحُبّ 
يَدٌ واحدة تَنْقرُ في الأَنْف
 يَدٌ واحدة تُصَفّقُ بالكَفّ
 يَدٌ واحدة تُمْسِكُ بالقَلَم
 يَدٌ واحدة تَطيرُ كَالجناح
 يَدٌ واحدة تُخْفِي يدًا 
تُخْفِي يدًا تُخْفِي يدًا 
وَطْرُومْپِلْدُور كانَ أَجْذَم
 يَدٌ واحدة في المِحْراث
 يَدٌ واحدة كانَ أَجْذَم 
***


  السّهل الدّاخلي
 هنا 
في السّهل الدّاخلي 
 أرعى مع الووكمان في المَرْج
 أنتقي لي عصا
 أفتحُ كوز رمّان
 أصفُرُ للكَلْبَة

 إلى قائمة الأشياء 
الّتي تُسبّب لي قُشَعْريرة أضفتُ هذا الصّباح 
بيلي هوليداي تُغنّي:
I'm so lonely.

***

  تَجَلٍّ  
في الصّباح الباكر جدًّا 
رأيتُ على حبلِ غسيلي 
ملاكًا ورديًّا عالِقًا في مِلقَط
 وقطًّا أسْوَدَ  
تحتَهُ 
 يُحاولُ الإمساك 
 بِكُمّه. 
***


  أنفخ الرّوح

 أتذكّرُ‏ ‬خطابًا صغيرًا كنتُ‏ ‬كتبتُه
بيني‏ ‬وبين نفسي‏ ‬عن
أنّي‏ ‬أردعُ‏ ‬حياتي
كي‏ ‬أُنصتَ‏ ‬للشِّعْر
الّذي‏ ‬سيأتي‏ ‬إذا ما
اختصرتُ‏ ‬الطّريقَ‏ ‬إليه

بدلَ‏ ‬ذلك أنا أنفخُ‏ ‬الرّوح
في‏ ‬عشيقٍ‏ ‬ما مرحوم

أُجندلُه بسِنان القَلَم‏ ‬
على حلبة الورقة
وأعدّ‏ ‬حتّى تسعة‏.‬

 *** 


نوكطورن I 
(‬أ‏)‬
داخل البيت
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
السّكّر في‏ ‬القارورة
الخبز في‏ ‬صندوق
الخبز،
السّكّين في‏ ‬الجارور
الطّعام في‏ ‬الجفنة،
الرّياح العاتية
بين ثنايا السّتارة
الشّيء فوق الآخر
الملاحف
المخدّات،
الكلاسين
والصّدريّات،
كلّ‏ ‬شيء مخزون‏:‬
الموسيقى في‏ ‬شقوق الإسطوانات،
الفأر في‏ ‬العليّة
الأشياء المرفوضة‏.‬

‏(‬ب‏)‬
إذا قامت المرأة من فراشها
وفتحت البرّاد،
يمكن رؤية محيّاها،
يمكن رؤية نظراتها
في‏ ‬الجبنة الّتي‏ ‬تنظر إليها من ثقوبها،
لكن في‏ ‬هذا الضّوء الشّاحب،
يُرى جوعُها مفتوحًا
على ضوء آخر
وليس للأزرق المتراقص
في‏ ‬شاشة التّلفزيون،
وليس للأحمر‏  ‬المُشعّ
من ساعة المُنبّه،
أو لنيون القمر
الّذي‏ ‬يُشعّ‏ ‬أباجورةَ‏ ‬روحها‏.‬
هي‏ ‬بحاجة‏ ‬
إلى ضوء آخر
في‏ ‬اللّيل المُنتظِر كأريكة جلد سوداء
لابتلاعها‏.‬

‏(‬ج‏)‬

لا أقف هكذا دونما سبب في‏ ‬اللّيل
مائلة نحو المغسلة
أُشْغلُ‏ ‬مَنْصِبي
وأغنّي‏ ‬للبعيد‏:‬
سرب أسماك مسافرة

لأنّ‏ ‬كلّ
ما لَهُ‏ ‬حَوْلٌ‏ ‬وقوّة
يبتعد عن الأرض‏:‬
دخان المدخنة،
الصّلاة،
قفزات السّعادة

