طريق الغور

قصّة قصيرة

سلمان مصالحة || طريق الغور


السّتارة الّتي أُسدلت على النّافذة الواسعة لم تقم بما أُنيط بها من مهمّات. كانت اليد الّتي سحبتها ببطء ليلة أمس قد وضعت على عاتقها مسؤوليّات غير عاديّة. اليد التي ارتفعت بحركة بطيئة وأمسكت بطرف منها ودّت أن تفعل هذه السّتارة أمرًا ما؛ أن لا تسمح مثلاً لضوء الشّارع ليلاً، أو ضياء الصّباح أن يدخلا أو أن يتدخّلا بما لا يعنيهما، أو على الأقلّ أن لا يسترقا لحظات تلصُّص لذيذة على ما تُخفي الغرفة من أسرار. ولكن، يبدو أنّ إرادة السّتارة قد اشتهت غير ما اشتهته اليد في ساعة متأخّرة من اللّيل. امتدّت اليد راسمة خطوطًا متعرّجة في الجسد العاري، كاشفة نتوئًا في الصّدر مدوّرة مثل كثبان رمل في صحراء داكنة ناعمة.
هل للسّتائر إرادة من ذاتها؟ سأل هلال نفسَه وهو ينظر إلى تَعرُّجات السّتارة محاولاً استخدام فراسته الطّبيعيّة، الّتي لا تُخطئ عادة في حُكْمه على بني البشر. حاول أن يختبر فراسته هذه المرّة على السّتائر. للسّتائر طباع كطباع بني البشر، همسَ لنفسه في فضاء الغرفة بصوت خفيض وقع صداه في أذنيه، فانتبه إلى أنّه قد غرق لحظة وغاب في شطحة صباحيّة طارئة.

مرّ بنظره ثانية على التواءات السّتارة التي تمايلت لعبور نسائم صباحيّة خفيفة من شقّ صغير أبقته اليد ليلة أمس. ها هو الآن في هذه العتمة يحاول أن يتذكّر لون السّتارة، نسيجها وخطوط نقوشها، يحاول جاهدًا أن يرى في هذه الأمور ما قد يكشفُ عن طبع خاصّ يميّزها عن سائر السّتائر. عندما وصل، في ساعة عصر أمس، لم ينتبه إلى كلّ هذه التّفاصيل، فرأسه كان منهمكًا بتفاصيل التواءات وتعرُّجات أخرى. نهض من السّرير، وألقى نظرة على السّاعة المتروكة على الطّاولة. السّاعة الآن هي الثّامنة صباحًا وهذه ساعة مبكّرة، على الأقلّ في هذا المكان الّذي وجد نفسه فيه.

حاولَ هلال أن يفهم لماذا يُشْغلُ بالَهُ بكلّ هذه الأمور الآن، وهل نسيَ أنّه موجودٌ في لحظة غير عاديّة ومكان غير عاديّ. هل نسي أنّه موجود في فندق، وهل نسي أنّ ستائر الفنادق لا تختلف كثيرًا عن بعضها البعض؟ كانت موظّفة الإستقبال في الفندق، وتمشّيًا مع آداب المهنة، قد رحّبت به بوجه بشوش عندما وصل عصر أمس. بعد أن فحصت جواز السّفر وتأكّدت من ترتيبات الحجز المسبقة سلّمته المفتاح فتوجّه خطوات معدودة نحو المصعد الّذي أقلّه إلى الغرفة.

فقط ما يجري وراء هذه السّتائر، أضاف بينه وبين نفسه، هو الّذي يختلف من مكان لآخر، ثمّ استدرك، أو قد لا يختلف. ستائر الفنادق، أضاف محاولاً الإفلات من براثن هذه الهواجس، أينما عُلّقت، إن كانت في پاريس أو في القدس أو في عمّان هي هي فلماذا، إذن، يشغل باله بها الآن.

ما أن قفزت كلمة عَمّان من بين شفتيه كما لو كانت حروفًا أولى يلفظها طفل يكتشفُ القدرة على الكلام، حتّى انتبه فجأةً إلى أنّه موجود في هذه المدينة الآن في هذه السّاعة من صباح أحد الأيّام من شهر آب اللّهّاب. كفَّ عن الغوص والبحث عن إجابات على كلّ هذه التّساؤلات، نظر مرّة أخرى إلى التواءات السّتارة، ورويدًا رويدًا رحلت عيناه في فضاءات الغرفة على غمامة نديّة من غباش صباحيّ خفيف، كما لو أنّه أفاق من حلم غريب لا يتذكّر الآن مجمل تفاصيله.

***
- ما الّذي تبحث عنه هنا في هذه البلاد؟ سألَه، بعد فترة من الصّمت طالت قليلاً، سائقُ التّاكسي الّذي أقلّه من الجسر، بينما كان يخرج من جيب في باب السّيّارة القريب منه علبة سچائر عارضًا عليه أن يجرّب واحدة من هذه الـ»مصنوعة محليًّا«، مُشدّدًا على هاتين الكلمتين. لم يفهم هلال من تشديده هذا إنْ كان جاء بغرض التّعبير عن روح وغَيْرة وطنيّتين أم أنّه فقط لمجرّد المزاح الشّعبي الّذي صار سمة لازمة لسائقي سيّارات الأجرة. لم يكن لدى هلال أيّ نيّة بالدخول في حديث متشعّب مع السّائق وفي هذه اللّحظة بالذّات، لأنّه كان غارقًا في هواجس وانفعالات لم يرغب في أن يلقي إليه أحدٌ، كانَ مَنْ كان، قشّة أو حبلاً من حبال الرّيح للنّجاة منها. فكم بالحريّ إذا كان هذا الأحد هو واحد من جمهرة سائقي التاكسيّات الّذين اتّخذوا من الحديث مع المسافرين مهنة أخرى لهم تنضاف إلى مهنتهم المرهقة.

عندما وقعت عينا هلال على علبة السچائر بيد السّائق، سارع فسحب من حقيبته علبة سچائره هو. كان يظنّه غير مُدخّن، ولم يشأ أن يزعجه بدخان سچائره، مع أنّه في الطّريق وَدَّ أن يتناول سيچارةً من علبته، أن يمتصّها ببطء كعادته، ثمّ ينفث معها أنفاسه المتسارعة انفعالاً ممّا تشاهد عيناه الآن، وممّا ستشاهداه عمّا قليل.

في الطّريق الّتي تقطع غور الأردن جنوبًا قبل الإلتفاف يسارًا والصّعود في ثنيّات الجبل، فكّر هلال في أمر السّيچارة قليلاً غير أنّه عدل عن الفكرة محدّثًا نفسه: حاولْ، يا رجل، أن تكبت شوقك لهذه النّار الدّاخنة، فالمسافة ليست بعيدة ويكفيك نارُ هذا الغور المُغبرّ في هذا اليوم من شهر آب. ثمّ احفظ، أضاف لنفسه، شوقَك هذا لهذه النّار، فهناك وراء هذه التّلال الجرداء، من ينتظر هو الآخر، على أَحرّ من الجمر، الإقتباسَ من هذه النّار الّتي تضطرم في أعماق نفسك.

عندما سمع هلال عرض السّائق عليه سيچارة، اعتذر عن عدم قبوله العرضَ بتناول سيچارة »وطنيّة«، معلّلاً ذلك بأنّه لا يغيّر سچائره إذ أنّ التّغيير يسبّب له قحّة »وطنيّة« معهودة. أشعل كلّ واحد منهما سيچارته وخيّم الصّمتُ من جديد على السّيّارة. فتح هلال نافذة السّيّارة قليلاً لاستنشاق هواء نقيّ قدر الإمكان في هذا المكان والزّمان من جهة، ولنفث دخان سيجارته خارجًا حتّى لا يتحوّلا هو والسّائق إلى جُثّتين مُدَخَّنتين في هذه العلبة المعدنيّة. دسّ هلال رأسه في النّافذة وواصل تفحّص هذه الطّريق ومعالمها. فقط صوتُ محرّك السّيّارة اللاّهث في هذه الطّريق الصّاعدة في السّفوح الصخريّة الجرداء ذَكّرَه الآن برحلاته المتعدّدة في الجهة الأخرى من نهر الأردن. ها هي كلّ هذه العلامات على الطّريق الّتي كان يمرّ بها في طريقه شمالا، ولكنّه الآن يراها بحجم أكبر، وعن كثب.هذه هي المرّة الأولى الّتي يسلك فيها هذه الطّريق.

