أيًّا كان مصدر هذه الجرائم البربريّة البشعة التي يشاهدها العالم بأسره في وسائل الاتّصال الحديثة، أكان مرتكبوها من شبّيحة وزبانية النّظام الفاشي أو كان مرتكبوها ممّن ينتمون إلى معارضي هذا النّظام، فإنّ من ينتمي إلى فصيلة الإنسان العاقل يقف مصدومًا أمام هول هذه الحال الإنسانيّة البرّيّة.
سلمان مصالحة || جرائم النّظام والمعارضة
أُشيعت مؤخّرًا
في الكثير من المواقع، وفي اليوتيوب خاصّة، سلسلة من الأفلام التي توثّق جرائم القتل والتمثيل بجثث أتباع النّظام البعثي الفاشي الّذين يشاركون هم بدورهم طبعًا في ماكينة القمع الوحشية للمنتفضين السوريين ضدّ هذا النّظام الإجرامي ذاته. هذه المرّة تأتي هذه الأفلام على غرار تلك الأفلام الّتي وثّقت جرائم الشبّيحة وجيش النّظام بحقّ المواطنين السوريّين.
أي أنّنا قد وجدنا أنفسنا الآن أمام حقيقة هذه الحال الّتي يشهدها هذا البلد المشرقي منذ عام ونصف. إنّ هذا النّظام الأسدي القرداحي الّذي اتّخذ من الحزب العروبي الفاشي مطيّة بلاغية ليس إلاّ، هدف في نهاية المطاف إلى تكريس سلطته القبليّة والطائفيّة. وها هو النّظام ذاته يواجه الآن هذه الأنابيت البشعة الّتي هي من مخلّفات زرعه القبليّ والطائفيّ. إذ أنّنا نقف الآن أمام الحقيقة المتلخّصة في أنّ يدَيْ هذا النّظام قد أوْكَتا كلّ هذه الجرائم الطائفيّة وفاه قد نفخَ كلّ هذا الخراب الإثني والطائفي.
إنّ ما يجري على الساحة السوريّة
ومنذ شهور طويلة هو خير دليل على هذا الخراب، وهو خير شاهد على هذا الخواء الذي تتّسم به هذه البقعة من الأرض. غير أنّ هذا الخواء، الأخلاقي في الأساس، ليس جديدًا مُستحدَثًا في هذا الزّمان. إنّه جزء من طبيعة هذه المنطقة الّتي لم تتطبّع في يوم من الأيّام بطباع المدنيّة.
لقد وقف العلاّمة ابن خلدون طاب ثراه ومثواه، ومنذ زمان طويل، على هذه الطّباع الّتي لم تقبل تطبُّع العمران في يوم الأيّام: "العرب إذا تغلّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسّبب في ذلك أنّهم أمّة وحشيّة باستحكام عوائد التوحّش فيهم فصار لهم خُلقًا وجبلّة، وكان عندهم ملذوذًا... هذه الطّبيعة منافية للعمران ومناقضة له... فالحَجَرُ مثلاً إنّما حاجتهم إليه لنصبه أثافي القدر فينقلونه من المباني ويخرّبونها عليه... لذلك فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الّذي هو أصل العمران..." (مقدّمة ابن خلدون، ص 146).
لقد تحدّث ابن خلدون عن العمران الماديّ في معرض تطرّقه إلى ما يتعلّق بالعرب، غير أنّه حريّ بنا أن نوسّع هذا المنهج الخلدوني إلى فضاء جديد والحديث عن عمران من نوع آخر، ونقصد به العمران الرّوحي. فإذا كان ابن خلدون قد تحدّث عن الحجر، فإنّنا نرغب في توسيع مقولته إلى الحديث عن البشر.
أيًّا كان مصدر هذه الجرائم
البربريّة البشعة التي يشاهدها العالم بأسره في وسائل الاتّصال الحديثة، أكان مرتكبوها من شبّيحة وزبانية النّظام الفاشي أو كان مرتكبوها ممّن ينتمون إلى معارضي هذا النّظام، فإنّ من ينتمي إلى فصيلة الإنسان العاقل يقف مصدومًا أمام هول هذه الحال الإنسانيّة البرّيّة.
عندما يتحدّث ابن خلدون عن الحجر كحاجة عربية لأثافي القدور، فإنّي استذكر تلك الحاجة العربيّة في استخدام البشر لأثافي القدور ذاتها. إذ أنّ ما يشاهده العرب والعالم من جرائم هذا الزّمان يمكن أن نحيله إلى هذا التراث الّذي تترعرع عليه الأجيال العربية.
لنقرأ، على سبيل المثال،
ما دوّنه لنا السّلف عن خالد بن الوليد، الملقّب بـ“سيف الله المسلول“، وكيف أمر بقطع رأس مالك بن نويره لكي يُستخدَم أثفية لقدر يُطبخ فيها لعسكره: "كان مالك من أكثر النّاس شَعْرًا، وأنّ العسكر أثّفوا القدور برؤوسهم، فما من رأس إلاّ وصلت النّار إلى بشرته، ما خلا مالكًا فإنّ القدر نضجت وما نضجَ رأسُه من كثرة شَعْره، ووقى الشّعرُ البشرةَ من حرّ النّار أن تبلغ منه ذلك". ليس هذا فحسب، بل إنّ التّراث يعلّمنا أنّ خالدًا بن الوليد قد فعل ذلك لأنّه رغب في امرأة مالك الّتي قيل عنها "إنّه لم يُرَ أحسنُ من ساقيها". وبالفعل، "يُقال إنّ خالد بن الوليد تزوّج بامرأة مالك ودخل بها، وعلى ذلك أجمع أهلُ العلم" (يمكن العودة إلى هذا الخبر في تاريخ الرسل والملوك للطبري، في البداية والنهاية لابن كثير، في كتاب الفتوح لابن أعثم، في الإصابة لابن حجر وغيرها الكثير).
