المقامة اللُّوديڤيّة

سلمان مصالحة

المقامة اللُّوديڤيّة

حدّثني أبو نَهار المَغاري ذات صباح، عن غير نفرٍ من السّلف الصّالح دخل كلامُ بعضهم في كلام بعض، عن صاحبٍ ثقةٍ لا يهدأ له بال، ولا يقرّ على حال، قال، قال لي عائدٌ من بلاد الغال: اسمع هذه الحكاية عن رحلة التّرحال إلى ما وراء البحار، فلكلّ مقام مقال حتّى كادَ الأمر يلتبس على ذي البصيرة فَيَحار، إذْ ما فتئت اليدُ قصيرة والأكاذيب غفيرة.

قلتُ لهُ: يا صاحِ، هلْ لكَ أنْ تُسْفِرَ عَمّا بَطَنَ خلفَ ذا الوشاحِ من الكلام المسجوع، أو ما تكنّه بين الضّلوع؟ فما أنْ فرغتُ من السؤال حتّى استلَّ من فمه لسانًا صَيْرَفيًّا صارمًا ما مسَّ قطع، فأصابَ أرنبةَ أنفِه فَامْتَقَع، ثمّ نظرَ إليّ نظرَةً مِنْ خَلْفِ نَظّاراتِه ندمتُ إثرها على سُؤالِيهِ واحْتَجْتُ إلى جَلَدٍ في النّفس لِمُداراتِه. وبعدَ أنْ هدأ الغضبُ في نفسِهِ وسكنَ الهيجان، إستعاذَ من الشّيطان، وطفقَ يروي لي حكاية ذلك المهرجان، ضاحكًا باكيًا في آن.

بعد حسن الإستهلال بحمد ذي العزّة والجلال، قال: مع انعقاد دورة جديدة لأصوات المتوسّط الشّعريّة في مدينة لوديڤ في الجنوب الفرنسي، وهي أصواتٌ متنوّعة تنوّعَ الألسن والمشارب، لا بدّ من التّذكير بما يجري في المكان وبما يُكتَب عنه في صحافة (إقرأ منذ الآن: سخافة) العُربان. ففي العام الماضي شارك عبدكم الحقير الفقير إلى رحمة ربّه في المهرجان وكان ما كان. لكنّني حين قرأتُ ما كُتب من مقالات أو ذُكر في مقابلات، سألتُ نفسي الأمّارة بالسّوء، هل كُنّا حقًّا معًا في نفس المكان، أم أنّ بعض الشّعراء العرب المشاركين مصابون بذلك الفصام الـمُزمن الّذي لا سبيل إلى مداواته. أم أنّ كلاًّ منهم كان حقًّا في مكانه يُغنّي على مهرجانه؟

المأساة يا صاح تكمن في أنّ البعض من الشّعراء العرب ينظرون إلى هذا الملتقى الشّعريّ، أو غيره، وكأنّه حلبة صراع ونزال، أو نزاع وقتال في بلاد الغال. وليست هذه الأقوال تُساق هُنا إلاّ عن البعض، لأنّ ثَمَّ آخرين، وليسوا نَفَرًا قليلين، لم يأبهوا بهذه التّرّهات، بل جاؤوا للشِّعر بعيدًا عن الشّبهات، وانتصروا للشِّعر في السّاحات فانتصرَ الشِّعْر بهم أمام النّاس. أمّا أولئك الّذين يوسوس في نفوسهم الوسواس، فقد جاؤوا للمهرجان قِلّة قليلة، وظلّوا سامدين في غيّهم ناشرين علانيةً هذه الخصلة العليلة.