طوال سنين كان يُسافر في الجهة الأخرى من الغور. كان، قبل أن يقتني سيّارة، يجلس في مقعد في الباص الخارج من القدس إلى طبريّة بجانب النّافذة، وبعد أن يقرأ الصّحيفة الّتي يقتنيها في المحطّة المركزيّة يدسّها في حقيبته ثم يُلصق عينيه بزجاج النّافذة لا يحيد نظره يمنة أو يسرى. كان ينظر إلى تلك الجبال الصّفراء عبر النّهر. كم قاحلة تلك الجبال، كان يقول في نفسه، إنّها شبيهة بالتّلال في هذا الطّرف من الغور، ولا بدّ أنّها في زمان ماضٍ بعيد أو قريب كانت متّحدة حتّى جاء زلزال وفصلهما عن بعضهما. كان الباص يشقّ طريقه في هذا الشّقّ في التواءات الطّريق الّتي تسير بحذاء النّهر من جهة الغرب قاصدًا بيسان شمالاً، ثمّ حتّى طبريّة محطّته الأخيرة. كان الباص يلتهم الطّريق ويلتوي مع التواءات الشّارع بينما كان هو يشقّ طريقه ويتلوّى في التواءات حلم لا يرى له لا أوّل ولا آخر.

في الماضي كان يسافر كثيرًا شمالاً، ولأنّ السّفرة كانت طويلة بمقاييس تلك الأيّام، كان يجعل له علامات على الطّريق. لم يضع هو تلك العلامات، بل آخرون كانوا وضعوها قبله. أحيانًا كانت تلك علامات على وجه الأرض صنعتها الطّبيعة ولم يتدخّل فيها نفر من البشر. في تلك الأيّام لم يكن ينظر إلى السّاعة فكان يعرف بالضّبط الزّمنَ الّذي تستغرقه السّفرة لكثرة ما سافر شمالاً. بدلَ أن ينظر إلى السّاعة فضّلَ أن يُلصق وجهه في زجاج نافذة الباص ويعدّ القمم في الجهة الأخرى من النّهر حينًا، وحينًا يتفرّسُ وجهَ الأرض محاولاً تَبيُّنَ قسمات جديدة أو نُدوبًا طبيعيّة تكون له علاماتٍ بارزة على الطّريق. كان يفعل ذلك كي لا يُبَرّح به الملل. لقد اختار اتّخاذ هذه الطّريقة نهجًا له بَدَلَ النّظر المملّ إلى السّاعة بين فينة وأخرى لرؤية كم تبقّى من الوقت للوصول إلى محطّة الباصات المركزيّة في طبريّة.

وها هو الآن في الجهة الأخرى من النّهر ينظرُ من شاهقٍ على طريق الغور الّتي سلكها مرّات كثيرة ذهابًا وإيابًا، وها هو الآن يتفحّصها من بعيد. كم تبدو له تلك التّلال الغربيّة الآن قريبة وبعيدة في آن معًا.

حين تقطع النّهر شرقًا وتختفي وراء القمم تشعر وكأنّك تغلغلت في أعماق الصّحراء بعيدًا عن البحر، بعيدًا عن تلك النّسائم العليلة الّتي تأتي حاملة في مساماتها تلك الرّطوبة النّظيفة والخفيفة من البحر الغربيّ، تلك النّسائم الّتي أنعشت الأغاني والحقول وكثيرًا من النّفوس. غير أنّ الصّحراء هي منبع لخيالات الرّوح، قال هلال في قرارة نفسه، بينما كان يحاول أن يمسح قطرات العرق الّتي بدأت تنبع في مساحات متّسعة من جبينه. لكنّها، أضاف لنفسه، ربّما يجب أن تبقى بعيدة، أن تبقى حلمًا يزوره في لياليه إذ عزّت الأحلامُ. الصّحراء، قال لنفسه بنبرة واثقة كما لو كانت مأخوذة من إعلان مبادئ، يجب أن تقوم هناك بين واحتين يعبرها المرءُ بين الماء والماء حتّى لا تستحوذ على العقل وتجفّف الرّوح.

*****

حينَ سأله السّائق في الطّريق عن سبب قدومه إلى هذه البلاد لم يكن السّائق يعلمُ أنّ الجواب على سؤاله لا يُمكنُ أن يُعطَى هكذا في هذه المركبة العامّة لسائق أقلّه بالصّدفة من المعبر الحدودي. كان السّائق يمكن أن يكون شخصًا آخر، فكلّ ما في الأمر أنّ رِجْلَي هلال أقلّتاه بضع أمتار إلى محطّة التّاكسيات وانتظر دوره هناك، حتّى جاء هذا السّائق. فالسّائق كان يمكن أن يكون ذلك السّائق الضّخم الجثّة الّذي سبقته إليه المرأة النّحيلة، المرتّبة الهندام برفقة ولدين كانا يبدوان أنّهما ولداها. وكان يمكن أن يكون سائقًا آخر، غير هذا وذاك، لو قبلَ عرض أحد المتسكّعين في المعبر، من أولئك الّذين جعلوا مهنة اصطياد السّائحين مهنة لهم، مرّة لنقل حقائبهم ومرّة لإحضار تاكسي لهم لقاءَ مبلغ زهيد يدفعه لهم السّائح، قد يساعدهم بالطّبع على القيام بأودهم، أو أود أولادهم وعائلاتهم.

لم يرغب هلال في الحديث مع السّائق عن أمور لم يفصح بها حتّى لأناس مقرّبين له، فزيارة هلال لهذه البلاد الآن هي زيارة سرّيّة لا يعلمُ بها أحد، فكيف بهذا السّائق الّذي جمعته به الصّدفة فقط. بعد برهة قصيرة، لم يشأ أن يخيّب أمل السّائق فأطلق في فضاء السّيّارة جملة واحدة لا تعني شيئًا، قال: إنّها مجرّد زيارة قصيرة للقاء أصدقاء، وعادا فغرقا كلّ في حال سبيله، السائق في تنفيذ المهمّة التي أنيطت به في محطّة الجسر، وهلال في مسارب وأحلام أخرى.

ها هو الجسر الّذي يمتدُّ بين ماضيه وحاضره. ها هو الجسر الّذي يعبره الآن لوحده إلى منطقة وسطى لا شيء فيها غير هذا الجسد العاري إلاّ من قطف العنب الملقى على الطّاولة، مثلما هو مُلقى الآن في هذا الفراش وجسده الآخر يتراءى له في المرآة. لا شيء في هذه المنطقة الوسطى غير هذه الرّوح الّتي تحمله بأجنحتها الواسعة الرّحبة إلى جزيرة غريبة وساحرة. قد يسأله سائل، وما هو السّحر في هذه الجزيرة؟ فكيف سيشرح لمن يسأله عن سرّ سحرها. كيف سيقول لهم إنّ سحر هذه الجزيرة هو بقوّة الجاذبيّة فيها، فهذه جزيرة ليست كسائر المواقع على وجه الأرض. إنّها جزيرة فريدة، مَنْ تطأ رجلاه فيها لا يستطيع بعد ذاك الحراك، فخطواته لاصقة بأرضها، برملها، بكثبانها، بتلالها، بعشبها الّذي تعتني به يدان غير مرئيّتين، بفروع شجرها الوارفة الظّلال، بمياهها العذبة، بنبض كثبانها الممتدّة على شاطئ الرُّوح، يستنشق الهواء، يملأ رئتيه بكلّ هذا النّقاء حتّى يَعُودَ شظايا سناء حائم في فضاء هذه الغرفة الظّلماء. في الواقع لا حاجة به للانتقال إلى أيّ مكان بعد أن وطأت رجلاه الجزيرة الآن، لأنّه عرف أخيرًا أنّه وصل إلى مكان وجد فيه كلّ شيء، إلى مكان هو المبدأ والمآل.