لكنّ‏ ‬أهل البيت‏ ‬يتنفّسون كما الأغنام
نائمون في‏ ‬الغرف واللّه حارسهم

وتحت البيت مياه الجَوْف
وتحت الجَوْف
لاڤا من الكسل‏.‬ 
***  


وداع

 "أپريل هو أَلأمُ الشُُّهور يخلطُ الذّاكرة بالشّبق" ت. س. إليوت
 
عِقابًا لكَ‏ ‬على موتِكَ
ينفونكَ‏ ‬الآن
إلى مدينة جديدة،
بيوتُها صَغيرة‏.‬

مُلتفعًا بثياب التّرحال
البيضاء‏ -‬
الموضة العتيقة ذاتها،
يُجرّدونكَ‏ ‬من اسْمِكَ
الشّخصي

وغَصْبًا عنكَ
حَوْضٌ،‏ ‬قَسيمة صفّ
تُعطيكَ‏ ‬عنوانًا آخر‏.‬

وأنا أَخِزُ‏ ‬أصابعي
بأشواك الـ‏ »‬بْلُو مُونْ‏« ‬الزّرقاء
الّتي‏ ‬تنشرُ‏ ‬رائحتها الطريّة
من حضني

وأَرَى كيفَ‏ ‬يَشْتُلُونَك
في‏ ‬بُستان المَوْتَى الكبير
وما مِنْ‏ ‬مَطَر،
حتّى أكثرُهُ‏ ‬رياءً،
سَيُنبِتُكَ‏ ‬ثانيةً
أبَدًا‏.‬

***


 الهدوء
 أنا هُدُوءُ الغُرْفَة. 
كُلَّمَا دَقَقْتُ 
غَلُظَ الصَّخَبُ فِي رُؤُوسِكُمْ.
 أَنا مَنْ يُخَمِّرُ الكَلِماتِ الَّتِي سَتَأْتِي. 
أنَا الحُفْرَةُ الَّتِي يُمْكِنُ مَلْؤُهَا بِالكَلِمَة. 
لَنْ تُفْلِحُوا بِالإفلاتِ مِنِّي،
 أَنا الطُّمَأْنِينَةُ فِي قَلَقِ جَسَدِكُمْ 
أَنصبُ لكمْ كمينًا 
في طرفِ أياديكُمْ المبسوطة 
الضّحكات القهقهات 
الحركات الخفيفةعلى الكرسي.
 أنتم تقلمونني من رؤوسِ الأظافر،
 تلتقون بي في السّقف 
 في الجدران في الأشكال الغريبة 
الّتي تنبتُ في البلاطات.
 أنا الإنصاتُ الكامن في كلّ شيء 
أنا هو من ينبلجُ فيكم 
الآن.
 ***
 وفاق
 أبي العجوز، المُنهَك، 
عادَ من بين الأموات 
ليغفو في صالوني 
على الأريكة الجلديّة. 
جاء بثيابه الجميلة -
 بدلة، ربطة عنق، 
أوروپيًّا ألقت به رجلاه 
بين آسيويّين. 
أنا الآن 
صرتُ والدةً لوالديّ 
ولا شائبةَ بقلبي تجاهه
 أقترب منه من الوراء 
وأربّتُ على كتفِهِ 
كَفِعْلِ رجلٍ على كتفِ زميلِه: 
"يا لكَ مِنْ ساذج يا أبي"
 أقولُ لهُ،وأقصدُ صنفَ الرّجالِ 
الّذِي انَكُتبَ عليَّ أنْ أعشقَهم 
طوال عمري بسببه. 
*** 

قصيدة حبّ 
علامَ ترحلُ بعيدًا 
بحثًا عن العجائب، 
بينما هي بين رجليّ؟ 
تعالَ إليّ عميقًا  
إلى رحمي  
لأنّ المساءَ أرخى سُدولَهُ
 وَانطفأَ البُرتقال.
 *** 