وهكذا كان، فما أنْ عادَ هؤلاء النّفرُ من المهرجان إلى بلادِ العُربان حتّى أخذوا يُطبّلون ويزمّرون في الصّحافة الأبيّة، ويشيعونَ على الملأ بطولاتهم الڤيرطواليّة، مستنجدينَ بتعابير الصّمود والتّصدّي ممّا حمل في تضاعيفه لسان العرب، ناسينَ أو متناسين أنّ حبلَ الكذب قصير، وأنّ الحقَّ لَمْ يفتأْ لهُ في هذه الدّنيا نصير. فأينَ مقارعة الأعداء يا هؤلاء ممّا رأتْ عيناي وسمعتْ أذناي قبلَ عام، وأينَ أولئك الّذين جاؤوا يستنجدون سرًّا طالبين أمورًا لَنْ أفصحَ عنها الآن في هذا المكان، غيرَ أنّه يبدو أنّ رغبة المشاركة في المهرجان قد طغت على بعض العُربان حتّى عادوا يخلطون الحابل بالنّابل، وشعبان برمضان، ويكتبون للقرّاء في الأماكن البعيدة عن انتصاراتهم المجيدة.

وفي الختام، من رأى ومن سمع ما جرى في العام المُنصرم، ليُتابعْ ما يُكتب أو يُقال عن مهرجان هذا العام من جواهر الكلِم. فلكلّ مقامٍ مقال، أو زمرةٌ تروي الأباطيل، وخاصّة عمّنْ يأتي من إسرائيل. وهكذا، فهمتُ أخيرًا لماذا روى لي رفيقي الحكاية فضحكَ حينًا وحينًا بكى، فالطّبعُ عند البعض يغلبُ التّطبيع، رغمَ ما يُشاعُ في الصّحافة على مسامع الجميع.

وأدركَ صاحبي صباحُ العرب فقهقَهَ مليًّا حتّى انْتَحَب.
*
نشرت في: القدس العربي، 26 تموز 2000
______________

من شبّ على شيء


سلمان مصالحة ||

من شبّ على شيء

اللغة، كلّ لغة، هي الوعاء
الذي يحفظ فهم الناس للكون من حولهم. إنّها تجريد صوتي مُجمَع على مدلولاته بين البشر. فدونما إجماع كهذا لا وجود للّغة ولا وجود لذلك الخيط الّذي ينتظم فيه المجموع ككيان لغويّ حضاريّ. ولهذا فإنّ في اختلاف الإجماع اللّغوي على مدلولات الأصوات اختلافًا وتباينًا بين الإرث الحضاري للمجموعات البشريّة.

من هذا المنطلق، فإنّ فهم الأسس التي تنبني عليها المصطلحات في اللّغة يزوّدنا بمفاتيح لإدراك تطوّر المفاهيم البشريّة التي جُرّدت وسُكبت في هذه الأوعية اللغوية.

فعلى سبيل المثال،
إنّ مفهوم المصطلح ”شعب“ يختلف بين مجموعة بشريّة لغويّة، وبين مجموعات أخرى أجمعت على مدلولات أخرى للأصوات. وفقط لمجرّد إلقاء نظرة عابرة يمكن العودة مثلاً إلى مادّة ”شعب“ (people) في قاموس أوكسفورد الإيتيمولوجي بغية الوقوف على مدلولات المصطلح وتطوّر مفهومه عبر القرون. كذا يمكن أيضًا العودة إلى مادّة ”شعب“ في المعاجم العربيّة للتعرّف على مدلولاته في الذهنيّة العربيّة. وكذا يمكن النّظر في مصطلحات مثل ”أمّة“ أو ”وطن“.

ما هو معنى الـ“دولة“؟
يمكننا الوقوف على الفرق الشاسع بين أصل وتطوّر الحقول الدلالية للمصطلح “state“ في اللغات اللاتينية وبين تلك التي للمصطلح ”دولة“ في اللغة العربية. فالمصطلح “دولة“ في العربيّة مرتبط ارتباطًا وثيقًا بذهنيّة الصّراع القبلي على السّلطة. فها هو الجوهري في الصحاح يسرد لنا معنى المصطلح: ”الدَوْلَةُ في الحرب: أن تُدالَ إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدَوْلَةُ... وأَدالَنا الله من عدوّنا من الدَوْلَةِ....“. وفي لسان العرب أيضًا نجد: ”إِنما الدَّولة للجيشين يهزِم هذا هذا ثم يُهْزَم الهازم، فتقول: قد رَجَعَت الدَّوْلة على هؤلاء...“.