بدأت رحلته إلى هذه الجزيرة منذ عام تقريبًا. كان الوقتُ صيفًا، جلس هلال في شقّته الجديدة يعدّ الدّقائق مرّة أخرى. لكن ما الفائدة من عدّ الدّقائق، وعمّا قليل، بعد ساعة من الزّمن على الأكثر سيجد نفسه في مواجهة غريبة مع نفسه، مع ماضيه وربّما مع ما يخبّئ له المستقبل. كانت السّاعة السّابعة مساء أو قريبًا منها. على غير عادته، جلس في صالون بيته الجديد وصبّ لنفسه كأسًا من النّبيذ وبين رشفة من الكأس ونظرة إلى الحديقة الفاصلة بين البيت والشّارع، كان بين فينة وأخرى يختلسُ نظرات فيها شيء من الانفعال والقلق وينظر إلى عقارب السّاعة. المكان هنا لا تتغيّر تضاريسه مثلما كانت الحال في أوقات سفره بالباص شمالاً. في تلك السّفرات من الماضي كانت تتبدّل العلامات الّتي اتّخذها على الطّريق. في تلك الرّحلات كان يقيس الوقت بتبدّل العلامات، هنا قمّة غريبة، وهناك مبنى ما، هنا مغارة في التّلّ وهناك شجرة تنتصب منفردة في عرض الصّحراء وما إلى ذلك ممّا يتّخذه العقل سلوى له من ملل السّفر. أمّا هنا، في هذا البيت، فهو جديد على على هذه الحارة ولم ينتبه بعد إلى خصوصيّات البيت الصّغيرة الّتي تمكّنه من التّعرُّف على الوقت دون النّظر إلى السّاعة في يده. تمرّ الدّقائق وكأنّه أخذ على عاتقه مسؤوليّة عَدِّها. كأنّ هاجسًا ما طلب منه أن يعدّ هذه الدّقائق الّتي لا نهاية لها، هكذا بلا سبب وبلا هدف. أو كأنّ حُكمًا غريبًا بعدّ الدّقائق فرضته عليه محكمة المكوث في هذه المدينة الغريبة الأطوار.

مدينة غريبة حقًّا هي القدس، وأشدّ ما تكون غرابتها عندما يكون المرء غريبًا فيها هو أيضًا. هكذا تتراكم الغرابات هنا في هذه المدينة فوق بعضها البعض وتمتزج لتخلق حالاً من العيش على حبل رفيع شُدَّ فوق هوّة مليئة بكلّ ما هو مرعب. من جهة، يُصاب المرء بالإدمان على السّير على هذا الحبل الممدود بين قطبين، لما لهذا السّير فوق الهوّة من متعة الإنفعالات وذعر السّقوط في هوّة لا قاع لها، ومن جهة أخرى يهدّ جسده هذا الإنهاك من السّير المتواصل ذهابًا وإيابًا على الحبل بلا غاية. وما العمل وقد بدأ يرى كيف يَهِي هذا الحبلُ تحت قدميه، وكيف أخذت رجلاه ترتعدان قليلاً ولم تعودا كسابق عهدهما في ثباتهما رغم كلّ العواصف الّتي هبّت عليه في هذا المكان الغريب؟ هل يستجمع قواه ليعبر إلى أحد طرفي الحبل ليجد موطِئًا، ولو ضيّقًا، يُريح عليه مؤخّرته، ليهدأ قليلاً من هذا الإنهاك؟ أو يبقى هكذا على هذه الحال يقترب حينًا من هذا الطّرف وحينًا من ذاك فيجفل لما ترى عيناه، فيعود إلى هذه المنزلة الوسطى فوق الهوّة المُرعبة والممتعة في آن معًا؟

كلّ هذه التّساؤلات تتعالى في فضاء الغرفة مع خيوط الدّخان الصّاعدة من سيچارته المشتعلة دائمًا منذ ما ينيف على ثلاثة عقود. تتمايل الخيوط في حركات ثعبانيّة بهلوانيّة وقبل أن تصل إلى السّقف تأتي نسمة خفيفة من الشّرفة المفتوحة فتفرّقها أيدي سبأ. يشاهدُ هو هذه الخيوط المندثرة الّتي لا تُبقي أثرًا في البيت، ثمّ بحركة بطىئة يمدّ يده ويتناول كأس النّبيذ الموضوعة غير بعيد عن متناول يده. لقد اعتادَ أن يضع الكأس غير بعيد عن متناول اليد درءًا لوجوب الحراك من مقعده للوصول إليها. وصل إلى هذه الإشراقة صدفة بعد سنوات من تشتّت الأفكار الّذي لم يدر كيف كان يحصل له. ها هو قد تعلّم بعد كلّ هذه السّنوات أنّ الحراكَ في المكان يُشتّت الأفكار، وهو لا يريد لهذه الأفكار أن تتشتّت الآن. هذه اللّحظات عزيزة عليه لأنّها لحظات استغراق في بحر بعيد الغور من التأمُّل في كلّ شيء. فحتّى أصغر الأشياء شأنًا تأخذ أبعادًا غريبة وتتشكّلُ بألوان زاهية ليس في وسع المتحرّك في مكانه أن يراها. فكلّ من يرغب في الوصول إلى هذه اللّحظات، ما عليه إلاّ أن ينتحي في رُكن من أركان البيت وحيدًا، يتّخذ له مجلسًا مريحًا، كأسَ نبيذ بشرط أن تكون في متناول اليد، سيچارةً إن كان من المدخّنين وموعدًا جديدًا مع المجهول.

***
في هذه السّاعة الآن وهو لا يزال يستيقط من نومه لا يشعرُ بحاجة إلى النّظر، لا إلى عقارب السّاعة ولا إلى علامات بارزة على الطّريق، لأنّ طريقًا مُبْهِرةٌ تنبسطُ أمامَه واضحةً مُبْهَمَةً في آن. حاول جاهدًا، بما أوتي من يقظة، أن يمسك بخيوط الحلم الّتي بدأت تتشابك وتتشابك دون أن يرى لها نهاية، وبأصابعه الّتي لا يزال خَدَرٌ صباحيّ خفيف يسري فيها يحاول فكّ هذه الاشتباكات وحلّ تعقيدات هذه الخيوط، غير أنّ محاولاته الجاهدة تذهبُ أدراج رياح هذا الصّباح الوَسنان. يُجيلُ بنظره في الغرفة متفحّصًا؛ ها هي زُجاجة الويسكي لا زالت على الطّاولة في المكان الّذي تُركت فيه ليلة أمس، وها هما الكأسان الفارغتان ما زالتا بجانبها، وها هو قطفُ العنب الأحمر، الّذي نقصت منه حبّات غير كثيرة، ما زال يستلقي ثملاً من بخار الكأسين أو من بخار الشّفاه الّتي لامسته قبل ساعات معدودات، أو أنّه ثملٌ مُلقى مثله من بخار ذاته المتطايرة في كلّ اتّجاه. يتوقّف قليلاً عند هذا المشهد، ثمّ ما يلبث أن يرى نفسه مستلقيًا على التّخت عاريًا إلا من هذه الأفكار. يمرّر يده على صدره فتداعب أناملُه شعراتٍ بيضًا نبتت هناك في الوهاد والتّلال وحول الحلمتين نُزولا إلى واحة كساها العشب وتمايلت فيها نخلة نمت هناك سرًّا مثلما نَمَتْ ليلتُه سرًّا هي الأخرى على بخارِ العنب.

