الخميس، 1 يناير 2015

عن الشياطين التي فينا

دون مساءلة من نظام أو من أحد. لقد أضحى هذا النوع من الكتابة بمثابة عظمة يتلهّى بها الكتاب العرب، لأنّهم يخشون الاقتراب من المحظورات السياسية، الاجتماعية والدينية.


سلمان مصالحة || 

عن الشياطين التي فينا



منذ العام 1948 شكّل الحديث عن فلسطين والنكبة مسارًا فريدًا ووحيدًا في الخطاب العربي القومي السائد لدى كافّة الأنظمة العربية على اختلاف مشاربها. في ذلك الأوان كان العالم خارجًا من حرب عالمية عظمى، وداخلاً في حرب باردة بين قطبين، بينما كان العالم العربي خارجًا من الاستعمار، داخلاً في تشكيلة من الكيانات السياسية الجديدة التي رسمت حدودها الدول الاستعمارية التي بدأت تخرج من المنطقة.

لقد كان المدّ القومي في أوجه، وسرعان ما توالت الانقلابات آتية بحكم العساكر في بعض هذه الكيانات المستحدثة. وهكذا، وعلى خلفية الشعور القومي، فقد أشيع على الملأ في مشارق العرب ومغاربهم أنّ فلسطين هي قضية العرب الأولى. ومنذ ذلك الأوان شكّل هذا الشّعار، في خطاب أنظمة الاستبداد العربية التي ادّعت نشود الوحدة القوميّة وسائر الشعارات الرنّانة، سلاحًا فعّالاً ضدّ كلّ من تُسوّل له نفسه معارضة هذه الأنظمة الفاسدة والمفسدة في الأرض. وهكذا أضحى شعار ”فلسطين“ كاتم صوت أطبقته تلك الأنظمة على أفواه النّاس لتأجيل كلّ مطلب بالحرية، بالعمل وبالعيش الكريم بدعاوى مثل ”هذا ليس الوقت لذلك“، أو ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة“.

وعلى مرّ السنين أضحت نكبة فلسطين والشعارات العروبية التي رافقتها نقمة كبرى على عموم البشر في الأقطار العربية. لقد امتدّ هذا الوضع لسنوات طويلة تخلّلتها حروب وهزائم لا تُعدّ ولا تُحصى. وخلال كلّ تلك السنين لم يتحرّر جزء من فلسطين، بل على العكس ضاع الجزء الآخر منها واستمرّت الشعارات العربية على ما هي عليه.

لم تتعلّم الزعامات العربية، بمن فيها الزعامات الفلسطينية، شيئًا من كلّ تلك الهزائم، بل واصلت السير في غيّها محمولة على أجنحة البلاغة العربية إيّاها التي جلبت المصائب على العرب في غير قطر من الأقطار العربية وعلى الفلسطينيين بالذات. لقد حصل كلّ ذلك بتأثير من نزوات الزعامات العربية التي اتّسمت بقصر نظر سياسي، تاريخي واجتماعي إلى أبعد الحدود.

وهكذا، فإنّ كلّ العروبيين الذين شنّفوا آذاننا طوال سنوات طويلة بأنّ فلسطين هي ”قضية العرب الأولى“ سيكتشفون في السنوات الأخيرة أنّ لدى العرب قضايا كثيرة أخرى لا تقلّ إلحاحًا من وجهة نظر الإنسان العربي في أماكن تواجده عن قضية فلسطين. الشعارات العروبية التي طال أمدها لم تقنع رجل الشارع في بلدان الاستبداد العربي المزمن. كلّ تلك الشعارات لم تخلق له أماكن عمل، لم تمنحه الحرية ولم تفتح له آفاقًا جديدة لحياة كريمة في عصر التطورات المتسارعة.

لقد نسي كلّ دعاة العروبة والإسلام أنّ العربي الجائع لا يستطيع أن يحلم إلاّ بلقمة العيش، والعربي العاطل عن العمل لا يستطيع أن يحلم إلاّ بمكان عمل لكي يستطيع أن يعيل أبناءه، والعربي المكبوت لا يستطيع أن يحلم إلاّ بالحرية. إنّ الحديث الذي يدغدغ العواطف عن فلسطين وما شابه ذلك هو حديث الذين يهربون من مواجهة الواقع المزري على جميع الأصعدة في بلدانهم، وفي أماكن تواجدهم.

وعلى الرغم من كلّ ما يجري من تفتيت وتقتيل في كلّ الكيانات العربية المصطنعة، لا يزال هنالك كثير من الكتاب العرب سائرين على ذات النهج الذي ترعرعوا عليه. فبدل التعمّق في البحث عن جذور هذا الفشل العربي في كلّ مكان، والإشارة إلى مكامن الخلل السياسية، الثقافية والاجتماعية في هذه المجتمعات، تراهم يهربون مرّة أخرى إلى تلقُّف وعلك الكلام المكرّر عن المؤامرات الغربية والصهيونية والشيطان الأكبر والشيطان الأصغر.

الصحافة العربية تعجّ بهذا النوع من الكتابات لأنّ الكتابة عن ذلك هي الأسهل، فهي تدغدغ عواطف العرب، كما إنّ نشرها مضمون، دون مساءلة من نظام أو من أحد. لقد أضحى هذا النوع من الكتابة بمثابة عظمة يتلهّى بها الكتاب العرب، لأنّهم يخشون الاقتراب من المحظورات السياسية، الاجتماعية والدينية.

