لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟



سلمان مصالحة

لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟


أيًّا ما كان الشأن في مسألة قبلة  
بيت المقدس، أكانت هي القبلة الأولى أم الثانية، كما نوّهت في المقالة السابقة "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟" وأيًّا ما كان الشأن في مسألتها، أكانت أمرًا إلهيًّا أم تخييرًا من لدن اللّه، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: لماذا استقبال بيت المقدس، أو لماذا أصلاً استقبال صخرة بيت المقدس بالذات دون غيرها في الصّلاة؟مرّة أخرى، ومن أجل الإجابة على هذه التّساؤلات ما علينا إلاّ أن نشدّ رحالنا إلى تضاعيف التّراث الإسلامي ذاته لنتبيّن سبيلنا، من خلال ما دوّنه لنا السّلف، ابتغاء الوصول إلى إجابة واضحة.

 قبلة اليهود:
 فلو أنعمنا نظرنا في هذا التّراث الإسلامي نرى أنّ ثمّة إجماعًا فيه على أنّ "صخرة بيت المقدس" هذه هي قدس أقداس اليهود، ولو حاولنا في هذا السياق استخدام التّعبير الإسلامي بخصوصها فقد أطلق عليها المسلمون بدءًا من الرسول اسم "قبلة اليهود"، كما يتّضح ذلك من الحديث النبوي: "وددتُ أنّ ربّي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها" (طبقات ابن سعد: 1ج، ص 241؛ تفسير مقاتل:ج 1، 92; تفسير الطبري:ج 2، ص 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ بحر العلوم للسمرقندي: 1، 126)، إذ أنّ بيت المقدس كما تذكر الرّوايات والمأثورات الإسلاميّة المختلفة هي "قبلة اليهود"، على وجه الخصوص (تفسير ابن كثير: ج 1، 265؛ تفسير القرطبي:ج 8، 837؛ زاد المسير لابن الجوزي، ج 4، 55؛ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي:ج 1، 117)، أو هي "قبلة أهل الكتاب..." تعميمًا (تفسير البغوي:ج 1، 162). وها هو ابن قيم الجوزية، عندما يتطرّق إلى قدسيّة الصّخرة يقول ذلك صراحة: "وأرفعُ شيءٍ في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود" (المنار المنيف لابن قيم الجوزية: ج 1، 88)، ولا يشذّ عن هذه النّظرة المفكّر الإسلامي المعاصر سيّد قطب الذي يصرّح هو الآخر بذلك أيضًا: "بيت المقدس - قبلة اليهود ومُصَلاّهم." (في ظلال القرآن: ج 1، 72).

فمن جميع هذه الروايات نفهم أنّ ثمّة تداخُلاً بين بيت المقدس والصخرة في المنظور الإسلامي. وبكلمات أخرى فإنّ مصطلح "بيت المقدس" الذي شاع في التّراث العربي هو في الواقع مصطلح مرادف لـ"الصخرة" التي هي قبلة اليهود كما أجمع عليها المفسّرون والمفكّرون المسلمون منذ القدم وحتّى العصر الحديث. كما يتّضح جليًّا، ممّا أوردنا سالفًا، هذا الإجماع الإسلامي على أنّ الصخرة وبيت المقدس هي أقدس بقعة لدى اليهود، أو هي "قبلة اليهود"، كما ذكرت الرّوايات الإسلاميّة، مثلما هي الكعبة ومكّة قبلة للمسلمين. ولمّا كانت هذه حال هذه البقعة المحدّدة من الأرض، أكانت هي أولى القبلتين أو هي الثانية كما بيّنا من قبلُ في المقالة السّابقة، فلا مناص من إثارة السؤال المُلحّ، لماذا إذن يتوجّه إليها الرّسول والمسلمون الأوائل بالصّلاة؟


