مختارات
وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خوانًا صغيرًا؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية
محمد علي ||
الرحلة اليابانية
تقديم
”… ولكن لما كان حب الأوطان طبيعةً مفطورًا عليها الإنسان؛ وجب على العاقل أن يطوف في بلاد الله ما استطاع، ويرى كثيرًا من الأمكنة والبقاع، ويعرف ما لكل من العوائد التي يترتب عليها جزيل الفوائد، وإذا رأى أن جهة من الجهات أكثر ثروةً، وأعظم من أمته قوةً بحث في أسباب ذلك بحث المدقق الخبير، وعرفه معرفة الناقد البصير، حتى إذا عاد إلى عطنه عرف ذلك إلى أهل وطنه، وإذا رأى أمة مضمحلًّا حالها، كاسفًا بالها عرف أسباب ذلك الكساد، وما يترتب عليه من مضرات العباد، وحذر من ذلك أهل بلاده بقدر استطاعته، ومبلغ اجتهاده، ويكون إذا أخبر بشيء مخبرًا عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان؛ فيحصل بذلك على فوائد جليلة، ومزايا جزيلة، أهمها: منفعة وطنه الذي فيه رُبِي، وببحبُوحةِ فضله حُبِي، والفوز برضا الله ومزيد ثوابه بنفعه للبلاد، وخدمته للعباد...
”… ولكن لما كان حب الأوطان طبيعةً مفطورًا عليها الإنسان؛ وجب على العاقل أن يطوف في بلاد الله ما استطاع، ويرى كثيرًا من الأمكنة والبقاع، ويعرف ما لكل من العوائد التي يترتب عليها جزيل الفوائد، وإذا رأى أن جهة من الجهات أكثر ثروةً، وأعظم من أمته قوةً بحث في أسباب ذلك بحث المدقق الخبير، وعرفه معرفة الناقد البصير، حتى إذا عاد إلى عطنه عرف ذلك إلى أهل وطنه، وإذا رأى أمة مضمحلًّا حالها، كاسفًا بالها عرف أسباب ذلك الكساد، وما يترتب عليه من مضرات العباد، وحذر من ذلك أهل بلاده بقدر استطاعته، ومبلغ اجتهاده، ويكون إذا أخبر بشيء مخبرًا عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان؛ فيحصل بذلك على فوائد جليلة، ومزايا جزيلة، أهمها: منفعة وطنه الذي فيه رُبِي، وببحبُوحةِ فضله حُبِي، والفوز برضا الله ومزيد ثوابه بنفعه للبلاد، وخدمته للعباد...
ولما كان لا يمكن كل واحد من الناس أن يسير في الأرض، ويتجوَّل في طولها والعرض؛ لموانع تمنعه من الأسفار، وبواعث تلزمه بعدم مبارحة الديار — نصب كثير من الفضلاء أنفسهم للسير في البلاد لمقاصد جليلة، أهمها: منفعة العباد، ودوَّنوا الرحل المفيدة في الجهات العديدة، فمن طالعها فكأنما شاهد ما شهدوه من المشاهد، واطلع على ما رأوه من الآثار والمعاهد؛ ولذلك قد رأيت أن أقيد رحلتي إلى اليابان؛ ليطلع عليها كل إنسان؛ خدمة للإنسانية أؤديها، وهدية للمسترشدين من بني الأوطان أهديها، وأسأل الله دوام التوفيق، والهداية لأقوم طريق.“
في توكيو:
”وكانت الفسحة من داخل البلد جميلة جدًّا لكثرة المرور على الكباري الكبيرة الموجودة على الأنهار المتفرعة إلى فروع كثيرة، ومتجهة إلى جهات مختلفة، ورأيت أن الفقراء بهذه البلدة يحافظون على النظافة محافظة تامة.
وبعد وصولي إلى النزل أرسلت لناظر الخارجية ورقة الزيارة، وأخبرته أني كنت أريد أن أتشرف بمقابلة الميكادو مقابلة غير رسمية، وظننت أني لكوني شرقيًّا ومسلمًا ربما يكون ذلك مما يسهل تلك المقابلة، فأخبرت أنه لا يمكن مقابلته، أو الدنو منه، إلا بصفة رسمية بواسطة سفير من السفراء، فلما علمت ذلك صرفت النظر عن تلك المقابلة.