پاپوا نيو-غيني
 أُحبُّ أنْ أقول پاپوا نيو-غيني. 
وإلاّ لَـمَا كُنتُ أَتيتُ إلى هُنا.
 زَوْجي أنطونيو يَضُمّنِي من الوراء 
ويهمس قَبلَ أنْ ينام:حِبِّيني أَكْثرَ ممّا أُحبُّكِ 
وَأنا ألاطِفُ وجَهَهُ وأُحبُّهُ أكثرَ ممّا يُحبّني
 وعلى كلّ حال لا يَهمّني لأُسبوع أَنْ أحبّه أكثر، 
في نِهايةِ المطاف صَعْبَةٌ حَياةُ سفير الپُرتغال: 
الدُّولُ العُظمى تُهَدِّد وَلَيْلُهُ أَرِقٌ بَحْثًا عن 
العصر الذّهبي في المستعمرات، 
كلمات مثل أنچولا، ماكاو، كوشين ونامپولا 
 تُبحر للوراء كسفنٍ خشبيّة عتيقة في دمِهِ 
وتُحَوِّلُ شَخِيرَهُ نُواحًا وغَيْرَ مرّةٍ يَتَشَرْدَقُ قَلِقًا مَهْزُومًا. 
وَلِمَ لا؟ يَسْتحِقُّ أَنْ أُحبّهُ أكْثرَ.
 أَنا كريمةٌ وَأَمْلَؤُ الذّراعين الجديدتين اللّتين تَضمّانني 
 في حين قلبٌ غريبٌ يَحُثّني  
على أنّ العصافيرَ في پاپوا نيو-غيني 
غَنيّةٌ بالألوان وَصَوتَها جَميلٌ جدًّا ومُغْرٍ، 
وعَبْرَ السّتارة هناك يُضيءُ القَمرُ أَيضًا حَياتِي السّابقَة.
 يا لي مِنْ حِرباء ماهرَة. عندما أزْحَفُ على پاپوا نيو-غيني
 أُبَدّلُ ألواني بألوانها،وعندما أزْحَفُ على جَسَدِ أنطونيو 
 أُبدّل ألواني بألوانهِ، إذ يجب أَخْذَ كلّ َما تمنحُهُ الحياةُ 
وَأنا آخذُ يَعْنِي أَمْنَحُ. زوجي مُرَتّبٌ للغاية. 
حتّى البابا المعلّق على حائطِ غُرفةِ نومِنا 
يبتسمُ راضيًا عن التّرتيب الخالص: 
 نَعْلٌ حَذْوَ نَعْلٍ، القميصُ والبنطالُ مَطْوِيّان، 
ساعةُ اليدِ على الـمنضدة.  
زوجي لا يحبّ أن أنامَ مع السّاعة. 
 لكنّى أحبّ في اللّيل توزيعَ إيقاعاتِ نبضِ القلب 
والصّلصلةَ الدّيجتاليّة إذْ هُوّةٌ ساخرةٌ ممتدّة بينهما.
الآن أنا أَطْمَئِنُّ في جَسَدِهِ اللّذيذ، 
 يَسُوعُ الذّهب المُتدلّي من عُنقِهِ بارتخاءٍ، 
مَغْميٌّ عليهِ ويداعبُ جلدي.
أنا يهوديّة ونحنُ عاريان. 
ماذا يُفَكّرُ عَنّا يوحنّا اللاّبسُ المُعْتَمِرُ قُبّعةً 
وبيدِهِ العَصَا. 
واحد- اثنان -ثلاثة 
هُوَ أَحَشويروش 
 وأنا زوجةُ السّفير في پاپوا نيو-غيني.
***


نشرت في فصلية "مشارف"، عدد 17، 2002
____

אגי משעול, "שירים", תרגם לערבית: סלמאן מצאלחה, משארף, מס' 17, 2002


Agi Mishol, "selected poems", translated by Salman Masalha, Masharef , No. 17, 2002




مزامير تبحث عن ذاتها



سلمان مصالحة || مزامير تبحث عن ذاتها


ورد في الحديث: "من استمع الي قينة صُبّ في أذنيه الآنك يوم القيامة"، رواه السّيوطي في الجامع الصغير. والآنك هو الرّصاص المذاب.