من المعلوم أنّ الكعبة 
الكائنة في مكّة، ومنذ عصور قديمة، هي مكان عربيّ مقدّس وهي محجّة العرب منذ قديم الزّمان. من هنا فإنّ الإسلام العربيّ كان موجّهًا في بداية أمره إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، غير أنّ معارضة قريش وسائر العرب الجاهليّين في البداية لرسالة محمّد الجديدة هذه قد دفعتاه إلى البحث عن مكان آمن لأتباعه. هكذا كانت هجرة الحبشة بعد أن اشتدّ التّضييق على أتباعه، بينما بقي هو ولم يهاجر بسبب الانتماء القبلي، فالنّعرة القبليّة للبيت الذي ينتمي إليه هي التي حمته من الأذى كما تذكر الرّواية الإسلامية: "وكان رسول الله صلعم في منعة من قومه وعمّه، لا يصل إليه شيء ممّا يكره، ممّا ينال أصحابُه. فقال لهم رسول الله صلعم: إنّ بأرض الحبشة ملكًا لا يُظلم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجًا ومخرجًا ممّا أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالا حتى اجتمعنا بها." (السيرة النبوية لابن اسحاق: ج 1، 74، 194؛ سيرة ابن هشام: ج 2، 164؛ سنن البيهقي: ج 2، 268؛ سيرة ابن كثير: ج 2، 16؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 3، 85).

ولذلك أيضًا بدأ الرسول صلعم يبحث عن دعم لرسالته يأتيه من مكان آخر. وهكذا بدأ البحث عن قبلة أخرى بدل الكعبة ومكّة، وقد يكون هذا هو السّبب من وراء الهجرة إلى المدينة، لذا يذكر الرّازي: "إنّ أصل أمرك أن تسقبل الكعبة وأنّ استقبالك بيت المقدس كان أمرًا عارضًا لغرض..." (تفسير الرّازي - مفاتيح الغيب: 2، 396؛ تفسير اللّباب لابن عادل: 2، 160)، أو أنّ هذا الاستقبال قد كان "لفائدة"، كما ورد في روايات أخرى (تفسير النيسابوري: ج 1، 355). أي أنّ أصل الرّسالة هو التوجّه إلى مكّة والكعبة، غير أنّ ما جرى مع الرّسول قد دفعه إلى استقبال صخرة بيت المقدس، وقد كان هذا التحوُّل أمرًا طارئًا لأسباب تتعلّق بمجريات الأحداث التي ألمّت به وبصحابته في بداية الرسالة، وقد كان استقبال بيت المقدس بدل استقبال الكعبة ومكّة لغرض معيّن، أي لأهداف معيّنة سنشرحها فيما يلي.
 

فما هو هذا الغرض، إذن؟
مرّة أخرى، لا تترك الرّوايات التي حفظها لنا السّلف مجالاً للشكّ في أهداف هذا التّحوُّل. فمن هذه الرّوايات يتّضح جليًّا أنّ الغاية من وراء استقبال صخرة بيت المقدس، أكان ذلك الاستقبالُ قد حصل قبل أو بعد الهجرة، قد كانت لهدف واحد ومحدّد، وهذا الهدف هو التقرّب إلى اليهود واستمالتهم إليه إثر المعارضة التي واجهها من عرب الجاهليّة في مكّة، كما تذكر بعض الروايات الإسلامية: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ إعراب القرآن لابن سيدة: ج 1، 310؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وبرواية الثعلبي: "أمره تعالى أن يصلي نحو الصخرة ببيت المقدس ليكون أقربَ إلى تصديق اليهود إياه إذا صلّى إلى قبلتهم..." (الكشف والبيان للثعلبي:ج 1، 259).

ولذلك كان اليهود يعجبهم أنّ محمّدًا يتوجّه بالصلاة نحو بيت المقدس الذي هو قبلة اليهود: "وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قِبَلَ المقدس..."، كما يورد البغوي (تفسير البغوي:ج 1، 162)، حيث كان أكثر أهل المدينة من اليهود الذين فرحوا بتوجّهه نحو قبلتهم: "ولما هاجر إلى المدينة كان أكثر أهلها اليهود أمره الله تعالى أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فكان رسول الله صلعم يصلي نحو بيت المقدس..." (سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).
 