تتخطّى أناملُه الشّعرات البيض إلى التواءات وتعرّجات دافئة أخرى يراها في المرآة بإزاء التّخت فيحاولُ أن يفهم كيف ذا يكون له جسدٌ آخر في هذه اللّيلة. يسألُ نفسه، هل أنا هنا حقًّا؟ هل هذه الزّجاجة، الكأسان الفارغتان وقطف العنب هي أجسام حقيقيّة، أم أنّ كلّ ما تراه عيناه الآن في هذا الصّباح لا يزال فصلاً من فصول هذا الحلم الّذي لم ينتبه منه بعد. التواءات وتعرّجات السّتائر أعادت إلى مخيّلته التواءات طريق الغور الصّاعدة في المرتفعات الجرداء إلاّ من شجرة هنا أو هناك، وحيث تجمهرت شجرات قليلات رأى طريقًا ترابيّة داخلة إليها، حيث أُثبتت على جانبها لافتة تحمل اسمًا كبيرًا، له ما له في منطقة جافّة وحارّة مثل هذه. ينظر إلى اللاّفتة ويقرأ عليها كلمة »مُنتزه«، يلتفت إلى هذه الصّلعة الخضراء في الجبل، بينما السّيّارة تأخذ طريقها بلهاث صاعدة ملتوية بالتواءات الطّريق باتّجاه السّلط.غير أنّ الجسد المستلقي على السّرير تحرّك والتفت إليه، وبصوت خارج من حلم عميق سألته ليلى عن السّاعة، وحين علمت بأنّها التّاسعة صباحًا وبّختْهُ على يقظته المبكّرة، وذكّرته بأنّه ليس في القدس وما من عمل هنا ، ثمّ أشارت له أن يأتي إلى جانبها وعادت إلى سابق حلمها.

وقف هناك بجانب النافذة المطلّة على الشّارع في الطّابق الثّالث من الفندق. كان تحت في السّاحة في هذه السّاعة المتأخرة من الصّباح بعض النّزلاء الّذي يتداولون برنامج زياراتهم في هذه المدينة. قال في نفسه إنّه لم يأت إلى هنا لزيارة معالم أو أماكن بعينها، إنّما جاء لسبب لم يشأ أن يكشف عنه حتّى للسائق الّذي أقلّة بسيّارته من الجسر. أراد أن يحيط مجيئه إلى هنا بسريّة تامّة، لأنّ أحدًا لن يفهم هذه الرّحلة. أعاد السّتارة إلى مكانها، ثمّ أجال بنظره في فضاء الغرفة حتّى وقع على الجسد العاري متفحّصًا ببطء ألوانه وتعرّجاته. كان الجسدُ مستلقيًا هناك على السّرير، عينان مغمضتان كانتا تشيان بنوم هانئ عميق، حلمتان داكنتان مستريحتان في الكثبان مثل غزالتين نابضتين في ليلة مقمرة غير بعيد عن نبع الحياة الّذي تنامت على مياهه أعشاب طريّة. عند الصّدر وقع بصره على طفلة مستلقية غارقة في حلم لم يكتمل بعد لغضاضة جسدها. يد واحدة كانت تسند البطن، واليد الثّانية كانت ممدودة على السّرير في المكان الّذي استلقى فيه من قبل. كان شعر الطّفلة يكاد يُداعب حلمة هناك على الرّمل.

وقف بجانب النّافذة ناظرًا إلى هذا المشهد ثم حاول الإقتراب من السّرير غير أنّه وفي كلّ خطوة من خطواته مقتربًا كانت صورة الطّفلة يعلوها ضباب. حاول أن يفرك عينيه لإزالة غبش الصّباح لكنّه لم يُفلح في إزالة الضّباب عن الصّورة. ذُعر لهذا المشهد فعاد أدراجه إلى النّافذة محاولاً الإبقاء على تلك الطّفلة نابضة بين الحلمتين.

أزاح السّتارة قليلاً ثم ألقى نظرة إلى الساحة. لم يقع نظره على أحد هناك، لا في الساحة المفضية إلى الفندق، ولا في الحديقة الجانبيّة، حيث كان نزلاء الفندق قد خرجوا كلّ إلى طريقه، ما عدا طفلة واحدة كانت تتقافز بشقاوة في السّاحة. كان تعرّف عليها مساء أمس في الفندق. ظنّته من بعيد أباها فركضت إليه تحضنه، فلم يرغب في أن يخيّب أملها فحضنها هو الآخر حتّى نسي من هو ومن أين جاء وإلى أين هو راحلٌ من هنا. وحين يتمعّن فيها الآن في السّاحة يرى أنّها تشبه الطّفلة المستلقية بجانب الحلمتين المثبتتين في الجسد المستلقي بطمأنينة عميقة على السّرير بإزاء المرآة. مدَّ رأسه خارج النّافذة في الطّابق الثّالث، وحاول أن ينادي الطّفلة باسمها، غير أنّها لم تسمع نداءه، وسارعت إلى الدّخول واختفت في بهو الفندق. سمعت ليلى نداءه، فتململت في السّرير بعد أن استيقظت من نومها، وأشارت إليه بيديها المشرعتين أن يُسدل السّتارة ويخطو نحوها. سحب السّتارة على النّافذة فخيّم الظّلامُ مرّة أخرى في فضاء الغرفة. وما هي إلاّ هنيهة حتّى كانت ألسنة النّيران تتعالى من جسديهما في المرآة وتلقى بظلالهما المُتقلّبة على السّرير، بينما صفّارات الإطفائيّة تُولولُ بلا انقطاع خارج الفندق.

***

نشرت في مجلة مشارف.

العرب هم أكثر شعوب الأرض إضحاكًا




سلمان مصالحة


العرب هم أكثر شعوب الأرض إضحاكًا


لعلّ خير ما أستهلّ به
هذه المقالة هو أن أبدأها باللّعنات، فأقول: "لعن اللّه أبا إسرائيل، وأميركا، وبريطانيا وسائر بلاد الكفّار أجمعين، إلى يوم الدّين". ها أنذا قد وضعت النّقاط على الحروف ولعنت أبا أبيهم، خَلَفًا وسَلَفًا، وذلك لكي يرتاح بال هؤلاء النّفر من العرب، ولكي يواصلوا القراءة. طيّب، هل ارتحتم الآن؟

نوكتورن

سـلمان مصـالحة ||

نـوكـتــورن 

 
دَعْ عَنْكَ هَمِّي، فإنّ الـهَمَّ غَلاّبُ، 
وَدَاوِني بالّذِي في الحَلْقِ يَنْسَابُ. 
 
ما كَانَ مِنْ بَشَرٍ أَضْحَى بِلا أَثَرٍ، 
إلاّ الّذي حَمَلَتْهُ الرَّاحُ، تَهْتَابُ 

مدينة الزّهرة الماشية

سلمان مصالحة

مدينة الزّهرة الماشية

هنا، بين الواقع والخيال، بين الأرض والسّماء، تتهادى القدس في التّلال غير بعيد عن مفرق الرّوح. تخطو على حبل ممدود بين وادي جهنّم وبين زهرة تهيم على وجهها فوق ثرى المدينة. في خيالاتي الطّفوليّة ارتبطت القدس بخرافات سمعتُها عن أشراط السّاعة. في ذلك السّيناريو المرعب لا مجال لارتجال يقوم به الممثّلون. لقد أعدّ لهم المُخرج الأكبر المتربّع في عليائه تفاصيل الأدوار: سيهدم اليهود الحرم القدسيّ، فتبدأ عقب ذلك سلسلة من ردود الفعل، فيقوم المسلمون بهدم الكنائس المسيحيّة ردًّا على دعم الغرب المسيحي لإسرائيل. وعقب ذلك يسارع الغرب إلى هدم المقدّسات الإسلاميّة في أرض الحجاز. هكذا تبدأ الحرب الكبرى الّتي تنذر بقيام السّاعة.

"بلدٌ من كَلام"



سلمان مصالحة ||

"بلد من كلام"


هل الكلام عن الوطن، مديحًا كانَ أو هجاءً، هو "مهنة مثل باقي المهن"، كما صرّح محمود درويش في "حالة حصار"؟ وماذا يعني مصطلح الوطن هذا الّذي تكثر الإشارة إليه في الكتابات الفلسطينيّة؟ وما هو المعنى الواقعي والمُتخيَّل لهذا المصطلح كما ينعكس في بعض هذه النّصوص؟

المصطلح بلد كما يعرّفه ابن منظور في لسان العرب هو "كلّ موضع أو قطعة مستحيزة عامرة كانت أو غير عامرة، وهو ما كان مأوى الحيوان وإن لم يكن فيه بناء. والبلد جنس المكان كالعراق والشّام، والبلدة الجزء المخصّص منه كالبصرة ودمشق"(1). نجد دلالات شبيهة بهذه الدّلالات أيضًا في معرض تعريف ابن منظور لمصطلح وطن، حيث يقول، هو: "المنزل تُقيمُ به، وهو موطنُ الإنسان ومَحلُّه". ولذلك يُضيف: "أوطان الغنم والبقر: مَرابضُها وأماكنُها الّتي تأوي إليها"(2). أي مثلما المصطلح بلد، كذلك هي الحال مع المصطلح وطن فهو يسري على الحيوان كما يسري على الإنسان، وبكلمات أخرى، البلد والوطن سيّان، رغم أنّ التّعريف القديم للبلد، كما يظهر من كلام ابن منظور، هو أعمّ وأشمل من تعريف الوطن. في الحقيقة نستطيع القول إنّ لغتنا العصريّة قد قلبت هذه المعادلة القديمة لمعنى البلد والوطن فجعلت البلد وطنًا والوطنُ بلدًا.