وإذا كان هذا ما ينتظر المستمعين، فما من شكّ في أنّ الأمّة العربيّة قد امتلأت آذانها رصاصًا مُذابًا منذ زمن، وفي هذه الحياة الدّنيا قبل أن تقوم السّاعة. أقول امتلأت آذان العرب بالآنك، إذ يبدو أنّهم ما عادوا يسمعون ما تعرضه هذه الإذاعات والفضائيّات من غناء وموسيقى. ففي هذا الفضاء المشحون بكلّ ما يعكّر الذّوق العربي، هنالك لحظات يعود بها الفرد إلى حديث آخر، فيقول في نفسه إنّه كان من الأجدر أن يؤخذ بهذا الكلام: روى الإمام أحمد في مسنده : عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني ان أمحق المزامير والكِبارات يعني آلة تشبة العود – والمعازف والأوثان التى كانت تعبد في الجاهلية ". وأوثان الجاهليّة الجديدة هي كلّ هؤلاء المغنّين والمغنّيات الّذين أضحوا أوثانًا يطوف حولها الشّبان من جيل العربان وهم يبحثون عن مكان في هذا العالم وفي هذا الزّمان. وهذا الزّمان الرّديء يفرض نفسه عليك غير آبهٍ برغباتك، بحياتك، بأحلامك، بكلّ ما يختلج في سريرتك، في سرّائك وضرّائك. وما أدراكَ ما السّرّاء وما أدراكَ ما الضّرّاء؟

غير أنّ ثمّة لحظات
يرى فيها الفرد ذاته مجرّدة من كلّ هذه المنغّصات، وما أكثرها في هذا الفضاء العربي الرديء، لغةً وفكرًا ولحنًا. ومن بين هذه اللّحظات لحظات الإنصات إلى ديسك جديد صدر حديثًا عن مركز الأرموي لموسيقى المشرق بفلسطين. إنّه "مزامير" الموسيقى خالد جبران مؤلّفًا وعازفًا بمشاركة تامر أبو غرالة- بزق باص، هومان بور مهدي - زارب ودفّ، ربيع جبران - صوت. وهذا العمل يتألّف من ستّ مؤلّفات هي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چرواند، والصلب.
نقرأ في تقديم خالد جبران لهذا الدّيسك: "كُتبت هذه المقطوعات خصّيصًا لآلات موسيقيّة بعينها كالعود أو البزق، وهي تضع الآلة الموسيقيّة في قلب عمليّة الإبداع، وبخلاف المعهود تُخاطب المستمع مباشرة دون وساطة الكلمة المغنّاة ودلالاتها اللّغويّة. فهي إذن موسيقى تتحدّث عن نفسها". وفي نهاية التّقديم يقول: "أُلّفت هذه المقطوعات خلال أعوام الانتفاضة الأخيرة كمنفذ وحيد أُتقنه مُجيبًا على سؤال يومي يُطرح على كلّ عربي وشرقي: من أنت؟".
وهكذا نرى أنّ الموسيقى الّتي أرادت أن تتحدّث عن نفسها دون وساطة الكلمة، هي في الحقيقة أسيرة داخل سجن هذه الكلمات الّتي تُحدق بها من كلّ جانب. فالسّؤال الّذي يرغب خالد جبران في الإجابة عليه لا يمكن أن يتبلور ويُعرَض على الأسماع إلاّ من خلال هذه الكلمات المنطوقة الّتي تفرق بين الإنسان وسائر المخلوقات. ومن هذه النّقطة ينطلق الدّيسك متكلّمًا بلغة الموسيقى، وفي الوقت ذاته يحسّ المستمع بكلّ هذا الكلام الّذي لا يُباحُ لفظًا، بل يتحرّك في ذهنه ويرنّ في أذنه، شاء ذلك أم أبى.