إذن، لقد فعل الرسول ذلك
ابتغاء استمالة قلوب اليهود في جزيرة العرب، كما تصرّح به الروايات الإسلامية. فقد قام بهذه الخطوة بحثًا عن دعم لرسالته من أناس آخرين، واليهود منهم بخاصّة، وذلك "ليُؤمنوا به ويتبعوه."، كما يورد الطبري (تفسير الطبري: ج 2 ص 3). وها هو القرطبي يورد رواية تشرح هذا التّوجّه قولاً صريحًا: "وذلك أن النبي صلعم لما قدم المدينة أراد أن يستألفَ اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعَى لهم." (تفسير القرطبي: ج 2، 150).
وخلاصة القول في هذه المسألة أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل تحوّلوا إلى "قبلة اليهود" كما يسمّونها هم صراحة، وذلك لكي يستميل إلى جانبه اليهود الذين يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس الّتي هي قبلتهم منذ قديم الزّمان. وهذا ما تقوله لنا الرّوايات الإسلاميّة ذاتها كما عرضناها هنا بلسانها. أليس كذلك؟
والعقل وليّ التّوفيق!
***

في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا التوجّه بالصلاة نحو "قبلة اليهود" بالذّات؟
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقالات هذه السلسلة: 
المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


سلمان مصالحة

هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟


في سلسلة المقالات التالية
سأعرض على القارئ الكريم ما أتوصّل إليه بشأن فلسطين كما تتبدّى في التّراث العربي والإسلامي. وقبل أن أبدأ أودّ أن أمهّد لذلك فأقول إنّي لن أتعرّض في هذه المقالات لكتابات استشراقيّة حول هذه المسائل حتّى لا أُتّهم بأنّني أشيع آراء غربيّة وغريبة وما إلى ذلك من مقولات واتّهامات جاهزة لدى بعض النّفر من العرب، من صنف أولئك الّذين لا يقرؤون ولا يفقهون ولا يعون ما يشتمل عليه هذا التّراث العربيّ والإسلاميّ. وهي، على كلّ حال، مقولات واتّهامات تُفسد على القارئ النّبيه إمكانية النّظر ببصيرة حادّة وجادّة في قضايا تهمّ القارئ العربيّ بعامّة والفلسطيني منه على وجه التّحديد. فكم بالحريّ إذا كان الحديث عن تراثنا، ونحن عرب ننتمي إلى هذه الأمّة. فنحنُ قيّمون على حضارتنا العربيّة والإسلاميّة، نعرف قراءة تراثنا المكتوب بلغتنا العربيّة، والّتي نعرفها جيّدًا مثلما نعرف هذا التّراث، تراثنا نحن. كما نعرف التّعامل معه بلساننا، ولسنا بأيّ حال من الأحوال بحاجة إلى أناس غرباء آخرين لقراءته ومساءلته.

في البداية،
لا بدّ من التّنويه إلى ما يلي: لمّا كانت فلسطين والقدس لم يرد ذكرهما في القرآن بتاتًا، وإنّما ورد ذكر بيت المقدس فقط، ليس نصًّا صريحًا في القرآن، بل ورد ذكرها في كتب التّفسير والتّاريخ وغيرها في سياق الحديث عن التوجّه بالصّلاة، أي القبلة، وفقط في سياق قصّة إسراء ومعراج الرّسول. ولذلك وجدت أنّه من المناسب أن أبدأ هذه السلسلة بمقالة حول القبلة.