ولنقرأ، على سبيل المثال أيضًا، عن مصير رأس الحسين بن عليّ. فقد دوّن لنا السّلف كيف وضع عبيد الله بن زياد رأسه في طست "وجعل ينكت فيه بقضيبه" (يمكن العودة للخبر في تاريخ الرسل والملوك للطبري، في بحار الأنوار للمجلسي، وفي الكثير من المصادر الأخرى). وهناك الكثير الكثير من هذا التراث الدّموي الذي تشبّ عليه الأجيال العربية.
إنّ ما يبرز على السّطح
في هذه الأقطار العربيّة الّتي خرجت من الرّكام العثماني، ثمّ الإمبريالي، هو الفشل الذّريع في بناء العمران الرّوحي، أي العمران البشري الّذي يشدّ بعضه بعضًا. لقد خرجت هذه الأقطار من استبداد واحد إلى استبداد آخر بعباءة ”وطنيّة“ في الظّاهر، بينما كانت قبليّة وطائفيّة في الباطن. بكلمات أخرى، لقد بدّلت هذه الأقطار الاستعمار الأجنبي باستعمار قبليّ من قِبَل هؤلاء الّذين يُطلق عليهم مصطلح ذوي القُربى.
لقد وضع الشاعر العربي القديم إصبعه على حقيقة إنسانية جوهريّة بوصفه الظّلم الجائي من ذوي القربى بأنّه ”أشدّ مضاضةً“. نعم، إنّه أشدّ مضاضة لأنّه يكشف زيف القربى ويحيل الإنسان إلى حال اليأس والاكتئاب. إنّ هذا الظّلم المتفشّي في ربوعه يحيله إلى حال عدم الثقة ببني البشر أصلاً. إنّ فقدان هذه الثقة بالبشر هو أساس الخراب، هو أسّ الخواء الأخلاقي، وهو الذي يُفضي إلى التفكّك والاندثار الرّوحي. نعم، إنّه النّقيض للعمران البشري أيضًا.
هذا هو، في الأساس، الفشل الكبير
لكلّ هذه الأنظمة المتهالكة في الأقطار ”العربية“. إذ لم تُفلح كلّ هذه الأنظمة، على اختلافها، في بناء شعوب متعاضدة كالبنيان الذي يشدّ بعضه بعضًا. لقد انبنت كلّ هذه الأنظمة على الاستبداد القبليّ والدينيّ. ولمّا كان الاستبداد القبليّ والدّيني نقيضًا للحريّة ونقيضًا للرّوح الإنسانية فإنّه لا يدوم على حاله. إنّه حال مؤقّتة سرعان ما تتهاوى أمام انتفاضة نشود الحريّة البشرية. والحريّة هي طبيعة بشريّة في نهاية المطاف.
إنّ الطريق الوحيدة للخروج من هذه الدوّامة الدمويّة العربية واضحة للعيان ولا حاجة إلى اختراع العجلة من جديد. ما على الإنسان العربي إلاّ أن يلتفت إلى العالم من حوله لكي يتلمّس الطريق الواضحة. من هنا، تبرز هذه الحاجة العربيّة الملحّة إلى بناء المجتمعات على أسس تتخطّى تلك الانتماءات القبليّة، الإثنيّة والدينيّة. إنّ بناءً كهذا لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في دولة مدنيّة عابرة لكلّ هذه الانتماءات. هذا لا يعني عدم الانتماء وإنّما يضع البناء المجتمعي على أسس أقوى تنبني عليها المدنيّة الحديثة. لهذا السبب أيضًا، هنالك حاجة ملحّة لإعادة تقييم للحياة العربيّة، للحضارة العربيّة منذ أن ظهرت هذه على مسرح التاريخ.
كلّ ما يتمّ نشره من جرائم تُرتكب من قبل النّظام أو من قبل المعارضة في بلاد العرب تشير إلى أنّ ثمّة خيطًا رفيعًا، غير أنّه متين جدًّا، يربط بين هذه الجرائم الآن وتلك الجرائم المُوثّقة عربيًّا منذ قديم الزّمان والّتي أشرنا إلى أمثلة منها من قبل. لهذا، فإنّ كلّ من يرغب حقًّا بالخروج من هذه الدوّامات الدّمويّة العربيّة مُطالب إنّه مُطالب بالدّعوة إلى قطع هذا الخيط وقطع هذه الصّلة مع هذه الجرائم.
إذن، هنالك حاجة ملحّة
إلى إجراء حساب نفس عربيّ. ولكي يكون لحساب النّفس هذا تأثير على مصير العرب للأجيال القادمة فإنّه من الضروري أن يتمّ هذا الحساب علانية. من الضّروري أن يتمّ بأبعد حدود الصراحة. إنّه لمن الضروري أن يتمّ وضع كلّ شيء للمساءلة والمناقشة أمام أعين الجميع، وعدم إخفاء الأوساخ تحت البساط. إذ أنّه فقط بالمصارحة يمكن أن تتمّ المصالحة مع النّفس ومع الآخر. أمّا بانعدام هذا الحساب فما من طريق أمام هؤلاء البشر سوى طريق الخراب والخواء الأخلاقي.
والعقل وليّ التوفيق!
*
نشر: ”إيلاف“، 15 أغسطس 2012
***
For English, press here
For Polish, press here
___________________
0 تعليقات:
إرسال تعليق