في البداية نقول إنّ مسألة الوطن بالنّسبة للإنسان العربي على العموم هي مسألة معقّدة ولها أبعاد ثقافيّة حضاريّة، اجتماعيّة وسياسيّة، ومنذ القدم، لا يوجد تحديد لمعالم هذا المصطلح، ولن يتّسع المجال هنا للإحاطة بجميع جوانبه. أمّا بالنّسبة للفلسطيني فتتعقّد هذه القضيّة أكثر فأكثر منذ نشوء الحركة الصّهيونيّة وقيام دولة إسرائيل في هذه البقعة من الأرض الّتي يراها كلّ طرف من الطرفين المتصارعين وطنًا له دون الآخر.

إذن فما هو معنى هذا الوطن الفلسطيني؟
قبل وقوع النّكبة الفلسطينيّة كان هُنالك من حاول التّطرُّق إلى قضيّة الوطن وإلى ما يحمله هذا الوطن في ثناياه من معانٍ. فالشّاعر إبراهيم طوقان يشاهد ما يجري على الأرض من صراع مع الحركة الصّهيونيّة قبل قيام دولة إسرائيل، فيحاول التّنبيه إلى النّتائج الوخيمة الّتي ستنتج عن بيع الأراضي الّذي يقوم به بعض الفلسطينيّين للشّركات الصّهيونيّة، فيقول في إحدى قصائده:

"باعُوا البلادَ إلى أَعْدائِهم طَمَعًا - بالمالِ لكنَّما أوطانَهم باعُوا
تلك البلادُ إذا قلتَ اسْمُها وَطَنٌ - لا يَفْهمونَ، ودونَ الفهمِ أَطْماعُ"(3).

أيّ أنّ هذه الأرض، البلاد، الّتي يرى فيها هؤلاء التّجّار مجرّدَ أملاك منقولة، هي أكبر من مجرّد مفردة، فلها دلالات أخرى يمكن أن تُختزَل في هذه الكلمة، الاسم؛ البلاد الّتي "اسْمُها وَطَنٌ". والوطن، كما يراه، هو هذا الشّيء الّذي لا يَفهم معناه هؤلاء التّجّار، بل ويتظاهرون بعدم الفهم بسبب أطماعهم التّجاريّة. إلاّ أنّ إشارة طوقان هذه هي إشارة عابرة إلى المصطلح فقط، دون أن يفسّر لنا هذا المصطلح وما يعنيه له. فهو يريد أن يقول إنّه يعني الكثير، فيكتفي بهذا التّصريح ولا يُفصّل هذا الكثير. إنّه يتركه للقارئ أو للسّامع، ليفصّل كلّ فرد على قدر ما يحسّ وعلى قدر ما يفهم من هذا المصطلح لذاته. إنّه يدعو فقط إلى التّفكير بمكان، رقعة صغيرة، ليومه الأخير:

"فَكّرْ بموتكَ في أرضٍ نشأتَ بها - واترُكْ لقبركَ أرضًا طولُها باعُ"(4).

وهكذا وبعد مرور أعوام ليست كثيرة على التّحذيرات الّتي تطرّق إليها إبراهيم طوقان، حدثت النّكبة في فلسطين، فقامت إسرائيل على جزء من الوطن، وهُجّر آلاف الفلسطينيّين من وطنهم. فقط أقليّة قليلة من الفلسطينيّين بقيت في الجزء من الوطن الّذي صار اسمه إسرائيل في العام 1948. هذه الأقليّة حاولت أن تتشبّث بما بقي لها من تراب في الوطن منتظرةً الفرجَ: "وظلّت هنا في بلادي بقيّةْ / بقيّة شعب / تغرس أقدامها في التّراب / لترسخَ فيه جذورًا قويّةْ / وأجفانُها عُلّقت بالسّحاب / تلمح خيط ضياء / يشقّ غيوم العذاب"(5).

محاولة لفهم ما يعنيه مصطلح الوطن يعود للظّهور من جديد لدى هذه الأقليّة الّتي بقيت في أرض الوطن الّذي صار إسرائيل. مدينة القدس، قبل حرب حزيران 1967، كانت مشطورة شطرين. قسمها الغربي كان يقع تحت السّيطرة الإسرائيليّة والقسم الشّرقي تحت سيطرة المملكة الأردنيّة. في مواسم الأعياد المسيحيّة كانت السّلطات تسمح للفلسطينيّين المسيحيّين الّذين بقوا في دولة إسرائيل بالإنتقال إلى القدس وبيت لحم لزيارة المواقع المقدّسة المسيحيّة في المملكة الأردنيّة آنذاك. كان الحجّاج يعبرون إلى الشّطر الشّرقي من مدينة القدس عبر بوابة اسمها بوّابة مندلباوم، وهي البوّابة الّتي شكّلت نقطة العبور بين شطري المدينة للحجّاج المسيحيّين وللدپلوماسيّين ولقوات الأمم المتّحدة.

الكاتب إميل حبيبي، يتطرّق إلى مسألة الوطن من خلال قصّة قصيرة بعنوان "بوّابة مَنْدِلْباوْم"، نُشرت في بداية سنوات الخمسينات من القرن الماضي، أي بعد أعوام قليلة من وقوع النّكبة، وهي قصّة تتمحور حول نقطة العبور هذه بين شطري مدينة القدس. في مشهد وداع الوالدة التي ستنتقل عبر بوابة مندلباوم إلى الطرف الأردني، يكتب إميل حبيبي في قصّته عن شخصيّة الوالدة: "لقد بلغتْ الخامسة والسبعين من عمرها ولمّا تجرّبْ ذلك الشّعور الّذي يقبض على حبّة الكبد فيفتّتَها، ذلك الشّعور الّذي يُخلّفُ فراغًا روحيًّا وانقباضًا في الصّدر، كتأنيب الضّمير، شُعور الحنين إلى الوطن. ولو سُئلتْ عن معنى هذه الكلمة "الوطن" لاختلطَ الأمرُ عليها كما اختلطتْ أَحرفُ هذه الكلمة عليها حينما التقتْها في كتاب الصّلاة. أَهُوَ البيتُ، إناءُ الغسيل وجرنُ الكُبّة الّذي وَرِثَتْه عن أمّها؟... أو هو نداءُ بائعة اللّبن في الصّباح على لبنها، أو رنين ُجرس بائع الكاز، أو سُعالُ الزّوج المصدور وليالي زفاف أولادها الّذين خرجوا من هذه العتبة إلي بيت الزّوجيّة واحدًا واحدًا وتركوها لوحدها؟....ولو قيلَ لها إنّ هذا كُلَّه هو "الوطن" لما زِيدَتْ فَهْمًا"(6).

في هذه الفقرة هنالك محاولة من جانب الكاتب لتفكيك معنى هذا المصطلح. إنّها محاولة للولوج عميقًا في دهاليز هذا المصطلح المشحون، واستجلاء ما يخبّئ في طيّاته. هذه التّساؤلات الّتي يطرحها إميل حبيبي بنوع من التّفصيل هي في الحقيقة الإجابة على السؤال نفسه. إلى كلّ هذه التّفصيلات يستطيع القارئ أن يضيف من عنده أمورًا أخرى فتصبح هي هي المعنى الحقيقي لكلمة الوطن.