لا أحد يجرؤ على التحدّث عن الشياطين الكامنة في ذهنيّاتنا العربية نحن. إنّها الشياطين العربية القبلية والطائفية والمذهبية التي تسيطر علينا وترشد كلّ خطوة من خطواتنا في هذه البقعة من الأرض. فليس الغرب ولا الصهيونية مسؤولين عن تفتيت مجتمعاتنا. إذ أنّنا نحن المفتّتون أصلاً، ولم نفلح في يوم الأيّام في الالتئام لبناء مجتمع أو دولة عصرية، ناهيك عن شعب بما يعنيه هذه المصطلح من معنى. إنّ كلّ كلامنا المعسول عن اللحمة الاجتماعية هو مجرّد شعار ليس إلاّ غايته دغدغة عواطفنا الكاذبة أصلاً. كلّ هذا النوع من الشعارات كان يُخفي خلفه كلّ الصدوع العميقة الموجودة في نسيجنا الثقافي والاجتماعي.

لذلك، ليس من قبيل الصدف أن يحصل التفتّت في كلّ هذه الكيانات المصطنعة لدينا وبهذه السرعة مع حصول كلّ صدمة نواجهها. ولعلّ ما حصل في السنوات الأخيرة في الكثير من الأقطار العربية خير مثال على ما نرمي إليه. فهل نتفكّر قليلاً في دواخلنا نحن قبل صبّ اللوم على الآخرين؟
*
نشر: ”الحياة“، 1 يناير 2015


مشاركات



تعليقات فيسبوك:


تعليقات الموقع: يمكن إضافة تعليق هنا. لا رقابة على التعليقات مهما كانت مخالفة للرأي المطروح، بشرط واحد هو كون التعليقات وصيلة بالموضوع.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

قضايا عربية
  • دول عصابات

    ليس أسهل على العربيّ القابع في بلاد ينخر فيها الفساد من كيل السباب على العالم بأسره.


  • تفكيك العنصرية

    فإذا كانت هذه هي حال القومجيّين تجاه أبناء جلدتهم، فما بالكم حينما يكون الأمر متعلّقًا بموقفهم تجاه أقوام أخرى لا تنتمي للعرب ولا للعروبة...
    تتمة الكلام...

  • هذيان ثنائي القومية

    على خلفية الحروب في العالم العربي يتم سماع طلبات بضم المناطق الفلسطينية لاسرائيل (من اليمين)، أو اقامة دولة ثنائية القومية في ارض اسرائيل – فلسطين (من اليسار)،...
    تتمة الكلام...

شؤون محلية
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
  • كل يغني على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف.
 

نظرة ليلية على القدس (تصوير: س. م.)
ثقافات
  • القصيدة الشامية

    نَدًى بِعَيْنِكَ، أَمْ دَمْعٌ بِهِ نارُ؟
    أَمْ فَارَقَتْ سِرْبَهَا فِي الجَوِّ أَطْيَارُ؟

    وَمَنْ تَرَجَّلَ جُنْحَ اللَّيْلِ عَنْ فَرَحٍ
    إذْ رَجَّعَتْ حُزْنَهَا فِي الأُفْقِ أَسْحارُ؟

    لا زِلْتَ لَيْلَكَ أَرْضَ الشّامِ تَرْقُبُها
    شَعْبٌ تَمَلْمَلَ مِنْ ظُلْمٍ، لَهُ ثارُ



  • نشيد الأناشيد

    (1) أَنَا زَنْبَقَةُ الشَّارُونِ، سَوْسَنَةُ الوِدْيَانِ. (2) كَسَوْسَنَةٍ بَيْنَ الأَشْواكِ، كَذَا حَلِيلَتِي بَيْنَ البَنَاتِ. (3) كَتُفَّاحَةٍ بَيْنَ شَجَرِ الوُعُورِ، كَذَا حَبِيبِي بَيْنَ البَنِينِ؛ فِي ظِلالِهِ رُمْتُ لَوْ جَلَسْتُ، وَثَمَرُهُ حُلْوٌ فِي حَلْقِي.

    تتمة الكلام
  • بالكريشنا ساما

    مَنْ يُحِبُّ الزُّهُورَ لَهُ قَلْبٌ حَسّاسٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطِيعُ اقْتِطاعَ نَوارِها
    لَهُ قلبٌ نَبيلٌ.

    مَنْ يُحِبّ الطُّيُورَ لَهُ رُوحٌ رَقيقَةٌ،
    مَنْ لا يَسْتَطيعُ أكْلَ لَحْمِها
  • رحلة صوفية

    خُذُوا مِنِّي التِّلالَ،
    وَزَوِّدُونِي بِمَا يَكْفِي مِنَ
    القَلَقِ الدَّفِينِ.

    سَئِمْتُ مِنَ التَّرَدُّدِ
    فِي بِلادٍ، رَمَتْ حُلُمِي
    بِمَاءٍ مُسْتَكِينِ.



اقرأ بلغات أخرى
  • געגועים לירושלים

    כל אחד מחפש את ירושלים שלו. ברגע שהוא משיג אותה, הוא פונה לחפש אותה במקום אחר. משורר פלסטיני צעיר, שחזר גם הוא לפלסטין בעקבות הסכמי אוסלו, נדרש להרחיק את עצמו בחזרה אל גלותו בסופיה כדי לכתוב על ירושלים
    כל הפרטים
  • Por Um Lado e Pelo Outro

    No momento em que cada um dos dois povos, em dois Estados independentes, construir um Estado secular e democrático em seu próprio lado, deixando claro, que a fronteira entre ambos não terá nenhum significado.
    Read more

  • Refugee Blues

    Say this city has ten million souls,
    Some are living in mansions, some are living in holes:
    Yet there's no place for us, my dear, yet there's no place for us.

    Read more


لغات الموقع