نلاحظ، إذن، الفرق في مفهوم الدولة كما هو متجذّر في الذهنيّة العربيّة، مقارنة بلغات ومفاهيم الشعوب الأخرى.

على العموم، وفي سياقنا نحن فإنّ الأمثال العربية تختزل تجارب هذه الأمّة المسمّاة ”عربيّة“ على مرّ قرون من الزّمن. ولهذا يمكننا القول إنّه ومثلما علّمتنا الأمثال العربيّة فـ“من شبّ على شيء شاب عليه“. أوليست هذه هي حال الأصقاع العربيّة التي يُطلق عليها مصطلح ”دول“؟ إنّ الشّعوب العربيّة ومنذ القدم، أي منذ ظهورها على مسرح التاريخ لم تتبدّل لديها هذه المفاهيم.

ولو نظرنا إلى ما هو حاصل
في هذه الأصقاع العربيّة في الشّهور الأخيرة فإنّنا نجد أنفسنا أمام ذات الذهنيّة التي لم يطرأ عليها تغيير. فها هو النّظام السّوري الإجرامي الاستبدادي يثبت كلّ يوم من جديد أنّ سورية ليست كيانًا سياسيًّا يمكن أن يُطلق عليه مصطلح ”state“، وإنّما هو ”دولة“ بالمعنى العربيّ للمصطلح، أي مزرعة قبليّة تُحمى بالحديد النّار، ولا معنى للدولة ولا للشعب بأيّ حال من الأحوال. وفي الحقيقة كذا هي الحال في سائر أقطار العربان، من مشرق العرب إلى مغاربهم. فلا دولة بمعنى الدولة ولا شعب بمعنى الشعب وإنّما هي شراذم قبائل متصارعة لم تخرج بعد من الطبّع البَرِّي، ولم ينتقل أفرادها أو لم يتطوّروا إلى الطبع البِرِّي.

هذه هي التربة الصحراوية التي نبت العرب وزعماؤهم - أكباشهم بلغة العرب القديمة - فيها، يعيشون في ربوعها وينقلونها معهم أنّى حلوا وأنّى ارتحلوا.

ولمّا كانت هذه هي الحال، وهي كذلك بلا أدنى شكّ، فإنّ الاستعمار أفضل للبشر من كلّ هذه الذّهنيّات العربيّة المتصحّرة.

والعقل ولي التوفيق!
*
نشر في: ”إيلاف“، 28 مايو 2011
______________________
قضايا
  • كل يغنّي على ويلاه

    إنّ القطيعة التي فرضها الإسلام على العرب مع جذورهم الجاهلية قد سجنتهم في بوتقة الواحدية الأيديولوجية التي لا يمكن أن تكون إلاّ كابتة ومستبدّة، أي فاشية في نهاية المطاف. كذا هي طبيعة الأيديولوجيّات الواحدية، أكانت هذه الأيديولوجيات دينية أو سياسية، لا فرق.
  • شعب واحد أم تشعّبات؟

    قد يظنّ البعض أنّ إطلاق الشّعارات يكفي وحده إلى تكوين مجموعة سكّانيّة هوموجينيّة متراصّة لها مقوّمات الشّعب كما يجب أن يفهم هذا المصطلح على حقيقته.

    تتمة الكلام
 
قراء وتعليقات
  • تعليقات أخيرة

  • جهة الفيسبوك

    قراء من العالم هنا الآن

  • عدد قراء بحسب البلد

    Free counters!