لكن، ليس الوطن ككلّ أوكمصطلح عام ومجرّد هو شيء ملتبس فحسب، بل كلّ نقطة عينيّة فيه. كلّ موقع ومهما كان محدّدًا يلتبسُ على النّاس، فهنالك تباين من ناحية التّوجّه إليه ومن ناحية الأسماء الّتي يُطلقها الإنسان على هذا الموقع. الأسماء الّتي تُعطى للأماكن هي قضيّة مهمّة للغاية ولها دلالات وأبعاد كثيرة لأنّها تكشف عن علاقة حميميّة بين الإنسان والمكان. هذا التّباين في أسماء المكان يظهر جليًّا في نقطة عبور أخرى، هي جسر على نهر الأردن يعبر عليه النّاس بين ضفّتي الأردن. هذا هو مريد البرغوثي الشّاعر الفلسطيني الّذي يعيش خارج الوطن يتحدّث عن هذا الجسر بعد أن عاد لزيارة الوطن بعد عقود من الزّمن: »فيروز تسمّيه جسر العودة. الأردنيّون يسمّونه جسر الملك حسين، السّلطة الفلسطينيّة تسمّيه معبر الكرامة. عامّة النّاس وسائقو الباصات والتّكسي يسمّونه جسر أللنبي. أمّي وقبلها جدّتي وأبي وامرأة عمّي أم طلال يسمّونه ببساطة: الجسر. الآن أجتازه للمرّة الأولى منذ ثلاثين صيفًا، صيف 1966 وبعده مباشرة ودون إبطاء صيف 1969"(7) .

لعلّ في هذا التّباين ما يشير إلى الأزمة الجماعيّة الوطنيّة المتعلّقة بالمكان الفلسطيني، وفي هذه التّسميات الكثيرة لموقع واحد ما يدلّ على التّحوّلات الّتي طرأت على هذا المكان على مرّ السّنين، فكلّ تسمية تُشيرُ إلى قضيّة سياسيّة، كما تكشفُ عمّا في نفوس من يُطلق هذه التّسميات. ففيروز تُعبّرُ عن حلم العودة لدى اللاّجئين، بينما تسمية الجسر باسم الملك حسين تُشير إلى السّلطة الفعليّة في المكان. أمّا مصطلح الكرامة فهو مأخوذ من اسم المعركة بين القوات االفلسطينيّة والإسرائيليّة الّتي توغّلت عبر النّهر والّتي تكبّدت خسائر كبيرة. بينما اسم أللنبي، الجنرال البريطاني، فهو يشير إلى فترة الإنتداب في فلسطين. هكذا من خلال اسم موقع واحد يمكن الحصول على تاريخ البلاد، وعلى إشكاليّة هذا التّاريخ.

الغربة عن الوطن والغربة في الوطن

أوّلاً: الغربة في الوطن
مع أنّ الكتابات الفلسطينيّة الّتي تتطرّق للوطن تعكس على العموم حالة نفسيّة من الإغتراب تجاه مصطلح الوطن، إلاّ أنّ ثمّة فروقًا بين توجّهات من بقي في وطنه يعيش فيه ويعايشه وبين من يمكثُ بعيدًا عنه. فالوطن، في نظر من بقي في أرضه في الجزء الّذي قامت عليه إسرائيل، قد تغيّرت معالمه وتغيّرت علاقته بالإنسان الفلسطيني الّذي يصل إلى هذه القناعة لأنّه يشاهده بأمّ عينه ويرى ما يستجدّ عليه يوميًّا. كلّ شيء فيه قد تغيّر: الطّيرُ، والأرضُ بنباتها وشجرها وينابيعها. والوطن يتغيّر ليس فقط من ناحية المعالِم الجغرافيّة، بل تتغيّر علاقة هذا الوطن بالإنسان صاحب هذا الوطن. فهذا هو سميح القاسم الشّاعر الّذي بقي في وطنه يعبّر عن هذه الحالة في قصيدة له بعنوان "وطن"، فيقول: "وماذا؟ / حينَ في وطني / يموتُ بجوعه الدّوريُّ / منفيًّا، بلا كفنِ ... / وماذا؟ / والحقول الصّفر / لا تُعطي لصاحبها / سوى ذكرى متاعبها... / وماذا؟ / والينابيع القديمةُ / ردّها الإسمنتْ / وأنساها مجاريها / فإن نادى مناديها / تصيحُ بوجهه: من أنت؟"(8).

إذن، الطّيور والحقول والينابيع تغيّرت جميعها وتبدّلت أحوالها، وها هي الآن لا تتعرّف على مناديها، صاحبها، فتصرخ في وجهه: »من أنت«؟ هذه الطّيور وهذه الحقول لم تعد تابعة للفلسطيني بل تمّ اقتطاعها ومصادرتها منه ومن هويّته، وهذه العصافير والحقول هي هي ذاتها الّتي أُسقطت من هويّة الفلسطينين ومن جواز سفره: "لم يعرفوني في الظّلال الّتي / تمتصّ لوني في جواز السّفر. .../ كُلّ العصافير التي لاحقت / كفّي على باب المطار البعيد / كُلّ حُقول القَمْح،/ كُلّ السجون، / كُلّ القُبور البيض / كل الحدود / كُلّ المناديل التي لوّحت / كُلّ العيون السود / كُلّ العيون / كانت معي، لكنّهم / أسقطوها من جواز السفر"(9).

وهكذا تمرّ الأعوام وتمّحي معالم الأرض الّتي كانت تدلّ على من سكنها قبل النّكبة، فتصبح هذه الأرض في نظر من بقي في الوطن، بمثابة حبيبة خائنة، بل وأبعد من ذلك فهي تتحوّل إلى مومس تمنح جسدها في الموانئ لكلّ عابر ووافد، وتتنكّر لصاحبها. هكذا يصفها شاعر آخر، هو طه محمد علي في قصيدة له بعنوان، "عنبر":
"آثارُنا دارسة / رُسُومُنا جُرِفت .../ وما من مَعْلمٍ واحد / يوحي بشيء / يدلّ على شيء / أو يومئ إلى أيّ شيء / لقد تقادمَ العهدُ... / الأرضُ خائنةٌ / الأرضُ لا تحفظُ الودّ / والأرضُ لا تؤتمن / الأرضُ مومسٌ / أخذت بيدها السّنين / تُدير مَرقصًا / على رصيف ميناء / تضحك بكلّ اللّغات / وتُلقم خَصْرها لكلّ وافد / الأرضُ تتنكّر لنا / تخوننا وتخدعنا.../ أرضُنا تُغازل البحّارة / وتتجرّد أمام الوافدين ....ولا يبدو عليها ما يربطها بنا."(10)

الشّاعر الّذي يعيش في وطنه يشعر بأنّ الأمور فيه قد انقلبت رأسًا على عقب،بل ويصل إلى الوعي بفقدان هذا الوطن: "غير العشّاق، الآن، همُ العشّاقُ، / غير القتلة فيك هم القتلة"، / يا وطناً يغرق في الرمز الصّوفيّ، وفي الدم،/ يا مفقوداً،... / يا وطن الأشياء المفقودة"، ولذلك فهو يتحوّل إلى مجرّد رمز فحسب: "الموتُ بلا موتٍ، / والصوت بلا صوتٍ،/ والوطن بلا وطنٍ."(11)

بعد كلّ هذه التّحوّلات، والإحباطات الّتي أصابت الإنسان الباقي في وطنه إزاء الّذي جرى له، لم يتبقّ لديه سبيل للخلاص سوى الإبتهال إلى مُخلّصٍ ينقذه من هذه الورطة. هذا المخلّص قد يُستحضر من رموز التّاريخ العربيّ، أي من الماضي، كما فعل كثير من الشّعراء، وعلى سبيل المثال فقط، نقتبس هذه السّطور من قصيدة طه محمد علي: "صفورية / ماذا تفعلين هنا / في هذا اللّيل المجوسي.../ ماذا صنعت بسيف صلاح الدّين؟ / وأين وفود الظّاهر؟ / أين الجميع؟"(12). وهذا المخلّص، وبخلاف التّفاصيل المجسّدة للوطن المتغيّر، قد يأتي أيضًا من عالم المجاز، من عالم الإستعارة. إنّه يأتي من عالم الطّبيعة وبنبرة اتّكاليّة: كما يقول سميح القاسم: "تعالي يا رياحَ الشّرقِ / إنّ جذورنا حيّة."(13)