يحمل الدّيسك المستمع
على ظهر الآلات الموسيقيّة، من البزق والعود والطّبلة، في الحقيقة زارب ودفّ، في هذه الرّحلة الطّويلة للبحث عن الذّات. فالبزق ينقلك إلى أصفهان وإلى ذلك المكان الّذي بدأت منه الموسيقى الشّرقيّة. ورغم الصّوت المعدني لآلة البزق إلاّ أنّ العمل يرغمك على الإنصات والإبحار معه إلى عوالم أوّليّة تفوح منه معاناة المشرق على روائحها الصّحراويّة. ثمّ يأتي العود هذه الإله ذات الحشرجات الّتي تختزل في آهاتها المتثاقلة شِعاب الصّحراء فيأخذك في سفر عميق بين كبوات وانتفاضات حياة عربيّة لا ترغب في الرّحيل بعد عن هذه الرّمال والكثبان الّتي تلفّها من كلّ جانب. وبين الزارب والدفّ والعود والبزق، أي في مسرح النّغمات الّتي تفترق في جواهرها، ما بين ثنايا البطن الّتي هي وطن آلة الطبلة على اختلافاتها وبين الأذن الّتي هي وطن آلة البزق، يفترق عشّاق الهوى بين سماع منفتح على آفاق لا تنتهي وبين مكان محاصر في هذا الزّمان. حتّى ينتهي بك إلى هذا الصّلب الّذي يختتم الدّيسك، حيث تأخذ الآلات بتجميع المشاعر وتلهيبها نحو ما هو آت من عملية الصّلب. والغريب في هذا المقطع من الدّيسك هو أن المستمع يجد نفسه متماثلاً مع عمليّة الصّلب. لكنّ السؤال هو، هل نحن الصّالبون أم المصلوبون؟ وهذا السؤال، على غرابته، يحوي بداخله الإجابة في نهاية المطاف، إذ أنّه يخترق الحدود الّتي تفصل بين العقائد الّتي يتشكّل منها المشهد الوجودي لهذا الوطن.

بهذا الدّيسك يستطيع المستمع العربي
أن يقول أنّا جزء من هذه البشريّة، لي ما لها وعليّ ما عليها. وفوق كلّ ذلك لا يشكّل الدّيسك انصهارًا في العولمة، بل هو انفتاح واسع على العالم، وفي الوقت ذاته يعرض نفسه حافظًا لبعض ما تبقّى من هويّة خصوصيّة. لكن، ومن جهة أخرى، ما هي هذه الهويّة؟ فلو نظرنا إلى عناوين المقطوعات الّتي يشملها الدّيسك، وهي على التّوالي: أصفهان، سفر، بلو دايڤ، إيراني، أندر چراوند، الصّلب، بالإضافة إلى اسم الدّيسك، مرامير، نرى أنّ عنوانًا واحدًا فقط، هو سفر، له نكهة عربيّة من ناحية الدّلالة المؤسِّسَة للعاطفة العربيّة الصّحراويّة. أمّا سائر المقطوعات فتستمدّ دلالاتها من عوالم تقع خارج جزيرة الموسيقى العربيّة. فهل هذه التّأثيرات الخارجيّة هي هي الّتي جعلت الموسيقى تُعدّ من عمل الشّيطان في نظر العربان؟ كما روى ابن أبي الدّنيا في كتاب "مكائد الشّيطان": "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنّ ابليس لما أُنزل الى الأرض قال : يارب انزلتني الى الأرض ، وجعلتني رجيما، فاجعل لي بيتًا قال: الحمام ، قال: فاجعل لي مجلسًا قال: الأسواق ومجامع الطرقات، قال: فاجعل لي طعامًا قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابًا، قال كل مسكر قال: فاجعل لي مؤذنًا، قال المزمار". إذن، وإذا كان كلّ هذا هو أنت، فمن أنت أيّها العربي؟ ولكن، حتّى وإن لم يحصل المستمع على إجابة على السؤال: من أنت؟ فربّما يكون انعدام الإجابة على هذا السّؤال هي في الواقع الإجابة الحقيقيّة والصّادقة عليه.

وعلى كلّ حال،
يظلّ الاستماع إلى هذا الدّيسك تجربة موسيقيّة عربيّة رائدة، تتحدّث إلى النّفس بلغة الآلات الموسيقيّة، الشعريّة والشعوريّة في آن. ومن يتحدّث بهذه اللّغة الموسيقيّة أو يستمع إليها لا يمكن أن يتحوّل قردًا أو خنزيرًا، كما ورد في الحديث الّذي رواه ابن ماجة في سننه: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :ليشربن ناس من أُمّتى الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات. يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير". ربّما كان على العكس من ذلك تمامًا، فمن لا يستمع إلى أو من لا يستمتع بهذه اللّغة الموسيقيّة، ربّما هو الّذي سيُضحي قردًا أو خنزيرًا، أو ربّما يُصبّ في أذنيه الآنك.

أليس كذلك؟

أغسطس 2005
***

المقالة في إيلاف
____________________________________

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!