وفي هذه الليلة قد عزمنا على أن نتوجه إلى الفندق الأهلي الياباني الذي سبق الكلام عليه، فأخبرونا أن ما يدفعه الشخص الواحد من النقود قيمة أكله 2 ين ونصف، وما يدفعه عن التفرج على المرقص 25 ينًّا، فتوجهنا وقت الغروب إليه، وبمجرد وصولنا قابلنا عدة نساء من اليابانيات على بابه، وأخبرنا بأنه لا بد من خلع النعال؛ لأن المحل مفروش، ومن ضمن هؤلاء بنت صغيرة تبلغ من العمر نحو تسع سنين، ومشت أمامنا لأجل أن تدلنا على المحل الذي نجلس فيه، وهي في غاية من النظافة والخلاعة، فوصلنا إلى رحبة كبيرة حيطانها الأربع من الورق السميك، وبها كثير من الرسوم اليابانية البديعة الأشكال والألوان، فوجدنا بها وسادات على الأرض ومقاعد بسيطة ليس بها سواها، مع سعة الحجرة ونظافتها.
وبمجرد وصولنا إلى هذه الحجرة وجلوسنا فيها قد أتت عدَّة نساء، وأحضرن أمام كل واحد منا خوانًا صغيرًا؛ لأجل وضع الأكل عليه، فجلسنا على هذه المقاعد متربعين كالعادة العربية، ثم أحضروا لنا الأكل، فأوَّلًا قد أحضروا لنا المرقة المعروفة بالشربة، ولم يحضروا لنا ملاعق لأجلها، بل إنهم من غريب أمرهم أنهم قد استعاضوا عنها بكاسات صغيرة يشربونها بها، وبعد ذلك أحضروا لنا نوعًا من السمك حسن الصنع، وعدَّة من أنواع الخضراوات والأرز، وكان الأكل بواسطة خشبتين صغيرتين يقبضهما الإنسان ويجعلهما شبه "الماشة" ثم يأكل بهما، وكل شخص له آنية مخصوصة، والخادمات يخرجن ويدخلن معًا عند حضور أي طعام كان.
ولما انتهى الأكل ورفع من أمامنا، حيانا هؤلاء الخادمات بالسجود على الأرض — كما هي عادتهن — وبعد ذلك فتحت الحائط التي كانت أمامنا، لأن بيوتهم مبنية من حيطان من الورق؛ ولذلك ينقلونها على حسب أغراضهم واحتياجاتهم، وبعد أن فتحت هذه الحائط ابتدأ الرقص، فوجدناه بحالة لم نسر منها، والموسيقى عندهم كذلك ليست على ما ينبغي؛ لأنها عبارة عن ست بنات، كل اثنتين لهما عمل مخصوص، فاثنتان منهما تلعبان بشيء يشبه العود وبيدهما قطعة تضربان عليها، واثنتان تصفران بصفارة، واثنتان تغنيان، والجميع يفعلن ذلك بحالة محزنة كأنهن يبكين، وبعدما رأينا كل ما فعلوه، ورأينا أن الرقص كأنه حركات أخرس يريد أن يفهم الكلام إلى سواه؛ أعطيناهم المطلوب وبعض نقود على سبيل الصدقة، فسررن بذلك سرورًا كثيرًا، ثم أخبرني الترجمان أن هذا الرقص ليس هو من عادات اليابانيات، وإنما يفعلن ذلك مرضاة للسوَّاح لأجل كسبهن، وليس عندهن رقص في عوائدهن، فكلمت الترجمان أن يرجع بنا إلى الفندق؛ لأجل أن نتغدَّى هناك مرة ثانية؛ لأن الأكل الذي أكلناه لا يسدُّ رمقًا ولا يحصل منه شبع، فعدنا إلى الفندق وتغدَّينا كالعادة.
وفي يوم آخر قد توجهنا لزيارة الرياض والبساتين، وبقينا طول يومنا، وعند رجوعنا في الساعة السابعة بعد الظهر كان بالفندق وليمة كبيرة من الأميرال وضباط الأسطول الأمريكاني، الذي قد جاء زائرًا اليابان للأميرال توجو، وضباط البحرية اليابانية، وكانت الموسيقى التي تضرب لهم وقت تناول الطعام كل أفرادها عبيد أمريكانيون.
ومع كون الحالة كانت سارَّة، إلا أن الشيء الذي يؤسف عليه ويُكَرِّه الإقامةَ للغريب في هذه البلاد هو: أن اليابانيين مع ما وصلوا إليه من التقدم والحضارة يريدون أن يأخذوا من أي شخص كل شيء، ولا يطلعونه على شيء.“
محمد علي، الرحلة اليابانية