كلّ هذا الّذي جرى يدفع الإنسان إلى الإنزواء والعزلة، بل أكثر من ذلك إلى حالة نفسيّة تتّسم بالكآبة والإحساس بالغربة في هذا الوطن، فيشعر بالرُّعب ممّا جرى له. لهذا يشرح سميح القاسم وضعه المأساوي في قصيدة له من مجموعة أخرى، ويضع لها عنوان "الرّعب"، فيقول: "حين تغيب الشّمس، قالوا: أغيب / في حجرة من وطن / أُحرم، قالوا، من عناق الهموم / بيني وبين القمر/ يرعبهم، أعلم، بثّ الضّجر / بيني وبين النّجوم .../ وفي مغيب الشّمس، قالوا، أغيب / في حجرتي يا وطن / قالوا أكون الغريب / وأنت ملءُ البدن / فمن تُرَى يحملُ عبر الزّمن / في قلبه، وجهَكَ هذا الحبيب / ومن مغنّيكَ، من،/ غيري أنا... يا وطن؟"(14)

هكذا تتقّلص حدود الوطن إلى حجرة، إلى غرفة في هذا الوطن بها يتسامر مع همومه، لأنّه صار يُنظَر إليه بصفته غريبًا، فيضيق عالمه، وطنه، ويضيق هو بالعالَم والحياة. وحين يكون الكاتب قابعًا في زنزانة في السّجن فقد يتحوّل الوطن من مكان في الأرض إلى رمز للحريّة: "والشّرطي الّذي اجتذبته موجة الهجرة الأخيرة، يُعلنُ خَطوَه الثّقيل في باحة السّجن، يتوقّف أمام الزّنازين، يُراقِب من الكُوَى االضّيّقة رجالاً يرسفون في قيودهم... يزحف اللّيلُ بطيئًا، والشّرطي ينوءُ تحت وطأة الوظيفة وعبء الإنتصار والعيون الّتي تخترق الكُوى بَحثًا عن وطن."(15)

ثانيًا: الغربة عن الوطن
البعد عن الوطن يخلق وطنًا مُتخيَّلاً بعيدًا عن الواقع الحقيقي. في المنفى ينبني الوطن على أسس من الذّكريات، أو على أسس من الخيال. في المنفى يُبنى الوطن في الخيال كمكان مثاليّ كما لو كان جنّة اللّه على الأرض: "بعيدًا عن الوطن الممكن المستحيل / قريبًا من السّاعة المُفزعة / فتى ساهمٌ: / يا بلاد الحنان قسوتِ عليّ.../ وحين تمرّ البناتُ أذوبُ هوًى / ويُثقلني جبلٌ أرتقيه إليكِ / وتُثقلني قطرةٌ من ندى .../ تفتنني نبتةٌ / وتمتدّ حولَ عيوني البساتينُ خُضرًا..."(16)

هذه الصّورة المثاليّة للوطن، الجنّة، لم تُبنَ في الشّعر فحسب، بل في الحديث اليومي مع النّاس: "كنت أقول لزملائي وزميلاتي المصريين في الجامعة أنّ فلسطين مغطّاة بالأشجار والأعشاب والزهور البريّة."(17)

الحنين إلى الوطن لدى من خرج منه ولم يعد، إمّا بمحض الصّدفة وإمّا لاجئًا، يتحوّل إلى شيء آخر، ويحمل دلالة جديدة، فدلالة هذا الحنين تتّسع لتأخذ بعدًا جديدًا ومعنى جديدًا هو الشّهوة. تظهر هذه الشّهوة في قصيدة "الشّهوات"(18 مايو، 1992): "وأنا لم أعد أشتهي أيّ شيء / فأنا أشتهي كلّ شيء.... / شهوة لبلادٍ / نجوع ونشبع فيها ... / وفيها من الوقتِ وقتٌ نُخصّصُه / للخطايا الحميمة والغلط الآدميّ البسيط"(18). إنّها شهوة إلى فسحة في الزّمان، شهوة إلى بعض الوقت في المكان، البلاد، الّتي يمكن للإنسان أن يحيا فيها بأشيائه الصّغيرة، كأن يجوع وكأن يشبع. إنّها الشهوة إلى مكان يمارس فيه بعض الخطايا الصّغيرة، وبعض الهفوات الإنسانيّة البسيطة، فكلّ هذه الأمور، على بساطتها، تُصبح في المنافي ذات دلالات كبيرة. إنّ هذا الابتعاد عن فلسطين خلق أجيالاً من الفلسطينيّين لا تعرف عن فلسطين شيئًا، أجيالاً من "الفلسطينيّين الغرباء عن فلسطين" ولدتْ في المنفى ولا تعرف من وطنها ولا قصّته وأخباره، أجيالاً بوسعها أن تعرف كلّ زقاق من أزقّة المنافي البعيدة وتجهل بلادَها، أجيالاً لم تزرعْ ولم تصنعْ، ولم ترتكبْ أخطاءها الآدميّة البسيطة في بلادها..."(19)

فقط بعد سنين يحاول مريد البرغوثي أن يراجع حساباته الشّخصيّة مع الوطن، أن يراجع رؤيته لهذه الصّورة المتخيّلة عن الوطن. إنّه يفعل ذلك بعد عودته لزيارة هذا الوطن في العام 1996: "ما هذه التّلال، جيريّة، كالحة وجرداء؟ هل كنت أكذب على النّاس آنذاك؟... هل قدّمتُ صورة مثاليّة عن فلسطين بسبب ضياعها؟ قلت لنفسي عندما يأتي تميم إلى هنا سيظنّ أنني وصفتُ له بلادًا أخرى."(20)

ويستمرّ مريد البرغوثي في عرض ملاحظاته بنوع من الصّراحة والشّجاعة الأدبيّة فيعترف بأنّه كان يكذب على الآخرين ويكذب على نفسه: "الطريق إلى دير غسانة نسيتُ ملامحَهُ تمامًا. لم أعدْ أتذكّر أسماء القرى على جانبي الكيلومترات السّبعة والعشرين الّتي تفصلها عن رام اللّه. الخجل وحده علّمني الكذب. كلّما سألني حسام عن بيت أو علامة أو طريق أو واقعة سارعت بالقول إنّني "أعرف". أنا في الحقيقة لم أكن أعرف. لم أعد أعرف. كيف غنّيت لبلادي وأنا لا أعرفُها؟ هل أستحقّ الشّكر أم اللّوم على أغانيّ؟ هل كنت أكذب قليلاً؟ كثيرًا؟ على نفسي؟ على الآخرين؟ أيّ حبّ ونحن لا نعرف المحبوب؟"(21)

