وهكذا بدأت الاستعدادات العربية للحرب بغية إفشال القرار الأممي الذي قضى
بتقسيم فلسطين وإنشاء دولتين، يهودية وعربية
الحاج أمين الحسيني مع هتلر |
سلمان مصالحة ||
فلسطين - لعبة البلاغ ونكبة البلاغة
في الوقت الذي بات فيه الفلسطينيّون يفاوضون على أقلّ من ربع فلسطين الانتدابية
الذي احتلّته إسرائيل في حرب «النكسة»، كما وسمتها الأنظمة العربية المهزومة
تخفيفًا للصدمة الكبرى التي منيت بها، فإنّ نظرة سريعة على الصحافة الفلسطينية
في السنوات التي سبقت النكبة تكشف لنا جزءًا من مسبّبات هذه النكبة التي لا
يزال الفلسطينيون يعانون من نتائجها حتّى هذه اللحظة.
عندما أخذت تلوح في الأفق الخطط الفعلية لتقسيم فلسطين الانتدابية هبّت الأنظمة
العربية معارضة لهذه الخطّة، مستعينة بلغة البلاغة العربية التليدة، ودون أن
تأخذ بالحسبان موازين القوى الدولية الخارجة من الحرب العظمى الثانية وما تمليه
عليه مصالحها الكبرى.
فها هي عناوين مثل: «الجامعة العربية ترفض تقسيم فلسطين»، أو «العواصم العربية
تقابل مشروع تقسيم فلسطين بالرفض“ وما شابه ذلك، هي جزء من العناوين التي
تصدّرت الصفحات الأولى في الصحافة الفلسطينية في ذلك الأوان. ليس هذا فحسب، بل
ربّما استنادًا إلى هذه التصريحات القادمة من العواصم العربية الـ«مقاومة»
والـ«ممانعة» آنئذ، فها هو جمال الحسيني، نائب رئيس اللجنة العربية العليا يعلن
عام 1946 بلغة البلاغ: «سنقاوم التقسيم بكلّ ما أوتينا من قوة، وإذا أراد الله
وزلنا من الوجود أثناء مقاومتنا هذه قبل أن نصل إلى هدفنا المنشود، فسيتولّى
عرب الأقطار الشقيقة هذه المقاومة بعدنا.» («الوحدة»، 30 ديسمبر 1946)
ولمّا لم يكن الـ«ممانعون» في ذلك الأوان على علم بخبايا السياسة الدولية
وموازين القوى الفاعلة فيها، فقد جاءت الصدمة مع التغيّر في الموقف السياسي
السوڤييتي الذي عبّر عنه غروميكو في تصريحه بهيئة الأمم المتحدة قبل التصويت
على قرار التقسيم: «موقف عجيب لمندوب روسيا في عطفه على اليهود وآلامهم.»
(«فلسطين»، 15 مايو 1947)
أمّا ردّ الجامعة العربية على تصريح غروميكو فقد جاء على لسان عبد الرحمن عزام،
الأمين العام لجامعة الدولة العربية: «إنّ الاقتراح الروسي الذي أبداه المسيو
جروميكو في الجمعية العمومية لهيئة الأمم بشأن إنشاء دولتين للعرب واليهود أو
دولة ثنائية في فلسطين اقتراح لا يقبله العرب.“ («فلسطين»، 16 مايو 1947).
وهكذا بدأت الاستعدادات العربية للحرب بغية إفشال القرار الأممي الذي قضى
بتقسيم فلسطين وإنشاء دولتين، يهودية وعربية: «لجنة الجامعة الفرعية تتخذ
التدابير الدفاعية عن فلسطين. 7 آلاف جندي مصري إلى سيناء وتدفّق الفرق
السوريّة“ («فلسطين»، 17 أكتوبر 1947)
ثمّ أخذت البيانات البلاغية العربية تتوالى وتنتشر في الأجواء. فها هو المتحدّث
باسم الجامعة العربية يتطرّق إلى الحالة في فلسطين معلنًا: «إنه ستُوجّه إلى
فلسطين فعلا بعض الضربات الشديدة في الأيام المقبلة، ولكن لم يبق غير أسبوع أو
أسبوعين ثمّ تشتد المعركة إلى حد بالغ وتدخل في دور جديد تظهر فيه قوة العرب
جلية وواضحة.» («فلسطين»، 29 يناير 1948)
وفعلاً فقد اشتدّت المعارك على الأرض،ثمّ بدأت تنتشر الـ«بطولات» العربية في
الصحافة: «القوات العربية تضيّق الحصار على المعتدين اليهود... اشتراك الوحدات
العربية التي أحرزت النصر في معركة كفر عصيون.» («الدفاع»، 4 أبريل 1948). أمّا
جلالة الملك فارق فيقول: «الجيوش العربية تحتل فلسطين لتسلمها من بعد إلى
أهلها.» («فلسطين»، 14 أبريل 1948)
وها نحن نورد هنا نبذة فقط من عناوين الـ«بطولات» في الصحافة الفلسطينية: «حركة
التفاف بارعة طوّق فيها الأبطال العرب 500 من الأشرار اليهود.»، «معركة الجليل
تسفر عن 60 قتيلاً وعشرات الجرحى من اليهود بينهم شخصيات كبيرة.»، «قرى الجنوب
تتبارى في تحطيم القوافل وتأديب ركابها الأشرار.»، «أشلاء اليهود تتطاير مع
مصفّحاتهم في الجنوب».
ثمّ لم يمض وقت طويل، وبين ليلة وضحاها استفاق الفلسطينيون على النكبة التي
حلّت بهم، فتشتّت منهم مئات الألوف ملتجئين إلى ديار العرب المجاورة التي
حصرتهم في مخيّمات اللجوء منذ ذلك الأوان.
وعلى هذه الخلفية، حريّ بنا أن نستعيد ما كان قد دوّنه المؤرّخ قسطنطين زريق في
العام 1948 في مؤلّفه «معنى النكبة»: «سبع دول عربية تعلن الحرب على الصهيونية
في فلسطين، فتقف أمامها عاجزة. ثمّ تنكص على أعقابها. خطب نارية يلقيها ممثلو
العرب في أعلى الهيئات الدولية منذرة بما ستفعله الدول والشعوب العربية... فإذا
النار خافتة باهتة وإذا الصلب والحديد صدئ ملتو سريع العطب والتفتّت.». ثمّ
يمضي قسطنطين زريق في اقتفاء أثر الأسباب التي أدّت إلى هذه النكبة فيقول:«من
الحقّ والواجب كذلك أن نقرّ بأخطائنا ونتبيّن مصادر الضعف في كياننا، وأن نعرف
مسؤوليّتنا في هذه الكارثة التي أصابتنا. ومن الشرّ كلّ الشرّ أن نتهرّب من هذه
المسؤولية، ونعمي أبصارنا عن مناحي تقصيرنا.»
كما يكتب قسطنطين زريق كلامًا وكأنّه كُتب في هذا القرن وفي هذا الأوان، وليس
في العام 1948 من القرن المنصرم: «فما أكثر ما نسمع بيننا اليوم من شتم لليهود،
ومن تنديد بالإنكليز والأميركان والرّوس، وبمجلس الأمن و... و...».
وخلاصة الكلام، ألا يتفكّر الزعماء العرب ومن يواليهم من نخب عربية في الويلات
التي يجرّونها على شعوبهم وبلادهم بعد كلّ هذه المصائب والنكبات التي حلّت بهم
جرّاء هذه البلاغة التي أدمنوا عليها؟
0 تعليقات:
إرسال تعليق