فهل حقًّا القدس هي أولى القبلتين؟
تشيع في الكتابات العربيّة والإسلاميّة في هذا العصر مقولة إنّ القدس هي "أولى القبلتين"، أي أنّ الرّسول والمسلمين الأوائل، أي في المرحلة الأولى لظهور الإسلام، كانوا يستقبلون القدس، أي يتّجهون في صلواتهم نحو بيت المقدس. فهل كان ذلك حقًّا؟من أجل الإجابة على هذه التّساؤلات، دعونا ننظر فيما نقله لنا السّلف عن هذه القضيّة. فلقد ورد في صحيح مسلم عن أنس أنّ رسول اللّه "كان يصلي نحو بيت المقدس..." (صحيح مسلم: ج 1، 375؛ سنن أبي داود: ج 1، 340؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، 325)، أو برواية الطبري: "كانوا يصلون نحو بيت المقدس، ورسول الله صلعم بمكة قبل الهجرة وبعدما هاجر رسول الله صلعم، نحوَ بيت المقدس ستة عشر شهرًا..." (تفسير الطبري: ج 1، 548؛ تاريخ الطبري: ج 2، 18؛ أنظر أيضًا الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ سبل الهدى والرّشاد للصالحي الشامي: 370). أي أنّ بيت المقدس، وبحسب هذه الرّوايات، كانت هي القبلة الأولى للرّسول والمسلمين.

غير أنّنا لو واصلنا البحث
في هذه المسألة فسنرى أنّه لا يوجد إجماع حول هذه النّقطة، بل هناك رأيان بشأن القبلة الأولى. فهناك كثيرون يقولون إنّ القبلة الأولى هي الكعبة، ويذكرون أنّ رسول الله: "كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). وها هو القرطبي يلخّص لنا هذا الخلاف: "واختلفوا أيضًا حين فُرضت عليه الصلاة أوّلاً بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا ثمّ صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أوّل ما افتُرضت الصلاة عليه إلى الكعبة. ولم يزل يُصلّي إليها طول مقامه بمكة... فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس... ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي." (تفسير القرطبي: ج 2، 150). وبكلمات أخرى، هنالك من يذهب إلى ترجيح هذا الرأي والقول إنّ الكعبة هي القبلة الأولى، وليس بيت المقدس. وكذا نستنتج أيضًا من رواية ابن عبّاس الّذي يذكر أنّ بداية الأمر كانت إلى البيت العتيق، ثمّ تحوّل إلى بيت المقدس وعاد بعدئذ إلى البيت العتيق: "استقبل رسول الله صلعم فصلّى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثمّ صرفه إلى بيته العتيق ونسخَها..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أي أنّ البيت العتيق كان هو السّابق، وقد تركه الرّسول، ثمّ عاد إليه. بل هنالك من يصف الكعبة وبكلام صريح على أنّها هي بالذّات "أقدمُ القبلتين." (تفسير البيضاوي: ج 1، 420؛ تفسير ابن عجيبة: ج 1، 115).إذن، يتّضح ممّا أوردنا من آراء السّلف أنّه لا يوجد إجماع بشأن أوّلية القبلة لبيت المقدس، رغم شيوع هذه المقولة على الألسن وفي الكتابات في هذا الأوان.

وإذا لم يكن ثمّ إجماع بشأن القبلة الأولى،
فليس ثمّ إجماع أيضًا على السؤال، إنْ كان التّوجّه بالصّلاة نحو بيت المقدس قد جاء بأمر من الله أم بتخيير من لدنه. فهنالك من يقول بالتّخيير، كما يذكر الطبري: "قال الربيع قال أبو العالية: إن نبي الله صلعم خُيّر أن يوجّه وجهه حيث شاء فاختار بيت المقدس..." (تفسير الطبري: ج 2، 3). لكن، وفي الوقت ذاته، ثمّ روايات أخرى تقول بأنّ الاتّجاه نحو بيت المقدس كان بأمر إلهي، كما يظهر من الرواية التالية: "أنّ رسول الله صلعم لما هاجر إلى المدينة... أَمَرَه اللهُ أن يستقبلَ بيت المقدس..." (تفسير ابن كثير: ج 1، 458 ؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ لباب النّقول في أسباب النّزول للسيوطي: ج 1، 16). وقد أثارت هذه المسألة نقاشات واسعة لأنّ لها علاقة بأمور عقائديّة، ليس هنا المجال للدّخول فيها.