التّشبُّث بالوطن هذا مردُّه إلى الرّفض من قبل الآخر، ليس الإسرائيلي اليهودي فحسب، بل هنالك أيضًا رفض من طرف الآخر العربي، للفلسطيني الّذي وفد أو لجأ إليه. فبعد أن ترك محمود درويش الوطن طوعًا، وجاب العالم العربي واستقرّ في بيروت، وكتب عنها في شعره، لم يرق ذلك للّبنانيّين الّذين قالوا له: "هذه المدينة ليست لك، قالوا لي: إنّني غريب، فشعرت بأنّني مؤقّت هناك"(22). هذا الرّفض من ذوي القربى هو الّذي يدفع إلى البحث في الذّات عن مكان هذه الذّات في الزّمان والمكان. التّرحال الّذي صار حالة نفسيّة لدى درويش يدفعه إلى سؤال نفسه سؤالاً أزليًّا: من أنا، وأين أنا وإلى أين أنا، فيشعر بالضّياع: "وما زال في الدّرب دربٌ لنمشي ونمشي. إلى أين تأخذني الأسئلة؟ / أنا من هنا، وأنا من هناك، ولستُ هناك ولستُ هنا"(23). من خلال هذا الضّياع يأخذ بالبحث مرّة أخرى عن وطن، عن معنى هذا الوطن، فيستنجد بالذّكريات، لأنّها الشّيء الوحيد الّذي تبقّى لديه من "هناك"، من وطنه: "أنا من هناك. ولي ذكرياتٌ. وُلدتُ كما يولدُ النّاسُ. لي والدةْ / وبيتٌ كثير النّوافذ، لي أخوة أصدقاء، وسجنٌ بنافذةٍ باردةْ. ... / تعلّمتُ كلّ الكلام وفكّكْتُه كي أُرَكّبَ مفردةً واحدةْ / هي الوطن"(24). غير أنّه حينما عاد إلى الوطن، إلى غزّة على وجه التّحديد، بعد اتّفاقات أوسلو، فإنّه يكتشفُ شيئًا جديدًا في هذا الوطن: "زرتُ وطني. شعرتُ غريبًا جدًّا في غزّة"(25). أين هو هذا الوطن في نظر درويش؟ إنّه يجيب على هذا السؤال بنفسه: "سأرمي كثيرًا من الوردِ قبلَ الوصولِ إلى وردةٍ في الجليل"(26). فوطن درويش في نهاية المطاف هو إذن مكان صغير، وليس فلسطين الجغرافيّة بحدودها التّاريخيّة. إنّه وطن صغير يتمثّل في قرية في الجليل، مسقط رأسه، هي عنوان الرّوح الّتي يحبّ السّفر إليها من منفاه: "عناوين للرّوح خارج هذا المكان. أحب السّفر / إلى قريةٍ لم تُعلّق مسائي الأخيرَ، على سروها. وأحبّ الشّجر / على سطح بيتٍ رآنا نعذّبُ عصفورتين."(27)

خاتمة
إذن، الكتابة الفلسطينيّة، ومنذ بداية الهجرة والإستيطان الصّهيوني في فلسطين، مشغولة جدًّا بهاجس الوطن، وبما يعنيه هذا المصطلح. على مرّ السّنين يتبيّن من هذه الكتابات أنّ ثمّة فارقًا في التّوجّه إلى هذا الوطن. فالّذي يعيش في الغربة يبني له وطنًا في الخيال الّذي يرضع من الذّكريات، وكلّما اتّسعت المسافة الزّمانية والجغرافيّة بين المُتَخَيِّل والوطن كلّما اتّسمَ هذا بهالة جماليّة فيها نوع من الفنطازيا. أمّا من بقي في وطنه فهو يرى كلّ ما يجري من تحوّلات عليه، ويراه على حقيقته ويرى هذا التنكُّر النّاتج من المكان له. والفارق في علاقة كليهما بالوطن يمكن أن يُلخّص بهذه المعادلة: الّذي يعيش في المنفى يُفاجأ حين يعود للوطن بأنّه لا يعرف هذا الوطن، بينما الّذي بقي في وطنه، فإنّ الوطن هو الّذي لا يعرفُه ويتنكّر له. الّذي يعيش في المنفى تتحوّل فلسطين لديه مجرّد خيالات، مجرّد فكرة: "الإحتلال الطّويل استطاع أن يحوّلنا من أبناء فلسطين إلى أبناء فكرة فلسطين"(28). بينما الّذي يعيش في الوطن الّذي يتنكّر إليه فيحاول البحث عن الوطن في أشياء أخرى، يحاول الخلاص من هذه الورطة أحيانًا عبر البيولوجيا، وهذا ما حدا بالشّاعر سميح القاسم أن يختار لابنه البكر اسم: "وطن". وفي كلتا الحالين سيبقى الحديث عن الوطن مستمرًّا وسيكتب الشّعراء والكتّاب الكثير من الكلام عنه، فسَفَر الفلسطيني هو سَفَر عاديّ لكنّه سفر في طريق باتّجاه واحد لا عودة منه، فيتحوّل الوطن المتخيَّل إلى مجرّد كلام، كلام فحسب: "نُسافرُ كالنّاسِ، لكنّنا لا نعودُ إلى أيّ شيء.../ لنا بلدٌ من كلامٍ ... / لنا بلدٌ من كلامٍ. تكلّمْ تكلّمْ لنعرفَ حدًّا لهذا السّفرْ"(29). غير أنّ الحديث عن الوطن لن ينتهي، لأنّ أمورًا كثيرة قد تتشابك فيه ممّا يجعل للنّظرة الذّاتيّة تجاهه موقعًا ووقعًا كبيرًا في النّفس. وقد ألمحَ إلى هذه الإشكاليّة شاعرٌ عربيّ قديم، إذ ربط معنى الوطن بالأشياء اليوميّة وبأسباب العيش الّتي قد تتخطّى حدودًا جغرافيّة بعينها لتتحوّل إلى نظرة كوسموپوليتيّة، قد يُطلق عليها الـمُحْدَثون مصطلح عولمة.

قال الشّاعر:

"الفَقْرُ في أوطاننا غُرْبَةٌ - وَالمالُ في الغُرْبَةِ أَوْطانُ
والأرضُ شَيْءٌ كُلُّها واحدٌ - والنّاسُ إخْوانٌ وَجِيرانُ."(30)

_____


(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر،ج 3، ص 94.
(2) لهذا ورد في لغة العرب: "حَنَّتِ الإبِلُ، أي نزعتْ إلى أوطانِها أو أولادها"، إبن منظور، لسان العرب، ج 13، ص 129. وقد ذكر الشّعراء العرب القدماء حنين الإنسان والحيوان إلى الأوطان كثيرًا: "كما حنّت إلى أوطانها النّيبُ".
(3) إبراهيم طوقان، ديوان، ص 54.
(4) إبراهيم طوقان، ديوان ص 54-55)
(5) حنا أبو حنا، نداء الجراح، ط 3، منشورات الطلائع، يافة الناصرة 1999، ص 34
(6) إميل حبيبي، "بوابة مندلباوم"، سداسيّة الأيّام السّتة، ص 208-213.
(7) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 15.
(8) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، عربسك، ص 522-523.
(9) محمود درويش، حبيبتي تنهض من نومها، 1977، ص 37-39.
(10) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، حيفا 1989، ص 115-122. هذه النّظرة إلى الوطن ليست جديدة بل كانت تكرّرت عند شعراء آخرين من قبل: "وطني... / يا امرأة تفتح / فخذيها للرّيح الغربيّة"، سميح القاسم، سقوط الأقنعة، ديوان ص 126.
(11) من قصيدة: جدليّة الوطن لعلي الخليلي، من مختارات: سلمى الخضراء الجيوسي، موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، الجزء الأول: الشعر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997.
(12) طه محمد علي، ضحك على ذقون القتلة، ص 19-23.
(13) سميح القاسم، دمي على كفّي، ديوان، ص 522-525.
(14) سميح القاسم، في انتـظار طائر الرّعد، ديوان سميح القاسم، منشورات عربسك، مطبعة السروجي، عكا 1979.
(15) محمود شقير، طقوس للمرأة الشّقيّة، دار القدس للنّشر، القدس 1994، ص 58.
(16) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 28-29.
(17) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،المركز الثقافي العربي، بيروت 1998، ص 35.
(18) مريد البرغوثي، قصائد مختارة، ص 86-90.
(19) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 74.
(20) (مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 35.
(21) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه،، ص 73.
(22) حداريم 21، ص 178.
(23) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(24) درويش، ورد أقلّ، ص 13.
(25) حداريم 21، ص 172.
(26) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 7.
(27) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 15.
(28) مريد البرغوثي، رأيت رام اللّه، ص 75.
(29) محمود درويش، ورد أقلّ، ص 21.
(30) اليافعي، مرآة الجنان وعبرة اليقظان، ص 316.

ــــــــــــــــــ

* هذه المحاضرة قُدّمت في غرناطة في ربيع سنة 2002 بدعوة من الصندوق الإسپاني العربي الّذي يستضيف كتّابًا وشعراء من العالم العربي بهدف التّواصل الحضاري بين إسپانيا والعالم العربي.

** نُشرت في مجلة "مشارف"، عدد 18، خريف 2002
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ














على قدر خيلي تكون السّماء

هاتان اللّحظتان الجامدتان همّا نقطة الارتكاز الّتي يقف فيها درويش في هذه المجموعة ويلقي بنظره على العالم.

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!