ليس هذا فحسب،
بل لو أمعنا النّظر مليًّا في الرّوايات الإسلاميّة سنرى أنّ الاتّجاه بالصلاة ليس هو نحو جهة بيت المقدس بصورة عامّة، وإنّما هو، في حقيقة الأمر، نحو نقطة بعينها، وهي نقطة محدّدة بدقّة في بيت المقدس. وهذه النّقطة المحدّدة هي الصخرة، كما نقرأ لدى الطّبري: "أن النبي صلعم كان يستقبل صخرة بيت المقدس... " (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343؛ انظر أيضًا: الكشف والبيان للثعلبي: ج 1، 259). ومثلما نقرأ أيضًا: "لأن رسول الله صلعم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أُمرَ بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة..." (الكشاف للزمخشري: ج 1، 100؛ تفسير البيضاوي: ج 1، 416؛ تفسير النيسابوري: ج 1، 355؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، 234). بكلمات أخرى، فإنّ الاتّجاه بالصّلاة هو نحو نقطة بعينها في بيت المقدس، وهي الصّخرة.

مهما يكن من أمر،
فلا شكّ أنّ ثمّة إجماعًا في التّراث الإسلامي على أنّ القبلة قد تحوّلت إلى الكعبة بعد ستّة عشر أو سبعة عشر شهرًا من هجرة الرّسول إلى المدينة. وكان هذا التّحويل، على ما تذكر الرّوايات الإسلاميّة، هو بداية إبطال مفعول أوامر سابقة نصّ عليها الإسلام في بداية عهده، أو هو: "أوّل نسخ وقع في الإسلام" (سيرة ابن كثير: ج 2، 372؛ تفسير ابن كثير: ج 1، 218)، أو أنّ: "أوّل ما نُسخ في القرآن القبلة..." (تفسير الطبري: ج 2، 3؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 1، 343 ؛ سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي: 370).ممّا ذكرنا أعلاه، واستنادًا إلى الروايات التي حفظها لنا التّراث العربي والإسلامي، نرى كلّ هذا التّخبّط الواضح في مسألة جوهريّة، خاصّة وأنّها تتعلّق بمسألة أساسيّة، مسألة الصّلاة ووجهتها. وما من شكّ في أنّ هذا التّخبّط يدلّ على تناقُض واختلاف في الرّوايات، وهو أمر يشير في نهاية المطاف إلى تَطوّر في مجريات الأحداث والعبادات في المرحلة الإسلاميّة الأولى. أليس كذلك؟

والعقل وليّ التّوفيق!*
في المقالة القادمة سأتطرّق إلى السؤال، لماذا بيت المقدس ولماذا الصّخرة بالذّات؟ فانتظرون!

***
نشرت المقالة في: "شفاف الشرق الأوسط"

_________________________________________
مقالات هذه السلسلة: 

المقالة الأولى: "هل القدس حقًّا هي أولى القبلتين؟"
المقالة الثانية: "لماذا استقبال بيت المقدس في الصّلاة؟"
المقالة الثالثة: "لماذا استقبال قبلة اليهود بالذّات؟"
المقالة الرابعة: "من هو النّبي الأمّي؟"
المقالة الخامسة: "لماذا حُوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة؟"
المقالة السادسة: "المصير الذي آل إليه يهود جزيرة العرب"
المقالة السابعة: "إكسودوس بني النضير"
المقالة الثامنة: "محرقة بني قريظة 1"
المقالة التاسعة "محرقة بني قريظة 2"
المقالة العاشرة: "ماذا جرى مع يهود خيبر؟"
المقالة الحادية عشرة: "إجلاء اليهود من جزيرة العرب"
المقالة الثانية عشرة: "سبحان الذي أسرى"
المقالة الثالثة عشرة: "إلى المسجد الأقصى"
المقالة الرابعة عشرة: "سبحان الذي أسرى بعبده إلى الهيكل اليهودي"

***
***

قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!